الثورة السورية ومشروع الأمة

بقلم د. حاكم المطيري
رئيس حزب الأمة - الكويت
والمنسق العام لمؤتمر الأمة
 
 
تعيش الثورة السورية اليوم مخاضا عسيرا وأخيرا، بعد أن تخطت كل المؤامرات التي حاكها ضدها الشرق (روسيا – إيران) والغرب (أوربا – الولايات المتحدة) والنظام العربي الوظيفي، حيث تحولت سوريا وأرض الشام إلى ساحة حرب مفتوحة، ولم يعد الشعب السوري البطل يواجه نظامه الطاغوتي الذي يحكمه بالحديد والنار منذ أربعين سنة، بل يواجه بثورته التاريخية اليوم النظام الدولي كله الذي رتب أوضاع المنطقة العربية منذ سايكس بيكو والحرب العالمية الأولى على هذا النحو الذي جعل من كل دولها دولا وظيفية تابعة له وتحت نفوذه، ولعل ما جرى في ليبيا ثم اليمن ثم سوريا أوضح دليل على أن الشعوب العربية حين تريد تغيير حكوماتها لا تواجه أنظمتها فقط بل تواجه المنظومة الدولية التي تتحكم في المنطقة منذ قرن كامل!
لقد بات الشعب السوري والأمة من ورائه يواجه ثلاثة مشاريع في سوريا :
1- المشروع الاستعماري الصهيوني الصليبي، سواء الشرقي (روسيا وقاعدتها العسكرية) التي تقاتل مع عصابة الأسد دفاعا عن نفوذها في سوريا والبحر الأبيض المتوسط، والاستعمار الغربي وحلف النيتو الذي حاصر الثورة منذ تفجرها وحرمها من السلاح لتظل تحت السيطرة، ولا تخرج عن الحدود التي فرضها الغرب لحماية خريطة سايكس بيكو في المنطقة، وحماية أمن إسرائيل التي حمى نظام الأسد حدودها منذ وصل للسلطة، وقد أثبتت الأيام أن كل من راهن على وقوف الغرب مع الثورة قد خسر الرهان، ولم يدرك طبيعة الصراع وجذوره التاريخية!
2- المشروع الصفوي الطائفي الإيراني الذي نجح في اختراق العراق وسوريا ولبنان من خلال التفاهم مع أمريكا في الأولى، وروسيا في الثانية، وإسرائيل في الثالثة، وإذا الشعب السوري اليوم كما الشعب العراقي بالأمس يواجه آلة القتل الطائفي الحاقدة وميليشيات الموت الطائفية تحت ظل الاحتلال تارة كما في العراق، ومع الاستبداد والطاغوت تارة أخرى كما في سوريا، ليذهب ضحية ذلك مئات الآلاف من العرب المسلمين الأبرياء من الأطفال والنساء، في العراق وسوريا، نتيجة هوس المشروع الصفوي الطائفي الحاقد على الأمة وشعوبها ودينها بموروثه القومي الفارسي وأطماعه التوسعية، وتدثره بدثار التشيع لتوظيفه سياسيا في اختراق المنطقة من خلال الخطاب الديني، واستغلال الأقلية الشيعية في المنطقة العربية ضد أمتها وأوطانها!
3- المشروع العربي الوظيفي الذي يقاتل في سوريا عن وجوده، لتكون سوريا آخر محطة للثورة العربية، حتى لا تنتقل الثورة إلى باقي الدول العربية التي لم يصلها الربيع العربي، فاستخدمت كل إمكاناتها في بداية الثورة لمساعدة النظام الأسدي على حل الأزمة بما يحافظ على النظام وبقائه مع تغيير صوري، ثم بعد أن أدركت سقوطه لا محالة عملت على اختراق فصائل الثورة المسلحة وتشكيل فرق صحوات وإيجاد بديل سياسي وظيفي لما بعد الأسد، ودفعت المليارات في سبيل ذلك، وكان لدول الخليج العربي اليد الطولى مع أمريكا في ترتيب الوضع السوري القادم بما يخدم مصالح أمريكا الوريث الجديد للنفوذ في سوريا بعد خروج روسيا، وبما يخدم استقرار النظام العربي الرسمي الوظيفي، غير أن الثورة كانت أكبر من المؤامرة!
ومع كل هذا التدافع والصراع الأممي في سوريا فقد غاب مشروع الأمة الذي يفترض أن يكون هو البديل عن هذه المشاريع حيث أثبتت الثورة السورية الحقائق التالية :
1- أن الصراع في أرض الشام صراع أممي لا يمكن مواجهته إلا بالأمة كلها، وبمشرع للأمة كلها، بعد أن سقطت الدول القطرية في المنطقة العربية وأولها العراق الذي كان أقوى دولة عربية قطرية عسكريا، فلم يستطع الصمود في وجه الحملة الاستعمارية الأممية ثلاثة أسابيع، ليؤذن بنهاية المشروع الوطني القطري الذي فشل في حماية أمن شعبه وسيادة وطنه، ولا تستطيع أي دولة وظيفية عربية حماية وجودها فضلا عن حماية غيرها مما يجعل الرهان على المشروع القطري رهانا خاسرا، وهو ما يستدعي مشروع الأمة من جديد، لتكون سوريا المستقبل قاعدة له فكريا وسياسيا.
2- كما أثبتت الثورة العربية أن المشاريع الفئوية والحزبية أعجز من أن تكون البديل الناجح في المستقبل، حيث نجحت القوى الدولية بالتفاهم مع هذا الطرف الإسلامي أو ذاك من توظيف الجماعات في تثبيت وترسيخ مشروعها، فلم يعد الغرب الاستعماري كما كان سابقا يرفض وصول الإسلاميين للسلطة في منطقة نفوذه الاستعماري، بعد أن فرزهم واختبرهم ووجد القابلية لتوظيفهم من خلال التفاهم معهم، فكانت تجربة الجزائر ووقوف بعض الإسلاميين مع جنرالات فرنسا ضد خيار الشعب الجزائري الذي انتخب جبهة الإنقاذ في انتخابات حرة نزيهة هددت نفوذ فرنسا في شمال أفريقيا، فكان التحالف بين العسكر وبعض الإسلاميين هو الحل، ثم تكررت تجربة التحالف بين حلفاء الغرب والإسلاميين في اليمن والخليج وانتهى المشهد بأوضح صوره في الدخول في حكومات الاحتلال الأمريكي في العراق!
ولعل وصول الإسلاميين للحكم في مصر وتونس والمغرب والسودان وسلبيتهم تجاه ما يجري في سوريا وغياب الفاعلية السياسية أوضح دليل على فشل المشاريع الفئوية والحزبية، وكذا الحال فيما جرى في أفغانستان، فقد واجه الأفغان الاحتلال الروسي بالأمة كلها فانتصروا، وواجهوا الاحتلال الأمريكي الغربي سنة 2001م وحدهم أو بتيار إسلامي واحد، وغابت الأمة عن المشهد الأفغاني لا بسبب الحصار الغربي والعربي فقط الذي كان له أكبر الأثر في ذلك، بل وبسبب تحول الصراع في أفغانستان ولو على المستوى الإعلامي والسياسي إلى صراع بين أمم الغرب الاستعماري من جهة، وفصيل إسلامي واحد من جهة أخرى!
لتتأكد الحقيقة التاريخية مرة أخرى بأن صراع المشاريع الأممية لا يواجه إلا بمشروع أمة يستوعب كل شعوبها وفئاتها وتياراتها وجماعاتها!
3- وكذلك أثبتت الثورة السورية أن الأمة وشعوبها هي العمق الاستراتيجي فمتى وقفت في معركة كان النصر حليفها مهما تخاذلت دولها وحكوماتها، فقد كان للأمة دور رئيس ومؤثر في استمرار الثورة في سوريا وفي انتصاراتها حيث جاءه المدد بالرجال والأموال والعقول والخبرات التي نجحت في فك الحصار عن الثورة، وفي تقدمها نحو النصر وتخطيها كل المؤامرات الخارجية!
4- وكل ذلك يؤكد أهمية بلورة مشروع سياسي بعد نجاح الثورة يعبر عن الأمة ومشروعها الغائب الحاضر، وهويتها المطموسة، وبعث خطابها السياسي الإسلامي الراشدي، الذي يستوعب الجميع بعيدا عن المشاريع القطرية والوطنية والحزبية الضيقة التي لم تكن سببا للنصر، ولن تكون مشروعا للمستقبل، بعد أن ثبت فشلها في كل قطر، وكما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى (لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها)!
إن الثورة السورية اليوم هي أمل الأمة باستعادة وعيها لذاتها، واستعادتها لهويتها، وفهمها لرسالتها، وحقيقة الصراع من حولها، بعد عقود من التيه والاغتراب عن روحها ودينها وثوابتها العقائدية والسياسية، وهو ما يقتضي بلورة مشروع سياسي راشد يكون حاضنا لمشروع الأمة في سوريا، ويجعل من أهدافه الاستراتيجية - على المدى القريب والبعيد بالقوة الخشنة أو الناعمة - تحرير الأمة ابتداء بالعراق وفلسطين والمنطقة كلها من الاحتلال الأجنبي والطغيان السياسي، وحينها فقط تكون الثورة العربية والسورية قد حققت فعلا أهدافها، واستثمرت حقا تضحياتها!
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك