التلاقي الإنساني وخبرة الحضارة في العلاقة مع الآخر

خالد أبو أحمد

بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م تعددت الدعوات المطالبة بالمزيد من الفهم العميق للأديان والثقافات الأخرى وهو الدور الذي يجب ان تلعبه المدرسة, وكانت مجموعة من معلمي المدارس الابتدائية في مدينة لندن قد قامت بزيارة احد المساجد في العاصمة البريطانية ضمن خطة تهدف الى التوعية بالدين الاسلامي.
وقالت ادارة المدرسة ان هذه الخطة تأتي ضمن برنامج لاعداد معلمي التربية الدينية لكل من الديانات الاسلامية والمسيحية واليهودية والهندوسية والبوذية والسيخية. وتؤكد «جين ميد، المحاضرة الاولى في مادة التربية الدينية ان هذا البرنامج ضروري بالنسبة للمعلمين الذين يجب عليهم ان يكونوا اكثر وعيا بخلفيات تلاميذهم الدينية.
ويروي احد معلمي التربية الاسلامية حكاية عن الموقف الذي تعرض له بعد انتهائه من الدرس اذ سرعان ما شارك تلاميذه في مسيرة مناهضة للذبح الحلال على الطريقة الاسلامية دون ان يعرفوا كافة التفاصيل وهو ما دعاه الى المطالبة ببدء حملة للتوعية بالاسلام وعلى نطاق واسع.
وحسبما تقول (اليسون سلمون) وهي احدى المتدربات، فإن المعلم الواعي يلعب دورًا مهما في نقل الوعي الى تلاميذه الذين يعيشون في مجتمع كالمجتمع البريطاني المتعدد الاديان والثقافات وعليهم ان يتعايشوا فيه بسلام.
طالب عدد من المفكرين المسلمين إلى مبادرات إسلامية تقدم رؤية وأجندة لا تتضمن فقط قضايا المسلمين وهمومهم، وما يمكن أن تقوم به المؤسسات الدينية في هذا المجال وإنما تقدم تصورا لدور الأديان في حل المشاكل الكبرى التي تواجه الإنسانية اليوم وبخاصة ما يتعلق بقضايا الفقر والعدالة، الحفاظ على البيئة وحماية الأسرة، على النحو الذي حدث في التنسيق بين الأزهر الشريف والفاتيكان في المؤتمر الدولي للسكان والتنمية بالقاهرة لصالح حماية الأسرة.
والدعوة إلى تجديد الفكر الإسلامي في هذا الميدان تشير إلى أن ثمة خبرة للحضارة التاريخية في العلاقة مع الآخر فقد كانت عبر التاريخ في علاقات مستمرة مع الحضارات المجاورة، بل أن إبداعات الحضارة الإسلامية هي - إلى حد كبير- نتيجة لهذا التفاعل بين الداخل والخارج، أو بلغة العصر بين «الأنا» و«الآخر».وقد مرت العلاقة بالآخر بثلاث فترات يحددها الدكتور حسن حنفي في الفترة الأولى كان الآخر (اليونان والرومان وفارس والهند)معلما وكانت الأنا(الحضارة الإسلامية الناشئة)متعلما, أما في الفترة الثانية فقد كانت الأنا (الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي)معلما، وكان الآخر (الغرب في العصر الوسيط)متعلما, ثم جاءت العصور الحديثة بفترة ثالثة أصبحت الأنا فيها متعلما والآخر معلما.ولكن هذا لا يعني الأخذ المطلق عن الأخر، فالغرب لم يفعل ذلك في تكامله مع الحضارة الإسلامية، وعلينا أن نمارس نفس المنهج في تعاملنا مع الحضارة الغربية اليوم.
وإذا عدنا إلى أصول الإسلام نجد انه يقدم صورة إيجابية لـ «الآخر» تقوم على الاحترام والإخاء، فالدين الحنيف يكرم الآخر لمجرد كونه إنسان «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا» (الإسراء70 ) والمسلم ينظر للآخر باعتباره أخا له في الإنسانية مصداقا لقوله تعالى: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله اتقاكم»-الحجرات: 13.
وفي السنة النبوية نجد ملامح هذه الصورة في عدة نصوص، و منها قوله صلى الله عليه وسلم فى خطبة الوداع: «يا أيها الناس ألا أن ربكم واحد وإن أباكم واحد ..كلكم لآدم وآدم من تراب »ومن استقراء النصوص الواردة في هذا الصدد نجد أن العدل سمة أساسية في التعامل مع غير المسلمين.
فضلا عن أن الإسلام يعترف بالأديان السماوية كلها، بل لا يكتمل إيمان المسلم بدون الإيمان بجميع الرسل والنبيين فيقول تعالى «آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل أمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير»-البقرة : 285-وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ان الإيمان هو «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره».
وإذا كانت بعض الرؤى الأخرى تتبنى مفهومها للعلاقة مع الأخر وبخاصة المسلمين، يقوم على الصدام بحجة ما يسمى بصدام الحضارات (مثل: أراء هنتنجتون ونيكسون) فإن العلاقة بالآخر تقوم فى الفكر الإسلامي على التعايش السلمي و الحوار وليس على الصدام : «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون»-آل عمران 64-
تؤكد الآية بوضوح دعوة الإسلام إلى التعايش السلمي مع الآخر،فإذا كان الإسلام قد جعل فى قلوب المسلمين متسعاً للتعايش مع بنى الإنسان كافة، ففيه من باب أولى، متسع للتعايش بين المؤمنين بالله، وإن كان هذا التعايش لا يعنى أننا متفقون في كل شئ.
لا يتسع المجال لذكر المرتكزات الإسلامية للعلاقة مع الآخر، وإنما فقط ننبه إلى ثراء الفكر الإسلامي في هذا المجال، وفي الوقت حاجة المسلمين الضرورية إلى الاجتهاد والتجديد في هذا الميدان في ظل معطيات العصر وظروفه.
دور البيئة الاجتماعية في إرساء تعزيز ثقافة الحوار
الحقيقة أنه عند الحديث عن دور البيئة الاجتماعية في إرساء ثقافة الحوار والتسامح لدى الشباب فإن أول ما يتبادر إلى ذهن المتخصصين في علم الاجتماع هي مؤسسات التنشئة الاجتماعية المتعددة في المجتمع التي يفترض أن تقوم بدور فاعل في تشريب الناشئة القيم الاجتماعية والثقافية التي يرغب المجتمع في استمرارها .ولعل أهم المؤسسات الاجتماعية التي يحسن الحديث عنها في هذا الصدد هي الأسرة والمدرسة ، ففي الوقت الذي تقوم فيه الأسرة بتعويد الناشئة على القيم الاجتماعية المقبولة والتي تأخذ في طبيعتها خصوصية الأسرة فإن المدرسة يفترض أن تكون هي الجسر الذي يربط بين خصوصية الثقافة التي يجب أن تقوم بها الأسرة لتعميم ثقافة مشتركة تجمع جميع أفراد المجتمع على هوية ثقافية واحدة
وانطلقنا من البداية فإن ما تم استعراضه من قضايا حول الأسرة يجعلها هي الأول في تحمل مسؤولية تشريب الناشئة ثقافة الحوار وقبول الآخر دون إفراط أو تفريط انطلاقاَ من تعاليم الدين الإسلامي التي تحظى جميع الأفراد على قبول الآخر والتسامح معه ، ولكي تستطيع الأسرة القيام بدورها المأمول في إرساء ثقافة الحوار والتسامح بين أفرادها فإن المأمول من الأفراد والراشدين داخل محيط الأسرة تفعيل قيم التسامح والحوار بينهم فالابناء الذين يرون قيم التسامح والحوار بين الأب وزوجته وقيم الحوار والتسامح بينهم وبين والديهم سوف يخرجون بإذن الله سبحانه وتعالى أفراداَ قادرين على استيعاب الآخرين وتقبلهم انطلاقاَ من مفهوم أن الكمال لله سبحانه وتعالى والجميع لديه نواقص يجب أن نقبله بعيوبه ما دامت لا تتعارض مع الأسس الشرعية الثابتة في الدين الاسلامي.
إن الحوار في الأسرة هو سلوك وممارسة وليس توجيهات تصدر من سلطة عليا هي الأب أو ألأم ، إن ألأب الذي يفقد آليات الحوار السليم مع زوجته وأبنائه يجب أن لا يتوقع أن يخرج أبنائه إلى المجتمع وهم قادرون على الحوار أو استيعاب الآخر.
.ومما لا شك فيه أن قضية تعويد الأبناء على الحوار والمناقشة وتقبل الرأي الآخر لم يعد قضية ترفيه وإنما أصبحت ضرورة من ضروريات الحياة العصرية في عملية التنشئة والتعليم ، وما لم تستطع الأسرة القيام بهذا الدور المأمول منها فإن الحوار في المجتمع سوف يخنق في مهده.
وفي جانب آخر فإن هناك مؤسسة مهمة من مؤسسات التنشئة الاجتماعية مسؤولة مسئولية كبيرة عن إرساء ثقافة الحوار داخل المجتمع ، وحتى تصبح المدرسة قادرة على إرساء ثقافة الحوار داخل المجتمع فلا بد من تكامل مقومات العملية التعليمية في إرساء ثقافة الحوار والتسامح في المجتمع ولا يمكن إرساء ثقافة التسامح والحوار داخل المجتمع دون تفعيل العوامل الأربعة التي تقوم عليها العملية التعليمية.
و إجازة للحوار. وقال جل وعلا : (ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ..).
وبالإضافة لهذه النصوص الناصعة فإن من مصلحة الإسلام أن يعم التسامح والتعايش بين الأديان للأسباب الآتية: ـ الإسلام هو أوسع وأسرع الأديان انتشاراً في مناخ التسامح الحالي.
ثلث المسلمين يعيشون أقليات دينية وسط أغلبيات دينية أخرى، والتسامح يكفل لهم حقوقهم, أكثرية المسلمين يعيشون في دول هم فيها أغلبية، ولكن تعيش معهم مجموعات وطنية تنتمي لأديان أخرى ولاسبيل لتحقيق السلام معهم إلا عن طريق الاعتراف المتبادل والتعايش السلمي بين الأديان والثقافات.
أحصى الدارسون ثماني حضارات حية وعشر ألف ثقافة مميزة، كل الحضارات والثقافات تشتمل على عناصر مميزة لها ولكنها جميعاً تحتوي على عناصر وافدة إليها من غيرها.
كل الحضارات التي هيمنت في ظروف تاريخية معينة تطلعت لتكريس الهيمنة ولإيجاد مبررات فلسفية للبرهان على تفوقها. ما قاله فرانسيس فوكو ياما عن نهاية التاريخ هو عبارة عن تصوره أن الإنسانية كلها سوف تمتثل للأنموذج الغربي الذي بلغ بالإنسانية محطتها الأخيرة. نعم في الأنموذج الغربي آليات ومناهج سوف تبقى وتعم مثل حرية البحث العلمي، وآليات الحكم الديمقراطي، وآلية السوق الحر، ولكن هذه وسائل وليست غايات. الإنسانية سوف تستمر تختلف وتتنافس حول الغايات ولن يقف التاريخ عند محطة معينة مادامت الحياة!!.
الأسرة والقبيلة
لقد عرف الإسلام رابطة الأسرة والقبيلة ويمكن اعتبار صحيفة المدينة مؤسسة لدولة مدينة يقوم الولاء فيها على التناصر والأمن المتبادل لاعلى الإنتماء الديني أو القبلي، ولكن عبر دولة الخلفاء الراشدين تأسس خضوع المسلمين لدولة واحدة. هذا الشكل استمر لمدة 150عاماً فقط ومنذ نهاية العهد الأموي في عام 150هـ عاش المسلمون تحت سلطات سياسية متعددة، أي أن هذا التعدد في الكيانات السياسية سبق الاستعمار ولم يكن نتيجة له. ولكن الاستعمار عزز هذا التوجه وقننه, ومنذ تلك اللحظة التاريخية ان القبائل والأسر تعيش في سلام تام فيما بينها وقد اجاز لها المولى جل وعلا هذا التعايش من خلال الحوار الانساني, وخلاصة القول أن التعايش السلمي بين الكيانات المتعددة في المجتمع الواحد هو ضرورة حياتية وانسانية حتي يحقق الانسان أيما كان موقعه طموحاته وآماله وبذلك يكون قد أدى رسالته في الدنيا.

المصدر: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=41026

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك