الحوار من أجل التعايش داخل المجتمع الإسلامي

الأستاذ الدكتور عز الدين إبراهيم ..

المستشار الثقافي بوزارة شؤون الرئاسة

مقدمة

1 - منذ أن انطلق الصوت الإسلامي من القمة الإسلامية الثامنة في طهران، ثم القمة الإسلامية التاسعة في الدوحة، بالدعوة إلى (حوار الحضارات)، تعبيراً عن رسالة الإسلام السمحة في التعارف، والتعاون على البر والتقوى، والجنوح إلى السلام، وتصحيحاً للتوجه الذي ذاع في الغرب تحت شعار (صراع الحضارات) - والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو)، لا تألو جهداً في تجسيد هذا التوجه الإسلامي الإنساني بصفة رسمية نيابة عن منظمة المؤتمر الإسلامي.

2 - هذه الورقة تحاول أن توجه الأنظار إلى أهمية التعايش الداخلي في المجتمع الإسلامي ذاته، أي داخل أقطارنا، وفيما بين أهلينا. فغني عن البيان أن العالم الإسلامي في مسيرته الطويلة خلال أربعة عشر قرناً، قد استوعب حضارات، وضم أعراقاً وأجناساً من البشر، وتعامل مع عدد من اللغات، وظهرت فيه مدارس ومذاهب واتجاهات، وما زالت تجد عليه أفكار وأيديولوجيات. ومع أن عبقرية الإسلام والحضارة الإسلامية قد صهرت كل هذه المكونات في بوتقة واحدة، وأنتجت منها هذا النسيج الذي يتصف بالتكامل والتشابه والتعاطف، وإلى حد غير قليل من التوحيد - فإن هذا لا يعني إلغاء هذه المكونات، لأن أحداً لم يسع إلى ذلك أو يقدر عليه، ورضي العالم الإسلامي بصفة (التعددية داخل إطار الوحدة)، وصدق الله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة)(2) وصدق رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم إذ قال: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»(2).

3 - والاهتمام بشؤون بيتنا الإسلامي من داخله، ليس إنكفاء على الذات، وابتعاداً عن مسار العالمية في حوار الحضارات، وإنما هو استجابة ضرورية لاعتبارات ثلاثة:

أولها: أنه إذا لم ننجح في تحقيق التعايش السمح داخل أقطارنا، فإننا نفقد مصداقية الدعوة إليه على الصعيد العالمي، ونكون ممن يقولون ما لاَ يفعلون.

وثانيها: أن التوجه نحو التعايش الداخلي يقودنا سريعاً إلى وضع البرامج والآليات للتنفيذ، ويحتم علينا إيجاد الحلول والاجتهادات الشرعية والإجراءات الواقعية، لتحقيق هذا التعايش، ونكون بذلك قد ضربنا المثل الحسن لغيرنا، وشجعنا على تحقيق التعايش الحضاري الشامل في عالمنا.

وثالثها: أن العالم يمر بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، بفترة عصيبة اختلط فيها الحق بالباطل، ولخوض في الظلم بدعوى تحقيق العدالة، وتصنيف العالم بدوله وشعوبه وحضاراته إلى أشرار وأخيار، حتى بدا الداعون إلى حوار الحضارات وتقارب البشر وكأنهم مثاليون خياليون مسرفون في البعد عن الواقع.

وفي هذا الوقت الصعب يتمسك العالم الإسلامي بدعوته العالمية الإصلاحية، ولكنه في الوقت نفسه، يتجه إلى ما يلزم ويمكن تحقيقه من هذه الدعوة في مجتمعه الخاص وداخل بيته.

4 - على أن المجتمع الإسلامي متعدد الأقطار، ولكل قطر منها شأنه الخاص في أمور التعايش. ففي بعض هذه الأقطار تبرز أهمية التعايش الديني، كما في مصر والسودان ولبنان، وفي بعضها الآخر يكون للتعايش اللغوي أهمية خاصة كما في الجزائر، وفي معظمها تبدو الحاجة واضحة إلى التعايش السياسي والأيديولوجي بين أصحاب التوجهات المختلفة، وما زلنا بصفة عامة نحتاج إلى توثيق التعايش المذهبي وتراضي الجميع بمذاهبهم الأصولية والفقهية التي هي تراثهم الديني والحضاري والعلمي المشترك. ولذلك يكون من المفيد تخصيص فقرة لكل نوع من أنواع التعايش الذي نتطلع إلى تأكيده وتعزيزه، لأن أصوله بحمد الله راسخة، وإنما المقصود مداومة التحسين.

وسنعرض فيما يلي إلى ثلاثة أنواع من التعايش وهي: التعايش الديني، والتعايش الْعِرْقِي واللغوي، والتعايش المذهبي.

 

التعايش الديني

1 - الإسلام هو الدين السائد في أقطار العالم الإسلامي. ومع ذلك، فإنه حيثما كانت المسيحية موجودة قبل مجيء الإسلام إلى قطر ما، فقد بقيت على ما كانت عليه بكنائسها وأتباعها وممارساتها عملاً بأحكام الدين الإسلامي الحنيف الذي لا يُكره أحداً على الدخول فيه، ويُبقي الشأن الديني على ما كان عليه.

ويظهر هذا بوجه خاص في مصر ذات الأغلبية الإسلامية حيث يوجد للكنيسة القبطية كيانها المتميز بحكم وجود بابوية الكرازة المرقسية فيها، ووجود أتباع لها في الحبشة وجنوب اليونان وغيرهما. وفي لبنان يكاد عدد المسلمين يكون متساوياً مع عدد المسيحيين الذين ينتمون إلى الكنائس المحلية، كما يوجد في سوريا وفلسطين وغيرهما بأغلبية إسلامية. وفي بعض الأقطار يشكل المسلمون أكثرية أو أقلية متفاوتة النسب كما في أندونيسيا والصين وجمهوريات آسيا الوسطى وأفريقيا، وغيرها، والبلاد التي هاجر إليها المسلمون في أوربا والأمريكتين وأستراليا. والمعايشة في هذه الأماكن ليست مع المسيحية وحدها، بل هناك أديان أخرى كالهندوسية والبوذية.

ولا مناص، والحال على ما ذكرنا، أن يتعايش المسلمون مع غيرهم من أتباع الديانات الأخرى بالحسنى والمعروف، ووفقاً للهدي الإسلامي، وما تقتضيه مصالح جميع الأطراف في أمور الحياة والمعاش والمواطنة المشتركة.

2 - والعلاقة بين المسلمين وأتباع الديانات الأخرى المتعايشين معهم تحكمها، من وجهة النظر الإسلامية، بشكل عام مبادئ خمسة:

الأول: الاعتراف بوجود الدين الآخر، اعتراف وجود وتعايش لا اعتراف صحة، عملاً بقوله تعالى: (لكم دينكم ولي دين)(3) والآية عامة في مدلولها وليست مقصورة على السبب المباشر لنزولها، ثم إنها محكمة في وصفها وليست منسوخة لانعدام الدليل على النسخ (4) ولا تعارض بين هذه الآية وآيتي آل عمران (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسلام)(5) و(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلْن يُقْبَلَ مِنْهُ)(6) لأن هاتين الآيتين تتضمنان الحكم بالصحة أو عدمها، وهو مختلف عن الحكم بجواز وجود الآخر.

الثاني: عدم الإكراه في الدين، لقوله تعالى: (لاَ إِكْراه فِي الدِّين)(7)، وقوله (أفأنت تُكْرِه الناسَ حتى يَكُونُوا مؤمِنِين)(8) وقوله (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكفُر)(9). ولم يؤثر في تاريخ الإسلام أنه أكره قوماً على اعتناقه. وقد درس بعض المؤرخين غير المسلمين هذه المسألة وشبهة انتشار الإسلام بالسيف، وشهدوا بأن انتشار الإسلام كان بالحسنى، وأبطلوا دعوى السيف إبطالاً قاطعاً (10).

الثالث: التعامل مع غير المسلمين بالبر والقسط، لقوله تعالى: (لاَ يَنْهَاكُمْ الله عن الذين لم يُقاتِلُوكم في الدِّين ولم يُخْرجوكم مِنْ دِيارِكُمْ أنْ تَبرُّوهمْ وتُقْسِطُوا إليهم إن الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِين)(11)، والبر والقسط مشروطان بعدم العدوان أو الإخراج من الديار، وإلا فالحكم وارد في الآية التالية: (إنَّمَا يَنْهاكم اللهُ عَن الذين قَاتَلُوكُمْ في الدِّين وأخْرجوكُمْ من دِيَارِكُمْ وظاهَرُوا على إِخْرَاجِكُمْ أن تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمُ فأُولئِكَ هُمُ الظَّالمون)(12). ولا حاجة إلى التنبيه إلى أن المقصود بالديار ما تكون أصلاً مِلكاً للمسلمين. أما الإخراج من ديار هجرة أو زيارة أو إقامة مؤقتة فحكمها رهين بقانون أصحابها.

الرابع: تخصيص أهل الكتاب وخاصة المسيحيين بتعامل متميز، فقد أجاز الإسلام ذبيحة أهل الكتاب، كما أجاز الزواج من نسائهم. وخص القرآن الكريم المسيحيين بوصف حميم وهو مودتهم مع المسلمين بقوله: (وَلَتَجِدَنَّ أقْربَهم مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمنوا الّذِين قالُوا إِنَّا نَصَارَى ذلِكَ بأنَّ مِنْهُم قِسيسِين ورُهْباناً وأنَّهمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ)(13).

ومن المناسب لوجود المسلمين في بعض البلاد مع غيرهم ممن ليسوا من المسيحيين وأهل الكتاب أن نذكر أن فقهاء المسلمين قد توسعوا في تفسير آية إباحة ذبيحة أهل الكتاب والزواج منهم، فجعلوها شاملة كل من كان لهم كتاب على افتراض نسيانه أو فقده فشمل هذا التفسير الموسَّع كل من لهم دين وإيمان من المجوس والهندوس والبوذيين وأمثالهم. وعلى هذا التفسير الموسَّع تفهم آية المائدة (اليوم أحِلّ لكم الطَّيباتُ وطعامُ الذين أُوتُوا الكتابَ حِلٌّ لَكُم وطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُم، والْمُحْصنَات مِِنَ المؤمِنَاتِ والْمُحْصنَاتُ مِنَ الذينَ أُوتُوا الكتَابَ مِن قَبلِكُمْ)(14).

الخامس: التفاهم مع غير المسلمين بالحوار بالتي هي أحسن، لقوله تعالى: (ولا تُجادِلُوا أهْلَ الكِتَابِ إلاَّ بالتي هي أَحْسَنُ)(15)، وأما غير أهل الكتاب ففيهم عموم الحكم من قوله تعالى: (وَجَادِلُهُم بالَّتِي هي أحسنُ)(16)، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه مالك والشافعي «سُنُّوا بِهِم سُنَّة أهل الكتاب». والحوار هنا هو عمومه في أمور الدين والدنيا، وكل ما من شأنه أن يكفل حسن التعايش مع الجميع.

3 - إن المبادئ الخمسة التي أوردناها حَرِيَّة بأن تساعد على حسن التعايش الديني مع غير المسلمين، لأنها تحكم المجالات والملابسات التي يمكن أن تعكر صفو التعايش. لكن ذلك وحده لا يكفي، إذ لكل مجتمع إسلامي ظروفه الخاصة به، والناشئة إما عن تراكمات تاريخية أو ثقافية، وإما عن مستجدات لم تكن معروفة من قبل، ولابد لها من معالجة جديدة خاصة بها. وأول وسائل المعالجة هي حصر هذه الظروف في كل قطر على حدة ومعرفة ما تسببه من مشكلات ثم اقتراح الحلول الملائمة.

ولا نستطيع في هذه الورقة المختصرة أن نحصر مشكلات كل المجتمعات الإسلامية، وحسبنا هنا أن نختار مجتمعاً نتخذه عيِّنة للدراسة، وليكن المجتمع المصري الذي يكوّن فيه المسلمون حوالي 90 % من السكان، والأقباط 10 % وربما أكثر قليلاً. لكن الأقباط في مصر أصلاء، وكانوا أصحاب الدار قبل وصول دعاة الإسلام من عرب الجزيرة، ومع الهجرة والاختلاط واعتناق الدين الوافد والنمو الطبيعي بالتزاوج، وصل عدد المسلمين إلى ما هم عليه الآن دون أن يغيّر هذا من الوصف الأصلي للأقباط الذين بقوا على دينهم، وثبتوا في أماكن إقامتهم.

والعلاقة بين مسلمي مصر وأقباطها صحية بصفة عامة، وبين الفريقين تعايش حسن، وتعاون متميز في رعاية المصالح الوطنية. وفي فترة الصراع ضد الاستعمار البريطاني رفع الفريقان علماً معروفاً متميزاً تعانق فيه الهلال مع الصليب. وظل هذا العلم رمزاً للوفاق الوطني والتعايش الإسلامي. ومع ذلك فإن بين الفريقين مشكلات تحتاج إلى حل، وقد عبروا عنها بصراحة كاملة في كتابات صادرة عن أقباط ومسلمين. ومنها على سبيل المثال كتاب الدكتور نبيل بباوي بعنوان "مشاكل الأقباط في مصر وحلولها". ونكتفي في هذه الورقة بذكر ثلاث مشكلات هي:

1 - الوضع القانوني للأقباط في مصر، وهل هم مواطنون أم أهل ذمة وعليهم الجزية.

2 - حقهم في بناء الكنائس وترميمها.

3 - الأمان المتبادل وخاصة لأماكن العبادة.

4 - إن التوصيف الشرعي التاريخي لوجود أهل الكتاب في الدولة الإسلامية هو دخولهم في عقد الذِّمّة الذي يعني أنهم دخلوا في عهدة المسلمين وذمتهم وتكفلت الدولة الإسلامية بحمايتهم، وفي مقابل ذلك أعفوا من الخدمة العسكرية. وفي الوقت الذي يدفع فيه المسلمون الزكاة يقوم أهل الذمة بدفع الجزية. وفي الحقوق المدنية يتمتع أهل الكتاب بأحكام القاعدة الإسلامية عن المسلمين وغيرهم «لهم ما لنا، وعليهم ما علينا»(17).

ودونما دخول في الظروف التاريخية والمبررات التي أدت إلى هذا التوصيف، أو محاولة بيان المدلولات الإيجابية لعقد الذمة وتطبيقاته في الفترة الزمنية التي طبق فيها - فإن الدولة الإسلامية ذاتها قد دخلت في طور جديد في القرنين الأخيرين وقبيل نهاية الخلافة العثمانية. وفي سنة 1856 م، أصدر السلطان عبد المجيد خان فرماناً ينظم العلاقة مع أتباع الأديان غير الإسلام في الدولة الإسلاميةمصر جزء منها)، بتأكيد المساواة المفصلة بين المسلمين وغيرهم أمام القانون، وفتح باب الخدمة العسكرية لغير المسلمين. وفي مصر أيضاً حصلت تطورات مشابهة منذ أن تولى محمد علي باشا حكم مصر. وأصدر ابنه محمد سعيد باشا في ديسمبر 1855 م، أمراً يوازي الفرمان العثماني يقضي بإلغاء الجزية عن الذميين(18).

وعند صدور أول دستور عثماني سنة 1876 م، أسقطت عبارة (أهل الذمة)، والتزمت بذلك الدساتير العربية ومنها الدساتير المتتابعة في مصر، وتكررت عبارة «المساواة في جميع الحقوق والواجبات بين جميع مواطني الدولة على اختلاف أديانهم وأعراقهم»(19). وبهذا يصبح التوصيف القديم، مع الجزية، في خَبَر كان وانقضى. وأصبح توصيف (المواطنة) في مصر هو المستعمل للمسلمين والأقباط على حد سواء(20).

ومن هذه المراجعة التاريخية والموضوعية، يتضح أن مشكلة (الوضع القانوني) للأقباط في مصر ليس لها وجود إلا في ذهن من لم يراجع التاريخ الذي ذكرناه. وفي الوقت الذي أطري فيه الدراسة المنصفة للدكتور بباوي التي تضمنت الحقائق السابقة، فإنني أستغرب صدور كتاب آخر للأستاذ أمين ناجي يحمل عنوان "لن نعيش ذميين" والأمل أن يتبدد هذا التحسس والتشكك بإذاعة الحقائق حول هذا الموضوع.

على أن التغير في الموقف الإسلامي قد عمَّقه منذ نصف القرن السابق صدور دراسات فقهية وحقوقية متنوعة تتجه جميعها هذه الوجهة بإعادة التوصيف القانوني للمسيحيين في مصر وفي غير مصر، ومن دول المسلمين(21). وقد سبق للفقيه القانوني المصري الدكتور عبد الرازق السنهوري أن نبه إلى ضرورة استحداث اجتهادات فقهية لمواجهة التطور الذي طرأ على دولة الإسلام الواحدة بعد سقوط الخلافة العثمانية، وظهور الدول الإسلامية المستقلة بصورتها الراهنة. واقترح لهذه الاجتهادات تسمية (القانون الدولي بين الدول الإسلامية)(22). وإذا كنا قد ذكرنا في الموضوع كتابين لباحثين قبطيين يتضمنان التساؤل، فمن إتمام الكلام ذكر كتاب لباحث مصري مسلم يتضمن الجواب بشكل واضح وموثَّق، وهو كتاب "مواطنون لا ذميون" للأستاذ فهمي هويدي(23).

5 - والمشكلة الثانية لا تتعلق في واقع الأمر بحق الأقباط في بناء كنائسهم أو ترميمها، لأن هذا الحق مقرر باعتباره فرعاً عن حقهم في إتباع الدين الذي اختاروه ولم يُكرهوا على تركه. وقد أكد القرآن الكريم على السنة الإلهية في حماية دور العبادة سواء أكانت صوامع أم كنائس أم مساجد، لأنها أماكن يذكر فيها اسم الله كثيراً. قال تعالى: (ولولا دفعُ اللهِ الناسَ بعضَهم ببعْضٍ لَهُدِّمتْ صوامعُ وبيَعُ وصلواتُ ومساجدُ يُذكَرُ فيها اسمُ الله كثيراً. ولَيْنْصُرَنَّ الله مَنْ ينصُرُه، إن الله لقويٌّ عزيز)(24)، وإنما تكمن المشكلة في الإجراءات الإدارية التي فرضتها الحكومة الإسلامية في التراخيص للأقباط بالبناء أو الترميم.

وقد كانت هذه الإجراءات في الماضي، أي في زمن الخلافة العثمانية، مطولة وشديدة المركزية، لدرجة أن الإذن بالبناء والترميم كان يصدر من الآستانة مركز الدولة، وفقاً للتشريع المسمى (الخط الهمايوني لسنة 1856 م). على أن التشريع نفسه كان منصفاً للأقليات الدينية وحامياً لحرياتها ومصالحها. لكن المركزية كانت طابع الدولة في جميع تصرفاتها الإدارية.

أما الآن فقد حلت المشكلة بصورة مرضية للأقباط بصدور قرار رئيس الجمهورية في مصر لسنة 1999 م، الذي جعل ترميم دور العبادة بما في ذلك الكنائس والمساجد على حد سواء من اختصاص الأقسام الهندسية المختصة في الإدارات المحلية. أما الإذن ببناء كنائس جديدة فيلزم صدوره من رئاسة الجمهورية بعد بحثه وإجازته من قبل هذه الإدارات. والبحث يشمل التأكد من ملكية الأراضي المختارة لبناء الكنيسة وحجم الأقباط المحتاجين إليها، وموافقة مرجعياتهم الدينية على إنشائها، وقرب الموقع أو بعده من المساجد والأضرحة والتجمعات السكانية الإسلامية، وما إلى ذلك من اعتبارات الملاءمة والأمن والحذر من الاحتكاكات التي يلزم تجنبها، وصدور التصاريح من رئاسة الجمهورية يقصد به ضمان هذه الاعتبارات لصالح الجميع. ولا يشك عقلاء المسلمين والأقباط في أن هذا الخيط المتبقي من القيود سوف تزول الحاجة إليه بنجاح التعايش الديني واستقرار تقاليده(25).

6 - والمشكلة الثالثة هي فقدان الأمن بين المسلمين الأقباط، في بعض المناطق بصعيد مصر بصفة خاصة، بما في ذلك الاعتداء على الكنائس. وقد أخذت المشكلة بعداً إضافياً بالاعتداء على جموع السائحين الذين يفدون إلى مصر بكثافة، ويغلب أن يكونوا من بلاد أوربية أو أمريكية أي مسيحية.

والمشكلة ببعدها المحلي متبادلة بين الجانبين الإسلامي والقبطي، ولكن المعروف أن الجانب الإسلامي أكثر تورّطاً وضلوعاً فيها. وإنما ذكرنا صفة (التبادل) لأن العنف في صعيد مصر قد يقع أحياناً لأسباب شخصية أو ثأرية أو محلية، ويكون متبادلاً. وسواء أكان العنف لدافع ديني أم لدافع محلي، فهو جُرم مستنكر. وهو من وجهة النظر الإسلامية نقض لمواثيق التعايش بين مسلمي مصر وأقباطها، واعتداء على بيوت العبادة المصونة شرعاً، وتجاهل لوصية النبي صلى الله عليه وسلم بالبر في حق أقباط مصر «استوصوا بأقباط مصر خيراً، فإن لكم فيهم نَسَباً وصِهْراً»(26).

ثم إن المشكلة ببعدها العام، أي الاعتداء على السائحين وإرهابهم، فهي تتضمن جُرماً آخر مستنكراً، لأن الاعتداء عليهم سواء أكانوا نصارى أم يهوداً أم أتباعاً لديانات أخرى، فهو من الكبائر التي نهى الإسلام عنها، بل هو من (الحِرَابة) التي تضيف إلى جريمة القتل جرائم الإرهاب والغدر وإثارة الرعب بغير الحق. وقد أعطى النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومن بعده خلفاؤه، الأمان «لجميع من ينتحل دعوة النصرانية في شرق الأرض وغربها»، وأن يحمي جانبهم ويدافع عن «كنائسهم وبيَعهم وبيوت صلواتهم، ومواضع الرهبان، ومواطن السُّياح، حيث كانوا: من جبل، أو واد، أو مغار، أو عمران»، وأن يحرسهم «من كل أذى، ومكروه، أو مؤونة، أو تبعة» مما هو موثق ومعروف في مراجع العهد النبوي والخلافة الراشدة(27).

وقد عولجت هذه المشكلة في مصر من جانبيْها الأمني والفكري معالجة نرجو أن تكون قد نجحت في اجتثاث جذورها، فقد كانت سلطات الأمن في مصر حازمة وحاسمة في ملاحقة هذه الجرائم، كما أن مشيخة الأزهر لم تكتف بإصدار التحذيرات الدينية من هذه الانحرافات، بل أصدرت كتاباً موسّعاً يعالج موضوع العنف والإرهاب والتطرف الديني، وشاركت وسائل الإعلام في حملاتها بالندوات والمحاضرات والإيضاحات لتصحيح التوجهات المتطرفة.

7 - ولمشكلة فقدان الأمن، والاعتداء على الكنائس، وتحويل بعض الكنائس إلى مساجد وكذلك بعض المساجد إلى كنائس - امتداد محزن عبر تاريخ الاحتكاكات الدينية بين المسلمين وغيرهم، بل وبين أتباع كافة الأديان فيما بينهم. ومن النماذج التاريخية لذلك تحويل مسجد قرطبة الكبير إلى كاتدرائية سنة 1238 م، بعد انتصار الإسبان على المسلمين في المدينة، والرد التركي على ذلك بتحويل كنيسة أياصوفيا (سانتا صوفيا) إلى مسجد سنة 1453 م، بأمر من السلطان محمد الفاتح بعد احتلال القسطنطينية. ومنذ سنوات قليلة هدم الهندوس مسجد بابري في ولاية أوتار بردايش بالهند، بدعوى أنه أقيم سنة 1528 م، في موقع معبد هندوسي مبني في المكان الذي ولد فيه الإله الهندوسي راما. وبسبب النزاع حول المسجد والمعبد وقعت حوادث مؤسفة راحت ضحيتها مئات الأرواح من الطرفين. ويقال إن في الهند قصتين شبيهتين لمسجدين بنيا في مكان معبدين هندوسيين في موتارا، وكاشي، ويمكن أن يُثارا في المستقبل القريب.

لقد عولجت هذه المشكلات في الماضي بأساليب غير حاسمة. منها تحويل الموقع المتنازع عليه دينياً إلى مزار سياحي كما في استنبول بشأن (أياصوفيا)، وقرطبة بشأن الكاتدرائية و-اللاموثكيتا) (كذا)، بمعنى تعطيل الرسالة الدينية لكل من الكنيسة والمسجد كما هو واضح في أياصوفيا بوجه خاص. ومنها إحالة النزاع إلى القضاء، مع التأجيلات المتتابعة كما هو حاصل في الهند. وقد حاول أمير الشعراء أحمد شوقي أن يسهم في تهدئة التنازع في استنبول بقصيدة اعتذارية مطلعها:

::::كنيسةٌ صارتْ إلى مَسْجِدِ ::::::::هديّة السَّيّدِ للسَّيِّدِ

::::كانتْ لعيسى حَرَماً فانتهتْ ::::::::بِنُصْرَةِ الروح إلى أحمدِ

ولعل أفضل حل لأمثال هذه المنازعات حفظه التاريخ، هو (الحل الدمشقي) لموضوع الجامع الأموي وكنيسة القديس يوحنا المعمدان. إذ أقام المسلمون بعد دخول دمشق بقيادة خالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما مسجداً شرقي كنيسة القديس يوحنا التي كان المسيحيون قد شيدوها في موقع المعبد الكلداني الروماني الذي كان موجوداً هناك لمدة طويلة. وبقي المسجد والكنيسة متجاورين زمناً. وبزيادة عدد المسلمين من جهة وتناقص عدد المسيحيين في المقابل، ومع اختلاط دقات الناقوس مع الأذان، فاوض المسلمون جيرانهم المسيحيين لكي يتنازلوا عن الكنيسة لتوسيع المسجد، فأبوْا، وبقي الحال كذلك حوالي سبعين سنة، حتى نجح الخليفة الوليد بن عبد الملك في عقد اتفاق يتنازل بموجبه المسيحيون عن الكنيسة على أن يُعوّضوا عنها بأربعة مواقع لأربع كنائس جديدة في دمشق، مع مبلغ سخي من المال لمواجهة النفقات. وأنشئت الكنائس الأربع وسميت إحداها كنيسة يوحنا المعمدان، وما زالت موجودة إلى الآن(28). ولما أثير الموضوع لدى الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز بعد ذ

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك