دعوة إلى التفكير في واقع الحداثة

كريمة بداوي

يحاول الفكر الحديث الشائخ اليوم، عبثاً أن يتدارك هفواته وأخطاءه المنهجية، النابعة عن فصله بين القيم، ولعل من أخطرها تمزق النظام الأسري؛ فالغرب بات يشعر بالأزمة الأخلاقية التي نجمت عن تدمير أول خلية في مجتمعاته، وما البرامج الاجتماعية التي تحاول رأْب هذا الصدع، إلاّ رجع صدى للتحذيرات التي أطلقها بعض المفكرين الغربيين، الذين استبان لهم أن الحداثة التي تمحو المقدس، وتعقلن الأمور إلى درجة تلغي معها العاطفة والأخلاق، لابد أن تُراجع و تُنتقد.

ومن بين المشاريع الاجتماعية التي نالت رواجاً في المجتمع الألماني على سبيل المثال: مشروع (استعارة الأجداد)، و مشروع(الأخت الصغرى) الأول يقوم بالتنسيق بين كبار السن - ممن لا أبناء لهم أو لا أحفاد يزورونهم - وبين أطفال صغار قصْد قضاء أوقات يستمتع فيها الطرفان بالمشاعر الفطرية التي تجمع الجد بالحفيد، أما البرنامج الثاني فيعمد إلى توفير فرص اللقاء بين شابتين من عمر زمني مختلف نسبياً، وتجري الأمور غالباً بأن تتقدم أسرة البنت الصغرى بتقديم طلب الحصول على أخت كبرى لابنتها، وبملء استمارة مواصفات تراها مناسبة لاختيارها، حتى تتمكن الفتاتان معاً من التخلص من مشاعر الوحدة التي تؤدي إلى الإحباط و الاكتئاب.

قد يبدو الأمر مثيراً أو مسلياً بالنسبة لنا، فنحن لا نعاني من مشاكل أسرية على نحو يدعونا إلى استعارة الأجداد و الأحفاد أو الأشقاء! لكن أليس في ذلك ما يدعو إلى التأمل في واقع الحداثة الغربية، والنظر في مسلمات فلسفاتها التي تقوم على إبعاد الاتجاهات اللاعقلانية وتصفيتها، وفي مقدمتها الدين والأخلاق.

إن حداثة تقوم على تحقيق أقصى درجات الفعالية، من أجل حصول الفرد على أحسن متوسط دخل مالي، دون مراعاة لمتطلباته الروحية، هي التي أغرقت العالم الغربي في أوحال المادية الصرفة، وقضت على كثير من قيمه الإنسانية الأصيلة، من بينها فطرة تكوين الأسرة ورعايتها، طالما أنه في الإمكان إشباع الرغبات الجنسية خارج مؤسسة الزواج، وهو ما أدى في النهاية إلى تلاشي وتدمير شبكة الروابط الاجتماعية.

والكثير من المثقفين المسلمين من الذين سُحروا وفُتنوا بأشياء الغرب وأفكاره لا يقدرون التكاليف التي قد ندفعها في حالة انسياقنا وراء دعاواتهم الرامية إلى تقليد القوالب الفلسفية الغربية، فالأفكار الجاهزة لا تبتكر حداثة، طالما أن روح الحداثة تعني النقد والابتكار والجدة، وعلى حد تعبير طه عبد الرحمن (الحداثة الحقة حداثة قيم لا حداثة زمن).

صحيح أن الاستفادة من الإنجازات العلمية التقنية أو من التجارب البشرية المتراكمة في حقل العلوم الإنسانية أمر لا مندوحة عنه، بالنسبة لكل مجتمع ناشئ متطلع للنهوض، لكن مراعاة شروط الاقتباس بما يتناسب مع حاجات هذا المجتمع وأصوله الثقافية أساس كل انفتاح واعٍ ومسؤول.

إن التخلص من وطأة الوصاية على كل جديد يدخل عالم أفكارنا، والاحتكام إلى منهج النقد والتمحيص، سيفتح أمام العقل المسلم آفاقاً تمكنه من إبداع حداثته الخاصة، التي لا تعني القطيعة مع التراث، بل إحياء فريضة الاجتهاد في ضوء قواعد الشرع الكلية، والمحافظة على مقاصد الشريعة العامة، واستخدام مبدأ التسخير في التعامل مع الطبيعة بدلاً عن السيادة والغلبة، وإقامة التعارف بين مختلف الشعوب والأمم، سبيلاً ومنهجاً قرآنياً، ينهي عهد الاستغلال والسيطرة التي تتستر بقناع العولمة.

المصدر: http://www.islamtoday.net/nawafeth/artshow-53-10482.htm

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك