سوريا من الشموليّة إلى الديمقراطيّة تحدّيات الحاضر، ورهانات المستقبل

ليس الصراع في الشرق الأوسط وليد المرحلةٍ التاريخيّة الحاضرة، بل الصراع امتداد تاريخي عميق، تنعكس من خلاله أهميّة هذا المكان الجغرافي الهام جداً والذي يُعتبر قلب العالم القديم والمعاصر. فموقعه الجغرافي، وثرواته الكثيرة، ومصادر الطّاقة الغنيّة التي يملكها جعلت منه دائماً مصدراً لتحدياتٍ هامّة ترخي بسدولها على السّياسات العالميّة في كلّ حقبة وزمان.

يعيش الشرق الأوسط اليوم مرحلة تاريخيّة مصيريّة، وتحوّلات جيو- سياسية عميقة تتجاوز الوطني، والإقليمي، لتطال الدولي والعالمي. وستتحدد ملامح هذه التحوّلات من خلال النتائج والتطورات التي ستنبثق عمّا رأيناه من حراك عربي جامع وتغييرات في النظم السياسية، امتدت من المغرب إلى سوريا، مروراً باليمن والبحرين والعراق. والتي ستترك أكبر الأثر في رسم ملامح هذا الشرق الجديد ومستقبله الذي يمتد ربما إلى قرن ٍ قادم. مع ما سنراه من غياب لمفاهيم ومبادئ، وإعادة تعيين لمصطلحات سياسية وتحديد مفاهيمها بما يتوافق مع هذه التغييرات الشاملة. ومن المؤكد بأنَّ ما يصح على الشرق الأوسط، سيكون أيضاً عنواناً عريضاً لمستقبل الأمة العربية وتحوّلاتها البنيوية القادمة.

يمكن؛ عبر هذه التحوّلات رصد الكثير من الانزياحات وانهيار لمنظومات قيم ومبادئ وإيديولوجيات سياسية. مع ما رافق ذلك من تماهي في الانتماء الوطني والقومي العروبي، ليتحوّل إلى ما يُشبه الغوص الأعمى في بحر من الأفكار القديمة التقليدية والتي يغلب عليها الطابع الديني. وهي، وللمفارقة، تتمفصل مع قيم ومبادئ ومنظومات عولمية مدّمرة للعقل وفكرة الانتماء الوطني ومسألة الهُوية الوطنية والقومية الجامعة.

لقد انتصر المشروع القومي العربي في أكثر من بلد في مرحلة ما بعد الاستقلال عن الاستعمار الأوروبي. متقدماً بهذا الانتصار على باقي المشاريع التي كانت مطروحة، من الليبرالي إلى الديني "المعتدل" إلى الشيوعي وغيرها من مشاريع قطرية وطنية صغيرة. وكان أهم ما ميَّز هذا المشروع القومي هو قدرته الكامنة في الإجابة على جميع الطروحات والأسئلة المعقّدة في ذلك الزّمن، وقدرته على مواجهتها والتصدّي لها. فحمل في طيّاته أفكار الحداثة، وأفكار المقاومة ومقارعة الاستعمار الحديث. وبناء مفهوم الدولة ومنظومتها، وتحقيق جانب لا بأس به من العدالة الاجتماعيّة بين الطبقات. ورسم سياسات التثقيف والتبشير المعرفي، والتخطيط الزراعي والصناعي، وبناء المجتمع المدني ومؤسساته الكثيرة. وما إلى ذلك، ولكن الأهم من هذا كله هو صهر الإنسان العربي "المواطن" في الهُوية الوطنية وفي الفضاء القومي العروبي. ولذلك، وبسبب النسبة الواسعة للطبقات الاجتماعية الكادحة على امتداد الوطن العربي، نجد أن هذا المشروع قد وجد حوامل اجتماعية كبيرة، وقوية بنى عليها دعامات حكمه وأيديولوجيته السياسية القادمة لعشرات السنين. فكانت التجربة السورية والعراقية في"حزب البعث العربي الاشتراكي" واللبنانية؛ "الحزب القومي السوري" والمصرية؛ "التجربة الناصرية" وغيرها من حركة القوميين العرب في اليمن وبورقيبة في تونس وهواري بومدين في الجزائر، وقد شهدت تلك الحقبة نفسها انحساراً لباقي المشاريع المُنافسة من شيوعية وليبرالية ودينية معتدلة وغيرها. مع بقاء بعض الاستثناءات في بعض الأقطار العربية كلبنان والمغرب والأردن وبعض دول الخليج. حيث حافظت المَلَكيَات العربية على تركيبتها السياسية دون تغيير مع انتفاء الرهان القومي في سياساتهم، بسبب الثروة النفطية وعوامل التجذّر الديني التي جعلتهم في منأى عن وحدة المصير العربي سياسياً وثقافياً واجتماعياً.

إن سنوات المد القومي قد بدأت عام 1945 عندما اتفقت سبع دول عربية على توقيع ميثاق جامعة الدول العربية ثم تصاعد هذا المد القومي حتى بلغ ذروته في عام 1957 الذي بعد عام واحد تجسد في قيام أول دولة عربية في التاريخ الحديث بقيام الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا .

كان مقتل المشروع القومي هو في تحييد الآخر المختلف، وإلغاء التمايز. وبناء الدولة والمجتمع على أيدلوجية واحدة تنحو بتطبيقاتها ونهجها باتجاه العصبية الفكرية والمجتمعية. وغاب عنه أن وحدانية التفكير والرؤية وانعدام التنوّع والمشاركة يفضيان في نهاية الأمر إلى الانغلاق والاستئثار بالحلول التي قد تكون خاطئة. مما يترتب على التطابق الفكري والمعرفي في الإطار الشمولي من تماثل في وجهات النظر، وإن لم تتماثل وتخطيء فإننا نجد أن تداخلاً خطيراً بين العام والخاص يتحقق، مع ما يفرز ذلك من غض النظر عن الخطأ وانعدام المحاسبة بسبب تداخل العلاقات الشخصية والعائلية والمناطقية، وحتى الدينية والطائفية أحياناً في كوادر الأنظمة الشمولية. لأن من طبيعة التطابق أن يكون مناخاً لهذه الانزلا قات، بينما تحكم طبيعة التمايز والاختلاف هذه التمايزات وتضبط إيقاعها المجتمعي العام والوظيفي المسلكي. وقد طالت هذه الأمراض شتى ميادين الحياة، وتحوّلت إلى ثقافة مجتمعية عامة تسيطر بفكرها ونهجها على الدولة والمجتمع ومؤسساته وأفراده.

يشهد التاريخ اليوم حركة متبدلة قوية نتجت عن تناقضات عربية وعولمية بنيوية عميقة أثرّت كثيراً في دول العالم

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك