التربية على قيم التسامح والتضامن الدولي من ابرز ملامح المقاربة التونسية للقضاء على الارهاب

لاحظ العديد من السياسين والخبراء الذين تابعوا احداث 11 سبتمبر وتداعياتها ومواقف الدول منها ان تونس كانت سباقة في مناهضتها للارهاب وفي تحذير العالم من اخطاره حيث شدد الرئيس التونسي زين العابدين بن علي على ان الارهاب واحد مهما تنوعت اشكاله منتهجا مقاربة شاملة للتصدي لهذه الظاهرة. 
 

 وقد توضحت ملامح المقاربة أوضح تعبير في خطاب افتتح به ملتقى الأحزاب الأوروبية الذي انعقد بتونس في شهر افريل عام 1996، وهو الخطاب الذي دعا فيه إلى عدم الوقوف عند ظاهرة الإرهاب إلا كظاهرة فرعية أو طاغية على السطح لقضايا أشدّ عمقا، لا يمكن معالجتها إلا بإيجاد حلول عادلة للقضايا الدولية المعلّقة، وتطبيق سياسات اقتصادية واجتماعية تؤمّن الفئات الهشة من الخصاصة والجوع والشعور بالحرمان وبتوحيد القوى الديمقراطية حول قيم ومبادئ حقوق الإنسان والتسامح بين الأديان والثقافات، حيث أكد  "إن ظاهرة الإرهاب والعنف التي تهدّد مسار السلام، والتي ابتليت بها بعض بلدان المنطقة المتوسطية، تستدعي تأكيد الجوانب المبدئية التي كنا نبهنا إليها في الإبان، وتبينت صحتها بانتقال مخاطر الإرهاب إلى الساحة الأوروبية وعدد من دول الغرب بصفة عامة. ذلك أن الفصل الخاطئ بين التطرف والتعصب السياسي والديني والفكري من ناحية، وبين العنف والإرهاب من ناحية أخرى، هو الذي هيأ الأرضية لانتشار هذه الظاهرة وانتقالها إلى مجتمعات أخرى. وهو ما يؤكد صواب ما بيناه بأن العنف والإرهاب افراز طبيعي للتطرف والتعصب وأن معالجة الظاهرة الفرعية مهما كانت الوسائل المستعملة، لا تستقيم بدون معالجة الظاهرة الأصلية، وذلك في إطار التوعية السليمة وتجسيم وفاق القوى الديمقراطية حول قيم المجتمع المدني وحقوق الإنسان، ونشر مبادئ التسامح بين الأديان والثقافات، وتحقيق سياسات اقتصادية واجتماعية تؤمن الشرائح الضعيفة ضدّ الاقصاء والتهميش". 
 

ولقد استندت هذه المقاربة الشاملة لمقاومة التطرف إلى مراجعة جدية للاستتباعات السلبية للخيار التحديثي والتنموي وذلك بتحقيق مصالحته مع المرتكزات الحضارية والثوابت العميقة للحضارة العربية الاسلامية، في مقابل التغريب وتصدع الهوية الذي انعكس غلوّا وأصولية مضادة. كما تم التركيز من خلال الإصلاحات التربوية والسياسات الثقافية المنسجمة والفعالة على بناء قاعدة صلبة ومتينة للمشروع المجتمعي بغرس قيم التسامح والانفتاح والتضامن والفاعلية الانتاجية.

ولم تكن هذه الخطوات تتم دون ترشيد العمل السياسي واقرار النهج التعددي الديمقراطي لنمط المجتمع المنشود، ودون السياسات الاقتصادية والاجتماعية المواكبة، التي رفعت المستوى المعيشي للمواطن أشواطا بعيدة، ولم تنح منحى الليبرالية الفوضوية المنفلتة، بل راهنت على سياسة اجتماعية تضمن العدالة والسلم الاجتماعيين. 
 

كما طرحت تونس على المجموعة الدولية رؤيتها الديبلوماسية الهادفة إلى احتواء أسباب وآثار التطرّف بإقامة موازين عادلة لمعالجة الأزمات والصراعات الدولية من منطلقات قانونية سليمة وعادلة، تقطع الطريق على المجموعات المتطرفة وحركات الارهاب. ولأنه من الصعب الوقوف على كل أوجه هذه الاستراتيجية الشاملة فإننا رأينا أن نقف عند ثلاثة من مفاصلها، نرى أنها كانت حاسمة لا فقط في القضاء على أسباب ظاهرة الإرهاب في الساحة التونسية، بل في الإرتقاء بها إلى مصاف الدول الصاعدة التي حققت نجاحات رائدة في محيطها الاقليمي العربي والإفريقي. 
 

ولقد عبّر بيان السابع من نوفمبر عن تمسّكه بالخيارات الحضارية لتونس وفي مقدمتها ترسيخ قيم التسامح والاعتدال والانخراط في عالم الحداثة دون انبتات ومواصلة تعميقها وتجديدها بما يضمن تحقيق غاياتها الكبرى، لذلك حظي قطاع التربية والتعليم بعناية خاصة تمثلت في جملة من الاصلاحات الهامة التي شملت قطاع التربية بمستوياته الثلاثة : الأساسي (الابتدائي) والثانوي والعالي. 
 

إن قراءة للنصوص المؤسسة للسياسة التربوية في تونس في إطار الاصلاح المنشود، ولبعض الخطب الرئاسية المخصصة جزئيا أو كليّا للتربية والتعليم، تجعلنا نقف ، كما يقول أحد تلك النصوص ، على الإرادة السياسية الصارمة لجعل المدرسة "سلاحا للتغيير" التغيير الذي ينشد تأصيل الذات في هويتها وجذورها الحضارية، وتبصيرها بحقوقها وواجباتها، وهو التغيير الذي ينشد من خلال سلاح العلم والمعرفة تغيير شروط وجود الذات بالشكل الذي يصون كرامتها الإنسانية، وهو ثالثا التغيير الذي ينشد تغيير موقعها من العالم حتى تساهم بشكل فعّال في دورته التاريخيّة. 
 

ان التغيير الذي اعتبرت المدرسة أداته وسبيلا جوهريا من سبل تحقيقه، يتجاوز هنا بعده التربوي ـ المعرفي ليرسم في الحقيقة، وجود شعب ما ويحدّد هويته المخصوصة، كما يرسم نمط اجتماعه المدني والسياسي (الديمقراطي التعددي الذي أقرّه الميثاق الوطني الذي وقّعت عليه كافة الأطراف والأحزاب السياسية بعيد حركة التغيير) كما يرسم موقعه من العالم وتحوّلاته الكبرى والقيم السياسية التي أقرّها.

ان تحقيق هذه الغايات كان يعني أن تتحرك المنظومة التربوية ضمن ثلاث دوائر تخص: أوّل انحت الشخصية التونسية العربية الإسلامية، وتأصيلها في جذورها الحضارية وانفتاحها الواعي على معارف الإنسانية وثقافاتها، ثانيا تربية المواطن تربية ترسّخ في ذهنه ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان وثقافة التسامح واحترام الاختلاف بالإضافة إلى ولائه للوطن، ثالثا تكوين قوة العمل المنتجة التي لا تكتفي بالملاءمة بين برامج التعليم والتكوين وحاجيات سوق العمل فحسب، بل تلك التي ترتقي إلى مستوى القدرة على المنافسة وفرض الذات في سوق دولية لا بقاء فيها إلا لروح الامتياز والتفوّق. 
 

وإذا ما كانت إعادة الاعتبار للجامعة الزيتونية باعتيابرها منارة من منارات الاسلام في افريقيا والعالم العربي مظهرا من مظاهر التمسّك بأحد رموز المحافظة على الهوية العربية والاسلامية والشخصية التونسية المتأصلة في جذورها، والمنفتحة في آن واحد على محيطها، فإن قرار تعريب التعليم مثّل مظهرا آخر من مظاهر التمسّك بمقوّمات الهوية التي حرصت عليها القيادة التونسية التي لم تكتف بجعل اللغة العربية اداة تدريس للعلوم الانسانية والصحيحة، بل انها خطّطت ـ وهي على مشارف القرن الحادي والعشرين، والعولمة تعصف بجلّ الثقافات والخصوصيات القومية، بأن ترتقي إلى مرتبة انتاج العلوم والتقنيات المتطورة. 
 

لقد تردّدت هذه المعاني العديد من المرّات في خطب الرئيس بن علي خاصة منها التي يلقيها في عيد العلم تكريما للمتفوّقين من التلاميذ والطلبة ورجال التربية حيث جاء على لسانه في إحدى هذه الخطب :"ووفاء لانتمائنا العربي ولغتنا القومية، وعملا على إشاعة روح العصر في الثقافة الوطنية، وتأصيلا لها في الوجدان الجماعي، كان من غايات الإصلاح التربوي الا يقتصر استعمال اللغة العربية على تدريس المواد الأدبية والإنسانية فحسب، وانما يتعدّى ذلك ليشمل تدريس المواد العلمية والإرتقاء باللغة العربية إلى مرحلة التعبير عن التقنيات والتكنولوجيات المتطورة دون التخلي على سائر اللغات التي اعتبرت في اطار هذه المنظومة التربوية سبيلا لحماية الثقافة الوطنية وأبنائها من خطر الانغلاق على الذات، ونافذة يتمكّن عبرها الجمهور التلمذي والطلابي من الانفتاح على انتاج الفكر الانساني بما يثري الذات ويقرّب المعارف الإنسانية إلى بعضها بعضا، ويسهم في نشر ثقافة التآخي البشري في عملية بناء الشخصية المستنيرة المتزنة". 
 

ساعدت هذه المقاربة خلال العقد والنصف الأخير على تنشئة جيل متأصّل في هويته الوطنية والحضارية، جيل متّزن، منفتح، قادر على التمييز وممارسة الفكر النقدي الذي لا يستسلم لمحاولات التغرير به مهما كانت قوة إغراءات الإيديولوجيات المتطرفة ـ يمينا ويسارا ـ التي تحاول جرّه إلى دوائر جذبها.

إن مواجهة الذهاب عكس حركة التاريخ والمجتمع، هو ما فهمته القيادة التونسية وهي تستأصل ما يمكن أن يكون دوافع لبعث الإحساس بالغبن والإقصاء والتهميش، وتؤسس لا فقط لسياسة تنموية شاملة، تتحكّم فيها بالضرورة الملاءمة المدروسة بين الموارد والحاجيات، وتقديرات الدراسات الاستشرافية لنسق معدلات التنمية، بل أيضا لسياسة تضامنية تهدف إلى تحقيق التماسك الاجتماعي وترسيخ روح التضامن والتآزر، واستفادة الجميع من ثمار التنمية وتحقيق وحدتهم الوطنية مهما كانت النظرة تعددية لنمط المجتمع المنشود.

لذلك لم يكن غريبا ان يشرف الرئيس بن علي بنفسه على اطلاق صندوق التضامن الوطني 26-26 إثر إحدى زياراته إلى منطقة من المناطق النائية التي اصطلح على تسميتها في تونس بعد ذلك بمناطق الظل، تلك التي ظلّت محرومة خلال السنوات الثلاثين الأولى من الاستقلال من أدنى أسباب العيش الكريم. ولقد استطاعت برامج هذا الصندوق التي حدّدت لها نهاية عام 2002 لتحقيق جلّ أهدافها، من انتشال أكثر من مليون تونسي من دائرة الفقر والخصاصة ، حيث توفّرت لها مقوّمات العيش الكريم من سكن وماء صالح للشراب وكهرباء وبنية أساسية ومراكز صحيّة. وساهم صندوق التضامن الوطني ـ هذا الذي تولّت كل المجموعة الوطنية تطوعا تمويله ـ بالاضافة إلى مساهمة الدولة في اعادة 11% من السكان إلى الدورة الاقتصادية والاجتماعية، وفي تدارك الفوارق الاجتماعية والتنموية التي كانت تفصل تلك المناطق عن بقية مناطق البلاد، حيث كان الصندوق من أهم الآليات التي ساهمت في تقليص نسبة الفقر إلى 4.2% علما بأن هذا المعدل كان قبل ثلاثة عقود في حدود 40%
 

ان سياسة التضامن الوطني التي اختارت القيادة التونسية أن تكون الوجه الانساني للتنمية، تنمية لا تتعامل مع الوضعيات، وضعيات الفقر أو الحاجة والخصاصة كأرقام نكرة، بل كوضعيات مخصوصة، وضعيات فقراء ومحتاجين وأيتام وأرامل، ومسنين عجّز، ومعوقين ومهمّشين، وضعيات لها كرامتها التي اعادتها اليها برامج التضامن بتوفير أسباب العيش الكريم بشكل مباشر، وفقا لمتطلبات الحالة، من سكن وامكانيات العلاج المجاني وبنية تحتية كما اسلفنا، أو بتطبيق المثل القائل "لا تعطني سمكة ولكن علّمني كيف اصطادها"..

 لقد عملت برامج صندوق التضامن الوطني والصندوق الوطني للتشغيل المعروف بصندوق 21-21 على تمكين آلاف التونسيين كهولا وشبابا من فرص العمل بمنحهم قروضا صغرى تفتح لهم أبواب التشغيل الذاتي في مشروعات تتعلق بالفلاحة أو بالصناعة التقليدية أو المهن الصغرى، او بتمكينهم من تكوين مهني يفتح لهم فرص الاندماج في الدورة الاقتصادية من خلال سياسة تشغيل تشترك فيها مؤسسات القطاع العام والخاص على حدّ السواء. 
 

ان مقاومة الفقر وسدّ منابع الحاجة والخصاصة والقضاء على جملة الأسباب التي يمكن ان تجعل من الحرمان سببا من أسباب ازدهار ظاهرة الارهاب وتسلّل المتطرفين لاستدراج المحرومين لدائرة العنف والانتقام وبث عوامل الفوضى والفتنة الاجتماعية، مثلت جزءا أساسيا من الاستراتيجية التونسية لمقاومة الإرهاب، هذه الاستراتيجية التي عملت على عدة جبهات وحققت الوفاق الوطني على جملة من الثوابت القيمية.

ولقد مكّن النهج الوفاقي ـ التضامني ـ من تحقيق التماسك الاجتماعي ونزع فتيل الفوارق الاجتماعية المجحفة تلك التي اكتوى بنيرانها التونسيون في أوائل الثمانينات وسحبت البساط من تحت العاملين على زرع التفرقة بين أبناء المجتمع الواحد وبث بذور الحقد والعنف والكراهية.

ان هذه التوجهات الاجتماعية التي تدخل في إطار ما السياسة التنموية التضامنية التي تضفي على السياسات التنموية بعدا انسانيا هو من خاصيات المجتمع التونسي المتأصل في جذوره العربية الاسلامية ومن خاصيات شخصية الرئيس بن علي  كزعيم سياسي تحمّل مسؤولية قيادة سفينة بلاده إلى برّ الأمان بعد أن تلاطمتها العواصف وكادت تؤدي بها الى التيه والغرق قبل 7 نوفمبر 1987.

ان المقاربة التونسية للتصدّي لجميع أشكال الإرهاب ولمختلف مظاهر العنف والتطرّف والتعصّب والكراهية عملت على الربط بين مفاهيم السلم والأمن والتنمية، وذلك ضمن الاتجاهات الأربعة التالية :

أولا : العمل من خلال علاقات تونس الاقليمية والدولية على ايجاد حلول عادلة ودائمة لأمهات القضايا الدولية الراهنة.

ثانيا : الدعوة إلى وضع مدوّنة سلوك دولية لمكافحة الإرهاب وإلى تكثيف التنسيق والتعاون داخل المجموعة الدولية في هذا المجال.

ثالثا : الدعوة إلى إنشاء صندوق عالمي للتضامن صادقت عليه الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة بالاجماع وهي دعوة تتجدّد راهنيتها اليوم على الصرخات المتتالية للمناهضين للعولمة أو للحدّ من آثارها السلبية واستتباعاتها الخطرة خاصة على دول الجنوب.

رابعا : الدعوة إلى تنشيط الحوار بين الحضارات والأديان وهي دعوة توجتها تونس بانشاء "كرسي بن علي للحوار بين الحضارات والأديان".

إنها مقاربة تنطلق من تشخيص القيادة التونسية الدقيق للأوضاع الدولية وتعقدها وتشابكها، ومن عزم صادق على إرساء دعائم الاستقرار العالمي سواء على مستوى الساحات الداخلية للدول أو على مستوى العلاقات بين الدول، وذلك بنزع فتائل الصراع والتوتر ورفع المظالم الدولية وإيجاد الحلول العادلة للقضايا العالقة وعلى رأسها قضية العرب الأولى، القضية الفلسطينية.

لقد آمنت تونس إيمانا راسخا، بأن التطرّف لا يخدم أية قضية وأن منطق العنف لا يولّد إلا شبيهه، لذلك بقدر ما استنهضت الضمير الدولي للقضاء على بؤر التوتر والصراع والتعجيل بحل قضايا الشعوب التي مازالت تعاني الاحتلال حلا يقتضي تخليص تلك الشعوب من القهر المسلّط عليها، ومراجعة السياسات الدولية القائمة على المعايير المزدوجة، فإنها أدانت التطرّف والإرهاب في جميع أشكالهما وطالبت العالم بدراسة خلفياتهما والقضاء على أسبابهما. وفي إطار تحميل المجموعة الدولية مسؤولية أبعاد هذه الظاهرة، اعتبر الرئيس بن علي في حديث له لصحيفة "لوفيغارو" الفرنسية عام 1994 ان الإرهاب أصبح قضية غربية، وذلك لان عواصمه، تلك التي تفاخر بتجاربها الديمقراطية، سمحت لدعاته أن يتخذوها ملاذا لهم، وان يحتموا بقوانينها وبالامتيازات التي تمنحها لهم والتغطية المالية والسياسية التي تمكّنهم منها وتتيح لهم تنفيذ مخططاتهم الإرهابية.

وفي هذا الإطار أيضا كانت دعوة الرئيس بن علي أمام القمة الإسلامية السابعة لـ "اعتماد مدوّنة سلوك بين الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الاسلامي" تلتزم بها أيضا كل أطراف المجموعة الدولية لأجل الحيلولة دون تحقيق المتطرفين لمآربهم وأغراضهم المشبوهة، وذلك من خلال الحدّ من تحرّك العناصر الإرهابية بين الدول ومراجعة احكام منح حق اللجوء السياسي والحيلولة دون استغلال هذا الحق لممارسة انشطة العنف والتدمير التي يذهب ضحيتها المدنيون الأبرياء".

واستكمالا لهذه النظرة الشاملة والجذرية لمقاومة الإرهاب والقضاء على أسبابه دعا الرئيس بن علي إلى تجسير الهوة بين بلدان الشمال والجنوب بإقامة عقود شراكة بين المجموعات الاقليمية تقوم على مبدإ التنمية المتضامنة وذلك تفاديا لاتساع التفاوت بين البلدان وتنامي الشعور بالحرمان والإحباط لدى شعوب كثيرة، أصبحت تمثل أحزمة للفقر حول البلدان الصناعية المتقدمة.

وفي هذا الإطار أيضا انطلقت مبادرة الرئيـــس بن علي بإنشاء صندوق عالمي للتضامن بغية مساعدة الدول الفقيرة على الخروج من دائرة الفقر والخصاصة. ولقد وجدت هذه المبادرة الإنسانية صدى دوليا كبيرا واستجاب لها الضمير الأممي لأنها تجسّم شكلا من أشكال مسؤولية الإنسانية إزاء بعضها البعض، وتكرّس مبادئ التضامن البشري وقيمه في العلاقات الدولية، بعد أن تأكد خلال العقود الأخيرة بأن من أسباب نمو نوازع التطرف والإرهاب وانتشارها، اختلال التوازن بين الشعوب وازدياد الفجوة بين الأمم، وهي من مظاهر المشهد العولمي اليوم التي تضع المجموعة الدولية أمام مسؤولياتها الملحّة. 
 

ويأتي بعث "كرسي بن علي لحوار الحضارات والأديان" استكمالا لإرادة الربط بين السلم والأمن والتضامن، على المستوى العالمي، فلن "تنفجر الحروب بين الآلهة" ـ على حدّ قولة ماكس فيبر ـ طالما تقاربت الشعوب والثقافات والأديان واتسعت دائرة قيمها المشتركة، واتحدّت جهودها من أجل مواجهة التحديات المطروحة اليوم، وعلى رأسها تصاعد موجات الكراهية والحقد والتعصب البغيض وموجات العنف التي ولّدتها مشاعر الإحباط واليأس واختلال الموازين الدولية، والتي يظل تنشيط الحوار بين الثقافات والحضارات والأديان مدخلا من المداخل الأساسية للحدّ منها إن لم يكن القضاء عليها نهائيا. وإن موقع تونس الحضاري، التي تعايشت على أرضها مختلف الحضارات والثقافات والتي تفتخر أنها أرض التسامح والتضامن الإنساني والتي ساهمت في الحضارة الكونية عبر التاريخ فكرا ودينا ومنجزات، فمنها انطلق دستور قرطاج الذي نوّه به أرسطو في كتاباته السياسية، ومنها انطلقت آراء القديس أوغسطين التنويرية، وفلسفة علم الاجتماع الخلدونية التي أسّست علم فهم المجتمع المدني، إن كل هذا بالإضافة الى ايمان قيادتها السياسية وشعبها وتشبعه بالقيم والمبادئ الإنسانية، ليؤهل هذا البلد الذي يمثل بوّابة افريقيا والعالم العربي على الضفة الغربية للمتوسط أن يعلب دورا في تنشيط الحوار بين الثقافات والأديان تقريبا للشعوب واطفاء النزاع والفتن. 
 

إن بعث "كرسي بن علي لحوار الحضارات والأديان" آلية أخرى من الآليات التي تجسّم بها تونس هذه القناعة بأن أمام الأديان والحضارات مجالات واسعة للعمل المشترك من أجل إسعاد الإنسانية عبر تضميد جراحها والعمل على تماسك أفرادها، وإطفاء حرائقها، لتدخل عهدا جديدا ينهي عقود البربرية التي عاشها العالم المعاصر خلال السنوات الماضية. وتأتي هذه القناعة على رأس المبادئ والأفكار التي لا ينفك الرئيس بن علي يدعو إليها ويعمل على ترسيخها، حيث يقول في خطاب ألقاه بمناسبة مرور ثلاثة عشر قرنا على إنشاء الجامعة الزيتونية : "إن أمام الأديان مجالات عمل واسعة، تلتقي فيها بما تسعى إليه لتحقيق سعادة العزائم الصادقة لبناء عالم أفضل. وهو ما يدعو جميع قوى الخير في العالم إلى نبذ التحجر والانغلاق، والوقوف بحزم أمام ظواهر التطرف بأشكاله وأصولها المختلفة، الدينية منها والثقافية والعرقية، والذي شوّه تاريخ الإنسانية في عديد الفترات بالفتن والعسف والحروب، حتى تصان كرامة الإنسان وحرمته وحقه في الحياة وفي الحرية من مخاطر العنصرية والإرهاب والميز الاجتماعي في كل المجتمعات على حد سواء".

المصدر: http://www.5plus5.tn/arabic/initiatives2.htm

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك