التعايش مع التناقض: قضية عدالة الصحابة بين كتب الحديث وكتب التاريخ
محمد الكوخي
تعد قضية عدالة الصحابة واحدة من أكثر الأمور إشكالية في المنظومة الحديثية وأكبر مأزق منهجي وضع فيه أصحاب الحديث أنفسهم... فمنذ ظهرت مدرسة الحديث في القرن الثالث الهجري ( ما يعرف بعصر التدوين ) ممثلة في التيار الذي اهتم بجمع الحديث وتدوينه وتصنيفه، ومن ثم تأسيس ما صار يعرف بعلم مصطلح الحديث ( مع التحفظ على استخدام كلمة علم لأن من أسس المنهج العلمي ضرورة الخلو من التناقض الداخلي...) والذي أعطى لعملية التدوين تلك أسسها المنهجية. ومنذ ذلك الوقت ودائرة الصحابة تكتسي أهمية فائقة تصل إلى حد التقديس حيث الصحابة كلهم عدول وهم لا يكذبون ولا يمكن لكلامهم أن يكون موضع شك، وأفعالهم هي مصدر من مصادر التشريع في الفقه ولا يجوز مخالفتهم... باختصار لقد قام هؤلاء برفع الصحابة ( بالتعريف الفضفاض لهم والذي يقول بأن الصحابي هو كل من عاصر الرسول (ص) وأسلم حتى لو لم يلتقي به...!!) إلى مقام الأنبياء والرسل وادعوا لهم العصمة من الخطأ...
ويمكن فهم ذلك في سياقه التاريخي كرد فعل على ما ادعاه الشيعة من عصمة الأئمة حيث قالوا بعصمة أئمتهم من الخطأ وذلك حتى يتم قبول الروايات المنسوبة إليهم دون نقاش، فكان رد الفعل السني من خلال مدرسة الحديث هو القول ب عدالة الصحابة التي لا تعني شيئا آخر غير عصمة الصحابة وذلك لخدمة نفس الأغراض السابقة عند الشيعة وهي القبول بالروايات التي رواها الصحابة دون تمحيص أو نقد...
لكن المعضلة الكبيرة هي أن هؤلاء ( أصحاب الحديث ) لم يحترموا القواعد التي وضعوها في منهجهم عند تدوين الحديث، حيث قاموا بخرق قاعدة عدالة الصحابة ( كما خرقوا عددا كبيرا آخر من القواعد التي وضعوها بأنفسهم!! ) من خلال روايتهم لعدد من الأحاديث التي تنفي هذه العدالة بل أكثر من ذلك تتهم الصحابة بكونهم مرتدين و فاسقين و كفارا يضرب بعضهم أعناق بعض... وهو ما جعلهم يسقطون في تناقض داخلي : فلو كان الصحابة حقا عدولا وكلهم من أصحاب الجنة فهذا يعني أن تلك الروايات كاذبة وبالتالي فهي لم تصدر من الرسول صلى الله عليه وسلم والشك فيها سيؤدي بالضرورة إلى الشك في جميع الروايات الأخرى الموجودة في كتب الحديث ما دامت وصلتنا بنفس الطريقة التي وصلت بها الأخرى... أما إذا كان العكس هو الصحيح وكانت تلك الروايات صحيحة فهذا يؤدي إلى نفي قاعدة عدالة الصحابة وبالتالي نسف أحد أهم الأسس المنهجية التي قام عليها تدوين الحديث... وهو ما سيؤدي مجددا إلى الشك في جميع الروايات المنسوبة إلى النبي الأكرم (ص) ما دامت الأسس التي قامت عليها عملية جمعها هي أسس متهافتة... باختصار إنها معضلة لا حل لها، ولا يملك أصحاب الحديث لها حلا سوى تجاهل وجودها ومحاولة التعايش مع التناقض.
إن جذور هذا التناقض هي جذور تاريخية ترجع أساسا إلى موقف مدرسة الحديث من كل ما حصل عقب وفاة الرسول (ص) والصراع حول السلطة من طرف أصحاب النبي (ص) وهو الذي صار صراعا مسلحا بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان و سقط فيه عشرات الآلاف من القتلى وسالت فيه دماء كثيرة... لقد كان موقف أصحاب الحديث من ذلك الصراع هو الرفض المطلق وإدانته عبر تسميته ب الفتنة الكبرى ، لكن دون إدانة أي من المتورطين فيه وهم صحابة كبار لأن ذلك سيؤدي إلى ما أشرنا إليه سابقا من نسف المنظومة الحديثية بكاملها... وهو ما أدى بهم في النهاية إلى القبول بالتناقض وغض الطرف عنه : أي بإدانة التاريخ دون المساس بصانعيه، لكنهم ومع ذلك رووا أحاديث مجردة ومفصولة عن سياقها التاريخي انتهى بها الأمر إلى إدانة عدد كبير من الصحابة بمن فيهم عدد مهم من كبارهم ...
ولعل من أبرز من يظهر عندهم هذا التناقض هم المؤرخون من مدرسة الحديث ( من أمثال : ابن قتيبة، وابن كثير، والطبري والذهبي...) الذين كانت لهم إسهامات في ميادين مختلفة وجعلتهم روايتهم لتاريخ المسلمين يسقطون في فخ التناقض... ومن أهم هؤلاء ابن قتيبة المتوفى سنة 276 هجرية، والذي يعد كتابه الشهير الإمامة والسياسة من أقدم المصادر التي يمكن الرجوع إليها في تاريخ الإسلام وهو الذي كتبه في محاولة للرد على آراء الشيعة القائلة بالوصية ( في قضية الخلافة ) لعلي بن أبي طالب وأبنائه من بعده، وقد حاول من خلال كتابه إثبات شرعية خلافة كل من أبي بكر وعمر وعثمان... لكن ذلك جعله يروي كل ما جرى بعد وفاة النبي (ص) بما في ذلك الصراع المسلح الذي وقع بين الصحابة ( الفتنة الكبرى ) بشكل أقرب ما يكون إلى الموضوعية مما جعله واحدا من المصادر الموثوقة، كما أن ما يرويه من أحداث تاريخية يعد محل إجماع من طرف جميع المؤرخين باختلاف مذاهبهم وطوائفهم...
ونحن في هذا البحث سنعتمد بشكل أساسي على كتب أصحاب الحديث كمصدر للشواهد التاريخية، وبالخصوص على ابن قتيبة ما دام هذا الأخير ينتمي إلى مدرسة الحديث وهي نفس التيار الذي قام بجمع الحديث وتدوينه حيث كانت لابن قتيبة إسهامات مهمة في هذا المجال من خلال كتب عديدة ( أهمها غريب الحديث و تأويل مختلف الحديث ...)، وهو بذلك يقبل كل ما ذهب إليه هؤلاء في قضية عدالة الصحابة وبالتالي يصبح الاستشهاد به بمثابة شهادة من داخل المنظومة نفسها أو كما يقال شهد شاهد من أهلها ... كما أن مصادره التاريخية هي نفسها تلك المصادر التي روت الأحاديث موضوع النقاش.
في معنى الصحابة وعدالتهم :
يقول ابن حجر العسقلاني ( وهو أحد أكبر شراح الحديث ) : وأصح ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به ، ومات على الإسلام ؛ فيدخل فيمن لقيه من طالت مجالسته له أو قصرت ، ومن روى عنه أو لم يرو ، ومن غزا معه أو لم يغز ، ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه ، ومن لم يره لعارض كالعمى . ويخرج بقيد الإيمان من لقيه كافرا ولو أسلم بعد ذلك إذا لم يجتمع به مرة أخرى ... ويدخل في قولنا : مؤمنا به كل مكلف من الجن والإنس ؛ فحينئذ يتعين ذكر من حفظ ذكره من الجن الذين آمنوا به بالشرط المذكور... وهذا التعريف مبني على الأصح المختار عند المحققين ؛ كالبخاري ، وشيخه أحمد ابن حنبل ، ومن تبعهما... وأطلق جماعة أن من رأى النبي صلى الله عليه وسلم فهو صحابي . وهو محمول على من بلغ سن التمييز ؛ إذ من لم يميز لا تصح نسبة الرؤية إليه . نعم يصدق إن النبي صلى الله عليه وسلم رآه فيكون صحابيا من هذه الحيثية... (1).
لا نريد هنا الدخول في مناقشة مع أصحاب الحديث في معنى الصحابي ومعنى رؤية النبي وهل يمكن اعتبار الجن من الصحابة؟؟!!... لكن ما يهمنا من هذا التعريف هو كونه تعريفا فضفاضا ومتساهلا جدا في إضفاء صفة الصحابي على جموع غفيرة من الناس، فهو يدخل في دائرة الصحابة تقريبا كل من عاصر النبي (ص) من المسلمين حتى دون أن يكون قد لازمه، وهو بذلك يقدر عدد الصحابة بمئات الآلاف ممن عاصروا النبي (ص) وهم بالغون سن التمييز.
وننتقل مع ابن حجر إلى مسألة ثانية وهي عدالة الصحابة. يقول : اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول ، ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة ، وقد ذكر الخطيب في الكفاية فصلا نفيسا في ذلك ، فقال : عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم ، وإخباره عن طهارتهم ، واختياره لهم... في آيات كثيرة يطول ذكرها ، وأحاديث شهيرة يكثر تعدادها ؛ وجميع ذلك يقتضي القطع بتعديلهم ، ولا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله له إلى تعديل أحد من الخلق... وأنهم أفضل من جميع الخالفين بعدهم ، والمعدلين الذين يجيئون من بعدهم . هذا مذهب كافة العلماء ، ومن يعتمد قوله... والصحابة كلهم من أهل الجنة قطعا وأنه لا يدخل أحد منهم النار....
نلاحظ من قول ابن حجر تأكيده بأن مسألة عدالة الصحابة هي قضية خاصة بطائفة أهل السنة والجماعة وليست محل إجماع من طرف جميع المسلمين وأن هناك من يرفضونها وهو ينعتهم تحقيرا ب شذوذ من المبتدعة ، دون حتى أن يخبرنا من هم؟ أو ما هي حججهم في ما ذهبوا إليه؟
لكننا عندما نمعن النظر جيدا نجد أن القضية لم تكن أبدا محل إجماع حتى داخل أهل السنة أنفسهم، فمن المشهور عن أبي حنيفة ( صاحب المذهب الحنفي ) أنه كان يرد روايات عدد من الصحابة، ويقول : إنهم ليسوا عدولا . فقد سأله أبو يوسف : ما تقول في رواية أبي بكر وعمر؟ قال : ناهيك بهما. فقلت : وعلي وعثمان؟ قال : كذلك. فلما رآني أعد الصحابة قال : الصحابة كلهم عدول إلا رجالا، وعد منهم : أبا هريرة وأنس بن مالك...(2).
ومع ذلك فنحن سنقبل – افتراضا - بكل ما قاله أصحاب الحديث سواء في تعريف معنى الصحابة أو في عدالتهم، وسنحاول قراءة هذه المعطيات على ضوء ما ترويه كتب الحديث وكتب التاريخ...
طعن النبي (ص) في عدالة الصحابة ( حديث الحوض ) :
عن ابن عباس عن النبي (ص) قال : إنكم تحشرون حفاة عراة عزلا. ثم قرأ : كما بدنا أول الخلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين. وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم. وإن أناسا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول : أصحابي، أصحابي. فيقال : إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم. فأقول كما قال العبد الصالح وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم إلى قوله الحكيم. ( رواه البخاري الحديث رقم 1375 ).
يعد هذا الحديث المروي عن النبي (ص) أكبر معضلة يواجهها القائلون بكون الصحابة كلهم عدول على الإطلاق، فهو حديث صريح في اعتبار جزء من الصحابة مرتدين عن الإسلام وداخلين في جهنم...
وعلى المستوى التاريخي فقد ظل هذا الحديث الذي ترويه المصادر السنية ولزمن طويل سلاحا قويا في يد الشيعة الذين طالما استخدموه في الطعن على الصحابة الذين وقفوا ضد علي بن أبي طالب في قضية الخلافة ( بما في ذلك الخلفاء الثلاثة أبو بكر وعمر وعثمان ).
ورغم كل المحاولات الشاقة التي قام بها شراح الحديث ومتأوليه لتخفيف وقع هذا الحديث أو لتجاوز معناه الظاهر، فقد ظل يشكل كابوسا مرعبا لهم. وكان أقصى ما استطاعوا قوله أنه لا يقصد جميع الصحابة وإنما بعضهم فقط : لو تدبروا الحديث وفهموا ألفاظه لاستدلوا على أنه لم يرد بذلك إلا القليل منهم..., أو الإدعاء بأن المقصودين في الحديث هم المنافقون الذين كانوا يخفون كفرهم ويتظاهرون بعكسه : ونحن نعلم أنه قد كان يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد ويحضر معه المغازي المنافق لطلب المغنم والرقيق الدين والمرتاب والشاك وقد ارتد بعده أقوام منهم...(3).
لكن أي من هذه التأويلات لا يحل أساس المشكلة، حتى لو قلنا أن الحديث لا يقصد جميع الصحابة وإنما بعضهم فقط لما نفع ذلك في شيء، لأنه في النهاية يطعن في قاعدة الصحابة كلهم عدول بشكل مباشر... ولو قلنا بأن المقصود هم المنافقون دون غيرهم لما أمكن ذلك ما دام نص الحديث يصفهم ب : أناس من أصحابي و قوله (ص) : أصحابي، أصحابي ، فهو (ص) يقصد أصحابه وليس المنافقين ، وحتى لو افترضنا أنه (ص) لم يكن يميز بين المؤمنين الصادقين وبين المنافقين ( وهو احتمال تدعمه شواهد عديدة من القرآن...)، لانتهى بنا الأمر مجددا إلى ضرب قاعدة الصحابة كلهم عدول ما دمنا عاجزين عن تمييز الصحابة الصادقين من الصحابة المنافقين ... وهو ما سيجر مشاكل أخرى لا آخر لها بما في ذلك تعريف الصحابة و المقصود بعدالتهم ...
لقد كان موقف أصحاب الحديث وكما هي عادتهم هو غض الطرف عن هذا الحديث ومضامينه والتعامل معه وكأنه غير موجود أصلا، أوباختصار محاولة التعايش مع التناقض والتي يتقنونها جيدا.
رفض كبار الصحابة لدعوى الصحابة كلهم عدول :
يروي الحاكم عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت : جمع أبي الحديث عن رسول الله (ص) فكانت خمس مئة حديث فبات يتقلب. ولما أصبح قال : أي بني علي بالأحاديث التي عندك فبعثته بها فأحرقها. وقال : خشيت أن أموت وهي عندك فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به ولم يكن كما حدثني فأكون قد تقلدت ذلك.(4).
يروي أصحاب الحديث هذه الرواية عن أبي بكر دون أن ينتبهوا إلى خطورة مضمونها على إدعاءاتهم بشأن عدالة الصحابة، فالرواية تحمل اتهاما صريحا لمنهجهم في اعتبار الصحابة كلهم عدول ، فهذا أبو بكر ( الصديق ) يشك في رواية الصحابة عن الرسول (ص) ويعتبر أن بالإمكان أن يكون من بينهم كاذبون وملفقون يروون أكاذيب وخرافات ثم ينسبونها إلى الرسول الأكرم، وهي شهادة من صحابي كبير يصعب تجاوزها بهذه البساطة.
وننتقل من أبي بكر إلى صحابي كبير آخر وهو عمر بن الخطاب الذي كان واحدا من أشد معارضي رواية الحديث. فكتب الحديث تروي عن عمر أنه كان يمنع الصحابة من مغادرة المدينة خوف تفشي الحديث ( وهو ما سيحدث فعلا بعد اغتياله ) فقد بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق، عبد الله بن حذيفة وأبا الدرداء وأبا ذر وعقبة بن عامر. فقال: ما هذه الأحاديث التي أفشيتم عن رسول الله في الآفاق. قالوا: أتنهانا؟ قال: لا. أقيموا عندي. لا والله لا تفارقوني ما عشت فنحن أعلم، نأخذ منكم ونرد عليكم. ( لاحظ قول عمر نأخذ منكم ونرد عليكم وهو اتهام ضمني بإمكانية كذبهم على رسول الله...) ( أخرجه ابن عساكر وابن إسحاق ). كما أنه كان يسجن الصحابة الذين يكثرون من رواية الحديث فقد روي أن عمر بن الخطاب سجن ابن مسعود في نفر من الصحابة سنة بالمدينة حتى استشهد فأطلقهم عثمان. وكان سجنهم لأن القوم أكثروا من الحديث عن رسول الله (ص)...(5). وأيضا تهديده لكعب الأحبار ( اليهودي الذي أسلم حديثا وراح يكثر من رواية الحديث بشكل يدعو إلى الشك والريبة !!) وتلميذه أبو هريرة بالنفي إلى بلادهم إذا لم يتوقفوا عن رواية الحديث. فكان يقول لأبي هريرة : لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس. ( أخرجه ابن عساكر من حديث السائب بن زيد ). حتى أنه اتهمه بالكذب على الرسول (ص) فقد قال له : أكثرت يا أبا هريرة من الرواية وأحر بك أن تكون كاذبا على رسول الله. وهو ما دفع أبا هريرة إلى القول : إني أحدثكم بأحاديث لو حدثت بها من زمن عمر لضربني بالدرة. وفي رواية لشج رأسي. وقد سمعه الزهري يقول : ما كنا نستطيع أن نقول قال رسول الله حتى قبض عمر. أفكنت محدثكم بهذه الأحاديث وعمر حي؟ أما والله إذن لأيقنت أن المخفة ستباشر ظهري، فإن عمر كان يقول اشتغلوا بالقرآن فإن القرآن كلام الله.
ولنا أن نتساءل لماذا كان عمر يرفض رواية الحديث بهذه الشراسة إلى الحد الذي يدفعه لمعاقبة المحدثين؟ ولعل الجواب موجود في شهادات هؤلاء أنفسهم فقد كان عمر يخشى من كذب هؤلاء ( الذين هم في نهاية المطاف صحابة ) وتلفيقهم على رسول الله، وهو ما يعني في النهاية أن عمر بن الخطاب وقبله أبو بكر لم يكونا يعترفان بشيء اسمه عدالة الصحابة ...
حديث : من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية
عن ابن عباس أن الرسول ( ص ) قال : من كره من أميره شيئا فليصبر ، فإنه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية ( رواه البخاري الحديث رقم 7140 ).
عن عبد الله بن عمر أن النبي (ص) قال : من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ( رواه مسلم الحديث رقم 4899 ).
عن معاوية أن رسول الله (ص) قال : من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية ( رواه أحمد الحديث رقم 16876 ).
تعد حادثة السقيفة من بين الأحداث التي يجمع عليها المؤرخون المسلمون باختلاف انتماءاتهم الطائفية والمذهبية، فبعد وفاة النبي (ص) مباشرة اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة وكانوا يعدون لتولية الخلافة لكبيرهم، سيد الخزرج وأحد كبار الصحابة من الأنصار الذين بايعوا بيعة العقبة وهو سعد بن عبادة. لكن وبعد تدخل بعض المهاجرين ونشوب خلاف داخل صفوف الأنصار أنفسهم لأن بشير بن سعد وهو من سادات الأوس لما رأى ما اتفق عليه القوم من تأمير سعد بن عبادة قام حسدا لسعد وبايع أبا بكر... فناداه الخباب بن المنذر ( وهو أيضا من كبار الصحابة ) : يا بشير بن سعد عقك عقاق ما اضطرك إلى ما صنعت؟ حسدت ابن عمك على الإمارة...(6) ( فهؤلاء كبار الصحابة يتهمون بعضهم بعضا بالحسد والتآمر رغم أنف أصحاب الحديث ). و بعد مبايعة الناس لأبي بكر رفض سعد بن عبادة المبايعة له، وحين بعث له أبو بكر يطالبه بالبيعة رد عليه : أما والله حتى أرميكم بكل سهم في كنانتي من نبل وأخضب منكم سناني ورمحي ( تهديد بالقتل ) وأضربكم بسيفي ما ملكت يدي... لا والله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي وأعلم حسابي... ويضيف ابن قتيبة شهادة تاريخية خطيرة عن رفض سعد لمبايعة أبي بكر ومن بعده عمر إلى أن توفي دون أن يبايع لأحد : فكان سعد لا يصلي بصلاتهم ولا يجمع بجمعهم ولا يفيض بإفاضتهم ولو بايعه أحد على قتالهم لقاتلهم. فلم يزل كذلك حتى توفي أبو بكر رحمه الله وولي عمر بن الخطاب فخرج إلى الشام فمات بها ولم يبايع لأحد رحمه الله (7).
نحن هنا أمام مثال بارز للتناقض بين كتب الحديث وكتب التاريخ : فلو قبلنا بالحديث السبق فهذا سيؤدي بالنتيجة إلى اعتبار سعد بن عبادة ( وهو الصحابي الكبير ) رجلا مات ميتة جاهلية أي أنه مات وكأنه لم يسلم أبدا، أو بمعنى أوضح لقد مات كافرا... وهو ما يعني في النهاية أن عدالة الصحابة قضية باطلة. أما إذا اعتبرنا العكس وقلنا أن سعد بن عبادة صحابي جليل حتى وإن رفض البيعة لأحد فذا سيؤدي بنا إلى رفض الحديث السابق والشك في نسبته للرسول (ص) بما يعني الشك في جميع الأحاديث الأخرى التي رويت بنفس الطريقة عن الرسول (ص).
ومن سعد بن عبادة ننتقل إلى مثال آخر وهو موقف طلحة بن عبد الله والزبير بن العوام من البيعة لعلي بن أبي طالب حيث قد كانا بايعاه بالمدينة بعد مقتل عثمان بن عفان قبل أن يتوجها إلى البصرة برفقة عائشة أم المؤمنين ليخلعوا بيعة علي الذي سارع إلى اللحاق بهم لتكون معركة الجمل التي قتل فيها طلحة والزبير وأسرت عائشة من طرف جيش علي. وكان علي قد أرسل إليهما يطلب رجوعهما عن قتاله لكنهما رفضا ذلك : ثم كتب علي إلى طلحة والزبير: أما بعد فقد علمتما أني لم أرد الناس حتى أرادوني ولم أبايعهم حتى بايعوني وإنكما ممن أراد وبايع... فإن كنتما بايعتماني كارهين فقد جعلتما لي عليكما السبيل بإظهاركما الطاعة وإسراركما المعصية، وإن كنتما بايعتماني طائعين فارجعا إلى الله من قريب... فأجابه طلحة والزبير : إنك سرت مسيرا له ما بعده ولست راجعا وفي نفسك منه حاجة فامض لأمرك. أما أنت فلست راضيا دون دخولنا في طاعتك ولسنا بداخلين فيها أبدا فاقض ما أنت قاض...(8). وقد قتل كل من طلحة والزبير يوم معركة الجمل وهما رافضان لبيعة علي... وهو ما يؤدي بنا إلى نتيجة واحدة : إما الطعن في عدالتهما أو الطعن في مضمون الحديث السابق.
لكن أهم مثال يبقى هو موقف عدد كبير من الصحابة من البيعة ليزيد بن معاوية الذي تحولت معه الخلافة إلى ملكية وراثية محصورة في الأرستقراطية الأموية. فقد رفض عدد كبير من الصحابة أن يبايعوا ليزيد ومن هؤلاء : النفر الذين أبوا البيعة ليزيد وهم الحسين بن علي وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس وعبد الرحمان بن أبي بكر...(9).
وقد قتل الحسين بن علي حفيد الرسول (ص) وعدد كبير من أهله في موقعة كربلاء وهو لم يبايع ليزيد أبدا، فقد كان يعتبر نفسه أولى بالخلافة من غيره : فقتل يومئذ ( كربلاء ) الحسين بن علي وعباس بن علي وعثمان بن علي وأبو بكر بن علي وجعفر بن علي وأمهم أم البنين بنت حرام الكلابية، وإبراهيم بن علي وأمه أم ولد وعبد الله بن علي وخمسة من بني عقيل ( وكان مسلم بن عقيل قد قتل قبل ذلك بالكوفة من طرف والي يزيد ) وابنان لعبد الله بن جعفر عون ومحمد، وثلاثة من بني هاشم ونساء من نساءهم وفيهم فاطمة بنت الحسين بن علي...(10). فبناء على ذلك هل يجب اعتبار الحسين حفيد الرسول (ص) وعدد كبير من آل البيت كفارا ماتوا في كربلاء ميتة جاهلية لأنهم رفضوا البيعة ليزيد بن معاوية ( الذي تصفه كتب التاريخ بأنه سفاح قتل الآلاف من الأبرياء )؟ أم بالمقابل يمكن القول بأن الحسين هو الخليفة الحقيقي كما تذهب إلى ذلك الشيعة، وبالتالي يصبح يزيد بن معاوية مجرد مغتصب لحق غيره وكاذب وقاتل وهو ما سيؤدي إلى اعتباره حسب الحديث السابق كافرا مات ميتة جاهلية هو وكل من قبلوا مبايعته وعلى رأسهم عائشة أم المؤمنين وعدد من الصحابة من رواة الحديث كأبي هريرة وأبي الدرداء...ومنه تكون رواياتهم كلها باطلة لأنهم ليسوا عدولا؟؟.
لم يكن الحسين ومعه آل البيت هم الوحيدون الذين قتلوا بسبب رفضهم مبايعة يزيد، فقد رفض أهل المدينة مبايعة يزيد وكان من بينهم صحابة كثيرون من أمثال عبد الله بن زيد ( قاتل مسيلمة الكذاب ) ومعقل بن سنان ( حامل لواء جيش النبي (ص) يوم فتح مكة )... فما كان منه إلا أن أرسل إليهم جيشا هاجمهم في وقعة الحرة الشهيرة والتي ارتكبت فيها جرائم قتل وسرقة واغتصاب وإبادة جماعية يندى لها الجبين. يقول ابن قتيبة : وذكروا أنه قتل يوم الحرة من أصحاب النبي (ص) ثمانون رجلا ولم يبق بدري بعد ذلك ومن قريش والأنصار سبع مئة ومن سائر الناس والموالي والعرب والتابعين عشرة آلاف...(11). كل هؤلاء ماتوا وليس في عنقهم بيعة لأحد وبالتالي ينطبق عليهم ما قلناه في ما سبق أي أنه إما أن نصدق الحديث ونطعن في عدالة الصحابة وإما أن نقبل بعدالة الصحابة ونطعن في الحديث وهي معضلة لا حل لها...
حديث : سباب المسلم فسوق وقتاله كفر
عن عبد الله بن مسعود عنه أن النبي (ص) قال : سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ( رواه البخاري، حديث رقم 45 ).
تروي كتب التاريخ أنه لما كثر الطعن على عثمان بن عفان والتعرض لأخطائه أقبل إليه واليه في الشام معاوية بن أبي سفيان فجمع كبار الصحابة في مجلس عثمان وحذرهم من مغبة التعرض لهذا الأخير أو مؤاخذته على أفعاله، فما كان من علي بن أبي طالب الذي كان حاضرا في المجلس إلا أن رد على معاوية وشتمه قائلا : كأنك تريد نفسك يا ابن اللخناء ( النتنة والعفنة...) لست هناك. فقال معاوية : مهلا عن شتم بنت عمك فإنها ليست بشر نسائك...(12). إننا هنا أمام مثال جيد لصحابي كبير وابن عم الرسول (ص) وأحد أوائل المؤمنين به يشتم صحابيا آخر ويعيره بأمه مما يستوجب حسب الحديث السابق اعتباره فاسقا وهو ما يطعن في عدالته... وبالتالي وحسب منهج الحديث تكون الرواية عن علي بن أبي طالب باطلة على اعتبار أنه فاسق!! ولكننا نجد في كتب الحديث عددا من الأحاديث المروية عنه مما يؤكد ما ذهبنا إليه سابقا من أن منهج الحديث تأسس على التناقض...
و ننتقل إلى مثال آخر هو محاولة محمد بن أبي بكر قتل عثمان بن عفان أثناء محاصرته بالمدينة قبيل اغتياله : فدخل عليه محمد بن أبي بكر فصرعه وقعد على صدره وأخذ بلحيته وقال : يا نعثل ( الشيخ الأحمق والمجنون...) ما أغنا عنك معاوية وما أغنا عنك ابن عامر وابن أبي سرح. فقال له عثمان : لو رآني أبوك ( أبو بكر الصديق ) رضي الله عنه لبكاني ولساءه مكانك مني...(13).
ومن محمد بن أبي بكر ننتقل إلى مثال آخر هو أخته عائشة أم المؤمنين والتي لعبت دورا في التحريض على قتل عثمان فلما قتل انقلبت وصارت تطالب بالثأر من قتلته : وذكروا أن عائشة لما أتاها أنه بويع لعلي وكانت خارجة عن المدينة. فقيل لها : قتل عثمان وبايع الناس عليا. فقالت : ما كنت أبالي أن تقع السماء على الأرض. قتل والله مظلوما وأنا طالبة بدمه. فقال لها عبيد : إن أول من طعن عليه وأطمع الناس فيه لأنت. ولقد قلت : اقتلوا نعثلا ( الأحمق والمجنون!!) فقد فجر. فقالت عائشة : قد والله قلت وقال الناس وآخر قولي خير من أوله. فقال عبيد : عذر والله ضعيف يا أم المؤمنين...(14). نحن هنا نقف مجددا على مثال لصحابية هي أم المؤمنين وزوج النبي (ص) وابنة صحابي كبير تسب صحابيا كبيرا آخر وتصفه بالجنون والفجور وهو ما يستوجب حسب الحديث السابق طعنا في عدالتها واعتبارها فاسقة وهو ما يستوجب حسب منهج أصحاب الحديث رفض الرواية عنها ( وهي للإشارة أحد أكبر رواة الحديث )، بل وأكثر من ذلك إذا ما طبقنا الشطر الثاني من الحديث سينتهي بنا المطاف إلى اعتبارها كافرة ما دامت حرضت على قتل عثمان... وفي جميع الحالات سنصل إلى نتيجة واحدة وهي إما الطعن في عدالة الصحابة أو الطعن في الحديث؟ ولا وجود لحل ثالث...
وننتقل إلى نموذج آخر ترويه هذه المرة كتب الحديث ويتعلق الأمر بالصحابي الكبير أبي ذر الغفاري الذي أسلمت قبيلته ( غفار) كلها على يديه، فهم يروون عن أبي ذر أنه قال : ساببت رجلا فعيرته بأمه فقال لي النبي (ص) : يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية. إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم... ( رواه البخاري الحديث رقم 30 ). وبتطبيقنا للحديث الأول على مضمون الحديث الثاني نخرج بنتيجة واحدة وهي الطعن في عدالة أبي ذر...
لكن المثير للانتباه هنا هو أن أبا ذر هو الصحابي الوحيد الذي تورد كتب الحديث طعنا مباشرا فيه على لسان النبي (ص). وهو ما يثير التساؤل التالي : لماذا أبو ذر بالضبط؟ ولماذا هو لوحده؟ وكأنه الوحيد الذي يخطأ والآخرون كلهم ملائكة!!. وبصيغة مباشرة أكثر : ما هو سبب عداء أهل الحديث لأبي ذر؟
إننا ندعي أن الحديث السابق عن أبي ذر هو حديث مزور ( موضوع بلغة أصحاب الحديث ) لأغراض سياسية بالدرجة الأولى، ولتصفية حساب سياسي مع أبي ذر. خصوصا وأن الرجل هو أول من قاد ثورة سياسية في التاريخ الإسلامي ضد الأرستقراطية الأموية ( ممثلة في ولاة عثمان من بني أمية كمعاوية و ابن عامر وابن أبي سرح...) التي استولت على دولة الخلافة في عهد عثمان، وحولتها إلى نظام يخدم مصالحها الشخصية، وهو ما أدى بأبي ذر إلى التمرد على مظاهر الغنى الفاحش وتكديس الثروة وسوء توزيعها وكان يدعو إلى مشاركة الفقراء للأغنياء في أموالهم... ما دفع بعثمان إلى نفيه إلى الربدة إلى أن مات بها. وتروي كتب التاريخ أنه أثناء المحاورة التي جرت في مجلس عثمان أثناء تقسيم ميراث عبد الرحمان بن عوف فقال عثمان لكعب: أرأيت المال إذا أدي زكاته، هل يخشى على صاحبه فيه تبعة؟ فقال كعب : لا. فقام أبو ذر فضربه بعصا بين أذنيه، ثم قال: وما تدري يا ابن اليهودية، تزعم أن ليس عليه حق في ماله، إذ آتى زكاته والله يقول : والذين يكنزون الذهب والفضة...( الآية ).(15). وبالتالي يكون الحديث المذكور تصفية حسابات مع أبي ذر بسبب موقفه من سياسة عثمان وأيضا بسبب موقفه من كعب الأحبار والذي كان أستاذا لعدد من رواة الحديث كأبي هريرة وغيره ( حتى أن بعضهم كان يخلط كلام كعب الأحبار مع كلام النبي (ص) فيجعل كلام كعب مرفوعا إليه (ص)...(17)). وهو ما أدى أيضا إلى محاولة إخراج أبي ذر من دائرة الجماعة وتبرير نفيه من قبل عثمان بوصفهم له على لسان النبي (ص) بأنه يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده ...(16).
هل ما قلناه سابقا ليس سوى مجرد تخمينات لا أساس لها؟ هل توجد إثباتات على وجود تزوير في الحديث لأغراض سياسية؟ في الواقع ليس الموضوع مجرد مزاعم، فحتى أصحاب الحديث أنفسهم يعترفون بأن السياسة لعبت دورا كبيرا في عملية تزوير الحديث. ولعل أهم أدلة ذلك ما قاله أحمد بن حنبل أحد مؤسسي مدرسة الحديث، عندما سئل عن رأيه في علي ومعاوية فقال : اعلم أن عليا كان كثير الأعداء. ففتش أعداؤه له عيبا فلم يجدوا، فعمدوا إلى رجل حاربه ( معاوية ) فأطروه كيدا منهم لعلي...(18). فالإمام أحمد ( وهو ما هو عند أصحاب الحديث ) يعترف بأن عملية تزوير للحديث قد جرت لأسباب سياسية لمصلحة معاوية بن أبي سفيان مؤسس الدولة الأموية وكان ضحيتها أحد كبار الصحابة وهو علي بن أبي طالب والذي كان له أعداء كثيرون من رواة الحديث!!( ولنا أن نتساءل من هم هؤلاء؟ وما سبب عدائهم لعلي؟...).
حديث : إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار
عن أبي بكرة عنه قال: سمعت رسول الله (ص) يقول : إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. فقلت : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال : إنه كان حريصا على قتل صاحبه.( رواه البخاري الحديث رقم 29 ).
عن جرير بن عبد الله أن النبي (ص) قال له في حجة الوداع : استنصت الناس. فقال : لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض. ( رواه البخاري الحديث رقم 101 ).
تجمع المصادر التاريخية الإسلامية باختلاف انتماءها الطائفي والمذهبي على أن الصحابة اقتتلوا فيما بينهم في مواقع عديدة أشهرها معركتي الجمل وصفين ( أو ما يعرف في الأدبيات السلفية ب الفتنة الكبرى )، وذلك بسبب خلاف سياسي حول السلطة، واختلاف المصالح السياسية والاقتصادية والقبلية لكل طرف من الأطراف المتصارعة. وقد تورط في هذا الصراع المسلح حول السلطة عدد كبير من الصحابة بما في ذلك عدد كبير من كبارهم، وقد قتل منهم كثيرون بسيوف بعضهم البعض... وهو ما شكل صدمة مبكرة لوعي المسلمين، ما دفع بعضهم وخصوصا أصحاب الحديث إلى محاولة تجنب الخوض في ذلك التاريخ الدموي لأن ذلك سيفتح عليهم وعلى ثوابتهم ومنهجهم، أبواب جهنم التي لا تنتهي. لكن ومع ذلك الحرص على تجنب الموضوع، إلا أنهم رووا أحاديث مفصولة عن سياقها التاريخي انتهى بها المطاف إلى إدانة ذلك التاريخ الدموي وبالتالي إدانة الصحابة المتورطين في تلك الحرب الأهلية ( والتي ما تزال آثارها حاضرة في واقع المسلمين وخصوصا في المسألة الطائفية والمذهبية...).
بدأت جذور ذلك الصراع بعد تولي عثمان بن عفان للخلافة عقب اغتيال الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وبسبب شخصية عثمان اللينة ( تجمع المصادر التاريخية على وصفه بأنه شديد الحياء...) وتفضيله لبني عمومته من بني أمية في تولي المناصب السياسية والذين استغلوا ضعفه اتجاههم وأقدموا على تجاوزات عديدة، ظهرت انتقادات كثيرة وطعن في سيرة عثمان وولاته ومن بين الطاعنين كان هناك عدد من كبار الصحابة من بينهم أبو ذر وعلي وطلحة والزبير وعمار والمقداد وعائشة... ويروي ابن قتيبة : أنه اجتمع ناس من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فكتبوا كتابا ذكروا ما فيه عثمان من سنة رسول الله وسنة صاحبيه... ثم تعاهد القوم ليدفعن الكتاب في يد عثمان وكان ممن حضر الكتاب عمار بن ياسر والمقداد بن الأسود وكانوا عشرة. فلما خرجوا بالكتاب ليدفعوه إلى عثمان والكتاب في يد عمار جعلوا يتسللون عن عمار حتى بقي وحده، فمضى حتى جاء دار عثمان فاستأذن عليه فأذن له في يوم ثان. فدخل وعنده مروان بن الحكم وأهله من بني أمية، فدفع إليه الكتاب فقرأه، فقال له : أنت كتبت هذا الكتاب؟ قال : نعم. قال : ومن كان معك؟ قال : كان معي نفر تفرقوا فرقا منك. قال : ومن هم؟ قال : لا أخبرك بهم. قال : فلم اجترأت علي من بينهم؟ فقال مروان : يا أمير المؤمنين إن هذا العبد الأسود ( يقصد عمار) قد جرأ عليك الناس وإنك إن قتلته نكلت به من وراءه. قال عثمان : اضربوه. فضربوه وضربه عثمان معهم حتى فتقوا بطنه، فغشي عليه فجروه حتى طرحوه على باب الدار. فأمرت به أم سلمة زوج النبي (ص) فأدخل منزلها وغضب فيه بنو المغيرة وكان حليفهم. فلما خرج عثمان لصلاة الظهر عرض له هشام بن المغيرة فقال : والله لئن مات عمار من ضربه هذا لأقتلن به رجلا عظيما من بني أمية. فقال عثمان : لست هناك.(19).
هكذا بدأ الموضوع يتطور شيئا فشيئا من مجرد انتقادات كلامية إلى مواجهات ( ضرب عمار ونفي أبي ذر ومحاولة اغتيال محمد بن أبي بكر...)، ليتطور الأمر بعد ذلك إلى التحريض على قتل عثمان من قبل صحابة كبار ( طلحة والزبير وعائشة...)، ولينتهي الموضوع ( أو بالأحرى لتبدأ الحكاية الحقيقية...) باغتيال عثمان بعد محاصرته وهو الاغتيال الذي كان لعدد من كبار الصحابة دور فيه سواء بالمشاركة ( محمد بن أبي بكر...) أو بالتحريض ( طلحة والزبير وعائشة...).
في جو الاحتقان هذا بويع الخليفة الرابع علي بن أبي طالب لكن وبعد أن فات الأوان، فقد كانت الحرب الأهلية قد اندلعت وصار من الصعب إيقافها، فقد أدى مقتل عثمان إلى تحويل الصراع السياسي إلى حرب أهلية مسلحة ، حيث رفضت بعض الأطراف مبايعة علي ( معاوية وأهل الشام ) في حين انقلب عليه البعض الآخر بدعوى الثأر من قتلة عثمان ( طلحة والزبير وعائشة )، لتبدأ الحروب الشهيرة للصحابة فيما بينهم ( حربي الجمل و صفين )... يقول ابن قتيبة : فلما أتى عائشة خبر أهل الشام أنهم ردوا بيعة علي وأبوا أن يبايعوه أمرت فعمل لها هودج من حديد وجعل فيه موضع عينيها ثم خرجت ومعها الزبير وطلحة وعبد الله بن الزبير ومحمد بن طلحة... وذكروا أن عليا تردد بالمدينة أربعة أشهر ينتظر جواب معاوية. ثم أتاه جوابه على غير ما يحب. فلما أتاه ذلك شخص من المدينة في تسعمئة راكب من وجوه الأنصار والمهاجرين من أهل السوابق مع رسول الله (ص) ومعهم بشر كثير من أخلاط الناس. ومضى معه من ولده الحسن والحسين ومحمد...(20). هؤلاء هم المتحاربون في معركة الجمل والذين التقوا بسيوفهم في تلك المعركة الشهيرة والسيئة السمعة حيث قتل الصحابة بعضهم البعض ( قتل فيها طلحة والزبير ومحمد بن طلحة وغيرهم...) وواجه الإخوة بعضهم البعض ( محمد بن أبي بكر وعبد الرحمن بن أبي بكر والذين كانا في جيش علي حاربا ضد أختهم عائشة والتي أسرت في تلك المعركة...). وسئل علي عن ذلك فأجاب إجابة سياسية : قال ابن الكواء لعلي : ولكن ما بال طلحة والزبير؟ ولم استحللت قتالهما وقد شاركاك في الهجرة مع رسول الله وفي الشورى مع عمر بن الخطاب؟ قال علي : بايعاني في الحجاز ثم خالفاني بالعراق، فقاتلتهما على خلافهما ولو فعلا ذلك مع أبي بكر وعمر لقاتلاهما...(21).
لن نقول هنا أكثر من أن تطبيق مضمون الأحاديث السابقة على هذه الوقائع التاريخية سينتهي بنا إلى إرسال عدد كبير من الصحابة الكبار إلى نار جهنم، وهو ما يحاول أصحاب الحديث إخفاءه برفضهم الحديث عن ذلك التاريخ!!
ولعل المثير للانتباه أن الصحابة وهم يحاربون بعضهم البعض لم يكونوا يقيمون أي حساب لهذه الأحاديث وكأنها لم تكن موجودة أصلا في زمنهم؟؟!! ( ولنا أن نتساءل هل كانت موجودة حقا في زمنهم أم أنها صنعت فيما بعد لأغراض أخرى؟؟)، كما أنهم لم يكونوا يعترفون بشيء اسمه عدالة الصحابة ... فمما يروى أن عليا كره الاستمرار في القتال في معركة صفين ضد معاوية وكان ينوي قبول الصلح إلا أن عمار ( والذي سيقتل في تلك المعركة ) كان له رأي آخر : فلما أظهر علي أنه قبل ذلك ( الصلح الذي طلبه معاوية ) قام عمار بن ياسر فقال : يا أمير المؤمنين أما والله لقد أخرجها إليك معاوية بيضاء من أقر بها هلك ومن أنكرها ملك. مالك يا أبا الحسن؟ شككتنا في ديننا ورددتنا على أعقابنا بعد مئة ألف يقتلون منا ومنهم؟ أفلا كان ذلك قبل السيف؟ وقبل طلحة والزبير وعائشة قد دعوك إلى ذلك فأبيت وزعمت أنك أولى بالحق وأن من خالفنا منهم ضال حلال الدم، وقد حكم الله في هذا ما قد سمعت فإن كان القوم كفارا مشركين فليس لنا أن نرفع السيف عنهم حتى يفيئوا إلى أمر الله وإن كانوا أهل فتنة فليس لنا أن نرفع عنهم السيف حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. والله ما أسلموا وما أدوا الجزية ولا فاءوا إلى أمر الله ولا طفئت الفتنة. فقال علي : والله إني لهذا الأمر لكاره... ثم حمل عمار وأصحابه فالتقى عليه رجلان فقتلاه وأقبلا برأسه إلى معاوية يتنازعان فيه كل يقول أنا قتلته. فقال لهما عمرو بن العاص : إن تتنازعان إلا في النار سمعت رسول الله (ص) يقول : تقتل عمار الفئة الباغية. فقال معاوية : قبحك الله من شيخ. فما تزال تنزلق غي في قولك أو نحن قتلناه؟ إنما قتله الذين جاؤوا به. ثم التفت إلى أهل الشام فقال : إنما نحن الفئة الباغية؟ التي تبغي دم عثمان.(22).
رغم كل هذا يقبل أصحاب الحديث الرواية عن معاوية رغم أنهم يعترفون بأنه قاتل عليا وكان وراء اغتيال ابنه الحسن حفيد الرسول (ص) ( بدس السم له ) وقتل حجرا بن عدي وأصحابه ( وما أدراك ما حجر عند أهل الحديث...) وفعل الكثير مما يستوجب بمنهجهم اعتباره كافرا...!!
كما أنهم يروون عن مروان بن الحكم رغم أنه أمر باغتيال محمد بن أبي بكر وقاتل ضد علي وأصحابه ويتهمونه بقتل طلحة يوم معركة الجمل وتعذيب عثمان بن حنيف ( والي علي على البصرة ) وقتل أصحابه قبيل تلك المعركة : فمكث عثمان بن حنيف في الدار أياما. ثم إن طلحة والزبير ومروان بن الحكم أتوه نصف الليل في جماعة معهم في ليلة مظلمة سوداء مطيرة وعثمان نائم، فقتلوا أربعين رجلا من الحرس. فخرج عثمان بن حنيف فشد عليه مروان فأسره وقتل أصحابه. فأخذه مروان فنتف لحيته ورأسه وحاجبيه... فنظر عثمان بن حنيف إلى مروان فقال : أما أنك إن فتنتني بها في الدنيا لم تفتني بها في الآخرة.(23). كما أنه كان طرفا في الحرب الأهلية التي اندلعت بعد وفاة يزيد بن معاوية وتنازل ابنه معاوية الثاني عن الحكم، والتي قتل فيها مئات الآلاف من المسلمين...
ونفس الشيء يقال عن جميع الصحابة الذين شاركوا في معارك وقاتلوا ضد مسلمين آخرين وهي حروب كان الأب يواجه فيها ابنه بسيفه والأخ يقاتل أخاه ( كما هو الحال بالنسبة لعقيل بن أبي طالب ابن عم الرسول (ص) والذي حارب يوم صفين مع معاوية وضد أخيه علي بن أبي طالب وابنه مسلم بن عقيل والذي كان في جيش علي !!!...).
لقد وضع أصحاب الحديث أنفسهم في مأزق لا يحسدون عليه حينما رووا تلك الأحاديث التي فضحت تناقضاتهم، ولو أنهم عرضوها على القرآن لما كانوا رووها أصلا ما دامت تتناقض معه : فالقرآن يتحدث عن اقتتال المؤمنين دون أن يسقط عنهم صفة الإيمان ودون أن يتهمهم ب الكفر كما فعل أصحاب الحديث بل دعا إلى الإصلاح بينهم ... يقول تعالى : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بين أخويكم فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ... ( الآية ).
خلاصة عامة :
بعد كل ما قلناه سابقا آن لنا أن نسأل السؤال الأهم : كيف مرت هذه الروايات على أصحاب الحديث دون أن ينتبهوا إلى خطورة ما تتضمنه على منهجهم ومنظومتهم المعرفية بأكملها؟؟
والجواب على ذلك بسيط للغاية : لقد أدى غياب الأدوات العقلية ( أو بالأحرى تغييبها ) من طرف هؤلاء في عملية تمحيص وغربلة مضامين الأحاديث التي ترد عليهم... ولو كانوا أعملوا عقولهم وتمعنوا جيدا في مضامين ما يروونه لجنبوا أنفسهم عواقب التناقضات الكثيرة التي تعج بها منظومتهم، سواء منها التناقضات المنهجية ( كعدالة الصحابة والجرح والتعديل...) أو التناقض مع المعطيات العلمية والتاريخية...
ونختم مقالنا بقولة مفكر من خارج منظومة أهل الحديث عاصر عملية تدوين الحديث في القرن الثالث الهجري ( عصر التدوين ) وهو الجاحظ والذي كان كبقية المفكرين المعتزلة يصف أصحاب الحديث ب الحشوية لأنهم كانوا يحشون كتبهم بكل ما هب ودب من الروايات دون أن ينظروا إلى مضامين ما يكتبونه ومدى معقولية صدوره عن النبي (ص)، خصوصا وأنهم كانوا يهتمون بنقد السند فقط دون الاهتمام بنقد المضمون ... يقول الجاحظ : ولو كانوا يروون الأمور مع عللها وبرهاناتها خفت المئونة. ولكن أكثر الروايات مجردة وقد اقتصروا على ظاهر اللفظ دون حكاية العلة ودون الإخبار عن البرهان...(24).
المراجع :
(1) ابن حجر العسقلاني، الإصابة في تمييز الصحابة ج 1 ص 6-7
(2) أبو شامة، مختصر كتاب المؤمل ص 31
(3) ابن قتيبة، تأويل مختلف الحديث ص 119
(4) الذهبي، تذكرة الحفاظ ج 1 ص 5
(5) الذهبي، المصدر نفسه ج 1 ص 13
(6) ابن قتيبة، الإمامة و السياسة ج 1 ص 16
(7) ابن قتيبة، المصدر نفسه ج1 ص 17
(8) ابن قتيبة، المصدر نفسه ج1 ص 67
(9) ابن قتيبة، المصدر نفسه ج1 ص 163
(10) ابن قتيبة، المصدر نفسه ج 2 ص 6
(11) ابن قتيبة، المصدر نفسه ج1 ص 185
(12) ابن قتيبة، المصدر نفسه ج 1 ص 33
(13) ابن قتيبة، المصدر نفسه ج 1 ص 44
(14) ابن قتيبة، المصدر نفسه ج 1 ص 51
(15) الذهبي، سير أعلام النبلاء ج 2 ص 68
(16) الذهبي، المصدر نفسه ج 2 ص 56
(17) ابن كثير، البداية والنهاية ج 8 ص 118
(18) ابن حجر، فتح الباري ج 7 ص 83
(19) ابن قتيبة، الإمامة والسياسة ج 1 ص 36
(20) ابن قتيبة، المصدر نفسه ج 1 ص 51- 53
(21) ابن قتيبة، المصدر نفسه ج 1 ص 73
(22) ابن قتيبة، المصدر نفسه ج 1 ص 110
(23) ابن قتيبة، المصدر نفسه ج 1 ص 66
(24) الجاحظ، الحيوان ج 1 ص 166