الإنسان العربي أبعد ما يكون عن الحوار والتسامح والتحالف
سعيد الكحل
ليسمح لي قراء مقالتي هذه على غلظتي وفظاظتي التي لم أجد في واقعنا السياسي والاجتماعي ولا حتى الثقافي ، ما يهشّمهما . بل كل الذي نعاني منه داخل مجتمعاتنا وأحزابنا هو التنافر والتنابز والسعي للإيقاع بالآخر ، ليس الغريب الأجنبي والدخيل على التنظيم أو المجتمع ، بل الآخر هو القريب والعضو في التنظيم أو المجتمع . حتى بات عدونا هو الأقرب إلينا ، سواء فكريا أو أيديولوجيا أو إثنيا الخ . ولا أعتقد أن هذه الحالة ينفرد بها المجتمع العراقي ، وإنما هي حالة عامة صاغها الضمير الشعبي في المثل الذائع ( اتفق العرب على ألا يتفقوا ) . أعرف أنه جلد للذات أكثر مما هو نقد . وأعرف كذلك أن دعوات كثيرة أُطلقت عندنا في المغرب ، كبقية البلدان العربية ، من أجل التكتل ووقف التشرذم ، لكنها ظلت بدون صدى ، فزاد التشرذم وعمّ الانشقاق . فالإنسان العربي متشبع بثقافة لا تسمح له بالانفتاح على الآخر وقبول الاختلاف . أي ثقافة لا تؤسس لقيم التسامح التي هي أساس كل حوار وتحالف . فالتسامح ، من حيث هو موقف ، يقتضي تقبل طريقة الآخر في التفكير أو التصرف بشكل مختلف عن الأنا . ومن حيث هو قيمة أخلاقية يحمل الأنا على احترام حرية الآخر الدينية والسياسية والفكرية وغيرها . أما من حيث كونه قناعة فكرية فيستلزم ليس فقط الإقرار للآخر بحق الاختلاف مع الأنا في الرأي أو الموقف والتعبير عنهما ، بل يتعداه إلى ضمان هذا الحق والعمل على احترامه وإن تطلب ذلك التضحية من أجله . فالتضحية ، في هذه الحالة ، تكون من أجل المبدأ ، مبدأ احترام حق الآخر في الاختلاف والدفاع عنه . وهذا المبدأ / القيمة صاغه بدقة وسماحة "فولتير" في عبارته الشهيرة ( مهما اختلفت معك فإني سأدافع عن حقك في التعبير إلى آخر رمق في حياتي ) . بذلك يكون التسامح قيمة أخلاقية سامية يتجرد الأنا بفضلها من أنانيته وتمركزه على الذات لتتسع كينونته فتشمل الآخر ، من حيث هو بُعد من أبعاد الذات الواعية وامتداد لها . إنه شعور يسمو بالأنا ويفتح أمامه كل الآفاق والعوالم ، فيجعله يعيش الانسجام مع الذات ومع الغير . إن التسامح ، بهذا المعنى ، لا يجد في ثقافتنا العامية أو العالِمة ما يغذيه ويُشيعه . ذلك أن بيئاتنا الاجتماعية ، على مر العصور ، لم تجعل من هذا المفهوم قيمة أخلاقية وفكرية تتأسس عليه الثقافة العربية وتستبطنه الشخصية بفعل التنشئة الاجتماعية . لهذا انحصر مفهوم التسامح في اللين والجود : سمح سماحة أي صار من أهل الجود . وسامحه في الأمر ساهله ، لاينه ، أصفع عنه . ففي لسان العرب نجد ( سمح : السماح والسماحة الجود .. وسمح كَكَرم معناه : صار من أهل السماحة .. الإسماح : لغة في السماح ، يقال : سمح وأسمح إذا جاد وأعطى عن كرم وسخاء . وقيل : إنما يُقال في السخاء سَمَحَ ، وأما أسْمحَ فإنما يقال في المتابعة والانقياد .. والمسامحة : المُساهلة . وتقول العرب : عليك بالحق فإن فيه لمَسْمَحا ، أي متسعا ) . إذن التسامح لا يأخذ معنى الإقرار بحق الاختلاف ، لأن الإقرار بحق الآخر لا يقتضي أبدا الحديث عن الصفح والجود . ذلك أن الصفح والجود هما قيمتان نبيلتان تستمدان أهميتهما من ثني الأنا عن الانتقام أو معاقبة الآخر متى انتهك حقا ليس من حقوقه . إن الصفح والجود يتعلقان باستعداد الأنا للتنازل عن حق من حقوقه ( حق الانتفاع في حالة الجود ، وحق القصاص في حالة الصفح ) . وفي كلتا الحالتين يظل الأنا هو المركز ومحور العملية . بينما يكون الآخر تابعا وهامشيا ومنفعلا . أما في حالة التسامح فإن الغير لا يخضع للتمييز بين التابع والمتبوع أو الفاضل والمفضول . بل الغير والأنا ندّان في الحقوق والكرامة . وإذا كان الجود والصفح تكريسا لسلطة الذات ووجودها الفاعل والمؤثر في الآخر عبر الجود بتلبية حاجة لديه ، أو عبر الصفح برفع عقوبة عنه ، فإن التسامح إقرار بحالة التساوي بين الأنا وبين الآخر ، بحيث تتخلى الذات عن مركزيتها وتؤمن بالندية والمساواة في التمتع بنفس الحقوق . من هنا فإن التسامح يقتضي ذاتا منفتحة على الآخرين في تنوع أفكارهم واختلاف مواقفهم وتعدد معتقداتهم .وحتى يتأتى لها ذلك ، تكون مطالَبَة بالتمتع بقدر من الوعي في الذات يرقى بها إلى مستوى تمّحي فيه درجات التفاضل بين الأفكار أو المعتقدات ، كما يختفي فيه الشعور بالتسامي العقائدي أو التفوق الحضاري . حينها تتساوى الذات بالآخرين في الشعور بالانتماء إلى هذه المجموعة الإنسانية ـ التي هي شعب العراق ـ بما فيها من تنوع عرقي ولغوي وعقائدي ، وكذا الانتماء إلى هذا الوطن وإرثه الحضاري . أكيد لو كان هذا الشعور سائدا لدى التيارات الفكرية والأحزاب السياسية ، لقوي عندها الشعور بالخوف على مستقبل العراق . لأن هذا المستقبل هو مستقبل الجميع ، كانوا يساريين أو ليبراليين ، إسلاميين أو علمانيين . وأنا إذ أجيب على أسئلة موقع الحوار المتمدن بهذه الصيغة الفظة ، أستحضر ما نعيشه في المغرب من مفارقة فظيعة يتخبط فيها اليساريون أساسا والديمقراطيون عموما . إذ كما يعلم القراء الكرام ، أن شيوخ السلفية الجهادية وكل الذين اعتقلوا على خلفية الأحداث الإرهابية التي هزت مدينة الدار البيضاء ، خاضوا إضرابا عن الطعام لإرغام الدولة على إطلاق سراحهم رغم ثبوت تورطهم في الأحداث الإرهابية إ إما مباشرة أو عن طريق الإفتاء والتحريض والتكفير . هؤلاء المتطرفون لم يجدوا غير اليساريين في الدفاع عنهم ، لدرجة جعلها اليساريون قضيتهم المركزية ، وأخرجوا المتطرفين والإرهابيين من خانة القتلة والمجرمين إلى خانة معتقلي " الرأي والعقيدة" . في حين لما يتعلق الأمر بالعمل الحزبي أو الجمعوي داخل نفس الهيأة ، نجد اليساريين أشد عداء لبعضهم البعض خاصة لما يتعلق الأمر بالانتخابات الداخلية . وليس غريبا مثلا أن نجد حزب الاتحاد الاشتراكي المغربي يتخذ من غير اليساريين حلفاء له ، ويخوض معهم تجارب تنسيقية وتحالفات ، في الوقت الذي يرفض حتى استشارة حلفائه اليساريين الذين أسسوا معا " الكتلة الديمقراطية" . إذا كنا في المغرب نفتقر إلى ميولات التحالف ، ونحن خارج ضغوط الحرب والعدوان، فكيف سيكون عليه حال العراقيين إذن ؟ هذا هو مزاج الإنسان العربي ، وتلك هي ثقافته . وليس غريبا أن نجد القرآن الكريم وسنة الرسول (ص) يحثان الإنسان العربي على طلب الحكمة والمعرفة من أي كان . واليوم نحن بحاجة إلى طلب الحكمة من الهند حيث نجد رئيسا مسلما على غالبية هندوسية . وهذه بحد ذاتها تعتبر من ثامن المستحيلات في البلاد العربية . أنظروا إلى المسخ السياسي مثلا في كردستان العراق حيث يُمنع رفع العلم العراقي رغم أن رئيس العراق من إقليم كردستان . عموما يمكن القول إن العائق في وجه التحالف بين القوى السياسية العراقية هو نفسه العائق في باقي البلدان العربية . إذ حين الانتماء إلى حزب سياسي ما تعطى للمنتمين ثقافة طائفية ، أي تجعلهم يشعرون بالانتماء إلى طائفة هي في حالة عداء وتنافر مع غيرها . ومن ثم يتكون الجفاء والتنافر بين أتباع التنظيمات الحزبية والجمعوية . ومتى تم الحديث عن التحالف إلا وتمسك كل زعيم حزب بالزعامة ، مما يجعل المصلحة الخاصة فوق كل اعتبار . من هنا لن أخادع نفسي ولا غيري ولا أوهمهم أن المقالات تصنع التحالف ، بل يصنعه الوعي الموضوعي . لكن للأسف هذا الوعي الموضوعي نفتقر إليه جميعا ، أفرادا وتنظيمات وحكومات وساسة . إنها الحقيقة التي تجرح لكنها لا تقتل .