من أجل مجتمع أكثر وعياً بقيم التعايش والمواطنة
أزاد أحمد علي
مجموعة من الأحداث المتتالية في السنوات الأخيرة وخاصة تلك التي حدثت في ربيع عامي 2004 و2005 في المناطق الكردية بمحافظتي الحسكة وحلب، وقبلها أحداث السويداء، إضافة إلى أحداث صافيتا والساحل السوري، كل هذه الأحداث أظهرت بأن مجتمعنا السوري يختزن في أعماقه بؤراً للتوتر القابل للانفجار في أية لحظة. كما أفصحت هذه الأحداث مع مجمل تداعياتها عن أن مجتمعنا يعاني من حالات احتقان وتشنج متفاقمة ومزمنة، لدرجة أنه لم يعد يعي أهمية التعايش الاجتماعي، ويتناسى واجبات الجوار الجغرافي والعيش المشترك. وبينت الأحداث أيضا أن أحد أهم وأبرز جوانب الأزمة البنيوية لمجتمعنا السوري بات مرتبطا بعدم رسوخ وثبات قيم المواطنة، فلا الدولة أنتجت هذه القيم ـ بل أهدرتها ـ ولا المجتمع قادر على التمسك بها، ولم يعد أي شعار أيديولوجي أو خطاب مجاملة قادرا على حجب هذه الحقيقة المرة. فالمجتمع السوري يتجه للتعبير عن أزمته البنيوية الراهنة بأشكال احتجاجية مشوهة وممارسات عنفيه مأساوية قد تنسف ما تبقى من الحس بالمواطنة، وإمكانيات التعايش السلمي المشترك ضمن حدود الدولة السورية.
لا أود المبالغة في وصف هذه الظواهر السلبية، ولا أريد في الوقت نفسه رسم لوحة قاتمة لواقعنا، ولكن قياس نبض الشارع السوري ورصد معاناته بموضوعية يشير إلى ما هو مخيف ومحزن. فمن منا عاش تلك الأجواء ومن كان شاهد عيان على هذه الأحداث لن يستفق من هول الصدمة، هذه الصدمة التي ولدت لدينا الكثير من الشكوك حول ماهية المجتمع السوري ودرجة توافقاته الاجتماعية قبل السياسية، ويراودنا اليوم تساؤل وقلق مشروعين: فيما إذا كنا حقا "ورثه التنوع الحضاري" في المشرق أو مازلنا نتشبه بالبداوة القبلية في أفريقيا؟!.
ودون العودة المكررة إلى تفاصيل هذه الأحداث، أجد من الضرورة البحث في خلفياتها وجذورها اليوم وغدا، لأن إشباع هذه الحالات درساً وتمحيصاً سيكون عوناً لنا في فهم الأحوال الاجتماعية والوطنية العامة، وبالتالي الأوضاع الاستثنائية التي وصل إليها مجتمعنا اليوم، هذه الأوضاع التي هي بلا شك نتاج ارتسام ظل الدولة الشمولية على المجتمع، هذه السلطة التي كانت بدورها صدى وتطبيقا لفكر شمولي تبشيري وأيديولوجيا قومية مستنفرة مغلقة، أكلت جوانبها الإيجابية ومؤسساتها قبل أن يكتمل نموها. كما تم إعادة كتابة التاريخ من قبل رواد وأنصار هذا التيار القومي المستنفر، حيث تم اختلاق جغرافية سياسية موهومة بهدف التأسيس لوعي زائف غير قادر على فهم واقعه والتفاعل الموضوعي مع معطياته. فكان من إحدى أهم نتائجه هذا الوعي السياسي المتجمد والمتكلس منذ عدة عقود، وكذلك عدم القدرة، بل التخوف من قراءة تضاريس الواقع السوري السياسية والاجتماعية الراهنة، وغير راغب في التعرف على المحيط الجغرافي لسوريا سياسيا واجتماعياً. إن تفاعل هذا الوعي القاصر والمعلب مع تراجع مفهوم وقيم المواطنة وغياب ثقافة القانون ـ التي لا بد منها لوجود واستمرارية أي مجتمع منظم ومتطور في عالمنا المعاصر ـ قد أوصلانا إلى هذه الوضعية التي سادت فيها أشكال وصيغ من الولاءات والانتماءات والعصبيات البدائية، فاستمرت وانتعشت الروابط وصيغ الاصطفاف الاجتماعي التي تعود إلى مراحل ما قبل الدولة المعاصرة، وهي جميعاً تقع خارج منظومة العلاقات التي تؤسس عليها المجتمعات الحضرية والمدنية المعاصرة. وللأسف فالعصبيات القبلية والقومية والطائفية في مطلع القرن الحادي والعشرين تعيد إنتاج أزمة المجتمع السوري من جديد، وليس لدى الحكم أي تصور أو خطة عمل لحل هذه المسألة المتفاقمة، بوصفها مدخلا لحل المسائل الأخرى العالقة والملحة، بل على العكس هنالك ما يشير إلى جهود غير معلنة لتجييش قطاعات من المجتمع لاعادة زجه في أتون الأزمة الراهنة تحت عناوين حزبية وقومية ولإعادة إنتاج خلافات وعصبيات جديدة ...
ودون الإسهاب في التطرق لتفاصيل هذه الأحداث فهي معروفة للجميع، ولكننا بوحي من حدتها نجد من الضروري التوقف عندها كواقعة سياسية مشخصة تترجم هذه المعضلات جميعاً، وربما كانت الأحداث المأساوية هذه تعبيرا عن تداعيات وتداخلات هذه المرحلة العصيبة والعاصفة التي تمر بها سورية، وتشكل اختزالا لمعاناة السوريين طوال السنوات التي مضت. فهذه الأحداث ما هي إلا حلقة في سلسلة من التعابير الاجتماعية والسياسية عن أزمة الهوية المركبة في سورية، ونتيجة موضوعية للاضطهاد القومي بحق الشعب الكوردي والاجتماعي والسياسي بحق جماهير عريضة من المجتمع السوري.
لذلك بات من الضروري إعادة قراءة جوانب الأزمة، والتوقف عندها لاتخاذ مجموعة من التدابير، وفي مقدمتها اليوم هو ما يشبه "إعلان المبادئ" أو صيغة التفاهم، التي نحن جميعاً بصدد المساهمة في تحديد ملامحها وخطوطها العامة، والتدوال والحوار بشأنها. وفي سياق هذا المقترح نجد أنه من المفيد أن يرتكز هذا الإعلان ـ التصور على عدة دعائم ويندرج ضمن عدة محاور، كمقدمة منهجية لضبط آليات التحاور والتباحث حول الأولويات وهي:
1- نبذ ورفض كافة أساليب العنف في التعبير عن أي موقف سياسي، وكذلك رفض المساهمة في نشر ثقافة العنف والتبرير لها أيديولوجيا مهما كانت الأسباب والأهداف والجهات التي تشجعها أو تمارسها.
2- البحث والعمل الجاد في التأسيس للمشروع الوطني السوري، الذي يمهد لإعادة بناء دولة القانون المؤسسة على أساس التعددية السياسية والثقافية وصيانة حقوق الإنسان، أفرادا وجماعات، بديلا عن المشاريع القومية خارج حدود الوطن السوري.
3- عدم المراهنة على الحلول والمكاسب التي قد تتحقق مؤقتاً خارج أطر القوانين أعلاه وبمعزل عن المؤسسات الديمقراطية والأخلاق الديمقراطية. هذه القيم التي يندرج ضمنها عدم الاعتماد أو الاستقواء بالقوى الخارجية مهما كانت صدقيتها ونوعيتها.
4- إعادة قراءة تاريخنا وجغرافيتنا ومحيطنا بموضوعية لفهم واقعنا المركب والمعقد والعمل على إبراز ما هو مشترك وموحد في مجتمعنا، والبحث عن المزيد من الموحدات الوطنية والحضارية والإنسانية. وجعل التنوع القومي والديني والأيديولوجي مصدر إغناء وقوة لنا. قبل أن يجعل غيرنا هذا التنوع عامل تنافر وتصارع وتآكل داخلي.
5- الإقرار الدستوري بالتعددية القومية والدينية في سورية كمقدمة لإيجاد حلول وأطر ديمقراطية لكافة المسائل ذات الصلة، وخاصة تأمين الحقوق القومية للشعب الكوردي. وتحديد واجبات المواطنة لكافة شرائح المواطنين لمساهمة الجميع في المشاركة بالسلطة السياسية. وتجنباً لأي صراعات تنبثق من حالات التعويم والتفضيل لهذه الفئة أو تلك من المجتمع على الآخرين.
6- التخلي عن كافة رواسب ونزعات الاستئثار والسيطرة القومية والاجتماعية و احتكار السلطة في مجتمعنا السوري، ورفض كل دعوات الصهر القومي والديني بدعوى بناء مجتمعات متجانسة قومياً أو دينياً.
7- إن مشروعية أي سلطة قائمة أو مستقبلية تأتي من إرادة الشعب، وهو يترجم عمليا في الانتخابات الحرة والديمقراطية ضمن سياق وطني وظرف تاريخي محدد يتم الاتفاق عليه في حينه.
8- العمل الدائم من أجل تحسين الأوضاع المعيشية وبناء إستراتيجية لتوزيع الثروة الوطنية بإنصاف، ومواجهة خطري البطالة والانفجار السكاني، والعمل بجدية لحماية البيئة، وعدم الاستنزاف الجائر للثروات الوطنية، والسعي لوضع خطة علمية وعملية لاستثمار البادية وتنميتها.
9- حق التواصل والحوار المستمر بين سائر القوى الوطنية والعمل معا ضمن أطر سياسية مشتركة، والتحاور في كافة المواضيع والتفاصيل التي تهم المواطن والوطن، وصولا إلى ثوابت وتوافقات تناسب الجميع، وترعى وتطور من قبلهم.
أخيراً نؤكد على التذكير من جديد على أن غياب الديمقراطية ودولة القانون هو ليس انتقاصا لأهم حق من حقوق الإنسان وحسب، وانما هو بلا شك سبب رئيس لهذا الركود السياسي والتوتر الاجتماعي اللذين نعانيهما اليوم. فإن استمرار هذا الغياب يساهم في ظهور أشكال من التفكير والتعبير والممارسة التي تعود إلى عهود ما قبل المجتمعات المتحضرة ودولة القانون. وإن المجتمع السوري المأزوم حالياً بدأ يبتلع قيمه التقليدية ـ الإنسانية وباتت احتمالات حدوث صراعات وتمزقات قومية واجتماعية حاضرة أكثر من أي وقت مضى، فنحن الآن أمام خطر التصارع والتآكل. ولابد من العمل الجاد لإرساء وإعلاء قيم التآلف والتعايش لصياغة وتمتين أسس مجتمع مدني ديمقراطي دستوري مؤسساتي تعددي تصان فيه حقوق الإنسان أفرادا وجماعات. هذا المجتمع وحده سيكون قادرا على إنتاج وتغذية سلطة ديمقراطية تليق بسورية في المستقبل.
* افتتاحية مجلة( الحوار) العددان 46-47
فصلية ثقافية حرة تهدف إلى تنشيط الحوار العربي –الكردي ـ تصدر في سوريا منذ عام 1993.