التفكير الإبداعي.. بُعدٌ أصيل في حضارتنا

د. ليث سعود القيسي

 

الإسلام يزودنا بتصور شامل للحياة والكون والإنسان في صورة متناغمة متناسقة تطمئن بها النفس لحقيقة وجودها، فتندفع للإبداع في هذه الأرض وتعميرها: "هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا" (هود:61).

 

ومضى الإسلام في بناء حضارته على ضوء هذا التصور مستوعبًا لحركة البشر وإبداعه في ظل دولته التي امتدت من شرق الأرض إلى غربها... تصور واقعي... يشكل العلم أول آية أنزلت فيه: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" (العلق1-5), فذكرت هذه الآية الكريمة وسيلة الحصول على العلم وهي (القراءة) مرتين, وآلة العلم وهي (القلم) مرة واحدة, وذُكر (العلم) ثلاث مرات, فلا تعلُّم إلا بالقراءة, ولا تدوين إلا بالقلم.. والعلم حصيلة لهما.

 

فبدأ العلم بقراءة القرآن وحفظه وتدوينه, ورواية الحديث وتدوينه, ثم نمت العلوم وتنوعت، فلا فصل بين (فيزك أو ميتا فيزك) ولا بين دين ودنيا, ولا يبن علوم شرعية وعلوم إنسانية أو تطبيقية, فكلها في مفهوم التصور الإسلامي علوم تُدار بها الحياة بجميع جوانبها.

 

وإذا استقرأنا تراجم علمائنا لوجدنا البيروني الرياضي, والذي قاس قطر الأرض, وطوَّر العلوم الرياضية, مستفيدًا من تجارب علماء الهند ومصححًا ومطورًا, ووظفها لتكون علمًا يتكامل في حضارتنا مع العلوم الأخرى كعلم الفقه بعامة وعلم المواريث ومسائله الحسابية بخاصة, وقد وظّف ذلك في إطار معرفي..!! وهذا هو الإبداع في حضارتنا، حيث تتناغم أنواع المعارف في منظومة تنطلق من منهج رباني شامل من غير انفصام ولا تقاطع.

 

إبداع مستمر

 

ولو ذهبنا نعدد نماذج العلماء التكامليين لوجدنا على سبيل المثال: الرازي المفسر والطبيب... والفقيه ابن الهيثم مكتشف قوانين الضوء... والطبيب الفقيه ابن النفيس الدمشقي مكتشف الدورة الدموية... وغيرهم.

 

وسنختار نموذجًا فذًّا يعكس لنا تلك النظرة الشمولية التي تربط بين العلوم المتنوعة والنابعة من مصدريتنا الشرعية, وهذا النموذج هو: الإمام الأصولي النظّار الفقيه المالكي أحمد بن إدريس الصنهاجي المشهور بالقرافي, المتوفى سنة 684هـ, صاحب الفروق والمصنفات الأصولية العديدة, حيث تكلم عن صناعة الصوت، وقد سبق بهذا التفكير الإبداعي الغير، بل قام بمحاولة لصناعة آلة لإخراج الصوت..!! وانطلق منسابًا مع هذا التفكير ليصل للغاية..

 

صناعة الصوت.. والإمام القرافي

 

نافش الإمام القرافي في كتابه المخطوط "نفائس الأصول في شرح المحصول" الظاهرة الصوتية ودلالتها وأهميتها في باب الشهادات والعقود، وأفرد لذلك فصلاً كاملاً بعنوان: "الكلام في اللغات", وتوصل إلى أنه ليس بالضرورة أن يدل الصوت على صاحبه, إذا استطعنا أن نصنع آلة تخرج الصوت..!!

 

واستدل على إمكانية ذلك من خلال جهاز التكلم عند الإنسان, وهذا هو أقرب مثال يقاس عليه..!!

 

ولم يكتف بذلك؛ وإنما عرض لنا محاولات لصناعة مثل هذا الجهاز فقال:"وبلغني أن الملك الكامل وُضع له شمعدان (حامل الشموع) كلما مضى من الليل ساعة انفتح منه بلب فخرج منه شخص يقف في خدمة الملك, فإذا انقضت عشر ساعات طلع شخص من أعلى الشمعدان وقال: (صبّح الله السلطان بالخير والسعادة) فيعلم أن الفجر قد طلع".

 

وعرض علينا الإمام القرافي تجاربه الخاصة في ذلك فقال:"وقد عملت أنا (أي مثله) هذا الشمعدان وزدت فيه أنّ الشمعة يتغير لونها كل ساعة, وفيه أسد تتغير عيناه من السواد الشديد إلى البياض الشديد إلى الحمرة الشديدة.. في كل ساعة لها لون..!! وتسقط حصاتان من طائرين ويدخل شخص, ويخرج شخص غيره..ويغلق باب ويفتح باب.. فإذا طلع الفجر طلع الشخص إلى أعلى الشمعدان وإصبعه على أذنه يشير إلى الأذان..!!

 

بهذه البراعة الميكانيكية الدقيقة يتكلم الأصولي الفقيه الذي عرض لنا منجزات إبداعيه له ولغيره, وقدم لنا نموذجًا للتفكير الإبداعي وآليته: بدءًا بالملاحظة الإبداعية, فالتساؤل الإبداعي, والفرضية الإبداعية, ثم المحاولة التطبيقية الإبداعية.. وذكر لنا الإمام القرافي التطوير الإبداعي الذي أدخله على الساعة التي صنعها, وبيّن ابتكاراته لحركة ميكانيكية جديدة ومحاولته للجمع بين الحركة والصوت في الساعة, ولكنه لم ينجح وذكر لنا ما توصل إليه.

 

هذه صورة لنموذج صنعه الإسلام من خلال النظرة الشاملة التكاملية للكون والحياة والإنسان، فلا تناقض بين العلم والدين, ولا رجال دين ورجال دنيا، وإنما التخصص، ولا حرج أن يجمع العالم في الإسلام بين التخصصين, ولكن ثقافة الفصل هي من آثار التأثر بالفلسفة الغربية في نظرتها للكون والحياة والإنسان وصراعها مع الكنيسة والتي نُقلت إلينا نقلاً حرفيًا, والإسلام لا يرفض إنتاجًا حضاريًا مفيدًا لأن الحكمة ضالة المؤمن من أي إناء خرجت فهو أحق بها.

 

وهذه المنهجية هي التي تربت عليها الأجيال من الصحابة والتابعين وتابعيهم وإلى زماننا، ولها رواد في كل جيل, ولم تتوقف عملية الإبداع في مختلف مناحي الحياة، وبرزت رموز شامخة في حضارتنا، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر حافظ القرآن وجامعه زيد بن ثابت بتعلم اللغات, وأرسل صحابيين إلى عكا لتعلم الصناعات الحربية غير المعروفة في الجزيرة كالمنجنيق والدبابة, وأمر بصناعة ختم للدولة عندما علم بأن البروتوكول يقتضي ختم الرسائل الدبلوماسية, والاستعانة بالحارث بن كلدة الطبيب النصراني في مرضه الذي توفي فيه صلى الله عليه وسلم, واستفادة عبد الملك بن مروان من النظام الإداري الفارسي في تنظيم إدارة الدولة الإسلامية.

 

 ثم تنامى العطاء الحضاري - كما ذكرنا - كالبيروني, والرازي, وابن النفيس, وابن الهيثم, وفي القرن العشرين الشيخ طنطاوي جوهري الذي كان يتقن الفيزياء والرياضيات والطب والكيمياء وكان يدرسها في كلية دار العلوم بمصر, والطبيب الشيخ الدكتور أبو اليسر عابدين الذي كان أستاذًا في كلية الطب ومفتيًا للجمهورية السورية في وقت واحد.

 

وعلى ضوء ذلك فتاريخنا وحضارتنا يحتاجان إلى قراءة جديدة بعد أن سادت سياسة التجهيل والتحريف والتشكيك لزمن طويل ضلل الأجيال، ولكن الصحوة الإسلامية وإصرارها وانتشار الوعي أسقَطَ الأقنعة وأزال الغشاوة ليشرق صبحٌ جديد ونهضةُ جديدة في مفصلٍ حضاريّ ودورةٍ حضاريةٍ جديدة رغم التحدي.

المصدر: http://islamtoday.net/nawafeth/artshow-58-137523.htm

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك