قيم التسامح في الفكر العربي الاسلامي المعاصر
مقدمة
في أواسط التسعينات من القرن الماضي، بادرت المنظمة العربية لحقوق الانسان في لندن، التي كنت أتشرف برئاستها، الى تنظيم ملتقى فكري بعنوان "التسامح والنخب العربية" حضره نحو 50 باحثاً ومثقفاً وحقوقياً من بلدان عربية مختلفة، ومن تيارات فكرية وسياسية متنوعة. وقد انعقد الملتقى بمناسبة تسمية يوم 16 تشرين الثاني (نوفمبر) من كل عام "يوماً للتسامح العالمي"، بصدور قرار من الدورة الـ 28 للمؤتمر العام لليونسكو (1995).
وقد طرح البروفسور خليل الهندي في الجلسة الاولى سؤالاً في غاية الأهمية: هل يوجد تسامح لننظّم له ملتقانا الفكري الخامس أم أن غيابه يدعونا لتنظيم فعاليات للتذكير بجوهر مبادئ التسامح بمناسبة إقرار اليونسكو الاحتفال السنوي باليوم العالمي للتسامح؟ ولعل هذا السؤال المزدوج والمركّب ظلّ يتردد بأشكال مختلفة على ألسنة أكثر الباحثين والمتداخلين نفياً أو إيجاباً، إقراراً بواقع أليم أو أملاً وهدفاً في واقع جديد يتّسم بالتسامح.
لكن خاتمة الملتقى لم تكن تشبه بداياته، فقد استمرت أعمال الملتقى ثمان ساعات متصلة من الحوار والجدل، وصدرت لاحقاً في كتاب بعنوان: ثقافة حقوق الانسان، عن " البرنامج العربي لنشطاء حقوق الانسان" في القاهرة عام 2000، من إعداد وتقديم الباحث، حيث عبّر أغلب المتداخلين عن تأييدهم ودعمهم لنشر ثقافة التسامح على المستوى العربي، بينهم أديب الجادر وراشد الغنوشي ورغيد الصلح ومحمد بحر العلوم وأبونا بولص ملحم وخليل الهندي ومحمد الهاشمي الحامدي وعبد السلام نور الدين وليث كبه وصلاح نيازي وبهجت الراهب ومصطفى عبد العال وآدم بقادي وعلي زيدان وعبد الحسن الأمين وعبد الرحمن النعيمي وكاتب السطور وآخرين، ودعوا الى: تأكيد قيم التسامح مع بعضنا البعض أولاًً، دون تخوين أو تكفير أو تأثيم أو تحريم أو تجريم أو غير ذلك من عوامل الاقصاء والإلغاء والاستئصال وعدم الاعتراف بالاختلاف والتنوع والتعددية.
وثانياً تأكيد قيم التسامح مع الآخر، فلا ينبغي النظر اليه باعتباره خصماً متربصاً أو عدواً مارقاً لمجرد الاختلاف، وثالثاً لا بدّ من تنزيه مبادئ التسامح من الفكرة الساذجة حول تعارضها مع مبادئ العدالة وتصويرها وكأنها دعوة للاستسلام، أو نسيان ما تم ارتكابه من جرائم لاسيما في فلسطين والعراق ولبنان وغيرها، ورابعاً إن تأكيد قيم التسامح لا تعني غضّ الطرف عن الارتكابات والانتهاكات لحقوق الانسان، بممارسة التعذيب او الاغتصاب او القتل الجماعي أو غيرها، ولعل تلك الجرائم لا تسقط حتى بالتقادم.
• في مفهوم التسامح
التسامح يعني اتخاذ موقف ايجابي، فيه اقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوق الانسان وحرياته الاساسية. وحسب اعلان مبادئ التسامح الذي صدر عن اليونسكو " إن التسامح يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوّع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الانسانية لدينا، ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد..." وهكذا فالتسامح تأسيساً على ذلك: يعني الوئام في سياق الاختلاف وهو ليس واجباً أخلاقياً حسب، وانما هو واجب سياسي وقانوني، الأمر الذي يعني قبول وتأكيد فكرة التعددية وحكم القانون والديمقراطية ونبذ الدوغماتية والتعصب.
ان التسامح يعني أن المرء حر في التمسك بمعتقداته وأنه يقبل أن يتمسك الآخرون بمعتقداتهم، وكما أن الاختلاف من طبيعة الاشياء، فلا بدّ من الإقرار باختلاف البشر بطبعهم ومظهرهم وأوضاعهم ولغاتهم وسلوكهم وقيمهم، وهذا يقود الى الإقرار بحقهم بالعيش بسلام ودون عنف أو تمييز لأي سبب كان: دينياً أو قومياً أو لغوياً أو اجتماعياً أو جنسياً أو ثقافياً أو سياسياً...الخ.
وإذا لم يرد ذكر التسامح لفظاً في القرآن الكريم، الاّ أن ما يفيد عليه أو ما يقاربه أو يدّل على معناه قد جاء، حين تمت الدعوة الى: التقوى والتشاور والتآزر والتواصي والتراحم والتعارف والعفو والصفح والمغفرة وعدم الاكراه، وكلّها من صفات " التسامح" مؤكدة حق الاختلاف بين البشر و" الاختلاف آيات بيّنات"، ويشير ابن منظور في لسان العرب الى التسامح والتساهل باعتبارهما مترادفين، ويقول الفيرزوأبادي في القاموس المحيط: المساهلة كالمسامحة، وتسامحوا وتساهلوا، وتساهل أي: تسامح، وساهله أي ياسره، ولعل من استخدم مصطلح التسامح لأول مرّة بمعنى " التساهل" هو فرح انطوان في العام 1902.
ومنذ اعلان اليونسكو قبل عقد ونصف من الزمان تقريباً فقد انعقد الكثير من الفاعليات والأنشطة بشأن نشر ثقافة التسامح وصدرت كتب ومطبوعات وتأسست منظمات وشبكات لهذا الغرض، بينها الشبكة العربية للتسامح التي شكّلت دعوة مهنية وحقوقية لمبادئ التسامح، رغم اننا على الصعيد الفكري أو العملي ما تزال تفصلنا هوّة سحيقة عن قيم التسامح الانساني التي تكرست في مجتمعات سبقتنا على هذا الصعيد، الأمر الذي يحتاج الى مراجعات ونقد ذاتي، لاسيما من جانب النخب الفكرية والسياسية الحاكمة وغير الحاكمة، لمقاربة فكرة التسامح والتعاطي معها ايجابياً، على الصعيد الاخلاقي والاجتماعي، لاسيما بعد اقراره قانونياً ودستورياً.
وقد لفت انتباهي صدور تقرير نصف سنوي عن حالة التسامح في مناطق السلطة الفلسطينية من مركز رام الله لدراسات حقوق الانسان، ولعله حسب معلوماتي هو التقرير الاول في العالم العربي، حيث رصد الفترة من 1/1/2008 ولغاية 30/6/2008، واشتمل على مقدمة وجزءين، وكان الجزء الأول قد تضمن تعريف المصطلح ومحدداته والتسامح الديني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، كما توقّف عند حرية المعتقد والحق في الاختلاف، ولعل هذا المبحث الأخير يعتبر جديداً في تناول من يتصدّون لفكرة التسامح التي تعتبر منظومة سامية لحقوق الانسان.
اما الجزء الثاني من التقرير: فقد تناول حالة التسامح في مناطق السلطة الفلسطينية تطبيقياً، لاسميا بعد الانقسام الحاصل في الصف الفلسطيني بين (حماس وفتح) والذي تمخّض عن سلطتين ولكن مع استمرار بقاء الاحتلال، في حين ان الهدف هو دولة فلسطينية تستند الى مبادئ التسامح. وتناول هذا المبحث محاولات توظيف الدين ومظاهر التعصب ونفي الآخر والصراع على السلطة القضائية ومحاولات التمييز وظيفياً، كما تناول في مبحث خاص التسامح الاجتماعي، فتوقّف عند مسألة المرأة والقتل العائلي والخلافات الشخصية والاعتداء على الممتلكات.
ومن مزايا التقرير أنه خصص مبحثاً خاصاً لحرية الاعتقاد والحق في التعبير، كما ختم هذا الجزء بخاتمة وخلاصات: بالشروع بالعمل الجاد للقضاء على مظاهر العنف واللاتسامح على المستويين الرسمي والشعبي، وتأكيد الحق في الاختلاف واحترام تطبيقه والدفاع عنه، الأمر الذي يستوجب توسيع هوامش الحريات العامة وفي مقدمتها حرية المعتقد، وهي اشارة متميزة عندما توضع في مقدمة الحريات التي يراد تأمينها والحق في الرأي والتعبير والتنظيم النقابي والتجمع السلمي والتعددية السياسية، ويتطلب الأمر تنشئة اجتماعية ونظام تعليمي يستجيب لذلك وتربية وتثقيف على الصعيد الحزبي والسياسي والديني، وتوظيف خطاب ديني ينبذ التحريض ضد المُختَلِف، ويرفض التطرف والتشدد، كما توجهت التوصيات الى الجهات الاعلامية ومؤسسات المجتمع المدني ودعتها لأن تلعب دورها في نشر ثقافة التسامح.
* غاندي وروح التسامح واللاعنف !
وإذا كنّا نتحدث عن حال التسامح في فكرنا العربي – الاسلامي المعاصر، فحريٌ بنا أن نستذكر المهاتما غاندي الذي عبّر عن فكرة التسامح في رسالة من السجن بالقول: لا أحب التسامح، ولكني لا أجد أفضل منه للتعبير عمّا أقصده، وهو الفكرة التي آمن بها نيلسون مانديلا بعد سجنه لمدة 27 عاماً، وهو ما عبّر عنه المطران جورج خضر في تقديمه لكتابنا حول " فقه التسامح في الفكر العربي-الاسلامي" بالقول: لست هنا مبرئاً ساحة الغرب وأعرف كل البؤس الذي أحلّه ليس فقط في الاسلام ولكن في الكنيسة الشرقية أيضاً... ولكن أن تردّ "العدوانية" بهجوم معاكس (أي بعدوانية معاكسة) فذلك يضعف مواقعك، ولعل ذلك كما نعتقد ليس هو الحل الأمثل!
نحن الآن أمام الذكرى الثايية والستين على إغتيال الزعيم الهندي المهاتما غاندي في 30 كانون الثاني (يناير)، ففي العام 1948 حين هاجمه متطرف هندوسي يُدعى فاتورام غودسي وأرداه قتيلاً، واضعاً حداً لحياة زعيم اقترب من " التقديس" لدى الشعب الهندي بمختلف توجهاته وقومياته وأديانه وطوائفه وطبقاته الاجتماعية، فاتحاً صفحة جديدة من العنف أودت بحياة زعامات هندية مثل أنديرا غاندي ابنة جواهر لال نهرو 1984 وراجيف غاندي 1981 وآخرين. ولعل ذلك من مفارقات التاريخ، فالعام 1948 هو عام صدور الاعلان العالمي لحقوق الانسان وهو العام ذاته الذي تأسست فيه دولة اسرائيل.
لعل القاتل لم يفكّر في الاجابة عن سؤال طالما ظل يقلق غاندي ويسعى لاختبار صدقيته، وهو مستغرق في نضاله لتحرير بلاده، فهل هناك جدوى من العنف؟ وهل يمكن الوصول الى الهدف باللاعنف والتسامح؟ وقد فضّل غاندي الخيار الثاني رغم العذابات والحرمان، لكنه لم يكن يتوقع أن الغدر سيأتيه هذه المرّة على يد هندوسي بعد أن تمكّن من احراز النصر لشعبه.
كان غاندي يؤمن باللاعنف وبواسطته استطاع هزيمة أكبر امبراطورية في عصره (بريطانيا العظمى)، فهذا الرجل الأعزل نصف العاري، بنمط حياته البسيط، وبعلاقته الحميمة بشعبه، استطاع أن يثبت للعالم أن احدى وسائل المقاومة هي اللاعنف والتسامح والقدرة على إنجاز مشروع التحرير واستعادة السيادة والحقوق، بالمقاومة السلمية. وكان غاندي يُردّد: لو كان هناك بديل أفضل من التسامح لاخترته ولكني والحالة هذه لا أجد افضل منه!!
اقترنت فكرة التسامح باسم فولتير التي بحث فيها وروّج لها ودافع عنها، إذ يعتبر الأب الروحي لها، وكان يبّشر بضرورة تحمل الانسان للانسان الآخر، فكلّنا بشر ضعفاء ومعرضون للخطأ، وعلينا أن نأخذ بعضنا البعض بالتسامح!!
لقد ترك غاندي تأثيراته الكبيرة على ما سمّي بحركة اللاعنف أو المقاومة السلمية، الأمر الذي دفع دُعاة المساواة والحقوق المدنية للسود في الولايات المتحدة الى استلهام أساليب النضال التي أبدع فيها غاندي، وكان مارتن لوثر كينغ من أبرز الزعماء السود الذين تأثروا به.
لم يكتفِ غاندي بالحديث عن اللا عنف، بل أظهر كيف أن المقاومة السلمية يمكنها أن تواجه وتتحدى من خلال سلاح المقاومة والإضراب عن الطعام والاحتجاج والاعتصام والتسامح!؟
ولعل شخصية مثل نيلسون مانديلا الزعيم الجنوب أفريقي (ورئيس المؤتمر الوطني)، الذي مكث في السجن 27 عاما وقاد مقاومة سلمية ضد نظام التمييز العنصري " الابارتايد"، كان قد أمسك بمفتاح التسامح بعد مفتاح المقاومة السلمية، فاتحاً صفحة جديدة في نضال شعب جنوب أفريقيا مقدماً نموذجاً مهماً: للعدالة الانتقالية من خلال كشف الحقيقة وتحديد المسؤولية وجبر الضرر وتعويض الضحايا وإصلاح النظام القانوني والمؤسسي، والأهم من كل ذلك نشر فكرة التسامح وعدم اللجوء الى الثأر أو الانتقام أو العنف.
لقد ادرك غاندي أن منهجه القائم على اللاعنف حظي بقبول واسع، وكان يردد أن ذلك خيار شعبي " فإذا انطلق شعبي فيجب أن ألحق بركبه لأنني زعيمه".
وكان إعلان اليونسكو قد جاء بعد حين ليؤكد أنه " بدون التسامح لا يمكن أن يكون هناك سلام، وبدون سلام لا يمكن أن يكون هناك تنمية وديمقراطية".
وإذا كان التسامح اصطلاحاً يعود الى تطور الفلسفة الغربية في القرنين السابع والثامن عشر، وبخاصة ما سمي بفلسفة التنوير، وذلك بعد بروز وتطور النزعة الانسانية المعتمدة على العقل في مواجهة اللاهوت والغيبيات، فإن هذا المصطلح راج في السنوات الأخيرة، حيث خصصت اليونسكو يوم 15 تشرين الثاني (نوفمبر) من كل عام يوماً للتسامح على المستوى العالمي، منذ العام 1995، كما تمت الاشارة اليه.
في عالمنا العربي ما زال التسامح غير مقبول لدى أوساط واسعة، وربما نظرت اليه بعض الاتجاهات الإقصائية والإلغائية الاسلاموية باعتباره " نبتاً شيطانياً" أو " فكراً مستورداً"، لاسيما بعد خلطه بالنزعات التغريبية الاستتباعية التي تستهدف فرض الهيمنة وإملاء الارادة.
وفي الوقت الذي يهرب أصحاب وجهات النظر هذه الى التاريخ باعتباره ملاذاً، يتناسون أن الاسلام الأول وبخاصة الراشدي إتّسم بقدر كبير من التسامح والاعتراف بحق الاختلاف، لكنهم يحاولون الزوغان عن ذلك رغم محاولة تمجيد الماضي بهدف الهروب من الحاضر، الذي يزخر بالتأثيم والتحريم والتجريم ضد الآخر، الخارجي، الأجنبي، العدو، الخصم، بادعاء الأفضليات وإنسابها الى النفس ونفي الإيجابيات عن سواه، لذلك احتاج مفهوم التسامح الى " تبيئة" وتأصيل تاريخي بهدف جعله راهنياً وقائماً ومستمراً، بالعودة الى حلف الفضول ودستور المدينة وصلح الحديبية والعهدة العمرية ووثيقة فتح القسطنطينية، إضافة الى القرآن والسنّة النبوية كدليل ومرشد لفقه التسامح.
• اعلان اليونسكو حول التسامح
إذا كانت قضية التسامح حديثة في مجتمعاتنا العربية وهي ما تفتقر له وما تحتاج اليه، فإنها ما تزال محدودة على الصعيد العالمي، وإن كانت بعض المجتمعات قد وصلت اليها بعد معاناة طويلة.
ولعل اعلان منظمة اليونسكو بشأن التسامح كان قد حثّ المجتمع الدولي على الاحتفال بيوم التسامح ودعا الى لاعتماد أساليب منهجية وعقلانية لتعليم التسامح، وذلك بعد تشخيص أسباب عدم التسامح أو اللاتسامح، الثقافية والاجتماعية والدينية والسياسية وغيرها، أي أنه دعا الى فحص وتدقيق الجذور الرئيسية للتمييز والعنف والاستبداد في المجتمعات، لاسيما مع الآخر المُختلف، دون تأثيم أو تحريم أو تجريم، ذلك أن المجتمع البشري بحاجة الى نشر وتأصيل قيم التسامح كمنظور انساني وأخلاقي، لا يمكن تقدّم المجتمع الدولي والانساني من دونه، إذ لا يمكنه الخروج من غلواء التطرف والتعصب واللاتسامح، الاّ بتعميم فكرة قبول الآخر، حتى وإن تناقض مع رأي " الجماعة!!! وحسب اعلان اليونسكو فالتسامح يعني: الاحترام والقبول والتقدير للتنوّع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الانسانية لدينا، وهو يتعزز بالمعرفة والانفتاح والاتصال مع الآخر وحرية الفكر والضمير والمعتقد.
لقد أصبح التسامح حاجة ماسّة ولم يعدْ ترفاً فكرياَ، فنقيضه هو اللاتسامح والتعصب والاستئثار ورفض الآخر. والتسامح يعني اتخاذ موقف ايجابي فيه اقرار بحق الآخر في التمتع بحقوق الانسان وحرياته الاساسية. وبهذا المعنى فهو مسؤولية قيمية وواقعية للاقرار بالحقوق والتعددية والديمقراطية وحكم القانون، وهو أمر ينطوي على نبذ الدوغمائية والاستبدادية، خصوصاً بالاقرار بحق الانسان التمسك بمعتقداته، وهو اقرار ناجم بأن البشر مختلفون في طباعهم ومظاهرهم وأوضاعهم وسلوكهم وقيمهم وقومياتهم ودياناتهم ولغاتهم وأصولهم، لهم الحق والمساواة في العيش بسلام، ولعل الخطوة الأولى لتعميم مبدأ التسامح حسب اعلان اليونسكو هي " تعليم الناس الحقوق والحريات التي يتشاركون فيها"، وذلك كي تحترم هذه الحقوق والحريات، فضلاً عن تعزيز عزمهم على حماية حقوق وحريات الآخرين.
• كوابح التسامح !
إذا ما استعرضنا العوامل الكابحة لنشر قيم التسامح، فعلى الصعيد الفكري ستعني حجب وتحريم حق التفكير والاعتقاد والتعبير لدى الآخر، بفرض قيود وضوابط تمنع أو تحول دون ممارسة هذه الحقوق، وأحياناً تنزل أحكاماً وعقوبات بالذين يتجرأون على التفكير خارج ما هو سائد أو مألوف سواءًا عبر قوانين مقيّدة أو ممارسات قمعية تحت مبررات شتى.
اما على الصعيد السياسي فان اللاتسامح يعني احتكار الحكم والسعي للحفاظ عليه وتبرير مصادرة الرأي الآخر، تحت مبررات مختلفة تارة قومية او بحجة الصراع العربي- الاسرائيلي وأخرى طبقية بحجة الدفاع عن مصالح الكادحين، وثالثة دينية بحجة الحفاظ على الدين واعلاء كلمته، وفي كل الأحوال فإن الأمر لا يعني سوى إسكات الصوت الآخر أو تسويغ فكرة الاستئثار وإدعاء الحقيقة.
وعلى الصعيد الديني فان عدم التسامح يعني التمييز بحجة الافضلية ومنع الاجتهاد وتحريم وتكفير أي رأي حر، بحجة المروق في ظل تبريرات ديماغوجية وضبابية، تمنع الحق في اعطاء تفسيرات مختلفة، خصوصاً ضد ما هو سائد، وأحياناً تزداد اللوحة قتامة في ظل الدين الواحد عبر التمترس الطائفي أو المذهبي في محاولة لالغاء الفرق والمذاهب والاجتهادات الفقهية الاخرى، بل فرض الهيمنة عليها بالقوة.
واجتماعياً فإن عدم التسامح يعني فرض نمط حياة معينة بغض النظر عن التطورات العاصفة التي شهدها العالم ، لأنماط متنوعة ، مختلفة ، متداخلة ، متفاعلة ، وأحياناً يتم التخندق بسلوك وممارسات عفا عنها الزمن وأصبحت من تراث الماضي .
وثقافياً، فإن اللاتسامح يعني التمسك بالقيم والمفاهيم القديمة والتقليدية ومحاربة أي رغبة في التجديد، أو أي شكل أو نمط للتغير، حتى إن الشعر الحديث يصبح "بدعة وضلالاً " بل ضد التراث والتاريخ وربما مؤامرة كبرى تستحق رجم ومعاقبة القائمين عليه، وتنسحب مثل هذه النظرة على الكثير من الآداب والفنون وبخاصة الموسيقى والرقص والغناء والمسـرح والنحت وغيرها، ناهيك عن الحـب !
وإزاء الانغلاق وعدم التسامح الذي يسود عالمنا العربي والإسلامي، ورغم بعض الإرهاصات الجديدة، نرى العالم يسعى لتوسيع التسامح حقـوقياً بعد أن جرى تعميمه أخـلاقياً ، بحيث تشتمل الدعوة للدفاع عن أولئك اللامتسامحين أو الذين ينشرون ويروجون لإيديولوجيات اللاتسامح التوتاليتارية. ورغم أن هذه الفكرة تثير نوعاً من النقد وربما الفزع في الغرب حالياً، خصوصاً بعد احداث 11 أيلول (سبتمبر ) 2001 الارهابية في الولايات المتحدة لأن هناك من يعتبرها خطراً على فكرة التسامح ذاتها ، بل وتدميرها للحرية، لكن كارل بوبر، يجيب بأن علينا عدم الانخداع بذلك الشعور الغريزي بأننا على صواب دائماً.
• التسامح والآيديولوجيا!
تطور مفهوم التسامح من الفرد الى المجتمع ومنه الى الدولة، ثم الى المجموعة الدولية، ولم يعد المفهوم اصطلاحياً أو لغوياً يرتبط بالتكرّم والسخاء والجود والعفو والصفح والغفران والتساهل وغيرها، بل وصل الى الاعتراف بالحق واحترام الحق، مثلما له علاقة بالعمران والتنمية.
ان نشر مبادئ التسامح وسيادة روح الحق في الاختلاف، تتطلب إعادة التفكير في الموروث الثقافي وأخذ التراث في سياقه التاريخي وإعادة بناء العلاقة بين الثقافة والدولة وبين المجتمع والسلطة وبين الحكومة والمعارضة، التي هي مسؤولية جماعية وفردية في آن، فلا يوجد مجتمع بمعزل عن اغراء الاقصاء أو اللاتسامح، الاّ إذا أثبت هذا المجتمع قوة عزيمة ويقظة دائمة.
التسامح ليس لصيقاً بتراث أو مجتمع، إنه يمتد عبر العصور فلا "هو غربي ولا هو شرقي". ورغم أن الاديان جميعها تعلن تمسكها بالتسامح، فإن الحروب والإبادات استمرت عبر التاريخ وتمت في الكثير من الاحيان بإسمها وتحت لوائها.
يمكن القول ان كل المجتمعات البشرية تحمل قدراً من اللاتسامح سلبياً أو إيجابياً، لكن الفرق بين مجتمع وآخر هو في مدى اعتبار التسامح قيمة اخلاقية وقانونية ينبغي اقرارها والالتزام بها حتى وان كان البعض لا يحبّها.
اما الفرق الثاني بين المجتمعات المفتوحة التي توافق على التسامح وبين المجتمعات المغلقة التي ما تزال تتمسك باللاتسامح وبتهميش أو إلغاء الآخر، فإن بعض المجتمعات تستطيع إدارة التنوّع والتعددية الثقافية والدينية واللغوية والسلالية والاجتماعية وغيرها، في حين تخفق أو تعجز فيها مجتمعات أخرى، ويوجد في العالم اليوم أكثر من عشرة الاف تعددية، الامر الذي يستوجب ان تكون الدولة هي الحاضن الاكبر للتسامح، وهو يتطلب اعادة صياغة العلاقة بين الأنا والآخر على أساس المواطنة والمساواة الكاملة، ومن خلال التربية والاستفادة من المخزون القيمي للأديان وللفطرة الانسانية، وهو ما ينبغي أن ينعكس على الصعيد الدولي أيضاً.
بقي أن نقول، ان التسامح ليس ايديولوجيا مثل الايديولوجيات الأخرى الاشتراكية أو القومية أو الدينية، بل هو جزء من منظومة ثقافية، وعلينا ان نتعاطى معه على هذا الاساس الذي يسهم في تنمية المجتمع من خلال سنّ منظومة قانونية لا تعترف بالتمييز أو التعصب أو التطرف أو العنف، وهو ما تبنته الشبكة العربية للتسامح عندما وضعت شرطاً لمنح الجائزة على أن " يكون من الداعين لفكرة المساواة وحق بين البشر في العيش بسلام ودون خوف على المستوى الفردي والجماعي، دون تعصب أو انغلاق أو اقصاء أو إلغاء".
• التسامح وصورة الاسلام النمطية!
شاعت في الغرب منذ سنوات، لاسيما بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الارهابية ما سمّي "بالاسلامفوبيا" أي الرهاب من الاسلام، مثلما انتشرت في الفترة الاخيرة ما يمكن اصطلاحه بـ"العربفوبيا" أي كراهية العرب والعداء لهم، ولعل ذلك ليس بمعزل عمّا يمكن نحته من " الزينوفوبيا" Xenophobia أي الرهاب من الأجانب، بمعنى كراهيتهم وعدائهم، وقد اتسعت هذه المسألة على نطاق كبير بصعود وانتشار بعض التيارات والاتجاهات العنصرية والفاشية في أوروبا. وقد تلمسنا حجم الهجوم الشديد على مؤتمر جنيف (ديربن-2)حول العنصرية وانسحاب الولايات المتحدة واسرائيل وعدد من دول الاتحاد الاوروبي منه، وتأييد مواقفها من لدى جهات وجماعات ودول غربية كثيرة، لمجرد استنكار ما ذهب اليه مؤتمر ديربن الاول العام 2001 من دمغ الممارسات الاسرائيلية بالعنصرية.
ولعل حدثاً مثل مؤتمر ديربن يمكن استحضاره دليلاً على أن هناك اكثر من جهة هي التي تقف مسؤولة أمام تشويه صورة الاسلام في أعين العالم، فإضافة الى سيل الدعاية الصهيونية، التي سعت الى تصوير الصراع العربي- الاسرائيلي، باعتباره صراعاً بين أديان، أي بين الاسلام واليهودية، وبين قوى متخلفة عربية لا تؤمن بحق الوجود والديمقراطية، و"دولة" يهودية تسير في طريق الممارسة الديمقراطية، في حين ان الصراع بين حقوق مغتصبة وأرض محتلة وشعب مشرد في غالبيته الساحقة، وبين مغتصب اجلائي استيطاني، رغم أنه يتعكز على حقوق " سماوية " بأرض الميعاد المقدسة لشعب الله المختار، في حين ان الصراع دنيوي لتحرير الارض والوطن، وليس حول تعاليم الدين الاسلامي وشريعته وبين اليهودية وتلمودها.
أما في الغرب بشكل عام فتندفع بعض الاطروحات الرسمية وغير الرسمية لتساوي بين الاسلام وبين بعض الاتجاهات المتطرفة والمتعصبة الاسلاموية، والتي تستخدم تعاليم الدين أحياناً على نحو مشوّه ضد الدين ذاته، وهو ما نطلق عليه اسم "الاسلاملوجيا" أي توظيف التعاليم الاسلامية بالضد منها رغم أنها ترفع راية الاسلام. ولعل العرب والمسلمين دفعوا ثمن هذه الاتجاهات قبل غيرهم، رغم ان هذه الاتجاهات حتى وقت قريب وقبل حدوث ارهاب 11 سبتمبر (ايلول) لقيت تشجيعاً علنياً ومستتراً من بعض القوى والجماعات والدول الغربية مباشرة أو بصورة غير مباشرة.
وأستطيع القول أن الكثير من النخب الفكرية والسياسية والثقافية الحاكمة وغير الحاكمة في الغرب، لم تتفهم حتى الآن وربما بصعوبة، طبيعة العلاقة مع العرب، طالما يتم تصوير الصراع العربي- الاسرائيلي على نحو مشوّه، لاسيما من خلال ممارسات خاطئة وضارة يقوم بها بعض المتطرفين بهدف اثبات افضليات الاسلام على المسيحية وعلى اليهودية، وجعل مسألة النصوص الواردة في القرآن الكريم مبرراً لمواصلة هذا الصراع بطريقة لا تخلو من عبثية، بحيث يمتد من أقصى المعمورة وحتى أقصاها، وكأن لا علاقة للمصالح الدولية بذلك، بما فيها مصالح المسلمين أنفسهم، والسياسة منذ بدء الخليقة وحتى تنتهي ستبقى تحكمها الصراعات واتفاقات المصالح، باقترابها أو ابتعادها عن المبادئ.
لا شك ان هناك نظرة ارتيابية مسبقة لدى الغرب والشرق بما فيه الاسلامي إزاء الآخر، والغرب ليس وحده المسؤول عن ذلك، فثمة مساهمات نحن مسؤولين عنها، لاسيما وقد انتشرت لدينا تيارات "أصولية" متعصبة ومتطرفة ومعادية للغرب، وهو ما نطلق عليه اصطلاحاً "الغربفوبيا " أي كراهية الغرب، والعداء لكل ما هو غربي بما فيها للحضارة الغربية وانجازاتها العلمية والتكنولوجية والفنية والجمالية والعمرانية الهائلة، بكل ما لها وما عليها.
الغرب ليس كلّه غرباً، فإلى جانب الغرب الامبريالي- العنصري في الماضي والحاضر، هناك الغرب التقدمي المؤيد لحقوق الانسان وحقوق الشعوب في تقرير المصير، وهو ما حاول مفكر بريطاني مرموق مثل الفريد هاليداي أن يضع اصبعه عليه في كتابه الموسوم " ساعتان هزتا العالم" وقبله كتابه " الاسلام والغرب". وكان عرفان نظام الدين قد تناول العلاقة بين العرب والاسلام في الغرب بوجهيها وذلك في كتابه " العرب والغرب" مثلما، أطلّ اعلامياً على ذلك في كتاب " الاسلام والاعلام " مؤشراً الى التقصير لدى الجانبين، خصوصاً في فهم العلاقة المتميزة والمتناقضة والمتداخلة، إضافة الى التعقيدات والاوهام والتشويهات التي صاحبتها ورافقتها وهو ما أسماه الدكتور غازي القصيبي الأساطير الاربعة التي حكمت نظرة الغرب الى الاسلام ما بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر).
ما زالت بعض تفسيراتنا قاصرة لفهم ما نطلق عليه " الصراع التاريخي" الذي يستمر بين الغرب المسيحي والشرق المسلم، وهو ما ندعوه الحروب الصليبية والمقصود "حروب الفرنجة" التي حدثت في القرن الحادي عشر الميلادي، ومن ثم الصراع مع الدولة العثمانية، وذلك لتأكيد حتمية الصراع باعتباره صراعاً تناحرياً غير قابل للحل أو التوافق، رغم أن الصراع يمكن أن يؤدي الى اتفاق مصالح حسب منطوق السياسة الدولية تاريخياً.
ان الابقاء على صورة العدو حاضرة في الأذهان، رغم اختلاف المواقف، حملت معها خرافات وأوهام كل طرف إزاء الآخر، فالاسلام حسب بعض الاطروحات الغربية يشجع على الارهاب ويحض على العنف، ويستند بعض هذه التصورات على عدد من غلاة الاسلامويين، الرافضين لكل تقدم أو حضارة باعتبار الغرب كلّه " شرٌّ مطلق"، وهكذا تستكمل صورة العدو، وإن لم يوجد بالفعل، فقد تم صناعته مثلما حصل بعد انهيار الشيوعية الدولية، فوجدت بعض التيارات في الغرب، اختراع الاسلام عدواً بديلاً، وحسب أحد المعلقين البريطانيين جورج مونبيت Georges Monbiot ، فلو لم يكن بن لادن موجوداً، لكان على امريكا أن تخترعه، فقد اخترعته الـ CIA العام 1979 واليوم تبحث عنه الـ FBI، وهكذا تم استبدال مصطلح المجاهدين الافغان أيام الغزو السوفيتي الى أبالسة وشياطين بسبب مواجهتهم للسياسة الامريكية لاحقاً.
ان صورة العدو الذي يتم صناعته في الغرب ليست بعيدة عن الخرافات والاختلاقات بمجابهة مزعومة مع الاسلام، وهي الصورة التي يقابلها لدى الاسلامويين والتيارات المتشددة، بوضع الغرب في صورة العدو المستمر والمواجهة الحتمية الابدية، ويميل هاليداي الى اعتبار نموذج صموئيل هنتنغتون بشأن الصدام الحتمي للحضارات هي الأكثر رواجاً لدى الفريقين، ولذلك لقي كتابه "صدام الحضارات" اهتماماً منقطع النظير مثل كتاب فرانسيس فوكوياما " نهاية التاريخ".
ولعلي طرحت باستمرار سؤالاً على نفسي: هل يستطيع المواطن الغربي أو الاوروبي أن يدرك وأن يتفهم أن من يضحّي بنفسه في فلسطين، ليس من أجل تطبيق الشريعة الاسلامية، وليس من أجل فرض ارتداء الحجاب للنساء أو إقامة الحد أو لفرض دفع الجزية أو التعامل مع أهل الذمة أو حتى إقامة الحكم الاسلامي، بل إنه يفعل ذلك من أجل تحرير وطنه وأرضه المحتلة والمغتصبة، سواءً كان متديناً أو غير متدين، مسلماً أم مسيحياً أم غير ذلك!
وأدركت في حوارات مختلفة مع الكثير من النخب الفكرية والسياسية والثقافية، الحاكمة وغير الحاكمة في الغرب، أنه ليس من السهولة عليها فهم طبيعة الصراع، طالما جرى تصويره على نحو مشوّه ودون دلالة تُذكر، لاسيما من خلال ممارسات وتطبيقات خاطئة وضارة يقوم بها بعض المتطرفين بهدف اثبات افضليات الاسلام على اليهودية، وجعل مسألة النصوص الواردة في القرآن الكريم حول نكث العهود مبرراً باعتبار الصراع الديني بين اليهودية والاسلام استئصالياً، وبالتالي فهو صراع دائم لا نهاية له.
ووفقاً لهذا المنطق الخاطئ فإن هذا الصراع يمتد من أقصى المعمورة الى أقصاها، وهو غير محصور في بقعة معينة من العالم محتلة بقوة السلاح باستعمار اجلائي، استيطاني، وارهاب دائم ومستمر بكونه يشتبك مع مصالح دولية ويعبّر عنها في جزء متقدم من ستراتيجيتها الكونية في الشرق الأوسط، حتى وان تعكّز على " حق ديني" أو مزاعم آيديولوجية روّجت لها الصهيونية العالمية منذ مؤتمرها الاول في مدينة بال " بازل" السويسرية العام 1897 وبعد صدور كتاب تيودور هيرتزل " دولة اليهود" بعام واحد.
ان ما يقوم به الفلسطينون مدعومين من المسلمين وأحياناً تحت راية الاسلام لإضفاء نوع من القدسية على هدفهم النبيل، انما ينسجم مع قواعد القانون الدولي، الذي يجيز للشعوب التابعة والمستعمرة استخدام جميع الوسائل بما فيها القوة المسلحة، لاسترداد وطنها واستعادة سيادتها، وذلك لا علاقة له بالرؤية المشوّهة لاعطاء الصراع طابعاً دينياً.
وإذا كان الاسلام يذهب الى تأييد مثل هذه التوجهات بما فيها استرخاص الغالي والنفيس وصولاً الى الهدف، بالسلم او بالجهاد، فإن دعوته هذه أرضية وحقوقية وقانونية وضعية، حتى وإن يتم فيها توظيف التعاليم السماوية كأداة فلسفية وروحية، لهدف أرضي وانساني وهو تحرير الاراضي المغتصبة وحق تقرير المصير، في حين ان دعاوى الصهيونية سماوية تتعلق بأرض الميعاد وتحقيق الوعد الالهي لشعب الله المختار.
على النخب الفكرية والسياسية والثقافية العربية والمسلمة التمييز دائما بين مفهوم الحضارة التي ننسبها الى الغرب وهي نتاج انساني وبشري، وبين مفهوم الغرب السياسي، فالاولى هي منظومة من الفلسفات والافكار لما وصلت اليه البشرية كنتاج لتطورها السياسي والثقافي والجمالي والعمراني والفني والتكنولوجي والادبي، في حين ان الغرب السياسي يعني النظم والآيديولوجيات الحاكمة في أوروبا والولايات المتحدة، القائمة على المصالح بالدرجة الاساسية، وقد تكون أحياناً في تعارض مع مقتضيات السلوك الحضاري أو مثله وقيمه الانسانية العليا، خصوصاً مع شعوب وأمم أخرى.
لكن هذه النظم المتمثلة باوروبا وامريكا في الوقت نفسه تعتبر مستودعاً للتقدم العالمي لعصرنا بجميع ايجابياته وسلبياته، وبالتالي لا يمكن تبسيط الموقف من الغرب باعتباره كله " شرٌّ مطلق"، وهي النظرة التي تتذرع بها اسرائيل لحماية نفسها من " آلة التدمير" العربية والاسلامية، بتأكيد انتمائها الى الغرب الحديث، ولاثبات تعارضها مع أهداف العرب والمسلمين، ولعل هذا ما حاولت ترويجه خلال انعقاد مؤتمر جنيف (ديربن-2) حول العنصرية والتمييز العنصري وكراهية الأجانب نيسان (ابريل) 2009، وهو ما استطاعت أن تحشد له طاقات وامكانات دولية هائلة في الولايات المتحدة والغرب، مستفيدة من بعض الاطروحات الخاطئة والضارة التي ما تزال تهيمن على بعض التوجهات الاسلاموية، فضلاً عن تقاعس العرب والمسلمين منذ مؤتمر ديربن العام 2001، وذلك بعد أن حصلوا على نصر سهل لم يستطيعوا الحفاظ عليه أو توظيفه لمصلحتهم، لاسيما بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الارهابية، وهو ما حشدت اليه اسرائيل جميع الطاقات منذ ثمانية أعوام، حتى تحقق لها ما أرادت، رغم مقاطعتها مؤتمر جنيف، وهو ما سبق أن استخدمته بشكل بارع يوم تمكّنت من إلغاء القرار 3379 الصادر عن الجمعية العامة للامم المتحدة في 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 1975 بخصوص مساواة الصهيونية بالعنصرية.
لقد عبأت اسرائيل آلة اعلامية وسياسية كبيرة، بما فيها حضور عشرات من منظمات المجتمع المدني بتكليف واسهام مباشر منها أو بطريق غير مباشر عبر التنسيق والتحالف وضخ المعلومات وتهويل صورة مؤتمر ديربن الذي دمغ الصهيونية بالعنصرية، وكذلك بالاستفادة من بعض الأطروحات المتطرفة أو الشعارات ذات النبرة العالية، مستغلة إياها باعتبارها مهددة بالاستئصال، في حين أنها هي التي تحتل الاراضي العربية وتمارس سياسة عنصرية ضد سكان البلاد الاصليين وترفض القرارات الدولية وحق العودة، وتضم القدس والجولان خلافاً للشرعية الدولية، وفي الوقت نفسه تلصق كل أعمال العنف والارهاب بالاسلام في صورة نمطية، ليست بعيدة عن الصهيونية ذاتها.
ولعل صدور رأي استشاري من محكمة العدل الدولية بخصوص عدم شرعية بناء جدار الفصل العنصري، ومن ثم صدور تقرير غولدستون الذي اتهم اسرائيل بارتكاب جرائم في غزة تقترب من جرائم الحرب، وقبل ذلك صدور تقرير بوستروم بشأن اتهام اسرائيل بالاتجار بالاعضاء البشرية للفلسطينيين، كلّه يضع اسرائيل أمام مساءلات دولية، خصوصاً وأن سياساتها طيلة ما يزيد عن 60 عام، كانت عدوانية وعنصرية بامتياز وبالضد من قيم التسامح.
• وقفة للمراجعة الفكرية
أيكفي تكرارنا القول ان تعاليم الاسلام وبخاصة الواردة في القران الكريم والسنّة النبوّية تحضّ على التسامح، وان الكثير من تطبيقات الخلفاء الراشدين في الاسلام الاول كانت تمثل قيم التسامح؟ أم ان هناك فروقاً كثيرة وجوهرية بين بعض النصوص النظرية وبين التاريخ الاسلامي، الذي هو مثل كل تاريخ البشرية، حفل بالكثير من مظاهر اللاتسامح والعنف والاقصاء وتهميش الآخر، لدرجة تأثيمه وتجريمه أحياناً، سواءً على الصعيد النظري او على الصعيد العملي والتطبيقي من خلال الممارسات والاعمال؟
جدير بالذكر الاشارة الى ان فترة الاسلام الاول، شهدت اعترافاً بالآخر والدعوة الى المساواة والتواصي والتآزر والرحمة، لكن ثلاثة من " الخلفاء الراشدين" : عمر وعثمان وعلي (رضي الله عنهم) لقوا حتفهم مقتولين، ولم تفلح مبادئ التسامح التي دعا اليها الاسلام من أن تحول دون ذلك، فالتسامح بحاجة الى بيئة حاضنة وتراكم وتربية، ليتحوّل الى قوة مادية يصعب إقتلاعها، خصوصاً اذا ما انتقل من طور الاخلاق الى الحق ومن ثم ليؤسس عبر قوانين وتشريعات ومؤسسات!
لكن هذه القراءة الانتقادية للتاريخ الاسلامي، لا ينبغي ان تصب في الموجة الجديدة- القديمة من الاتجاه المعادي للاسلام، التي تحاول التصيّد بالماء العكر، لأخذه بجريرة بعض الاعمال الارهابية، أو أن تشمل جميع المسلمين، الذين يتم دمغهم بالارهاب بالجملة، وهو ما يتردد على لسان مسؤولين ومفكرين واعلاميين ورجال دين ومستشرقين في الغرب، بل هناك بعض الاساءات شملت حتى رسولهم النبي محمد (ص)، لعل آخرها كان ما أطلقه البابا بنديكتوس السادس عشر، في محاضرة بجامعة ريغينسبورغ، من توصيفات على لسان الامبراطور اليوناني مانويل الثاني في القرن الرابع عشر، "باتهام الاسلام بالعنف".
ولعل مثل هذه الاتهامات والتعميمات لا يجمعها جامع مع المشترك الانساني والديني، ناهيكم عن الوقائع التاريخية، خصوصاً وانها تصدر من اعلى مرجع في الكنيسة. كل ذلك يحدث ولم تكن قد إنتهت تداعيات نشر صحيفة دانماركية صوراً مسيئة للنبي محمد (ص)، بما سببته من تصدع العلاقات المسيحية- الاسلامية، ليس على صعيد الحاضر حسب، بل على صعيد المستقبل، يضاف اليه الآن نتائج الاستفتاء الشعبي في سويسرا ضد بناء المنائر الاسلامية.
كما أن ما ورد على لسان الرئيس الامريكي السابق جورج دبليو بوش(آب/ اغسطس2006) وخلال العدوان الاسرائيلي على لبنان حول " الفاشية الاسلامية" وقبلها الاشارة الى "الحرب الصليبية" فيما يتعلق بحملة مكافحة الارهاب الدولي، انما يصّب في هذا الاتجاه العدائي، خصوصاً وانه قسّم العالم الى قسمين " اما معنا.. أو مع الارهاب" اي مع " معسكر الخير والنور" او "معسكر الشر والظلام"، وهو الوجه الآخر لما ذهب اليه اسامة بن لادن حين قسّم العالم الى فسطاطين، ولعل هذا الأمر يحتاج الى إعادة النظر بالأفكار والآراء المسبقة بخصوص الاسلام، وهو ما يضع مسؤوليات على ادارة أوباما، طالما أنه أخذ على عاتقه مبادرة مخاطبة المسلمين على نحو مختلف، بما يعزز الحوار والتفاهم بدلاً من الصراع والصدام بين الحضارات والثقافات والأديان.
• نحن ومفارقات التسامح
اذا كان "الغرب" قد وصل الى التسامح في مجتمعاته، بعد معاناة طويلة ومعارك طائفية طاحنة وحروب عالمية حصدت ارواح عشرات الملايين من البشر، فان مثل هذا الامر لم يأخذ مداه على المستوى الدولي وبخاصة محاولات فرض الهيمنة والاستتباع، وبعد انهيار الكتلة الاشتراكية في اواخر الثمانينات، حيث يراد للعالم التسليم بظفر الليبرالية الجديدة، نموذجاً وحيداً للنظام الدولي على المستوى السياسي والاقتصادي، وخلال نحو عقدين من الزمان خيضت حروب وأعمال ابادة وفرضت حصارات وشنت عدوانات وُقلبت انظمة واقيمت كيانات، كلّها بعيدة عن روح التسامح، بالاعتماد على نظرية القوة وليس قوة القانون وروح ميثاق الامم المتحدة، وذلك بسبب نهج التفرد والاستئثار والمصالح الأنانية الضيقة!
ومن جهة اخرى فإن التسامح كمفهوم في العالمين العربي والاسلامي ما زال قليل القبول لدى اوساط واسعة، وربما نظرت اليه بعض الاتجاهات الاقصائية والالغائية على انه " نبت شيطاني" او " فكر مستورد" خصوصاً مع خلط المفاهيم تعسفاً احياناً، بالنزعات التغريبية وتصويرها باعتبارها استتباع واستخداء للآخر، الخارجي، الاجنبي، المختلف، الخصم والعدو! والامر ينسحب على نحو أشد ربما على النطاق الداخلي وفي داخل كل بلد عربي أو جماعة سياسية ودينية ومذهبية واثنية!
ويهرب اصحاب هذا الاتجاه الى التاريخ، ملاذهم، بالادعاء: ان الاسلام الاول، الراشدي إتسم بالتسامح والاعتراف بحق الاختلاف،وهو وإن كان صحيحاً، لكنهم لا يناقشون الحاضر او يحاولون الزوغان عن كل ما من شأنه الاعتراف بمبادئ التسامح وحق الاختلاف في زمننا الحالي، فهو من وجهة نظرهم مرفوض ومستغرب، في محاولة تمجيدية للماضي وادعاء الافضليات، لذلك احتاج هذا المفهوم الى تبيئة وتأصيل تاريخي بهدف جعله راهناً ومستمراً وقائماً.
وبقراءة الوضع الراهن فهناك اربعة مواقف أو اتجاهات من مسألة التسامح:
الاتجاه الاول-الذي نطلق عليه "الرافض" فهو يرفض كل حديث عن التسامح على النطاق الديني او الفكري او السياسي او الثقافي او الاجتماعي، الداخلي او الخارجي (الدولي) بحجة امتلاكه للحقيقة والافضليات، اما المختلف والآخر فإنه لا يمثّل سوى النقيض، وعلى المستوى العالمي فإنه يمثل الكفر والاستكبار.
الاتجاه الثاني- هو الاصلاحي وهو تعبير عن تيار اصلاحي (توافقي) يتقبّل بعض افكار التسامح بانتقائية بهدف مواكبة التطور الدولي، لكنه يظل مشدوداً للفكر التقليدي السائد، وان كان يسعى للتواصل مع الآخر بحذر شديد، وربما بريبة أيضاً.
الاتجاه الثالث- الذي نسميه الاتجاه التغريبي، فهو يؤيد فكرة التسامح ويحاول تعميمها على كل شيء، وهو يدعو الى قطع الصلة بالتراث والتاريخ واعتبار التسامح قيممة حداثية لا علاقة لها بالاسلام، بل يضع في اعتباره كون التسامح نقيضاً للاسلام الذي يحضّ على "العنف" و"الارهاب" حسب فهم خاطئ لبعض الاتجاهات الاسلاموية أو الاسلامية وموقفها من الحداثة، دون تمييز بين الاسلام وبين بعض الاتجاهات السياسية.
الاتجاه الرابع- الذي نعتبره قيمياً وهو تعبير عن التيار المؤيد للتسامح، والذي يعتبره قيمة عليا، لاسيما بربطه بحقوق الانسان، دون التعامل معه على نحو مبتذل فيما يتعلق بالصراع العربي- الاسرائيلي والتنكر لحقوق الشعب العربي الفلسطيني، فالتسامح لا يعني التهاون إزاء حقوق الانسان أو قيم العدالة أو تبريرها تحت أية حجة أو ذريعة.
وإذا كانت فكرة التسامح مؤاتية ولها تفاعلات مع الفكرة الليبرالية والعقلانية والمدنية والعلمانية، الاّ ان جذورها تمتد الى الحضارات والثقافات المختلفة، ويزخر التراث الانساني باستلهامات من قيم التسامح، لكنه كمنظومة متكاملة كان من نتاج حقبة التنوير لاسيما في القرن الثامن عشر.
• الهروب الى الماضي !
ان القراءة الارتجاعية للنص الاسلامي وللتعاليم والمفاهيم الاسلامية دون عُقد الحاضر وحساسياته، ودون اخضاعها لحسابات مؤقتة وربما طارئة، فإنها تؤكد ان الاسلام " المفاهيمي" ومن خلال عدد من فقهائه، طريق رحب يمكن ان يسلكه الانسان في حياته حيث سيجده، مفعم بالحيوية والنشاط والانفتاح والعطاء، وصولاً الى التسامح، خصوصاً إذا كان الأمر بعيداً عن أصابع المفسرين والمؤولين من المتشددين واللامتسامحين من الاسلامويين، الذين حاولوا تطويع احكام الاسلام بطريقة مؤدلجة تماشياً مع القيم السائدة والافكار المتعصبة والمغلقة وخدمة لمن بيدهم الامر.
وساهمت بعض هذه التنظيرات في كبح جماح العقل وتحويل تعاليم الاسلام الى مجرد " تعاويذ" و"أدعية" ووصفات جاهزة ومعلبة، اقرب الى التحنيط والجمود والصنمية خصوصاً ازاء الآخر، وعبر يقينيات لا تقبل الجدل او الحوار.
كان الى جانب الاسلام والايمان نقيضهما أحياناً في دولة الاسلام المدنية، ولكن ثقة الاسلام بنفسه جعلت التعايش ممكناً مع النقيض. حسبي هنا ان اشير الى احتواء كتاب " التوحيد الكافي" على اقوى الاستدلالات، التي إستند اليها منكروا التوحيد دون ان يؤثر ذلك في عرض الرأي الآخر المناقض، المخالف، المعارض، حتى وان احتوى على ما يتعارض مع جوهر الايمان.
الاسلام بتعاليمه لا يجد غضاضة في الجدل والنقاش ونقد الرأي المخالف انطلاقاً من قاعدتين :
1- مبدا التسامح ازاء سماع الراي الآخر.
2- الايمان بالعقل باعتباره الاساس في المحاججة وليس النظرة المسبقة.
ليس ثمت تناقض بين العقل والايمان، وهو جوهر النقد الذي تناوله البابا في محاضرته التي اثارت ردود فعل شديدة، لكن التاريخ الاسلامي شهد فترات سبات للعقل وتغلّب عليه العنف وساد السيف قبل الرأي، ولكننا لا بدّ من التمييز بين الاسلام كمفاهيم ومبادئ ومعتقدات وتعاليم وبين التاريخ والممارسات والتطبيقات والتجاوز على المبادئ.
بخصوص التسامح والاختلاف فهناك نموذجين احدهما: معياري والثاني واقعي، فهناك من يقرّ بالاختلاف وبالتالي بالتسامح في المسائل الفرعية، وهناك من يذهب أبعد من ذلك حين يقرّه في المسائل العقدية والاصول " فكل مجتهد مصيب في اجتهاده، وان لم يصب في حكمه" وذهب الامام الشافعي للقول:" رأيي صواب ولكنه يحتمل الخطأ ورأي غيري خطا ولكنه يحتمل الصواب".
وقديماً قيل قد يصيب الناظر وجهاً من وجوه الحقيقية، وهو ما ذهب اليه ابن رشد، ولهذا فإن تباين الاجتهادات واختلاف التفسيرات، انما يدل على تباين الطرق الموصلة الى الحقيقة، فطريق الحق ليس واحداً، بل كثير ومتعدد، وهو الامر الغائب عن واقعنا الحاضر الشديد الالتباس والبعيد عن قيم التسامح.
هناك بعض الاسلاميين المتعصبين أو الاسلامويين، يعتبرون أي حديث عن التسامح يقود الى " التساهل ازاء العقيدة والى الاباحية" وبعبارة اخرى: نشر الليبرالية بكل ابعادها على حساب الدين. وهو ما يذهب اليه مصباح يزدي احد منظري التيار اليميني المحافظ في ايران، الذي يعتبر التسامح يعني فيما يعنيه: التسيّب وانعدام الغيرة واسلوباً تخريبياً ضد الاسلام، يؤدي الى الانحراف والتحلل، في حين يميل تيار محمد خاتمي الرئيس الايراني السابق الى التسامح، ويدعو راشد الغنوشي الى هذا الاتجاه، ويعتبر فكر التشدد والتكفير وادعاء احتكار الاسلام وزعم النطق بإسمه، اكثر خطراً من الصهيونية والغرب والحكام المستبدين!
اعتقد ان جزءًا من مشكلة الراهن والمستقبل، تكمن في المتراكم السلبي والموروث اللامتسامح، والذي تجري محاولات لاجتراره بهدف الحفاظ على سكونية المجتمع وانظمة الحكم السائدة، التي لا تقبل بالتنوع والاختلاف والتسامح والديمقراطية، ومثل هذا الامر يجد صداه داخل المجتمع عبر تيارات متطرفة ومتعصبة تحمل راية الاسلام او ما نطلق عليه " الاسلام السياسي".
العرب والمسلمون ليسوا أبالسة او شياطين او كلهم تنظيمات القاعدة كما يفكرّ ويتعامل بعض المسؤولين في الغرب، كما ان الغرب ليس كله استكبار وهيمنة واحتلال وعدوان، ففيه قيم ثقافية وانسانية وجمالية ومجتمع مدني، كان سبّاقاً بل أكثر من مجتمعاتنا في الاحتجاج على شن الحرب على العراق وكذلك في التضامن مع الشعب الفلسطيني واللبناني... وهذه النظرة الشمولية الاستباقية الوحيدة الجانب تشكل نقيضاً للاعتدال والوسطية خصوصاً في العلاقة مع الآخر، والاكثر من ذلك هي نقيض للواقع والعقل، سواءً صدرت عبر تصوّر مسبق من الغرب السياسي ولاهداف سياسية محددة او صدرت من بعض الجماعات الاسلاموية او المتعصبة، التي تستند الى التعميم وهو الصخرة التي يتكأ عليها المتعبون، او الذين لا يريدون استخدام العقل!
وفيما يخصّ الفكر العربي- الاسلامي المعاصر اعتقد انه لا يمكن للاسلام كدين ان يتقدم وأن يتفاعل مع الحضارة الكونية، إنْ لم يأخذ قسطه من التسامح، بمعنى الاعتراف بالآخر، والبحث عن حلول وسط يمكن قبولها بما لا يبتعد عن مبادئ العدالة والحق، هكذا يصبح المشترك والتعايش وقبول الآخر اساساً وليس إلغائه او اقصائه او تهميشه!
ان استعراض حلقات مضيئة في التاريخ الاسلامي أمرٌ يمكن البناء عليه، اضافة الى القران والسنة، مثل: حلف الفضول، الذي انصف المظلوم (وهو من احلاف الجاهلية، الذي أبقى عليه النبي محمد(ص) بعد الاسلام) ودستور المدينة الذي اعترف بالآخر ومنحه الحقوق (قبل اكثر من 1400 سنة)، وصلح الحديبية مع المشركين، والعهدة العمرية التي منحها عمر بن الخطاب(رض) عام 15 هـ الى المسيحيين والبطريرك صفيرنيوس عند فتح القدس، ووثيقة فتح القسطنطينية، التي اعترفت بحقوق الآخر (المسيحي) ودينه وممتلكاته وطقوسه وشعائره وغير ذلك، لكن الاصح بتقديري هو نقد التجربة ومراجعة بعض جوانبها الفكرية وبخاصة السلبي منها، ولا بد من اخذ السياق التاريخي بنظر الاعتبار بهدف استشراف المستقبل وبحثاً عن المشترك الانساني والتواصل الحضاري والتفاعل الثقافي.