حوار حول السلفية الملَكية والسلفية الفوضوية

حوار حول السلفية الملَكية والسلفية الفوضوية
محمد مختار الشنقيطي

الباحث الموريتاني محمد بن المختار الشنقيطي يتحدث للعصر عن: السلفية الملَكية والسلفية الفوضوية..

لا أعمم على المدرسة السلفية كلها، ففي التعميم ظلم. أما مجموعات العنف الديني الخارجة من العباءة السلفية، فهي من دون شك ينطبق عليها وصف "السلفية الفوضوية" لأنها انتقلت من الخروج على السلطة ومقاومة الأجنبي الغازي إلى الخروج على المجتمع وتمزيق لحمته، ونقلت المعركة من الثغور إلى قلب مجتمعاتها.. رغم أن ظاهرة حكام الجور ليست جديدة على مجتمعاتنا بكل أسف، وقد واجهها فقهاء الإسلام منذ أمد بعيد، وقرروا أن يتعاملوا مع هذه الظاهرة بمنطق الإصلاح، دون تبرير للواقع ولا القفز عليه، ودون الخروج على المجتمع أو تكفير الحكام والمحكومين.

بقلم خدمة العصر

قضايا شائكة مثل السلفية والعنف، تحتاج لمن يتصدى لها بجرأة سياسية وثراء معرفي وخطاب تجديدي بعيدا عن التزلف والاجترار، ومتحرر من إكراهات الحاكم وضغط الجمهور، لهذا كان لمجلة العصر هذا الحوار مع الباحث الموريتاني الجريء المتألق الأستاذ محمد المختار الشنقيطي ورئيس "المرصد الموريتاني لحقوق الإنسان"..

العصر: كيف تنظرون إلى ظاهرة العنف السياسي في سياقها الموريتاني وما هي سبل العلاج المناسبة لها؟

محمد بن المختار الشنقيطي: ليس تشخيص ظاهرة العنف السياسي المتدثر بدثار الدين أمرا سهلا، إذ يمكن تحليل هذه الظاهرة من عدة زوايا: شرعية-فكرية، واجتماعية-سياسية. لذلك أعتقد أن تحليلها هذه الظاهرة يحتاج إلى تشخيص مركب. أما من الزاوية الشرعية-الفكرية، فإن العنف السياسي الأهوج يوحي بانسداد ذهني تعاني منه بعض المدارس الفكرية الإسلامية، وبالذات المدرسة السلفية.

وقد شرح لي مرة أحد أساتذتي في جامعة تكساس، وهو لبناني يدرِّس تاريخ الشرق الأوسط، رؤيته للمدرسة السلفية المعاصرة، فقال: إن هناك نوعين من السلفية: سلفية ملكية monarchistوسلفية فوضوية anarchist. وهو يقصد أن هذه المدرسة الفكرية التي ندعوها "السلفية"، تنقسم عمليا إلى مدرستين تتفقان في الخطاب والرؤية الاعتقادية، لكن إحداهما تشرِّع للأنظمة السياسية كل شيء تقريبا، وتركز على معاني الطاعة العمياء للحكام والتخويف من الفتنة والشقاق، حتى أفتى بعض مفتيها بأن المظاهرات حرام!! وهذه هي التي سماها أستاذي "السلفية الملكية". أما الثانية التي دعاها "السلفية الفوضوية"، فهي تخرج على السلطة وعلى المجتمع وعلى النظام الدولي، بل وتسعى إلى تفجير هذا العالم واستبداله بعالم آخر لا تملك تصورا واضحا عن طبيعته.

وأما من الزاوية السياسية-الاجتماعية، فإن مراحل الانتقال في أعمار الأمم لا تخلو من عنف وألم. وهذا نجده في تاريخ أوربا أيام الثورة الفرنسية، وفي تاريخ أمريكا أيام الثورة الأميركية.. وبالطبع فلن تخلو المجتمعات المسلمة من عنف في مراحل الانتقال التي نعيشها اليوم مع الأسف.

فالانسداد السياسي في هذه المجتمعات عميق مزمن، وتخلفها في مجال بناء السلطة وشرعيتها وأدائها تخلف فاضح، وهذا مما يفتح الباب لأنماط كثيرة من العنف. وقد يتدثر هذا العنف بدثار ديني ـ كما هو حال السلفية الفوضوية اليوم ـ أو بدثار علماني، كما هو حال الجماعات اليسارية في القرن العشرين، لكنه في عمقه تعبير عن أزمة التحول الاجتماعي ومخاض الانتقال، وعرَض من أعراض انعدام الشرعية السياسية في المجتمعات الإسلامية، وخصوصا العربية منها.

وما تحتاجه بلداننا اليوم هو أن يمسك الحكماء بزمام الأمور، ويقودوا مجتمعاتنا عبر مرحلة الانتقال الحالية إلى بر الأمان الفكري والاجتماعي والسياسي بأقل ثمن وأخف ألم.

العصر: من المسئول عن هذه الظاهرة؟ هل هي مجموعات ما يسمى العنف أم الأنظمة التي تسببت في ظهورها؟

الشنقيطي: الكل مسئول عن ذلك: أهل الرأي والقلم، وأهل الفقه والنظر، وأهل القرار والسياسة.. والجماعات نفسها مسئولة عن عنفها. أما أهل الرأي والقلم فلم يبينوا للناس بشكل مُرضٍ طرائق التغيير الإيجابية التي تُصلح ولا تُفسد، تبني ولا تهدم. وأما الفقهاء وعلماء الشرع فلم يجردوا العنف الفكري والسياسي من الشرعية الدينية والتاريخية، ولم يقدموا لهذه الجماعات بيانا شافيا حول ضرورة الالتزام بالطرائق الشرعية في التغيير، وأن الله تعالى طيب ولا يقبل إلا طيبا، كما في الحديث النبوي الشريف.

وأما أصحاب القرار السياسي، فقد قصروا كثيرا في ابتكار حلول لمشكلات مجتمعاتهم الاجتماعية والاقتصادية، وهم السبب الرئيس في الانسدادات السياسية التي تخنق جل المجتمعات المسلمة اليوم. إن عدم توفير الحكام حياة كريمة لمجتمعاتهم وكبتهم لحريات الناس، من أهم الأسباب الدفينة وراء العنف السياسي. والحماس الديني لدى بعض الشباب الذي يلجأ إلى العنف لا ينفي وجود دوافع اجتماعية وسياسية أيضا. فالكائن البشري كائن معقد وقد يعبر عن دوافعه بلغة ملتوية وبطرائق لا شعورية.

العصر: حين تسمون هذه الجماعات فوضوية، ألا ترون أن في ذلك مستوى من التجني على جماعات تضم فقهاء مجموعات من خيرة شباب الأمة عرفت طريقها على الأقل؟

الشنقيطي: بالطبع أنا لا أعمم على المدرسة السلفية كلها، ففي التعميم ظلم. أما مجموعات العنف الديني الخارجة من العباءة السلفية، فهي من دون شك ينطبق عليها وصف "السلفية الفوضوية" لأنها انتقلت من الخروج على السلطة ومقاومة الأجنبي الغازي إلى الخروج على المجتمع وتمزيق لحمته، ونقلت المعركة من الثغور إلى قلب مجتمعاتها.. رغم أن ظاهرة حكام الجور ليست جديدة على مجتمعاتنا بكل أسف، وقد واجهها فقهاء الإسلام منذ أمد بعيد، وقرروا أن يتعاملوا مع هذه الظاهرة بمنطق الإصلاح، دون تبرير للواقع ولا القفز عليه، ودون الخروج على المجتمع أو تكفير الحكام والمحكومين.

والأهم من كل ذلك إلحاح فقهاء السياسة على الالتزام بالوسائل الشرعية لتحقيق الغايات الشرعية، وذلك لسببين: سبب شرعي، وهو أن الله تعالى طيب ولا يقبل إلا طيبا، وسبب عملي وهو أن الوسائل غير الشرعية لا تثمر ثمرات شرعية، و إنما تكون نتائجها عكسية على المدى البعيد، وهي تعبر عن غضب أكثر مما تعبر عن رؤية للإصلاح. فلا بد من اعتبار المآل في أعمالنا وجهودنا.

العصر: قلتم إن السلفية الملكية تبرر للسلاطين كل ما يفعلون، وبعض هؤلاء السلاطين يتبنى الديمقراطية ولو من الناحية الشكلية في حين ترفض هذه السلفية الديمقراطية وتعتبرها من الكفر.. هل تعيش هذه السلفية انفصاما؟

الشنقيطي: بالطبع.. فأنا كتبت في بعض مقالاتي أن من الظواهر الغريبة في دنيا العرب والمسلمين أن يكون بين ظهرانينا من يقاوم الاستبداد عمليا ويبرره فكريا. وهذا ينطبق على عدد من التيارات السلفية أكثر مما ينطبق على المدارس الإسلامية الأخرى. وحتى السلفية الفوضوية التي ثارت على الأنظمة وعلى المجتمعات تجدها تسوغ الاستبداد السياسي في خطابها تسويغا كبيرا، وتخلط بين الجانب القانوني والجانب الأخلاقي من الشريعة خلطا عظيما، وتسعى إلى بناء أنظمة شمولية تتدخل في كل صغيرة وكبيرة من حياة الناس العامة والخاصة. وليست لدى هذه المدرسة أدنى فكرة عن شرعية السلطة في الإسلام وعن آليات بناء السلطة في العصر الحديث، وعن حدود تدخل الدولة وحدود حرية الفرد..

وإنما تتحكم في هذه الجماعات ذاكرة تاريخية تتقمصها، وهي تعيش فقرا مدقعا في الوعي بالزمان والمكان والإمكان. لذلك تجدها تنشئ "إمارات" و"محاكم" إسلامية غريبة الشكل والمضمون هنا وهناك، على نحو ما رأينا في عدد من البلدان، مثل "الإمارة الإسلامية أفغانستان" و"المحاكم الإسلامية في الصومال" و"الإمارة الإسلامية في غزة"... وهذا يدل على هوس بالأشكال السياسية أكثر مما يدل على رؤية إصلاحية بديلة. وهكذا فإن كل من يقاوم الظلم دون أن تكون لديه رؤية بديلة فهو يهدم ولا يبني في نهاية المطاف.

العصر: تتبنى هذه المجموعات طرحا أديولوجيا يقوم على منازلة الأجنبي ومكافحة التغريب، وهي تتمسك بالممانعة والمقاومة، وترى الحل في هذا، بينما نلمس تراجع الحركات السياسية الإسلامية المشاركة في العملية الديمقراطية.. ألا ترون أن هذه المجموعات تكسب لخطابها شرعية من خلال مجريات الواقع اليومي؟

الشنقيطي: أنا لا أنكر أن السلفيين الفوضيين يملكون غيرة على الملة وعلى الأمة، ولا أشك في أنهم صادقون في غيرتهم وحماسهم.. لكنه حماس تنقصه الخبرة. والفقهاء يقولون إن "الوسواس تركيب من الورع والجهل"، فإذا ترجمنا هذه المقولة الفقهية إلى لغة سياسية، فيمكن أن نقول إن العنف الأهوج الذي تتبناه السلفية الفوضوية تركيب من الحماس والجهل، أو الحماس وانعدام الخبرة الشرعية والسياسية والإستراتيجية. ومن الواضح أنه لا يمكن إقامة شأن الأمة والملة بالحماس الذي لا خبرة معه.

إن ضعف التأصيل الشرعي، ونقص الخبرة السياسية، وانعدام الحس الإستراتيجي، أمور مهلكة لمن يسعى إلى التغيير. وقد اجتمعت هذه المهلكات بكل أسف في هذه الجماعات العنيفة، وهي مهلكات لن ينفع معها حماس، ولن تجدي معها غيرة. وإلا فما هو المبرر الشرعي أو السياسي أو الاستراتيجي لعملية الاغتيال البشعة في شهر رمضان للضابط الموريتاني الشهيد اجَّ ولد عابدين وصحبه في بلدة "تورين"، والتمثيل به وبصحبه بطريقة مقززة.. وهو شاب حافظ لكتاب الله عز وجل، عميق التدين، غيور على دينه ووطنه.. كما شهد بذلك من عرفه من الثقات الأثبات.. لقد آن الأوان لهذه الجماعات أن تتقي الله في شعوبها، و تسير على بصيرة فيما تطمح إليه من تغيير.. إن كانت تحمل هم التغيير حقا..

العصر: من الناحية الإستراتيجية، يعتقد هؤلاء أن عملياتهم تساهم في تعرية الوجه الحقيقي للأنظمة والدول الداعمة لها، ويرون أن ذلك يساهم في التعجيل بالمعركة والملحمة الكبرى معهم؟

الشنقيطي: الحرب ليست غاية في ذاتها، ولا يجوز أن تكون كذلك.. فنحن مطالبون في القرآن الكريم بالدخول في السلم لا في الحرب: "يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة".. وحتى إذا افترضنا سلامة القصد عند هذه الجماعات وشرعية الحرب التي تخوضها —وهو أمر بعيد من التسليم به- فإن إشعال الحروب من غير تخطيط لكسبها حماقة. وصدق الشاعر اليمني عبد الله البردوني الذي تحدث عن مصائر بعض الحركات الثورية العربية في منتصف القرن العشرين فقال:

والأباة الذين بالأمس ثاروا أيقظوا حولنا الذئاب وناموا

فنحن لسنا بحاجة لمن يوقظ حولنا الذئاب، فلدينا في هذا العالم ما يكفي من الذئاب، وهي تنهش جسد هذه الأمة كل يوم.. فلسنا بحاجة لاستفزاز المزيد من الذئاب، وإنما نحن بحاجة لجهد منهجي بناء يوقف الذئاب عند حدها، ويخرجنا من وضع الهوان. لكن هذه الجماعات تحسن إشعال الحروب، دون امتلاك خطة عسكرية لحسم المعركة، أو رؤية إستراتيجية لكسب الحرب.

العصر: فهل الحل إذن في تنويم الذئاب بالخطاب الرمادي؟

الشنقيطي: لا، ليس في النوم أو التنويم حل.. وإنما يقول الفقهاء: إذا عجز المسلم عن أداء الواجب انتقل التكليف إلى تحصيل وسائله. فهنالك وسيلة الانتظار: "فتربصوا إنا معكم متربصون"، ووسيلة الإعداد: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة"، ووسيلة الصبر: "فاصبر صبرا جميلا".. وقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاما بمكة من دون قتال، لأن القتال يومذاك لم يكن وسيلة شرعية ولا مجدية.. وكان صلى الله عليه وسلم يؤذَى ولا يرد، والمسلمون يؤذَوْن ويصبرون، وفيهم عزة الأعراب الذين كانوا متشبعين بروح القتال وحب النزال، حتى قال قائلهم:

وأحيانا على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكفكف من حماسهم ومن غلوائهم، ويقول: "لم يوذن لنا بعد"، حتى نزل الإذن في القتال.. فالإسلام مبني على أساس منهجي يستهدف الإنجاز وتحقيق المصالح الشرعية، وليس مبنيا على الاندفاع الصاخب وردة الفعل الهوجاء..

وإذا نظرت إلى حروب النبي صلى الله عليه وسلم تجد عجبا: فهي حروب غيرت وجه التاريخ، لكن مجموع من ماتوا فيها من المسلمين والمشركين معا كانوا حوالي سبعمائة شخص طبقا لبعض الإحصائيات.. وهذه حروب كسب الإسلام بها كل الجزيرة العربية، وانفتحت أمامه أبواب بلاد فارس ومصر والشام وما وراء النهر. ولم يعرف تاريخ البشر حروبا حققت نتائج عظيمة مثل هذه بثمن قليل كهذا..

فنحن في مسيس الحاجة لنتعلم من هذا الهدي النبوي تحقيق الأهداف الكبيرة بأقل ثمن ممكن من الدماء والأموال. والتفكير الاستراتيجي والإداري المعاصر مبني كله على تحقيق أكبر الأهداف بأقل كلفة ممكنة. لكن بعض الناس يسترخصون الدم المسلم، ولا يهمهم إشعال الحروب ولو مات فيها الملايين عندما يخيل إليه أن في ذلك نكاية بالعدو.. وهذا خطأ جسيم بموازين الشرع والعقل واحترام الذات.. فالدماء المسلمة ليست رخيصة ولا ينبغي استرخاصها.

العصر: أسلوب التعامل الاستئصالي الأمني هو الشائع الآن، وهناك جهات إعلامية تطالب بالاستمرار في هذا النهج، وهناك أصوات وازنة تطالب بالحوار.. أي المنهجين ينبغي اعتماده في التعامل مع هذه الظاهرة؟

الشنقيطي: دعني أولا أسجل موقفي المبدئي من التعذيب، وهو موقفي الشخصي الذي أومن به، وموقفي المهني باعتباري رئيس "المرصد الموريتاني لحقوق الإنسان". فنحن أصدرنا عدة بيانات ضد تعذيب الشباب السلفي المعتقل في موريتانيا بتهمة أعمال عنف وقتل، وقلنا في هذه البيانات إنه لا مبرر للتعذيب ولا مجال لإدانة الناس بفكر سلفي أو خلفي إدانة جنائية، فالفكر يواجه بالفكر.. وإنما يحاكم الناس ويعاقبون جنائيا بناء على أعمالهم على أفكارهم.. ويعاملون معاملة إنسانية في كل الأحوال.. وحتى الذي استحق القتل قصاصا لإزهاقه نفسا بريئة، ليس استثناء من ذلك، فقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نحسن القِتلة..

فلا مجال للتعذيب ولا مجال للإكراه وانتزاع الاعتراف بالقوة.. كل هذا مرفوض شرعا وقانونا .. ثم إنه يعمق ظاهرة الغلو والتطرف ولا يعالجها. يجب أن يعامل الناس باحترام وبعدل، وحتى المجرم منهم يحتاج أن يرى المعاملة الشرعية، ويدرك أنك تعامله بطريقة غير طريقته.

أما ظاهرة العنف السلفي الفوضوي، فهي ظاهرة مركبة لا يمكن علاجها بوسيلة واحدة.. وما من شك أن الحل الأمني مطلوب والحل العسكري مطلوب إذا جاء مجرمون وقتلوا عددا من الجنود الأبرياء ونكلوا بهم ومثلوا بهم.. لكن هذا مجرد وسيلة، وهنالك وسيلة الحوار الفكري وإقناع هؤلاء الشباب بخطئ منهجهم من الناحية الشرعية، وهم يأخذون المرجعية الشرعية بجد رغم ضعف بنائهم الفقهي..

وقد نجحت هذه الوسيلة في عدد من الدول العربية، ومنها اليمن التي انتدبت حكومتها أحد قضاتها الفقهاء وكلفته بالحوار مع هؤلاء الشباب الطائشين، فجلس إليهم، وأتاح لهم الحديث بحرية، ثم بين لهم خطأ منطلقاتهم الشرعية والسياسية، فاقتنعوا وعادوا عن غيهم. ثم حدث نفس الشيء مؤخرا في ليبيا على يد الشيخ د. علي الصلابي.. وأنا أدعو السلطة الموريتانية إلى تبنى مبادرة شبيهة لعل الله يقيل بها عثرة أو يهدي سبيلا..

العصر: عودا إلى موضوع ثمن المواجهة.. بعض العمليات تتم من منطلق أن فارق التسليح ومختلف الوسائل عند الأمة وعند العدو لا يسمح بتقارب الخسائر، وعلينا أن ندفع الفارق من دمائنا؟

الشنقيطي: في أي حرب غير متوازنة، يدفع الضعيف ضريبة ضعفه من دمه. والسبب هو تفريطه في الإعداد للحرب وقت السلم، لذلك ألح القرآن الكريم على إعداد القوة.. وفي المثل الإنكليزي: "إذا أردت السلم فعليك أن تستعد للحرب".. لكن قوة الضعفاء تكمن في شرعية أهدافهم لا في قوة وسائلهم، بينما يكمن ضعف الأقوياء في عدم شرعية أهدافهم.

بيد أن هذه المعادلة خارجة عن نطاق حديثنا هنا، فحينما تصوب جماعات فوضوية سلاحها إلى نحور أبناء أمتها، أو تشعل حروبا مع الآخرين دون خطة أو منطق، فإن الأمر لا علاقة له بالوسائل، بل بالفلسفة الناظمة والرؤية الفكرية. والخلل في الرؤية السلفية الفوضوية خلل فكري وفقهي واستراتيجي، وهو يحتاج إلى علاج على مستوى الأفكار والرؤى أولا وقبل كل شيء..

العصر: عندما نرفض الطريق الذي تقدمه هذه الجماعات، وتنسد الطريق أمام ديمقراطية حقيقية يعبر فيها الجميع عن رأيهم بحرية فما العمل؟

الشنقيطي: من ما ريب أن الاستبداد السياسي من أهم أسباب العنف الفوضوي الذي يجتاح عددا من المجتمعات الإسلامية اليوم. بل إن الاستبداد وانعدام الشرعية السياسية هو الجذر العميق لأغلب المشكلات الهيكلية التي تعاني منها مجتمعاتنا.. بيد أن العنف الأهوج ليس خيارا شرعيا ولا بديلا سياسيا للاستبداد، بل هو يزيد من وطأة الاستبداد ويشرعه ويطيل عمره. والحل هو العمل المدني المنظم والدؤوب، من أجل بناء فضاء اجتماعي وسياسي مفتوح، يتم فيه التداول السلمي للسلطة، ويُسمع الناس فيه أصواتهم بحرية، وتسود فيه لغة الإقناع والحجة، بدلا من لغة الإكراه والقتل والقتال..

العصر: ما هي رؤيتكم لمستقبل ظاهرة العنف السياسي عموما في موريتانيا وخارجها؟

الشنقيطي: العنف الأهوج طريق مسدود، وصاحبه منبت عاجلا أو آجلا. لذلك لا أتوقع له مستقبلا مشرقا ولا مشرفا.. بل سينحسر هذا العنف كلما تعمق الوعي الشرعي الأصيل والوعي السياسي الحكيم. وقد بدأت مراجعات وتراجعات إيجابية داخل أوساط السلفية الفوضوية في عدد من الدول العربية.. ومن واجبنا جميعا المشاركة في محاصرة العنف الأهوج فكريا وإعلاميا واجتماعيا، قبل أن يستفحل ويتمكن..

يتوقف الأمر إلى حد كبير على مستوى تطبيق الديمقراطية الحقة وحرية الاختيار في مجتمعاتنا. فالمجتمعات الحرة تملك آليات التصحيح الذاتي وبوسائل سلمية متحضرة، أما المجتمعات المحكومة بالقوة فيلجأ الناس فيها إلى منطق القوة لأتفه الأسباب..

العصر: عندما ترصدون مراجعات الجماعات في الدول التي بدأت فيها الظاهرة منذ عقود، هل معنى هذا أن على موريتانيا انتظار عقود قادمة؟

الشنقيطي: لقد بدأت بالفعل مراجعات في الدول التي ظهرت فيها هذه الظواهر منذ عقود، وكتب السلفيون الفوضويون في مصر مراجعاتهم، وأدركوا الخلل في منطلقاتهم الشرعية والخطل في رؤيتهم السياسية. ونفس الشيء فعلته السلفية المقاتلة في ليبيا، وقد أصدرتْ دراستها حول هذا الموضوع مؤخرا في حوالي 5 صفحة. أما هنا في موريتانيا، فهذه الظاهرة جديدة علينا، وسيأتي اليوم الذي يدرك فيه هؤلاء الفوضويون انسداد الطريق الذي سلكوه..

سيدرك هؤلاء أن قتل جنود مسلمين أبرياء في "لمغيطي" أو "تورين" أو في أي مكان آخر جرم عظيم وإزهاق لأرواح بريئة بغير حق، كما سيدركون أن الهجوم على سفارات موجودة على هذه الأرض بعقد استئمان بين مجتمعنا ومجتمعات أخرى لدينا فيها سفارات و جاليات و مبني على خلل عميق في الرؤية الشرعية وفي الرؤية السياسية. إن الجاهل يفسد من حيث يريد الإصلاح، والمتحمس من غير بصيرة يضر ولا ينفع.

لاأعتقد أن الأمر سيأخذ وقتا مديدا كما حدث في بعض البلدان الأخرى.. فالتدين المحلي في موريتانيا لم يشتمل قط على بذور عنف، لذلك فإن هذه الظاهرة لا جذور لها هنا. ومستوى الرفض والنبذ لمن يحملون السلاح ضد مجتمعهم يدل على نوع من الحصانة التي ستحول دون تمكن السلفية الفوضوية في المجتمع. ومع ذلك فإن شيئا من الإنجاز النوعي في مجال التحول الديمقراطي واحترام الحريات وحقوق الإنسان، وفي مجال خدمة المجتمع ومحاربة الفساد صدقا لا ادعاء.. ضروري جدا لاحتواء ظاهرة العنف السياسي وحصارها في مهدها.

العصر: هل ترى موريتانيا من الناحية اللوجستية قادرة على مواجهة هذه الظاهرة؟

الشنقيطي: موريتانيا بلد فسيح الأرجاء، هش البناء، فليس من الراجح أن يكون قادرا على مواجهة الفوضوية السلفية العابرة للحدود.. ويدل الأداء الضعيف الذي صاحب عمليات الغدر بجنودنا الأبرياء في بلدتيْ "لمغيطي" و"تورين" على أن الجيش الموريتاني ليس مؤهلا الآن لمواجهة هذه الظاهرة اعتمادا على قواه الذاتية، وهو جيش يعاني مما تعاني منه المؤسسات العامة الأخرى في بلدنا من إهمال وضعف. والذي يظهر أن نوعا من التنسيق مع بعض دول الجوار سيكون ضروريا، خصوصا مع الجزائر التي عانت من هذه الظاهرة قبل موريتانيا حقبة من الزمن.

الحوار الخارجي: 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك