العرب واليهود في فكر الفيلسوف فردريك نيتشه

سميرة فياض الخوالدة*

 

(1)

 

حين انقسم العالم في القرن العشرين إلى معسكرين شيوعي ورأسمالي، كان أحدهما ينسب إلى كارل ماركس؛ كان يجب أن ينسب الثاني إلى الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه (1844-1900)، «فيلسوف القوة وإرادة الحياة والإنسان المتفوق» كما وصفه د.حسن حفني(1) (ص333).

 

 

 

فهناك ما يشبه الإجماع على أَنَّهُ يشكل هو وكارل ماركس وسيجموند فرويد الركائز الثلاث التي قام عليها الغرب في هذا القرن. ويصل الدارس حتما إلى هذه المقولة حين يتبع أصول جميع الحركات الفكرية التي صاغت الغرب الرأسمالي في القرن العشرين من مختلف جوانبه: الاقتصادية والثقافية والسياسية.

 

 

 

فأهم الحركات والتوجهات في هذه المجالات تأسست على فهم معين لفكر هذا الفيلسوف ودعوته، أو ربما على سوء فهم لهذا الفكر في بعض الأحيان كما سيـأتي تفصيله فيما بعد.

 

 

 

وحين نستخدم كلمة دعوة هنا فإنما نقصد أن نشير إلى أن نيتشه لم يكن فيلسوفا عاديا بالمعنى الفكري المجرد للفلسفة؛ بل كان «إصلاحيا» يؤمن ويسعى إلى التغيير في بنية التفكير والسلوك الإنساني، ولم يكن يكتفي بوصف هذا الفكر والسلوك وتحليله والتعليق عليه كما فعل معظم الفلاسفة.

 

 

 

ومن غريب التناقضات أن ينحدر هذا الفيلسوف الثائر الذي أزاح آخر ستارة للدين عن المسرح الأوروبي من أب قسيس؛ بل إن أجداده لأبيه وأمه كانوا سلسلة متتابعة من رجال الدين. وكانت أمة سيدة تقية تتمسك بمذهبها في تزمّت. وقد جاء على مثالها في السلوك والأخلاق في مطلع شبابه، حتى أطلق عليه في مدرسته اسم «القسيس الصغير»، وقال فيه أحد أصدقائه إِنَّهُ «كالمسيح في معبد»(2).

 

 

 

وتزداد أهمية نيتشه أيضا حين نذكر أَنَّهُ أعلن توقعات لأحداث مستقبلية تقع في أوروبا، وقد وقعت بالفعل في القرن العشرين، مِـمَّا يدل على نفاذ بصيرته في فهم الواقع الذي كان يعيشه العالم الغربي، بحيث رأى واستشرف المصير الذي تؤدي إليه هذه الأحوال. كان يتوقع -وأعلن ذلك في مؤلفاته- أن القرن العشرين سيشهد ظهور حالة من العدمية (حيث انعدام القيم وتلاشي أي معنى للحياة البشرية)، وتهاوي نظام العالم القديم، وسيكون قرنا مشهودا بحروبه الضخمة، كما سيكون قرن السياسة على نطاق واسع (ربما هو مفهوم العولمة الذي يسيطر هذه الأيام). وسيختفي فيه الاعتقاد بالدين وبالإله والأخلاق. قرنا تلد فيه ديموقراطية أوروبا أنظمة طاغية ودكتاتورية (وقد رأينا نظامي هتلر وموسوليني والأنظمة الشيوعية في المعسكر الشرقي. وقد توقع أن يسير الفكر البشري فيه على خطى هيجل (ونظريته في زحف التاريخ) وتصبح فيه مقولة دارون (البقاء للأصلح في الطبيعة) واقعا عمليا يطبق في حياة المجتمعات الإنسانية حتى يمسخ المرء إلى حيوان أو آلة (3).

 

 

 

ومن توقعاته التي شهدنا بزوغها ثُمَّ أفولها ما ورد على لسانه بخصوص روسيا، فهي في نظره وحش أوروبا الضاري، ولشعبها عزم مصمم ثابت امتاز به عن الشعوب الغربية، ولن يكون عجيبا -كما يقول نيتشه- أن نرى روسيا تبسط سلطانها وسيادتها على أوروبا(4).

 

 

 

ومن أهم المدارس الفلسفية التي انبثقت مباشرة من فكر نيتشه الفلسفة الوجودية التي أسسها مارتن هايدجر ومن بعده جان بول سارتر. وهي فلسفة قامت على الوجود المادي البحت للإنسان. والوجود المنقطع عن الميتافيزيقيا، وكل ما تشمله من أديان وروحانيات؛ يصبح فيها الكون رؤية فردية، ولا يبقى معايير عامة لبني البشر، بل يصبح كل إنسان معيارا لنفسه، وله الحرية الكاملة.

 

 

 

وكذلك المدرسة الشكلية في الأدب خاصة، والتي قامت على الاعتقاد بالظاهر الملموس فقط، وأنه لا شيء وراء ذلك. واشتهر منها مدرستا براغ وكوبنهاغن للأدب والإنسانيات، والمدرسة الشكلية الروسية.

 

 

 

ولعل أكثر الورثة شرعية في عقب فردريك نيتشه هم مؤسسو الاتجاه التفكيكي في النقد، وعلى رأسهم جاك دريدا وميشيل فوكو؛ فالأول يكاد يكون الامتداد الحقيقي لنيتشه، حيث استمر في تطبيق المنطق الناقض للمقولات الفكرية المختلفة، هادما بناءها من الداخل وبنفس الأدوات التي قام بها بهذا البناء. وهذا الاتجاه من أهم الاتجاهات في عالم ما بعد الحداثة والذي انبثق برمته من فلسفة نيتشه، فهو الذي قال عن العالم: إِنَّهُ «نص» يقرؤه كلٌّ على طريقته، وبالتالي فلا توجد حقيقة أو معرفة عامة يراها الجميع رؤية موحدة متفق عليها(5).

 

 

 

ويمتد «ظل نيتشه الطويل، وبخاصة تصوره لحركة الكون كتفاعل قائم على الاختلاف والتضاد ليهيِّئ المسرح أمام النقد المعاصر في مجال الفكر والفلسفة»(6).

 

 

 

وينسب إليه كذلك القول بنسبية الأخلاق والمعرفة، حيث يتم الربط بينها وبين المنفعة، فلا يكون للخلق الواحد قيمة ثابتة مطلقة؛ بل تتغير هذه القيمة بتغير الظروف المكانية والزمانية. أما إمكانية التمييز بين الحق والباطل فقد صارت موضع شك كبير وربما استحالة (7).

 

 

 

يقول الآن بلوم في كتابه الشهير «إغلاق العقل الأميركي» (1987)، والذي ينقد فيه نظام التعليم العالي في الولايات المتحدة: إن التصحر الأخلاقي في الجامعات الأمريكية المعاصرة نبع من الفكر الألماني، بدءا من نيتشه في القرن التاسع عشر. (8)

 

 

 

أما في مجال السياسة فيتبلور في فكر نيتشه محوران هامان:

 

 

 

أولهما: هو اقتناعه التام بحكم النخبة معددا فضائله وميزاته. والنخبة في رأيه قد تكون هي الطبقة الأرستقراطية التي كادت تنقرض في أوروبا، أو على الأقل فقدت مركز السيطرة في الدولة. وهو يحمل مسؤولية هذا التراجع والذي يأسف عليه أشد الأسف للثورة الفرنسية التي أعلنت شعاراتها الشهيرة «حرية، إخاء، مساواة»؛ كما يؤكد ليست في الطبيعة البشرية وغير البشرية. ومفهوم المساواة المرفوض لديه ليس بمعنى العدالة أو المساواة أمام القانون؛ بل هو تجاهل لمبدأ تميز الأفراد عن بعضهم البعض في الاستعدادات والقدرات. ويطرح سؤالا مؤداه أن ليس كل من حصل على حق الانتخاب مؤهلا لذلك وقادرا على الاختيار الصحيح؛ وفي الأغلب ستكون النتائج إما سيئة وإما معرضة لتأثيرات شتى. ومن هنا يعلن رفضه الشديد للديموقراطية وحكم الجماهير، مميزا بين أخلاق النبلاء وأخلاق العبيد والغوغاء.

 

 

 

والمحور الثاني في فكره السياسي هو: ما اشتهر به من فلسفة القوة والإرادة، والتأكيد على الحياة وكل ما يخدمها ويقويها، ويدفع بالإنسان إلى الأمام في طريق الرقي، وما سماه بـ«تجاوز الذات»؛ أي: أن تكون في غدك أحسن منك في يومك، وأن يكون نسلك -إن كان لابد من الإنجاب- متقدمين عليك في كل الصفات، وأن يتفوق جيلهم على جيلك. وقد لخص هذه الفكرة بما بشر به من الإنسان السوبرمان الذي أسهب في الحديث عنه.

 

 

 

فأما المحور الأول فقد نشأت عنه -سواء عن فهم صحيح من قبل الدارسين له أم عن فهم خاطئ وتحريف- الحركات الدكتاتورية في أوروبا مثل: النازية والفاشية، والتي قامت على فلسفة التميز العرقي وسيطرة الأقلية من النخبة متمثلة في الأحزاب وميليشياتها.

 

 

 

وأسوأ تهمة ألصقت به أن هذه الاتجاهات نمت وترعرعت من البذور التي زرعها في عقول الألمان، وأن التنكيل باليهود كان وليدا لبعض ما كتبه عن اليهود في أوروبا، واقعهم ومستقبلهم. والواقع أَنَّهُ من السهل جدا أن يساء فهم كتاباته، فهي أولا مدبجة بأسلوب أدبي أقرب إلى الشعرية مِـمَّا يمكن أن يوصف بالسهل الممتنع (وقد كان نيتشة شاعرا مجيدا له العديد من القصائد).

 

 

 

وثانيا: لنيتشه في فكره خاصية ندر وجودها عند الفلاسفة؛ بل هي من صفات الشعراء أيضا، ألا وهي «الرؤية المنظورية» perspectivism، والتي يقدم الكاتب فيها موضوعه من رؤية متعددة الزوايا وجميعها متساوية في الوزن والأهمية بحيث لا يستطيع المتلقي أن يجزم أيّ هذه الرؤى هي المقصودة من قبل الكاتب. والحقيقة أنه لا توجد رؤية واحدة للكاتب، بل هو نفسه واقع تحت تأثير تعدد الرؤية. وهذا ما نجده في كتابات نيتشه مِـمَّا حدا ببعضهم أن يصمه بالتناقض.

 

 

 

وبسبب من هذه الشبهات فقد نيتشه الكثير من شعبيته في أوروبا وأمريكا أثناء الحرب العالمية الثانية إلى أن قام بعض المنافحين عنه يجادلون في أن هتلر وجماعته فهموا نيتشه فهما خاطئا، وقرؤوه قراءة سطحية دون تمعن، وقدم هؤلاء المدافعون بدورهم قراءات جديدة له تبرئه من وزر النازية ومن لف لفها.

 

 

 

ويقول تشارلز سكوت: «لقد عادت أعماله لتلقى قبولا في إنجلترا والولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية وبعد أن أدرك الناس أن استغلال كتاباته من قبل الرايخ الثالث في ألمانيا كان تحريفا فاضحا لفكره»(9).

 

 

 

وأَمَّا المحور الثاني فقد تولد عنه فلسفة أن القوة في الحق، والقوي هو الذي يضع النظام العالمي، وأن السوبرمان هو الإنسان الذي لا يخضع لأي سلطة، بل هو مطلق الحرية والارادة قادر على صنع قدره بنفسه. وهذا ما طبقته سياسة الغرب خاصة أميركا في النصف الثاني من القرن العشرين، وتطبقه الآن.

 

 

 

والواقع أن فكرة السوبرمان قد أشار إليها أصلا المفكر الأميركي إمرسون الذي تأثر به نيتشه، ونقلها عنه، وكتب عنها باستفاضة؛ ومن هنا يمكننا القول: إن بضاعتهم ردت إليهم، فتلقفوها.

 

 

 

(2)

 

 

 

تأثر موقف نيتشه من اليهود ورأيُه فيهم بعدة عوامل مثل: صداقاته التي كانت تترواح ما بين أعداء لليهود (أو أعداء السامية كما اصطلح على تسميتهم في الغرب) وأشخاص من اليهود أنفسهم. ولأن نيتشه بكونه فيلسوف التناقضات، فهو يرى حسنات الشيء ونقيضها؛ فقد كان موقفه من اليهود يتسم بأنه بدأ باحترامهم بحذر شديد في كتاباته الأولى، لكنه عاد يتسم بالهجوم الصريح القاسي في كتاباته الأخيرة.

 

 

 

ففي كتابه: «إنسان مفرط في إنسانيته» الذي صدر عام 1879 نجده يتحدث عن الشعب اليهودي باتزان وحذر شديدين، حديثا هو أقرب ما يكون إلى حديث الساسة والدبلوماسيين في تنظيرهم الفكري. ومن خلال هذا الكتاب يتضح لنا موقفه من اليهود والمعضلة الاجتماعية التي يثيرها وجودهم ضمن المجتمعات الأوروبية؛ فالنزعات القومية الضيقة لدى الأوروبيين أبعدت الأقلية اليهودية من دائرة القبول اجتماعيا، وهذه مشكلة لا يمكن حلها -كما يبين نيتشه- إِلاَّ إذا استبدلت العقلية القومية لدى تلك الشعوب بالانتماء الإنساني العريض أو ما اصطلح هو على وصفه بـ«الأوروبي الصالح»(10).

 

 

 

يقول نيتشه: إِنَّهُ لم يبق أمام اليهودي سوى أن يعلن عن نفسه كمواطن أوروبي صالح، وأن يعمل في مجريات حياته على التعايش السلمي بين الأمم، ويسعى لاندماج هذه الأمم ومحو الفروقات القومية بينها؛ لأن مشكلة اليهود لا توجد إجمالا إِلاَّ في حدود الدول التي تسيطر علنها النزعة القومية. ففي مثل هذه المجتمعات غير المفتوحة يمكن لطاقة اليهود وذكائهم المتفوقين، ذلك الرأسمال من العقل والإرادة اللذين تراكما لمدة طويلة، وجيلا بعد جيل في مدرسة الشقاء -حسب قوله-؛ يمكن أن يبلغا درجة من السيطرة تثير الغيرة والبغض، بحيث أن هذه المشاعر ستنتشر لدى كل الأمم الأوروبية تقريبا. وبقدر ما تتبنى هذه الشعوب بدورها مواقف أكثر قومية بقدر ما ينتشر فيها ذلك الأدب المقيت الذي ينوي أن يسوق اليهود إلى المذبحة كأكباش فداء عن كل السيئين في الأمور العامة والداخلية(11).

 

 

 

أما إذا لم يعد الأمر يتعلق بالحفاظ على نقاء العرق عند الأمم، ولم تمانع شعوب أوروبا أن ينشأ جنس أوروبي هجين خليط، ولكنه أقوى مما لديها في الحاضر؛ فإن اليهودي عندها يصير عنصرا مفيدا ومرغوبا فيه.

 

 

 

ويؤكد نيتشه أن لكل أمة ولكل إنسان ملامح منفرة، بل شريرة، وإنه لمن الظلم أن نطلب من اليهودي أن يكون استثناء؛ فهو ليس نسيج وحده في ما يتصف به من هذه الملامح الشريرة والمنفرة بوجه خاص.

 

 

 

ويعترف نيتشه كذلك بأن بعض المسؤولية عن شقاء اليهود في أوروبا يقع على عاتق الأوروبيين أنفسهم. كما يعلن عن كون أوروبا مدينة لهم جدا حيث نقلوا إليها علوم اليونان القديمة التي وصفت العالم وصفا مطابقا للعقل متحررا من الأساطير مِـمَّا ساهم في بناء الحضارة الأوروبية المعاصرة(12).

 

 

 

وفي عام 1887 ظهر لنيتشه كتاب: «ما وراء الخير والشر»، وفيه يواصل حديثه شبه السياسي. يتحدث نيتشه عن نزعة معاداة السامية التي تدينها القيادات السياسية بشكل جذري لكن -في اعتقاده- أن هذا التعقل وهذه السياسة لا يقضيان على الشعور المناهض لليهود بحد ذاته؛ فالألمان يرون أن عدد اليهود في ألمانيا كبير جدا وأكثر من اللازم، بحيث يصعب على المعدة الألمانية، وعلى الدم الألماني -ويؤكد نيتشه أَنَّهُ سيظل يصعب عليهما زمنا طويلا- هضم هذا المقدار الموجود من اليهود. ويشير إلى أن أمنية الشعب الألماني أن لا يأتي المزيد منهم ما هي إِلاَّ أمنية أمة تخاف أن يأتي عرق آخر أقوى منها فيمحوها أو يطفئها. وفي هذه الحالة قد يكون اليهود هم السلالة الأقوى، الأكثر مقاومة والأصلب في أوروبا وقت كتابة الكتاب؛ فهم يعرفون كيف يفرضون أنفسهم حتى في أقسى الظروف، وذلك بفضل مزايا خفية يمكن أن تحمل أحيانا على محمل العيوب. إن لدى اليهود وقتا كثيرا يترجم بآلاف السنين، إنهم يتغيرون متكيفين مع الظروف بكل هدوء.

 

 

 

ويوجه نيتشه نصيحة إلى الساسة ليس في بلاده وحسب، بل في أوروبا قاطبة. يقول في كتابه الآنف الذكر -ولا ننس أَنَّهُ صدر في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر-: إن أي مفكر يهتم بمستقبل أوروبا عليه أن يأخذ في مخططاته بعين الاعتبار وجود اليهود الروس الذين يشكلون من الآن فصاعدا عاملين أساسيين سيلعبان دورا رئيسيا ومؤكدا في صراع القوى الكبرى. ما نسميه اليوم «أمة» في أوروبا، هو هذا الكيان الحادث أكثر مما هو الكيان الطبيعي، هو على كل حال ما زال في إطار الصيرورة، شابا، هشا، ليس سلالة بعد كما هو حال الشعب اليهودي.

 

 

 

ويستمر نيتشه في القول: إذن على هذه «الأمم» أن تحترس بشدة عند اتخاذ أية خطوة، وأن تحذر من إثارة روح عدوانية عمياء. إِنَّهَا لحقيقة أن اليهود -كما يقول نيتشه- يستطيعون ومنذ اليوم -إن أرادوا أو إن دفعوا إلى ذلك- أن يسودوا في أوروبا سيادة تامة. وإنها لحقيقة أيضا أنهم لا يسعون إلى هذا الأمر، وليس لديهم مشاريع في هذا الاتجاه؛ ما يريدونه الآن (أي في أواخر القرن التاسع عشر) وما يرغبون فيه -بشيء من الإلحاح- هو أن تمتصهم أوروبا وتهضمهم، إنهم يحترقون شوقا لإنهاء «بداوتهم» [ويقصد بها نيتشه تنقلهم المستمر وعدم تثبيت جذورهم في مكان ما] بداوة «اليهودي التائه»(13).

 

 

 

وينصح نيتشه بني قومه بقولـه: «ويحسن بنا أن نطرد من البلاد جميع الأبواق المعادية للسامية، ينبغي استقبال اليهود بتعقل واصطفائية كما تفعل طبقة النبلاء في إنكلترا. أما في ألمانيا الجديدة، فمن المؤكد أن النماذج العرقية النشيطة جدا والمهتمة جدا تستطيع أن تتحالف مع اليهود»(14).

 

 

 

ومن ناحية ثانية نجد أَنَّهُ هاجمهم، وأن هجومه عليهم كان مبنيا على دورهم التاريخي في تطور النصرانية، وعلى الطبيعة النفسية التي اكتسبوها من خلال تجاربهم عبر الزمن. لقد حولوا النصرانية إلى دين باهت كما سيتضح لنا لاحقا. فبعد أن يكيل نيتشه الثناء لشخص المسيح عيسى عليه السلام يبدأ بالتهجم على بولص الذي يعد المؤسس الحقيقي للكنيسة النصرانية كما هي معروفة اليوم. يرى نيتشه أن المسيح عليه السلام لم يكن محاورا جدليا: لم يكن يحاول أن يقنع الناس برسالته بالحجج المنطقية، بل كان يسعى إلى أن يهتدوا إلى الدين الذي جاء به؛ وبالتالي فقد كانت حياته نموذجا عمليا لتعاليمه، كان صادقا، عمله هو نفس قوله. أما بولص «اليهودي» فلم يكن قادرا على هذا المستوى من الأداء؛ لأنه كان يقاوم طبيعته الخاصة المضطربة: فمن أجل أن ينهي نفسه عن رغباتها وجد نفسه مضطرا إلى أن يلغي هذه الرغبات، وأن يوجد نظام الرهبنة الذي وجد فيه نيتشه نفيا للحياة. لقد أعاد بولص تأويل الغرائز الطبيعية في الإنسان على أنها رذائل يجب كبتها. وهكذا يستبدل اليهودي الحقيقة بالتأويل(15). وهكذا يتحول الإله في أوروبا -كما يراه نيتشه- إلى إله لكل ما يتألم، وكل ما يجنح إلى الموت. وهو -أي: بولص- بدلا من أن يبشر بما يفيض على الحياة من بهجة ونعيم، وبدلا من أن يبث في الإنسان الإرادة القوية التي تقول للحياة: «نعم»؛ نراه يكره الحياة الحقيقية ولا يحمل لها إِلاَّ مقتا(16).

 

 

 

في رأي نيتشه، حَوَّل اليهود الدين في أوروبا إلى أخلاق العبيد؛ فقد نقموا على المبادئ القائلة بأن الصالح والشريف والقوي والجميل والسعيد يحبهم الإله أيضا، وعملوا على دحضها بمنطق قوي؛ قالوا: إن الضعفاء والعجزة والأشقياء والبؤساء هم الصالحون وحدهم، وإن المتألمين والتعساء والمرضى والقبيحين هم وحدهم المقربون إلى الله، ولهم وحدهم أعدت مساكن النعيم. أما النبلاء والأقوياء فهم في تلك الدار المخذولون والأشقون(17).

 

 

 

وهو يرى أن المعركة لا تزال مشبوبة محتدمة منذ عشرين قرنا بين «روما» وارثة الحضارة اليونانية من جهة، واليهودية«موطن البغض ومنزل الروح الكهنوتي» من جهة أخرى. وانتصرت اليهودية في هذه المعركة وانتصرت معها شريعة العبيد.

 

 

 

وتتمثل شريعة الأسياد المضادة لشريعة العبيد بالرجل القوي الشريف الذي تتمثل فيه معاني الفروسية؛ فهو يفتش عن كفء له يبادله النضال، ويحني هامته إزاء قوته، وتراه يحتقر الفريسة الذليلة السهل انقيادها، وتراه ينحرف عن الخصوم الذين لا يجد فيهم أكفاءه وأنداده. أما الضعيف فهو يميل إلى الظفر السهل والفريسة الخانعة(18). لقد كانت الروح الرومانية في أوروبا ترى في اليهودي شيئا مضادا للطبيعة، وهو الذي يبادر بالتوجه بالكراهية للجنس البشري أجمع(19).

 

 

 

إذن في تقديره هناك أخلاق للسادة وأخلاق للعبيد. أخلاق السادة هي الرجولة والشجاعة والإقدام والجرأة. أما الأخلاق الثانية فجاءت من اليهود بصفة خاصة أيام خضوعهم السياسي؛ لأن الخضوع يولد الضعة، ويغلف بالاستكانة والذل القدرات الاستثنائية التي لديهم. وقد طغت هذه النفسية على أوروبا فاستبدلت المكر بالقوة والانتقام الخفي بالانتقام العلني والرأفة بالعنف.

 

 

 

وفي يقينه أن حياة ترتكز على مثل هذه الآراء لهي حياة مكتوب لها أن تنحل وتنزلق إلى الهاوية. ولعل آخر مراحل هذا التدهور -في نظره- هو تمجيد الشفقة والتضحية بالنفس من غير ما داع، والشعور بالعطف حتى على المجرمين. وعندها يصبح الخير ألا نفعل شيئا مِـمَّا لا يقوى غمار الناس على فعله. وهذا يعيدنا إلى مفهوم المساواة لديه والذي يعني أن تكون من «القطيع»؛ بل أن تصبح إمعة معدم الشخصية.

 

 

 

أما في كتابه «الفجر» فيقول: بالنسبة لشعب إسرائيل: فالدراما التي سيحفل بها القرن القادم [أي: القرن العشرون] ستقرر مصير يهود أوروبا. ويمكن للمرء أن يدرك الآن أن اليهود ألقوا بنردهم، والأمر يتوقف عليهم؛ إما أن يصحبوا سادة أوروبا أو أن يفقدوا أوروبا كما فقدوا مصر في الزمن القديم حين كان لهم الخيار.

 

 

 

لقد عاشوا في أوروبا ثمانية عشر قرنا استفادوا فيها من التعليم ما نتج عنه الطاقات الروحية والعقلية الاستثنائية التي يملكونها اليوم. تجدهم حتى في أشد حالات الإحباط لا يلجؤون كباقي الأوروبيين إلى الخمور أو الانتحار، ولكل منهم عبرة في تاريخ أجدادهم؛ كيف قهروا أقسى الظروف بأساليب التحاليل، واستغلال المصائب والفرص. يخفون شجاعتهم خلف قناع من الخنوع المثير للشفقة. ورغم محاولات إبقائهم في وظائف وضيعة إِلاَّ أن شعورهم يظل هو أن القدر يعدهم لأمور كبرى…

 

 

 

لم يضطروا إلى العمل بأيديهم كالصناع والزراع، ولم يتعودوا استخدام السلاح، ولم يغرس أحد في أرواحهم مشاعر النبلاء فظل فيهم ذلة. أما الآن وقد تزاوجوا مع أرقى العائلات النبيلة في أوروبا فستتغير أحوالهم في الشكل والشخصية خلال مائة عام [كان هذا القول في أواخر القرن التاسع عشر وقد رأينا أنه قد حصل بالفعل]. وهم يعلمون أن أوروبا لن تقهر عنوة؛ بل سيأتي عليها زمن تسقط فيه بين أيديهم كما تسقط الثمرة الناضجة. أما الآن فهم حريصون على أن يبدعوا في كل المجالات حتى يصبحوا هم عما قريب المحكمين في الإبداع(20).

 

 

 

هذه الحملة وكثير مثلها وبألفاظ أشد وأقسى تكرر في كتبه، معبرة عن حنقه على روح «الضعف والاستكانة» التي رآها في مجتمعه، وخاصة عزوف المتدينين عن الحياة واحتقارها.

 

 

 

وكما سبق لنا ذكره أن والد نيتشه كان نفسه قسيسا في الكنيسة الألمانية، فهو إذن يتحدث عن تجربة شخصية قبل كل شيء. ثُمَّ إنه اعتقد أن مصدر هذه الروح ما هو إلا دعوة روجها بنو إسرائيل في العالم كي يسيطروا عليه بطريقة غير مباشرة.

 

 

 

(3)

 

 

 

أما بالنسبة لنظرته إلى العرب فقد كانت مختلفة تماما، وإن لم يفرغ لهم في كتاباته حيزا مماثلا لما أفرغ لليهود، بحكم التواجد اليهودي في بلاده والذي كان مثار جدل وخلاف إلى درجة أن سمي بالمشكلة اليهودية، ثُمَّ حدث في القرن العشرين من ظهور الأنظمة الدكتاتورية التي حاولت حل هذه المشكلة بالعنف، ثم تخلصت منهم عن طريق وعد بلفور.

 

 

 

إننا نجد نيتشه في بداية حياته الفكرية يعلن أمرا أثار التساؤل إن لم يكن الامتعاض في الأوساط الأوروبية المحيطة به؛ وذلك حين أعلن أَنَّهُ يضع على قدم المساواة الأنبياء الثلاثة: موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام «كمجموعة أضفت سيادتها على العالم»(21).

 

 

 

وهو كثيرا ما يضرب أمثالا للشعوب التي تجسدت فيها إرادة القوة، «الشعوب النبيلة» كما يسميها، الشعوب التي تتكون من «الفرسان المحاربين» والأبطال الأشاوس وليس من ««الجنود». والفرق عنده شاسع بين الكلمتين: الأولى تدل على الإباء والشرف والقيادة وعلو الهمة. والثانية عنده رمز للخضوع وتشابه أفراد القطيع حيث يفتقرون إلى التفرد والتميز؛ «أرى جنودا كثيرة العدد، حبذا لو رأيت ما يساويهم من الفرسان! ويسمون لباسهم زيا موحدا، أرجو ألا يكون ما في داخلهم موحدا كذلك!».

 

 

 

وفي كل هذا يأتي ذكر العرب كشعب عريق نبيل أبِيّ يأبى الذل والخنوع؛ «في هذه الأعراق يجد المرء الأسد العظيم يبحث عن النصر: الرومان، العرب، الألمان، اليابان، هؤلاء جميعا لهم الصفة المشتركة»(22).

 

 

 

والواقع أن حديثه عن هذه الشعوب يدل على أَنَّهُ بعيد عن التعصب العرقي أولا، وعن التعصب ضد اليهود لكونهم من الجنس السامي وليس الآري، فهم والعرب من أصل سامي واحد؛ لكنه وضع كل أمة موضعا بعيدا عن الآخر حسب ما رأى من طبائعهم. نجده يقول:

 

 

 

في وقتنا الحاضر يتحدث المرء كثيرا عن الروح السامية في العهد الجديد، لكن هذا لا يزيد عن كونه مجرد اسم آخر للكهنوت. وتطوير اليهود للكهنوت ليس بدعا بل نقلوه عن البابليين…

 

 

 

أما الديانة السامية التي تقول: نعم للحياة، والتي ترعرعت على أيدي السادة، فانظر إلى كتاب شريعة محمد الذي يشبه بعض أجزاء التوراة. إن المحمدية دين لأولئك الذين يحتقرون الانفعالات العاطفية والعوج، ويعتبرون ذلك ليس من شيم الرجال بل النساء(23)، (وطبعا موقفه هذا من النساء أثار سخطا كبيرا لديهن).

 

 

 

إِنَّهُ يعتقد أن من ينساق لعواطفه وغرائزه هو الضعيف الذي تعوزه قوة الكبح، والذي ليس لديه من القوة ما يقول به: “لا” إذا وجب قولها. فأسمى ما يسمو إليه الإنسان هو أن يضبط نفسه. فإذا أردت ألا تكون نكرة من غمار الناس وسوقتهم فما عليك إلا أن تعسر على نفسك الحساب»(24).

 

 

 

الذي يتضح لنا هو أن نيتشه قد قرأ القرآن الكريم على الأقل، ووجد فيه القيم التي تشد من أزر الإنسان المؤمن وعزمه، وتعزز فيه الكرامة والعزة. وعلى عكس المستشرقين الذين ظلوا يعيبون على المسلمين مفهوم الجهاد، نجد أن هذا المفهوم بالذات وجد تفهما وإعجابا من فيلسوف باحث عن الحقيقة. وكان قد وصل به الأمر إلى رفض قيم الضعف، سواء أكانت ناتجة عن الترف أم عن الخضوع في مجتمعه، والتي رآها تسير بالإنسان إلى الهاوية.

 

 

 

يقول في كتابه «هكذا تكلم زرادشت»: «الحرب والشجاعة حققا من الخير أكثر مِـمَّا حققته الشفقة؛ ليست الشفقة، إِنَّمَا الشجاعة هي التي تنقذ الضحية. ماذا يهم طول العمر؟ وأي فارس يطلب السلامة؟» (الفصل العاشر).

 

 

 

ويقول نيتشه في معرض حديثة عن الإسلام: «لقد حرمتنا المسيحية من جني ما أثمرته الثقافات القديمة؛ وفيما بعد حرمتنا كذلك من جني ما تمخضت عنه الثقافة الإسلامية،… إنها حاربت ثقافة ينبغي على قرننا التاسع عشر ذاته أن يشعر أمامها بالضعف والتأخر؛ والأمر بين واضح، إنهم [أي: الصليبيين] كانوا يجرون وراء الغنائم؛ فالشرق كان غنيا ثريا، لقد كانت الغزوات قرصنة متقدمة ولا شيء غير ذلك (25).

 

 

 

ونجده يلمح مجددا إلى التجربة الصليبية في كتابه «هكذا تكلم زرادشت»:

 

 

 

«هؤلاء الملوك يضعون وجها طيبا عليها [تجربة تلك الحروب] حين يكونون في صحبتنا؛ لأنها درس تعلموه كما لم يتعلمه أحد منا. ولكن هناك من مبصر، فأراهنك على أنه بقدر ما يعنيهم الأمر فسوف تبدأ اللعبة السيئة كرة أخرى. اللعبة السيئة لإبعاد الغيوم، وللكآبة الماطرة، وللسماء المحجوبة، والشموس المسروقة، ورياح الخريف الغاضبة. اللعبة السيئة لصراخنا وصياحنا طلبا للمساعدة: ابق معنا، زرادشت، فهنا تعاسة مخبوءة تبحث عن تعبير، هنا الكثير من المساء، الكثير من الغيوم، والكثير من الهواء الميت»(26).

 

 

 

ويتقدم نيتشه بقصيدة معتذرا:

 

 

 

«اغفروا ذكرياتي القديمة، اغفروا لي إذا غنيت أغنية مساء قديمة كنت غنيتها مرة بين بنات الصحراء. فبينهن أيضا كان هناك هذا الهواء الشرقي الصافي البـديع؛ وهناك كنت أنا بعيدا جدا عن أوروبـا العجوز الكئيبة الماطرة المثقلـة بالغيـوم، عندها أحببت أولئك الأوانس من الشرق، ومنـاطق أخرى أشـد زرقة من السماء، غير مغطاة بالغيوم أو الأفكار».

 

 

 

يقول نيتشه في قصيدته معنونا إياها بـ«بنات الصحراء»:

 

 

 

هنا أجلس، أستنشق الهواء الأفضل،

 

 

 

هواء من الفردوس حقا،

 

 

 

هواء خفيف لامع موشح بالذهب،

 

 

 

كما يكون أطيب الهواء

 

 

 

الذي ينزل من القمر،

 

 

 

هل جاء صدفة

 

 

 

أم جاء متلاعبا،

 

كما يخبرنا الشعراء القدماء؟

 

 

 

لكنني، المرتاب، أسيء الارتياب فيه،

 

 

 

فأنا أجيء من أوروبا

 

 

 

المستعدة أبدا للارتياب

 

 

 

أكثر من زوجة عجوز.

 

 

 

ليصلحها الله، آمين.

 

 

 

استنشق هذا الهواء الأحلى

 

 

 

يتسع منخراي كالأقداح،

 

 

 

بدون مستقبل ولا ماض،

 

 

 

هاهنا أجلس،

 

 

 

يا أعز الآنسات،

 

 

 

وأحدق في شجرة النخيل هذه… (27).

 

 

 

وحيث إن نيتشه لم يكن يتهافت على الآنسات أو يتغزل بهن فلا بد أَنَّهُ رمز بهن إلى الشرق عامة وإلى الصحراء العربية وسكانها خاصة.

 

 

 

ويستخدم نيتشه صورة من الصحراء العربية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالبيئة والحضارة العربية هي صورة الجمال. ففي المثل الذي يعبر به عن الاستحالات الثلاث للروح في سعيها المستمر نحو الرقي وتجاوز الذات؛ يبدأ بالحالة الأولى والتي تكون النفس الإنسانية فيها «جملا» يحتمل بصبر أثقل الأعباء على ظهره، كناية عن القدرة على جمع الشيء الكثير من التجارب. ثم يستحيل الجمل أسدا حرا ذا إرادة يزأر قائلا: «أنا أريد»، ويتوعد بمخالبه الحادة كل من يحاول العبث بحريته. وأخيرا يستحيل طفلا يرمز إلى الصفاء والنسيان والابتداء (هكذا تكلم زرادشت»، 19). فلا صفاء إذن ولا وداعة بدون بنية أساسية تتكون أولا من التجارب ثم من بناء للشخصية يقوم على القوة والمنعة.

 

 

 

لقد وجد نيتشه أن أوروبا قد أقصت الدين عن حياتها ولم يبق منه سوى روحانية متذبذبة تنكر الجسد وحقه، وتحتقر مباهج الحياة وطيباتها، فرفض بدوره الإيمان بالدين كلية. ويصف هؤلاء المتعلقين بهذه الصورة من المعتقد والتي رأى فيها موت الإنسان لا حياته بما يلي: «يتمنون الموت، ونحن نتمنى لهم ذلك أيضا! ولنحذر حتى لا نوقظ هؤلاء الموتى، أو نهز هذه التوابيت الحية! ما إن يشاهدوا عجوزا أو جثة أو مريضا حتى يسارعوا إلى القول: «الحياة باطلة!»، وما باطل سواهم، وسوى عيونهم التي لا ترى إلا جانبا واحدا من الوجود» (هكذا تكلم رزادشت، الفصل التاسع).

 

 

 

ويكتب لنا أيضا: يقول الضعيف المتهدم: «إن الحياة لا تساوي شيئا» وخير له أن يقول: «إنني لا أساوي شيئا»(28).

 

 

 

ويضيف: «لكن اليقظ، العارف، يقول: أنا جسد، وما الروح إلا اسم لشيء في هذا الجسد». وتنسجم هذه الأفكار مع فلسفته الداعية إلى القوة: «من كل ما كتب، لا أحب إلا ما كتبه الإنسان بدمه. أكتب بالدم، وعندها ستجد أن الدم هو روح. إن ما يكتب بالدم لا يقرأ، بل يحفظ عن ظهر قلب».

 

 

 

وفي الكتاب نفسه نجده يصف الحكمة بأنها كالمرأة لا تحب إِلاَّ المحارب الشجاع.

 

 

 

هذه صفحة من فكر علم من أعلام الغرب، ترك أثرا عميقا مثيرا للجدل، لكنه في هذه الزاوية كان باحثا موضوعيا عن الحقيقة ولا شك. والاطلاع على فكره ضروري لكل مهتم بفهم الجذور التي انبثقت منها المرحلة الراهنة في الحضارة الغربية.

 

 

 

******************

 

 

 

الهوامش:

 

*) باحثة وأكاديمية من الأردن.

 

 

 

1- د. حسن حفني، «في الفكر الغربي المعاصر». بيروت: دار التنوير للطباعة والنشر، 1982.

 

 

 

2- أحمد أمين، قصة الفلسفة الحديثة، القاهرة، 1961، 530.

 

 

 

3- Hollingdale, R.J. (1965). Nitzsche: The Man and His Philosophy. London:Routledge and Kegan Paul. P304.

 

 

 

4- أحمد أمين، ص546.

 

 

 

5- Curtler, Hugh Mercer. (1997). Rediscovering Values: Coming to Terms with Postmodernism. New York: M.E.Sharpe. P 32.

 

 

 

6- Schwartz, Sanford. (1985). The Matrix of Modernism: Pound, Elite. & Early 20th – Century Thought. Princeton University Press.

 

 

 

7- Hawkes، 155.

 

 

 

8- Cassedy، steven، Flight From Eden: The origins of Modern Literary Criticism and Throry، University of California Press، 1990، 14.

 

 

 

9- Scott، Charles E. (1998).»Nietzsche» in A Companion to Continenteal Philosophy. Edited by Simon Critcley and William R. Schroeder.

 

 

 

Mass.: Blackwell Publishers. P. 153.

 

 

 

10- فردريك نيتشه. (1879). إنسان مفرط في إنسانيته. ترجمة الناجي (1998) الدار البيضاء: أفريقيا الشرق، ص210.

 

 

 

11- المصدر السابق، ص214.

 

 

 

12- المصدر السابق، ص210-211. لا يذكر نيتشه هنا -وكان حريا به أن يفعل- أن اليهود الذين قاموا بذلك كانوا مواطنين في الدولة الإسلامية في الأندلس، وأن نقلهم للعلوم الطبيعية اليونانية دون أساطير اليونان كان بتأثير من إدارة المسلمين وتوجههم نحو المفيد من ذلك الإرث، دون الغث منه.

 

 

 

13- «اليهودي التائه» في تاريخ اليهود هو السامري الذي صنع تمثال العجل من حلي المصريين التي جلبها بنو إسرائيل معهم من مصر، ويقولون: إنه ما زال حيا حتى الآن يرحل من بلد غير قادر على الاستقرار، وذلك تحقيقا لدعوة موسى عليه السلام. أما دعوة موسى -عليه السلام- كما وردت في القرآن الكريم فهي في سورة طه، الآية 97: ﴿قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه﴾.

 

 

 

14- المصدر السابق، ص238.

 

 

 

15- Han, Beatrice. (1997).»Nietzsche and the ‘Masters of Truth’ The pre- Socratics and Christ» in Heidegger, Authenticity، and Modernity: Essays in Honor of Hubert L. Dreyfus, vol. I.Mass.: The MIT Press. Pp. 177- 179.

 

 

 

16- هنري ليشتانبرجر. (1954). نيتشه. ترجمة خليل الهنداوي. دار بيروت. ص93.

 

 

 

17- المصدر السابق، ص72.

 

 

 

18- المصدر السابق، ص78- 79.

 

 

 

19- Nietzsche, Friedrich. (1887). On The Geneology of Morals. Ttranslated by Walter Kaufmann. New York: A Vintage Book.

 

 

 

20- Mandel, Siegfried. (1998). Nietzsche and The Jews. New York: Prometheus Books. P. 146-47.

  

21- المصدر السابق، 41.

  

22-Nietzsche, Geneology. P. 41.

  

23-Mandel, P.206-207.

  

24- أحمد أمين، «قصة الفلسفة الحديثة»، ص541.

  

25- نيتشه، «العلم المرح»، ترجمة حسان بورقية ومحمد الناجي، الناشر إفريقيا الشرق، 1993، ص134.

 

26- «هكذا تكلم شهرزادشت»، 268.

 27- المصدر السابق.

 

28- أحمد أمين، 536.

 

المصدر: (مجلة التسامح).

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك