التعايش في حوار المتحضرين

نبيل نعمة الجابري
لقد عرفت الحضارات الإنسانية مفهوم التعايش والحوار السلميين وما يقابلهما من مفاهيم العنف والعدوان، وقد تجلى هذا المفهوم في مختلف الآداب الفكرية للأديان السماوية السمحاء والأديان الوضعية الأخرى، فمفهوم التعايش يسجل حضوره في عمق التجربة الإنسانية، ويتبدى واضحاً في صيغ تتنوع بتنوع المجتمعات الإنسانية في إطار الزمان والمكان والمراحل التاريخية المتلاحقة. نظرة في معجمات اللغة العربية نجدها لا تنطوي على مفهوم واضح ومحدد للتعايش بالمعنى المعاصر للكلمة، فقد جاء في لسان العرب:
(العَيْشُ: الحياةُ، عاشَ يَعِيش عَيْشاً وعِيشَةً ومَعِيشاً ومَعاشاً وعَيْشُوشةً)، كما جاء في المعجم الوسيط، (تعايشوا: عاشوا على الألفة والمودّة، ومنه التعايش، وعَايَشَه: عاش معه والعيش معناه الحياة، وما تكون به الحياة من المطعم والمشرب والدخل وغيره). فالجذر اللغوي للفظة التعايش المستخدمة كما يتضح في القاموس المحيط يقترب من الإحالة إلى المعاني الحديثة للمفهوم ما دام يحتوي على الألفة والعيش مع الآخر إلا أنه يفتقر إلى أبسط الأمور التي تؤدي إلى هذا التعايش وهي المساواة والسلم والحوار، فهو وان اقترب من المفهوم إلا أنه قصر على استيعابه له، لأنه لا يحدد كيفية العلاقة مع الآخر والتي تعد شرطاًً في الدلالة الحديثة للتعايش. جاء في معجم (لاروس) الفرنسي ان التعايش يعني قبول آراء الآخرين وسلوكهم المتآلف القائم على مبدأ الاختلاف، وهو يتعارض مع مفهوم التسلط والأحادية والقهر والعنف من خلال احترام حرية الآخر وطرق تفكيره وسلوكه وآرائه السياسية والدينية، فهو الوجود المشترك لفئتين متناقضتين في محيط واحد، وهو لا يعني الإلغاء وإنما الاعتراف بالآخر المخالف سواء أكان الآخر المخالف عقدياً أم حضارياً أم ثقافياً أم سياسياً ويعد من أحد أهم سمات الواجب توفرها في المجتمع المتحضر. ومن يستعرض تطورات هذا المفهوم في التاريخ الإنساني يجد بأنه أخذ أشكالاً وصيغاً مختلفة ومتنوعة من حيث البساطة والتعقيد والامتداد والحضور، وسجلت هذه الأشكال والصيغ حضورها بوحي التنوع الحضاري والثقافي للمجتمعات الإنسانية، فقد وردت قيم التعايش والحقوق الإنسانية في الحضارات القديمة لا سيما في حضارة العراق القديمة. كما وردت في الوصايا العشر وسجلت أجمل حضور إنساني في الأدب الإسلامي. ويذهب كثير من المفكرين إلى الاعتقاد بأن مفهوم التعايش قد شهد تطوره وفقاً للصيغة العصرية تحت تأثير الوضعية الجديدة التي أدت إليها حركة الإصلاح الديني الأوروبي بزعامة مارتن لوثر، وبالتالي فإن هذا المفهوم ولد ليؤكد تعبيرات جديدة في الذهنية ناجمة عن علاقة اجتماعية جديدة قوامها: علاقة الاعتراف المتبادل بين القوى التي استمرت تتصارع لأجيال من الزمن. ومن الواضح أن مفهوم التعايش استطاع تجاوز حدود الدين واقترن بحرية التفكير وبدأ ينطوي تدريجياً على منظومة من المضامين الاجتماعية والثقافية والعلمية الجديدة التي أوحت بها العصور المتلاحقة بما تضمنت عليه هذه المراحل من صور جديدة لتصورات اجتماعية متجددة أسفر العصر الحديث بتطوراته المختلفة عن وجودها، وفي هذا الإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي (قد) يقول: (لكي ينعم الجميع بحرية الإسلام الصادقة وبمبادئه الإنسانية، التي أكد عليها القرآن الحكيم، وجسّدها عمليا رسول الله وأمير المؤمنين (ع) في شتى أبعاد الحياة: العلمية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية، والتربوية، والاجتماعية، والعسكرية، وغيرها، عليهم بحسن التعايش). كذلك هو الفيلسوف الفرنسي (فولتير) والذي يعد فيلسوف التعايش بحق لأنه ارتفع بالتعايش واقترب فيه من المفهوم المعاصر، إذ وضعه في صيغة المبدأ الطبيعي وكأساس للقول بحقوق طبيعية للإنسان، إذ يقول في هذا الخصوص: (كلنا ضعفاء وميالون لقانون الطبيعة، والمبدأ الأول للطبيعة هو التنوع وهذا يؤسس للتنوع في مجال الحياة الإنسانية، وقبول هذا التنوع حق أساسي للوجود). وغني عن البيان أن المفهوم المعاصر للتعايش يقوم على مبادئ حقوق الإنسان العالمية، لقد ربطت وثيقة إعلان المبادئ العالمية بين التعايش وحقوق الإنسان والديمقراطية والسلم وبالتالي ارتقت بالتعايش إلى صورة قيمة قانونية تتطلب الحماية من قبل المجتمع الدولي، حيث ورد في البند الأول من هذه الوثيقة إعلان المبادئ بشأن التعايش الصادرة عن اليونسكو العالمية بصدد معنى التعايش أن مفهوم التعايش يتضمن العناصر الآتية:
1- الانطلاق ـ نحو التعايش ـ يكون من الذات الإنسانية، وبالخصوص من القلب: ولذلك علينا أن نبدأ بزراعة الحب والرحمة واللطف، حتى يتحول ذلك الحب ليسع جميع مكونات النسيج الاجتماعي إلى مَلكة، فتحب الرعية بتعددها حبّاً متواصلاً ونابعاًً من القلب لا غيره.
 2 ـ يتمثل التعايش في أن يكون الحوار فيما بين الأفراد أو الجماعات أو الدول حوار الند للند، أي حوار بين متساوين، وأن يعلو الحوار فوق أية تعصّبات أو أية أفكار مسبقة عن الآخر.
3 - يتمثل التعايش في الاستعداد لممارسة التسامح مع الآخر وقبول الآراء المضادة، بشرط التجنب الصارم لأن يتدهور ذلك التسامح إلى علاقات مهينة بين متسامح يعتقد أنه الأعلى والأفضل وآخر تفرض عليه المكانة الأدنى ويشار إليه بأصابع الإتهام والريبة.
4 -يتمثل في أن تكون العدالة وموازينها الصارمة هي الحكم الذي يُحتكم إليه في النقاش وفي الوصول إلى نتائج يقبلها الجميع. وواضح أن هذه المعاني الغنية والمتعددة الأبعاد تؤسس التصور الجديد للتعايش الذي تربطه علاقة ضرورية بين حقوق الإنسان، والديمقراطية، والسلم، والحوار، وهذا يجعل المفهوم الجديد للتعايش يتجاوز حدود الدين والفرد ليصبح حقاً ينبغي الدفاع عنه وحمايته قانونياً، لكل حقوق الإنسان الأخرى عن طريق التعايش في حوار المتحضرين.

 

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك