فن التعايش: فن الممكن أم المستحيل؟
نورس محمد قدور
لم أكن لأتحدى أحد قط ، لكني هذه المرء سأتحدى وبقوة ولن أخشى أحد, أتحدى أن يعيش أحد منفردا في كوخه أو بيته ولنقل في قصره المزخرف والمبني فوق الأنهار، بدون رؤية الآخرين والتفاعل معهم، ولو كان يعيش في جنة الأرض.
فالإنسان ابن بيئته، فهي التي تنشئه وتكونه وتكيفه ليعيش فيها، وهي التي توفر له ما تملك مما يفي بحاجاته الأساسية كما أنها هي التي تطبعه بعاداتها، وهي التي تجعله يتأقلم بشكل متناسق مع روحها العامة وينسجم مع ما لديها من غاية مشتركة. كلنا بحاجة إلى ما يسمى بالتعايش الذي هو في مضمونه الأمان والسلام والحرية والعدالة والتسامح وفهم الآخرين وتقبلهم.
لكن قبل أن يحاول الإنسان التعايش مع الآخرين يجب أن يتعايش مع ذاته ، مع شكله الذي خلقه الله به، مع سيكولوجيته، وعقله. قد يقول لي البعض إن الإنسان متكيف مع نفسه فطريا . نعم لكن هناك الكثير ممن لا يتعايشون مع ذواتهم فليست لديهم الرغبة الكافية لذلك، تراهم يقضون حياتهم بجلد ذاتهم( فالعربي يقول لما لم أخلق أوربيا،والأوربي يقول لما لم أخلق أمريكيا....)، وسب هذه الدنيا التي أتت بهم إلى الواقع البئيس.
التعايش يأتي من التصالح مع الذات ثم مع الأسرة ثم المجتمع الصغير وهكذا ينمو التعايش كما ينمو العظم تحت اللحم.
ما هو التعايش؟ :
التعايش مشتق من العيش والعيشة و معناه الحياة و ما فيها من المأكل والمشرب والملبس والعمل فهل هناك إمكانية لعمل هذه الأشياء من دون الرجوع إلى الآخرين؟؟؟ هل بإمكان الإنسان المتدين أن يتعايش مع المرأة التي لا ترتدي النقاب، وعلى العكس هل بإمكان اليساري أن يتفاعل مع الإسلامي والليبرالي مع المحافظ....؟
فالتعايش يعني استعداد الطرفين واندفاعهم الشديد ورغبتهم الصادقة في الحوار, مع تقبل الآراء التي يطرحها الطرف الآخر بسعة صدر و من دون خصومة أو شقاق ، بمعنى اخر (يبدأ بالاعتراف بالآخر وقبوله).
اسمحو لي أن أقول إن الإنسان عنده استعداد فطري للتكيف، فهب أن إنسانا كان يعيش أغلب حياته في الرفاهية والترف، ويركب السيارات الفارهة ....وفجأة حطت به أزمة مالية خسر بها كل شيء، صدقوني سترونه ينام على الحصير ويركب الدراجة..... . الإنسان تكيف أولا مع صعوبة الحياة وقسوتها فكان يعيش على ضوء الشمعة بعد أن قضى نصف حياته يتغزل بضوء القمر ، وكان يقضي الأشهر مشياً على الإقدام لقطع بضعة أميال وكان متكيف مع واقعه الى أن جاءت التكنولوجيا, وتكيف معها أيضا, فالإنسان باستطاعته أن يتكيف مع الأسوأ و مع الأحسن أيضاً اذا كانت لديه الرغبة الكافية بذلك .
أساسيات التعايش:
قبل كل شيء الحب هو الذي يصنع المعجزات، الحب أعذب صورة للجمال في الحياة , وألمع تميز وطموح , فالماء لا يجري رقراقاً في الغصن إلا بالحب , والغصن لا يلتف على الغصن إلا بالحب , يقول الطنطاوي: إن ماء الحب يجري في رياحين القلوب , إن أهل الحب تهفو قلوبهم , وتتميز دروبهم ومناهجهم .
بالحب يكون النجاح، بالحب يكون الإيثار، بالحب يكون الكفاح، بالحب تكون سعيداً، فالحب هو الحياة, والحياة هي الحب. فلابد ان نحب الشخص الذي سنتعايش معه ونؤمن بأن أساسيات التي يبنى عليها التعايش مايلي :
أولاً: الحرية
لكي أتعايش لا بد ان يكون لي حرية الرأي والتفكير والمبادأة ، وكثيرا منا فهم الحرية بطريقته الخاصة، فحريتك تبدأ حيث تنتهي حرية الآخرين، والحريات تصنف الى مايلي:
أ- الحريات الشخصية او المدنية، وهي الحريات التي تكفل للفرد حماية الذات والضمانات ضد التوقيف التعسفي ومن أمثلة هذا الصنف حرية السكن وحرمته وحرية المراسلات كما تدخل فيها الحريات العائلية.
ب- . الحريات الاقتصادية وتشمل حق الملكية وحرية العمل وحرية التجارة والصناعة....
. ج-الحريات الفكرية وتشمل الحريات الفلسفية والدينية والفنية والأدبية.
ثانياً: العدالة والمساواة
المساواة بين الرجل والمرأة وبين الأبيض والأسود،وبين العربي والكردي، بين السني والشيعي، بين المسلم و المسيحي، بين الغني والفقير، بين أبناء الوزير وأبناء الغفير.... في التعليم والتوظيف والتطبيب، في المناصب الإدارية وفي مجلس الشعب و مجالس الشيوخ والقبائل.....
ثالثاً: التسامح
أن التسامح يستوجب الاحترام المتبادل ويستلزم التقدير المشترك ويدعو إلى أن تتعارف الشعوب وتتقارب، ويفرض التعامل في قطاع الدائرة الموضوعية عدم المساس بدائرة الخصوصية ومن غير إثارة لحساسيتها وانتهاك لحرمة ذاتيتها, وهي دائرة تبادل المعارف والمنافع والمصالح ذات السمات الفاعلة التي يعود مردودها بالخير للجميع.
رابعاً: الحوار
لا بد لكل حوار يراد له النجاح من أن ينطلق من مبدأ أساس يرمي إلى هدف ثابت؛ هو البحث عن الحقيقة من وجهة نظر الطرف الآخر. باعتبار أن إيمان الشخص بصواب رأيه لا يعني أن رأي الطرف الآخر غير صواب، ومتى تحقق هذا المنهج وتلك الرغبة أمكن القول بأن ميدان الحوار واسع فسيح:
فهناك حوار الحياة الذي يعني الاهتمام بالطرف الآخر وبخصوصياته وأفكاره وظروفه الخاصة؛ سعيا لإيجاد قواسم مشتركة معه.
وهناك حوار العمل: الذي يعني تضافر الجهود لتحقيق كل ما هو في صالح الإنسانية والإصلاح العام من الوجهات الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية.
وهناك حوار العقل والفكر والعقيدة الذي يعني تفهم أوجه التباين بين مختلف الديانات، واستغلال القواسم المشتركة بينها.
وهناك حوار التجارب وتبادل المعلومات والخبرات.
هل التعايش يبنى على أساس الدين ، أم السياسة، ام القومية......؟
لو قلنا إن التعايش الديني هو الجوهر فحتماً سنواجه مشكلة القوميات والأعراق.
فلا بد من أن يكون التعايش على أساس الإنسانية لا القومية، وعلى أساس النوع لا اللون.
التعايش الديني:
رأينا كيف أن الأديان دعت إلى التعايش،رأيناه في الإسلام في قول الله تعالى:( إن أكرمكم عند الله اتقاكم) (الحجرات13). ولم يقف الإسلام عند هذا الحد بل ذهب لأبعد من ذلك عندما قال( ولقد كرمنا بني آدم وحملناه في البر والبحر ورزقناه من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)الاسراء70 .
والسيرة لا تخلو من قصص عن الدعوة الى التعايش عندما مرت جنازة على النبي فقام لها النبي(صلى الله عليه وسلم) واقفا فقالوا انها جنازة يهودي، فقال النبي أليست نفساً؟ وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تعايش مع المجتمع الذي حوله من يهود ونصارى ، و المسيحية أيضا دعت إلى ذلك من خلال هذه المقولة وغيرها: "احب عدوك كنفسك, أحسنوا إلى مبغضيكم, من ضربك على خدك الأيمن در له الأيسر " صفات يدعو إليها اليسوع . وهناك الكثير ,الذي لا مجال لذكره الآن, عن التعايش لكي نوسع الحديث فلا نقصره على التعايش بالمعنى الديني .
وتأتي أهمية التعايش من الاختلاف الديني والعرقي والقومي الذي نعيشه في الدولة والمجتمع والعالم أيضاً، فكل بلد لا تكاد تخلو من تعدد الأديان والأعراق.
التعايش الإيديولوجي :
هل يمكن ان نتصور تربية تسمح بتلافي النزعات او حلها بطريقة سليمة من خلال تنمية المعرفة بالآخرين وبثقافاتهم وقيمهم الروحية؟
فالبشر بطبيعتهم يميلون إلى المغالاة في تقدير ذاتهم وصفاتهم وصفات الجماعة التي ينتمون إليها(،تجد أن العربي يقول: اللغة العربية لغة أهل الجنة، والبريطاني يقول: اللغة الانكليزية هي لغة العلم......) والى تغذية أراء مسبقة مجحفة بالآخرين.
فيجب أن تنظم الصلات والاتصالات بين أفراد جماعات مختلفة (مثلا : داخل مدرسة عامة تضم اثنيات وديانات مختلفة بحيث تكون الفرص متكافئة بينهم بالمساواة) فهذه الجماعات المختلفة التي تتنافس فيما بينها ، اذا كانت أوضاعها غير متكافئة داخل هذا الحيز المشترك، فان مثل هذه الاتصالات يمكن أن تعطي نتيجة عكسية وتلهب التوترات الكامنة بينها وتحولها إلى صراعات.
لذلك نحن ندعو إلى مؤتمرات ومحاضرات وندوات، ولا مانع أن يكون هناك مقررا في مناهجنا الدراسية يدرس في المدارس والجامعات عن " فن التعايش وحاجتنا إليه " ولا سيما أن هناك أربع دعائم للتربية أولها: تعلم لتعرف ثم تعلم لتعمل، ثم تعلم لتكون ، وأخيراً تعلم لتتعايش مع الآخرين، ولما لا ؟ فهناك مادة دراسية في اليابان تدرس في مدارسهم وهي موجودة عندنا كقيم لكن غير موجود كمادة منهجية ألا وهي" التواضع" فالتواضع سمة يتميزون بها بالإضافة إلى حفاظهم على التراث والتقاليد الشعبية وهم من أكثر الشعوب تمسكاً بعاداتهم ومع ذلك يؤمنون بالحداثة شكلا ومضمونا,مما يُشهد لهم بالنجاح، هذا على مستوى دولة واحدة جعلت قيمها في مناهجها، أليس من الأجدر بنا أن نجعل في مقدمة خططنا الخمسية أو الخمسينية ما أسميناه بالتعايش؟؟؟
وكما نعرف جميعا أنه هناك الكثير من المؤتمرات التي تدعو الى الحوار لكن تبقى، حبر على ورق ومادة إعلامية تغني الصحفيين. وأقصد بدعوتي للمؤتمرات ليس فقط على مستوى الشيخ والقسيس ، انما تمتد الى الماركسي والشيوعي والليبرالي والرأسمالي و لنبدأ بزرع هذه البذرة في ثمارنا . فهل أنت تحاور ابنك؟ هل تحاور تلميذك؟ درب نفسك على الاستماع والحوار وحاول إيجاد شيء مشترك بينك وبين من تريد ان تحاوره، لو كنت في بلده تكلم بلهجته أو بلغته، واندمج معه وشاركه بعض عاداته ومناسباته دون أن تذوب بثقافته فالتعايش لا يعني الذوبان في الآخر، فلتبدأ أمهاتنا بإرضاع جيل المستقبل هذا الفيتامين مع الحليب الذي يتشربه في كل دقيقة ولحظة،فلتعلم أول كلمة ينطقها بعد بابا وماما ، أريد أن أتعايش.....
فلتعلم وتعلم أبناءك انه ليس كل من يخالفك الرأي عدوك، احترمه وأعط لنفسك مسافة التفكير في آراءه التي يفكر بها. وبالمناسبة التعايش يدل على ذكاء الشخص فالمرأة التي تصبر على زوجها صاحب المزاج المتقلب وتمتص تقلباته فهي تتعايش معه، والرجل الذي يتحمل زوجته الدلوعة ويأخذها على قد محبتها وطيبة قلبه ،لاكما يقول بعض الناس يأخذها على قدر عقلها فهو يتعايش معها، والأسرة التي يكون لديها شخص معاق تتقبله بابتسامة ورضا فهي تتعايش مع القدر، والفنانة التي تغني بأكثر من لغة أو تنوع اللهجات فهي تتعايش مع العولمة التي يفرضها هذا الواقع....
فالتعايش يعني أن تكون مواطنا عالميا ، ويتكيف مواطنو اليوم مع النظام الذين ينتمون اليه ومع العالم الأوسع في نفس الوقت. ويرى" يوجش اتال" إننا حين نريد التغيير يجب علينا ان نبتعد عن النظريات القديمة الخاصة بالتطور الأحادي الاتجاه، ومن المقبول حاليا ان نفكر في المستقبل بطريقة جماعية. ومن هنا يمكن القول ان بعض الدول" تفشل " ،والأخرى " تنجح" في التكيف مع ظاهرة العولمة فالمجموعة الأولى تدور في حلقة مفرغة، أما الثانية فهي في دائرة أفضل.
ان مقتضى الحقيقة ، الذي يقود إلى الاعتراف بأن " الجماعات البشرية والشعوب والأمم والقارات ليست جميعها متشابهة ، يحملنا على ان نوجه أنظارنا الى ما وراء التجربة المباشرة، وعلى تقبل الاختلاف والاعتراف به، واكتشاف ان للشعوب الأخرى تاريخاً هو الآخر ثري وزاخر بالعبر ". ومن هنا فان السياسات التعليمية عليها ان تبرز مسؤولية كيف يكون المرء مدركا لخصوصيته الثقافية مع إدراكه ان هناك تراث مشترك للبشرية جمعاء، وهذا عامل موازنة ضروري لعولمة لن تستشعر الا في جوانبها الاقتصادية والتقنية.
أعتذر للأخوة القراء ربما لا أكون قد أضفت شيئا مما تعرفونه، لكن وجدت ومن باب التعايش أن أقول ما عندي, ونتحاور, وهل نتقبل آراء بعضنا؟ ان كان كذلك فلنبدأ بالخطوة الأولى من الأميال الطويلة التي يجب ان نمشيها معاً سواء تحت حرارة الشمس أو هطول المطر،أو مع الفراشات المتجولة بين الورود الملونة ، سنجاري الأُسود في شجاعتها و نسابق النوارس في خفتها ونصطاد التعايش لنقتتات عليه في أيامنا القادمة .....