حتمية التعايش
نضال نعيسة
تواترت الأنباء عن فتح كبير في المفاوضات الماراثونية الطويلة والمملة التي جرت بين دولة كبرى في القارة السمراء, وفصيل رئيسي متمرد ومنشق عنها, بعد عروض أبدية وسخية من سفك الدماء, وتاريخ بدا وكأنه لن يتوقف يوما من الحقد, والكراهية, والتجييش الأسود الذي أتى على الأخضروالأحمر والأصفر واليابس وكل ألوان الحياة الأخرى,وتحولت "السلة"الغذائية الغنية والخصبة الخضراء إلى كيس خاو يصفر الهواء فيه, بيد شحاذ "مؤمن" يتسول المؤونات على عتبات "الكفار"وموظفي وكالات الغوث وديبلوماسيي الأمم المتحدة, ويستجدي أي عطاء أو غذاء, بعد أن أعياه الإفلاس والخواء والجوع, جراء تبنيه للأفكار السوداء والأحلام الغيبية. والتهم ذاك التنين المتوحش المنفلت مئات الآلالف من الضحايا والأبريا وعدد غير محدد من المنكوبين والمشردين, فيما أكمل الفقر والفاقة والمرض على ماتبقى من تلك المخلوقات المنكوبة .وانتشرت حمى الموت بشكل واسع في كل مكان. وصارالإنتقام والإنتقام المتبادل, ومحاولات لي الأذرع المتتالية ,هي الصورة الأمثل والمعبر الأوحد عن تلك الحقبة السوداء. وحدث هذا التقدم الكبير بالرغم من كل ماكان من الصراخ والأصوات العالية ولعلعة الرصاص بين أبناء البلد الواحدة.
وتعتبر هذه الحرب الشعواء المجنون من أطول الحروب التي شهدتها القارة السمراء, وأدرك الجميع وبعد طول معاناة أن لغة الحروب والقتل والدمار لاأحد يسمعها ولا يستطيع أن يصغي لها وبالتالي أن يفهمها. وحين تقرع طبول الحرب تصم جميع الآذان ويتعذر السماع .وبعد طول تفكير, وبعد أن راحت سكرات الغباء, وأتت أفكار العقل, أيقن المتحاربون المتعصبون, أن لابد من إلقاء السلاح جانبا والتعاقد مع "مترجمين" جدد يتقنون لغات أخرى غير لغة الدم والصراخ والسباب والشتائم والتراشق بالكاتيوشا والراجمات والبنادق. فيما انتهى فيلسوف ومنظر وقواد ذاك الجهاد "السيزيفي" العبثي الى زنزانة منفردة خائبا ومدركا لعدم جدوى وعبثية الحروب الغوغائية الأبدية التي لاطائل ولا جدوى تذكر منها. وأن لاسبيل إلا بالتعايش والحوار. كما كانت "رقبة" أحد التنويريين والشيوخ العقلاء ثمنا وضيفا على إحدى المشانق الكثيرة التي ازدهرت, ومهرجانات الموت التي استعرت, أثناء محاولة "الإنقاذيين" فرض وصايا الله على الأرض,وإنقاذ الناس من براثن الكفر والضلال. ولأنهم -وكما تخيلوا- أن الله بحاجة لخبرتهم الإجرامية والدموية في ذلك, وعلم الجميع بعد طول نزيف واستنزاف وقتال أن الجميع خاسرون. ولا يمكن حسم هكذا حروب بهكذا عنتريات, ولن يقدر أحد ومهما أوتي من جبروت وقوة, أن يخضع الآخرين لمشيئته, ورغباته المريضة ,وأحلامه الجهنمية المستحيلة. وكما نعلم فإن مواقف صغيرة نتيجة للحمق والبطر والفجور انتهت بكوارث وحروب ,فيما وضعت حروب كبيرة أوزارها حين تصدى لها العقلاء والحكماء ,وابتعدد عنها السفهاء والطغاة والفراعنة, وكانت لغة العقل دائما هي الأرجح ولها الغلبة والسطوة.
ولقد بدأت هذه الحرب الطاحنةالضروس الشعواء عندما تخيل بعض المرضى والحمقى الأغبياء أنهم من طبقة غير طبقة البشر ,وأنهم من غير صنف البشرالآدميين الآخرين,وأن الله فوضهم التكلم باسمه ونصرة دينه المستضعف على أيديهم, وذلك عبر تطبيق تعاليم الشريعة "السمحاء" على غير أهلها, واعتبارهم مواطنين من درجة غير مصنفة حتى الآن, والنظر إليهم بعين دونية استعلائية استبرائية استكبارية, وأنهم مجرد أهل ذمة محرومين من كل حق في كانتونات العبيد والنخاسة والرقيق, وليس لهم أي اعتبار. وأنهم مزودين بوكالات سماوية مقدسة لفرض مشيئتهم ورغباتهم وتصوراتهم اللاهوتية الجدباء. وأنه لزاما عليهم شن الحروب الدينية إرضاء لمشيئة الله, ونسوا أو تناسوا عمدا أن الله قال في كتابه العزيز وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا وليس لتتذابحوا أوتتناحروا ,وفي فاتحة القرآن العظيم أن الله رب العالمين, وليس ربا للمسلمين أو اليهود والنصارى أو البوذيين, و دون غيرهم من البشر الآخرين. وكل من يدعي ملكية الله بسند سماوي ونصوص مقدسة ما هو إلا من الواهمين الحالمين والدجالين.
ولقد كانت العدوانية والحقد والأوهام الأمبراطورية الرعناء والرغبة في إخضاع الآخرين هي السبب وراء الكثير من الحروب المجنونة التي قامت على هذا الكوكب المضطرب أصلا ولكنها انتهت ودائما بخسارة المعتدي الأثيم واندحاره مهزوما ذليل.
ورأينا كيف انتهت الكثير من تلك المشاحنا ت والاقتتال الأثني والقومي والديني المجنون بالعودة إلى بديهيات ينساها الجميع حين يلعلع صوت الرصاص.وانخفضت نسبة الصراعات والحروب الى حدود دنيا وانطفأت الكثير من البؤر المشتعلة وفي جغرافيات وأماكن متفرقة.وانتصرت قضايا عادلة ,واندثرت دعاوى الاستعباد والسيطرة والتركيع والتطويع ولمرة واحدة وإلة الأبد. وسقطت امبراطوريات بدت يوما ما منيعة ومتينة. كما ورأينا أمامنا ,وفي بث حي ومباشر, كيف تحولت أمهات المعارك ,والقادسيات ,والمنازلات الكبرىالدونكيشوتية البلهاء مع مروجيها وفرسانها والمصفقين إلى صور مؤلمة ومحزنة لا يود أحد النظر إليها بعد أن طواها النسيان.
لقد أصبحت فكرة التعايش co-existence اليوم من أقوى الأفكار المطروحة على الساحة الدولية بعد أن ادرك الجميع بحق الجميع بالعيش على هذه الأرض أسوة بالآخرين.تعايشا متعدد الأشكال والأوصاف, أن تتعايش الشعوب والأمم , والأحزاب المتباينة الرؤى والتصورات,والجماعات والأفراد,والحكومات والمعارضات,والأديان السماوية وغير السماوية,والدول والممالك,والطوائف والأعراق المختلفة ,والعلمانيات مع الأصوليات, والإتجاهات والأفكار المتجددة,والحداثة مع التقليد,والحاضر مع الماضي والمستقبل , والمحافظين مع العصريين,بعد أن جرب الجميع وعرف جحيم الشموليات المجنونة ومعنى القهر والإستعباد الذي انتهى وإلى غير رجعة وإن كان مايزال في نزعه. الأخير في بعض البؤر التقليدية , ولكن ومع قدوم الأيام المقبلة سيودع الجميع هذه الكوابيس. وألا يدعي أحد بعد اليوم حق التفرد ونزعة العصمة الرعناء.
ولقد أثمرت هذه النزعات التعايشية المندفعة بقوة على المسرح العالمي عن كثير من اللقاءات والتفاهمات وحتى التحالفات التي بدت مستحيلة يوما ما.وشاهدنا زيارات متبادلة وقمما نهضت من القاع بين زعامات مرموقة ,وحل صراعات مزمنة في الكثير من المناطق,صفق لها كثيرون وبدت إيجابية وناجحة.وقد قرأت وسمعت مؤخرا عن لقاءات وتبادل ثقافي لافت بين قطبين شمولييند دينيين أصوليين في المنطقة ,وكان في مرحلة ما على حافة الحرب والمواجهة ,ولا سيما حين تبنى أحد الحمقى "المأسورين" الآن بدعة الدفاع عن بوابات مشرعة على تيارات أرعبت كثيرين, ولكن بدا مع الزمن أنها غير ذات تأثير ومن السهل والممكن التعايش معها, ولكن من أين سيكسب ويزدهر تجار الحروب والسلاح إذا كان الجميع عقلاء وحكماء وبعيدي البصر والبصيرة؟وهناك الآن حركة دؤوب على المسرح العالمي للتقارب والإندماج واللقاء والتكتلات وفتح الحدود والفضاءات والتبادل الثقافي والإقتصادي والتجاري وبين الجميع.
ومع ذلك كله هناك من يحاول حتى الآن الإبتعاد والوقوف خارج الحلبة والعزف منفردا على أوتار لم تعد تصدر إلا ألحان النشاز والموت والخراب,إنها دعوة للتصالح والوقوف مع الذات ,ونجرب لغة الحضارة ولغة الحوار,ونتعلم لغات جديدة كثيرة ومزدهرة عند اناس لا يتحدثون إلا بها وأثمرت خيرا وخصبا ورفاهية لبني البشر ومن زمان.فيما لا يزال آخرون عاكفون عن محو اميتهم الحضارية,وعدم اتقان أي لغات, أو مغادرة نفس المكان والإنزواء في الظلام.
إنه التعايش..............تذكروه جيدا..