الحضارات صراع أم حوار

عامر عبد زيد

يحفل التاريخ البشري بالكثير من الشواهد الدالة على أن الصراع أحد سمات الاتصال البشري، كونه عاملاً مؤثراً في تكوين الحضارات وانتقالها، فبقدر ما كانت الحروب سبباً للدمار، فقد أدت إلى انتقال المعرفة وغيرها من مكونات الحضارة، وفي الوقت نفسه كان للعلاقات السليمة والحوار دور كبير في تحقيق التواصل الحضاري وبناء الثقافات..وإن الشواهد كثيرة على أن الجانب الأكبر من الإنجاز الحضاري لم يكن ليتم لولا الله ثم الحوار كمنهج حضاري للتفاهم والتعايش بين الحضارات؛ مع مراعاة خصوصية كل حضارة واحترامها لمبادئ وقيم الحضارات الأخرى( ). فالأصل في علاقات الشعوب والأمم هو التعارف والتحاور كما قال الخالق سبحانه: (يَأَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىَ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوَاْ إِنّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)( ) . الا ان التصور الستراتيجي الغربي القائم على منطق الصراع والاقصاء يقوم على ازاحة الاخر واحتلال مكانه مما يعني اعتباره غير موجود من اجل تطويب ارضه وعادت امتلاكها وهذا التصور متجذر في العقل الاداتي الغربي والذي تمظهر في دعوى صامويل هانتنجتون – صاحب كتاب صدام الحضارات - إذ يرى أن التفاعل بين الإسلام والغرب صدام حضارات( )... وهذا الزعم عار من الصحة ؛ إذ التفاعل بين الإسلام وأي حضارة أخرى – لاسيما الغرب- قائم على الأخوة الإنسانية والشراكة المعرفية والثقافية . فان التواصل والتفاعل هو المنطق السليم من خلال المشاركة لا الإقصاء والإزاحة
أولا : الحوار والياته
مفهوم حوار الحضارات : للحوار، في اصطلاح علماء اللغة والتفسير معانٍ كثيرة وإن استوت في الإجمال، على سياق واحد. “حاوره محاورة وحواراً”. فالمحاورة هي المجاوبة، أو مراجعة النطق والكلام في المخاطبة والتحاور والتجاوب
1- يشير مصطلح الحوار إلى درجة من التفاعل والتثاقف والتعاطي الإيجابي بين الحضارات التي تعتني به، وهو فعل ثقافي رفيع يؤمن بالحق في الاختلاف إن لم يكن واجب الاختلاف، ويكرس التعددية، الثقافية والدينية يؤمن بالمساواة. وعليه فإن الحوار لا يدعو المغاير أو المختلف إلى مغادرة موقعه الثقافي أو السياسي، وإنما لاكتشاف المساحة المشتركة وبلورتها، والانطلاق منها مجدداً. على أن الباحثين يربطون أحينا الحوار بالحضارات ويلحقونه حينا آخر بالثقافات أسوة بالتصنيف الكلاسيكي، الذي يجعل من الحضارة تجسيدا وبلورة للثقافة.. فالثقافة عبارة عن: عادات وتقاليد ومعتقدات المجموعات البشرية التي تمتاز بسمات مستقرة، كما أنها بمعنى آخر مجموع الاستجابات والمواقف التي يواجه بها شعب من الشعوب ضرورات وجوده الطبيعي بما تحمله من عادات ومعتقدات وآداب وأعياد( ).
أما الحضارة فكثيراً ما تعرف بكونها التجسيد العملي لتلك الاستجابات والمواقف وهي بالتالي تنزع إلى العمومية خلافا للثقافة التي تنزع إلى الخصوصية ، كما أننا نعني بها – أي الحضارة - " ذلك الطور الأرقى في سلم تقدم الإنسان"( ).. وتعرّف أيضاً ـ أي الحضارة ـ بأنها مجموعة المفاهيم الموجودة عند مجموعة من البشر، وما ينبثق عن هذه المفاهيم من مُثل وتقاليد وأفكار، ونظم وقوانين ومؤسسات تعالج المشكلات المتعلقة بأفراد هذه المجموعة البشرية وما يتصل بهم من مصالح مشتركة ، أو بعبارة مختصرة " جميع مظاهرة النشاط البشري الصادر عن تدبير عقلي"( ). بيد أن أشمل تعريفات الحضارة ذلك التعريف القائل :" أن الحضارة تعني الحصيلة الشاملة للمدنية والثقافة؛ فهي مجموع الحياة في صورها وأنماطها المادية والمعنوية"( ). . وهو تعريف يشير إلى جناحي الحضارة ، وهما : المادة والروح، حتى تلائم فطرة الإنسان، وتتجاوب مع مشاعره وعواطفه وحاجاته، كما أنه يشير أيضاً إلى عناصرها التي يمكن حصرها في( ):
1- تصور الحياة وغايتها .
2- المقومات الأساسية التي تقوم عليها .
3- المنهج الذي يستوعبها .
4- النظام الاجتماعي الخاص بها.
من هنا يصبح الحوار في انفتاحة الدلالي على التواصل الحضاري يعطينا انصهار افاق بين الحضارات قديمها وحديثها مما يعني ان الحوار سوف يحقق ،التلاقح الثقافات الإنسانية بين هذه الحضارات .مما ينتج التفاعل سياسي متبادل بين هذه الحضارات ؛ ولا شك هذا سوف يكون له الدور الكبير في التواصل الذي يفترض توفر الامتزاج اجتماعي منضبط بين هذه الحضارات ،الذي من حسناته بل من مقوماته الكثيرة التبادل تقني وتكنولوجي بين هذه الحضارات.
ثمة إشكال متعددة الإمكانيات الحوار:
1- فإن الحوار، بصفته حواراً مع الذات (مونولوغ): يقول محمد إقبال : "إن روح الفلسفة هي روح البحث الحر، تضع كل سند موضع الشك، ووظيفتها أن تتقصى فروض الفكر الإنساني التي لم يمحصها النقد إلى أغوارها. وقد تنتهي من بحثها هذا إلى الإنكار، أو إلى الإقرار في صراحة بعجز التفكير العقلي البحت عن اكتناه الحقيقة القصوى."( ).وهذا النقد ماظهر مصداقة في الفكر الحديث فإن معرفة امكانات العقل البشري واكتشاف نقائصه قد قادا أوروبا إلى استنفار طاقاته وحفزه إلى الانعتاق من نقائصه فكانت تلك المعرفة وذلك الاكتشاف هما بداية النهضة. ( ) عندما يكون حوارا تأمليا داخل الفرد، حيث ممكن أن يكون واقعي وممكن انه واقع تحت تأثير أوهام الثقافة وإحكامها القبلية عن الأخر ، فإذا كان الفكر الأوروبي هو العقلانية والعلم والتقنية والمنظور الشمولي للعالم كان على الإسلام أن يكون نقيضًا كليًا له. لكن الركون إلى النموذج السوي الكامل وهو النموذج الأوروبي، والنموذج المشوه الناقص وهو النموذج الإسلامي؛ يدلل على أن المنظور الأوروبي يعيّن ذاته مرجعًا وحيدًا للعالم لا أكثر، يخترع الإسلام من تصوراته الذاتية قبل أن يتأمله بمقارنة موضوعية. لهذا يستطيع" ماك دونال" أن ينسب إلى الإسلام عدم القدرة على «تصور الحياة ككل، وميل للتأثر بفكرة واحدة وجهل بباقي الأشياء"( )في حين يؤكد بول ريكور : ان التحاور ينتج المعرفة الحقيقية، الحوار بين الأفكار والأديان، وليس الانغماس إلى حد العمى المعرفيّ والفكريّ في وجهة نظر واحدة. اذ الانحصار في وجهة نظر واحدة منجبة للعقم، ايا كانت خصوبة هذه الأفكار. هذا التصور الأحادي الجانب داخل وهم الثقافة المتمركزة حول الذات سواء كانت غربية أم شرقية لا ينتج سوى المحن والتي نلمسها اليوم على ارض الواقع الحي ، المضطرب بالإحداث والأزمات ، يشهد على كذب خطاب الدعوة وهشاشة الأطروحات. وهو ما يدخل في التمركز حول الذات محور الوعي التي تطرح المسائل للتأمل والنقد من خلال محور الوعي الذي يفترض انفصاله عن الموضوع الذي يخضعه للتأمل النقدي .
2- ومع الآخر (ديالوغ): وهو حوار تواصلي يفترض وجود طرفين: متكلم ومخاطب يتبادلان الدور.فحيناً يكون المتكلم مرسلا للكلام وحيناً متلقياً له. أي يكون المتكلم مخاطباً حين يصمت ليسمع كلام نظيره. وهكذا يدور الكلام في إطار حلقة تبادلية يكشف كل منهما عما لديه من أفكار. فيتشكّل جرّاء ذلك ما يمكن أن نسميه بالخطاب المشترك الذي تستو لده القضية المتحاور بصددها ألا انه أيضا قد يكون سجين خطابات دعوية كل طرف يريد أن يجعل الأخر تابع له فيتحول الحوار المساجلات المقصود منها ليس الأخر بل جمهور الذي يعبر المتحاور عن صلاح هويته وبطلان الأخر لهذا قيل أن الحوار يختلف ، إذ يختلف "حوار الأديان" عن "مقارنة الأديان" و"مساجلة الأديان" وإن اختلطت هذه المفاهيم في الأدبيات؛ فمقارنة الأديان علم يعني دراسة دين مقارنة بآخر على مستوى العقيدة والشريعة والعبادات، وتصوراته عن الإنسان والكون والحياة وغير ذلك، من محاولة افتراض الموضوعية وإمكانية إلغاء التحيز،بينما مساجلة الأديان عملية تهدف إلى إثبات تفوق وتميز دين على آخر، وهو ما لا يهدف إليه بالطبع "حوار الأديان" الذي هو عملية إدراكية اذ أن الهدف الرئيسي من حوار سواء كان بين الاديان او المذاهب او بين الحضارات هو هدف معرفي واستراتيجي يحمل معه الكثير من الآمال والطموحات فهو تأسيس بنيوي لمنظومة أخلاقية شاملة.
3- ومع العالم جملة وتفصيلا (ديالكتيك): هو أساس الثقافة وأبرز بوصفه ظاهرها؛ إن العقل هو الذي يحاور، بحكم ماهيته، أي بحكم كونه عقل الواقع وعقل العالم، أو عقل الكون، وأي تعريف آخر للعقل يهدم مشروعية الحوار؛ بمعنى ان الحوار العقلي هو الذي يشيع المعرفة من خلال الاطلاع على المنطلقات التي يمثلها الأخر مما يساهم الحوار في إزالة الصور النمطية والتي في خلق صوره تساهم في خلق التصادم وإلغاء التعايش المشترك. و"حوار الأديان" هو محاولة الفرد المحمل بقيم تقاليد وأفكار وعقائد مسبقة استكشاف الآخر (المختلف دينيًّا)-كما هو- وإدراكه وبلورة رؤية فلسفية غير نمطية إزائه، دون اللجوء إلى إصدار أحكام قيمية متحيزة ضده. وبذلك يقبل المفهوم فكرة التحيز والذاتية، ولا يحاول ادعاء الموضوعية أو التجرد من الذاتية، أي أن المشاركين في "حوار الأديان" - بعكس ما قد يتبادر للذهن- يجب أن يتحقق فيهم الإيمان المطلق بعقائدهم دون محاولة التجرد من الذات كما يظن كثير من دعاة الحوار أنفسهم.فالحوار حتى يحقق صفة الكونية يجب ان يقوم على المشاركة وليس الإخضاع والالحاق ،وفي هذا يقول حسنين هيكل : وإذا عدت الآن إلى مقولة صراع الحضارات أو حوارها فربما تكون النقطة الجوهرية أنه يتحتم التفرقة باستمرار بين شراكة الحضارة وبين صراعات القوة، فالقوة ميدان تصويب وضرب نار، والحضارة شراكة ومحيط أنوار. وهنا فإن حقائق الحضارة تمنع الاستيلاء عليها لحساب أي ظرف، كما ترفض التنازل عن الحق فيها تحت أي وصف.لكن انظر إلى مايقوله الفرنسي "أرنست رينان" في القرن التاسع عشر السطور التالية:" لقد هزمت البربرية إلى غير رجعة، لأن كل شيء يغدو، شيئًا فشيئًا علميًّا. فلن تملك البربرية المدفعية

الحوار الخارجي: 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك