حوار التعايش لا حوار الإقناع

عبد السلام الوايل

كتب الدكتور حمزة المزيني، في هذه الصحيفة الخميس الماضي مقاله الأسبوعي بعنوان «قبل الحوار» مقدما قراءة متميزة بالعمق المعهود منه لدعوة خادم الحرمين الشريفين لإنشاء مركز للحوار بين المذاهب الإسلامية في الرياض. الفكرة الرئيسية في مقال الدكتور حمزة، أن الحوار المنشود، إن تم بين سلفيي السنة والشيعة، فإنه غير ممكن ومحكوم عليه بالفشل بسبب رؤية كل منهما للحوار أنه ليس إلا تبيين «الحق» للمخالف. وبالفعل، فإن الوقائع التاريخية تبين أن الحوار قد يكون سبباً لزيادة الخلافات وتأجيجها، إن لم يقم على الأسس الفكرية لمعنى الحوار، أي التعايش مع المخالف كما هو. أما أن يتم الحوار من أجل إقناع المخالف، وتحويل اعتقاده فهذا ليس إلا إثارةً للنزاع ليس إلا. والحوار إن لم يدخله المتحاورون وهم مجهزون بتصورات كلية لمعنى الحوار بوصفه أداة للتعايش بدل السيطرة فإنه قد يجر إلى مآس ٍأكبر من تلك التي كانت قائمة قبله.
ولنا في «الحوار» بين جناحي المسيحية الأوروبية في عصور النهضة، أي الكاثوليكية والبروتستانتية، خير مثال على ذلك. فبعد خلافات وصراعات طويلة داخل أوروبا بين الكنيسة الكاثوليكية والمذهب البروتستانتي، الذي ظهر في القرن الـ15 وبدأ بالتوسع شمال أوروبا، كان من اللازم التعايش بين الكنيستين. وهكذا كان. ففي عام 1548م، نُشر إعلان تشارلز الخامس أو ما يعرف بـ معاهدة أوكزبرج المؤقتة، التي حملت تباشير أول اعتراف رسمي من قبل الإمبراطور الروماني بأن الإمبراطورية تحتوي على كنيستين هما الكاثوليكية والبروتستانتية. وفي عام 1555، توج هذا التوجه بمعاهدة أوكزبرج للسلام التي تعترف بشكل دائم بالمذهبين المسيحيين. لكن هذه الوثيقة التاريخية التي أتت ثمرة لحوار ديني كانت سبباً لواحدة من أسواء الحروب الطائفية التي شهدتها أوروبا، أعني حرب الثلاثين عاماً (1618- 1648) في ألمانيا التي حصدت ملايين الأنفس. ويُقال في تفسير هذه الحرب المهولة إن العداء استمر مستحكماً ومستعراً بين الطائفتين رغم الحوارات التي أدت إلى معاهدة عام 1555 مما سبب نزوعاً دائماً للأمراء لخرق هذه الاتفاقية، كلٌ بحسب ظروفه المرحلية. كما أن تلك المعاهدة نصت على مذهبين هما الكاثوليكية والبروتستانتية ولكنها لم تضم الكالفينية (التي هي حركة إصلاحية داخل البروتستانتية) مما وفر فرصة للكاثوليك لاضطهاد الكالفينيين بحجة أن معاهدة عام 1555 لم تعترف بهم. لم يقم حوار مسيحيي الإمبراطورية الرومانية على ذهنية التعايش وتقبل المخالف لذلك جاءت المعاهدة هزيلة ووفرت وقوداً لحرب طائفية مهلكة.
ولقد خبرنا شيئاً مشابهاً في تاريخنا. ففي القرن الـ12 الهجري، وعلى أنقاض الدولة الصفوية المتهدمة، أنشأ نادر شاه مملكة فارسية عظيمة، وحرر بلاده من احتلال قبائل البشتون الأفغانية ثم استولى على أفغانستان وأجزاء من الهند، فصار يحكم إمبراطورية تضم تنوعاً مذهبياً من السنة والشيعة.
لكن هذه المملكة كانت تصطلي بنار العداوة المذهبية.
أراد هذه الملك أن «يقرّب» بين المذهبين فدعا إلى مؤتمر في النجف سنة 1156 هـ، دعى إليه علماء الطائفتين ممن هم تحت حكمه. وأثمر هذا المؤتمر عن إقرار علماء الشيعة بعدول الصحابة، وقبول خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، وتجريم سب الصحابة، وكذلك إقرار علماء السنة (مثّلهم أفغان) بأن هذا التحول يعني أن الشيعة من الفرق الإسلامية لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم. لكن هذا الاتفاق كان سبباً في تأكيد الشقاق لا إنهائه. فهو انعقد قسراً من قبل ملك جبّار لذلك فإن نتائجه لم تكن تعني تطوراً فكرياً لدى أي من الطائفتين. فوثائق الجانب السني، توضح أنهم رأوا في المؤتمر نصراً لهم على الخصم المذهبي. يقول رئيس المؤتمر وعالم السنة عبدالله السويدي عن نتائج المؤتمر: «صار لأهل السنة فرح وسرور لم يقع مثله في العصور ولا تشبهه الأعراس والأعياد والحمد لله على ذلك». بينما خطب العالم الكربلائي، من الجانب الشيعي، بعد الاتفاق وكتب السويدي عن خطبته الوصف التالي: «حمد الله، وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: وعلى الخليفة الأول من بعده على التحقيق رضي الله عنه، وعلى الخليفة الثاني الناطق بالصدق والصواب سيدنا عمرِ بن الخطاب رضي الله عنه»، لكنه كسر الراء من «عمر» مع أن الخطيب إمام في العربية، لكنه قصد دسيسة لا يفهمها إلا الفحول، وهي أن منع صرف عمر إنما كان للعدل والمعرفة، فصرفه هذا الخبيث ليبين أنه لا عدل فيه ولا معرفة، «قاتله الله من خطيب وأخزاه».
زيادة على ترسيخ المؤتمر للتباعد بين المؤتمرين، كانت نتائجه فاشلة على المستوى السياسي. فقد أرسل نادر شاه للسلطان العثماني يطلب منه الاعتراف بالمذهب الجعفري كمذهب خامس، كما نص على ذلك المؤتمر لكن السلطان رفض طلبه، كما أرسل العالم الشيعي نصرالله الحائري إلى مكة ليكون صاحب منبر مثله مثل المذاهب الأخرى فقبض عليه، وأرسل إلى إسطنبول، حيث قتل هناك. فما كان من نادر شاه إلا أن غزا الموصل انتقاما.
إضافة إلى هذه الوقائع التاريخية التي تبين مخاطر الحوار المبني على فكرة الحق الواحد، وإنقاذ المخالف من ضلاله، فقد شهدنا في السعودية حادثة تجمع بين الحزن والطرافة.
فقد تنادى عالمان سعوديان، سني وشيعي، لـ»الحوار» عبر برنامج التواصل الشهير البال توك. استمر حوارهما سنة دون نتيجة تذكر بل كان أتباعهما يزدادون تطرفاً، كلٌ لصاحبه ومذهبه.
تورط المتحاوران ولم يكن هناك مخرج للأزمة إلاّ عبر الآلية العتيدة، المباهلة. وفعلاً، تقابل الشيخان على قارعة طريق بجانب مطار الشرقية، في مشهد كان يُبث مباشرةً على المناصرين المتحمسين عبر البال توك، وطفق كل منهما يدعو الله أن ينزل على صاحبه حسباناً من السماء أو عذاباً أليما.

المصدر: http://www.alsharq.net.sa/2012/09/01/465247

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك