العهدة العمرية
العهدة العمرية
الدكتور شفيق جاسر أحمد محمود
رئيس قسم التاريخ بالجامعة
مناقشة نص كتاب الصلح الذي قيل إن عمر بن الخطاب قد منحه لأهل القدس كان من عادة المسلمين أن يمنحوا أهل الذمة، في المدن التي يفتحونها صلحاً، عهداً يتعهدون بموجبها، حمايتهم ومنحهم حرية العبادة وممارسة حياتهم المعتادة، مقابل دفعهم الجزية والدخول في طاعة المسلمين.
وقد تفاوتت هذه العهود في الشروط التي اشترطتها عليهم، والحقوق والامتيازات التي ضمنتها لهم, حتى أن نصوص العهد الواحد قد رويت بصيغ مختلفة. وقد كان التحريف أو التزوير يحدث من قبـل أهـل الـذمة أنفسهم، طمعاً في اكتساب حقوق جديدة إضافة إلى الحقـوق التي منحهم إيـاهـا المسلمـون، أو تخفيفـاً لبعض الشروط التي اشترطها المسلمون عليهم. وهم في هذا متأكـدون بأن ذلـك سينطـلي على المسلمـين، في الأغلب، ذلـك أن المسلمين في ذلك العهد المبكر، لم يكونوا يحتفظون بنسخ من هذه العهود، حتى أن بعض أهـل الـذمـة قد وضعـوا عهـوداً ليس لها أصول على الإطلاق، وفي بعـض الأحيـان كان النصارى خاصة يحرفون في عهودهم عندما يلمسون ضعفاً من المسلمين في بلادهم.
ومن العهـود المشهـورة التي شغلت المـؤرخين والباحثين زمناً طويلاً (العهدة العمرية) وهـو الاسم الـذي أطلق على العهـد الذي قيل إن الخليفة العادل عمر بن الخطاب، رضي الله عنـه قد منحـه لأهـل القـدس حينـما جاء لتسلمهـا من بطريرها صفرونيوس في العام الخامس عشر للهجرة!!؟.
ومن الغـريب أن المصادر الإسـلاميـة الأولى لم تشـر إلى ذلـك العهد، فأول مصدر إسلامي أشار إليه هو اليعقوبي، ثم أورده من بعده ابن البطريق وابن الجوزي، والطبري، ومجـير الـدين العليمي، وأورد فيما يلي مجموعة الروايات المختلفة التي وردت في هذه المصادر التاريخية لهذا العهد.
1- نص اليعقـوبي:
أورد اليعقـوبي المتوفى عام 284 هـ نصاً مختصراً لهذا العهـد جاء فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما كتبه عمر بن الخطاب لأهل بيت المقدسِ: إنكم آمنون على دمائكم وأموالكم وكنائسكم، لا تسكن ولا تخرّب، إلا أن تحدثوا حدثاً عاماً, وأشهد شهودا"[1].
2- نص ابن البطريق:
وقد أورد أفثيشيوس (ابن البطريق) المتوفى سنة 328 هـ، صيغة تشبه صيغة اليعقوبي جاء فيـه: "بسم الله، من عمر بن الخطاب لأهـل مدينـة إيلياء، إنهم آمنون على دمائهم وأولادهم وأموالهم وكنائسهم، لا تهدم ولا تسكن, وأشهد شهوداً"[2].
3- نص ابن عساكر:
أورد ابن عساكر المتوفى عام 571 هـ عهد عمر على صيغة شروط وضعها أهل الذمة على أنفسهم في كتاب وجهوه للخليفة عمر بن الخطاب عندما جاء إلى الشام وهذا نصه:- "عن عبد الله ابن غنم أن عمر بن الخطاب كتب له النصارى حين صالحوه عهدا يقولون فيه: بسم الله الرحمن الـرحيم، هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى أهل الشام إنكم لما قدمتم علينـا سألنـاكم الأمـان لأنفسنـا وأهالينا وأموالنا وأهل ملتنا، على أن نؤدي الجزية عن يد ونحن صاغرون، وعلى ألا نمنع أحداً من المسلمين أن ينزل كنائسنا في ليل أو نهار، ونضيفهم فيهـا ثلاثـاً، ونطعمهم الطعـام ونـوسع لهم أبوابها، ولا نضرب فيها بالنواقيس إلا ضرباً خفيفا، ولا نرفع فيهاأصواتنا بالقراءة، ولا نؤوي فيها ولا في شيء من منازلنا جاسـوساً لعدو لكم, ولا نحدث كنيسة ولا ديراً ولا صومعة ولا قلاية, ولا نجدد ما خرب منها، ولا نقصد الاجتماع فيما كان منها من خطط المسلمين وبين ظهرانيهم، ولا نظهر شركـاً ولا ندعوا إليـه، ولا نظهر صليباً على كنائسنا، ولا في شيء من طرق المسلميـن وأسواقهم، ولا نتعلم القرآن، ولا نعلمه أولادنا، ولا نمنع أحداً من ذوي قراباتنا الدخول في الإسلام إذا أراد ذلك، وأن نجز مقادم رؤوسنا، ونشد الزنانير في أوساطنا، ونلزم ديننا، ولا نتشبه بالمسلمين في لباسهم ولا في هيئتهم، ولا في سروجهم، ولا في نقش خواتيمهم فننقشها نقشـاً عربيا، ولا نتكنى بكناهم. وعلينـا أن نعظمهم ونـوقرهم، ونقوم لهم من مجالسنا، ونرشدهم في سبلهم وطرقاتهم، ولا نطلع في منازلهم، ولا نتخذ سلاحا ولا سيفا، ولا نحمله لا حضـر ولا سفر في أرض المسلمـين، ولا نبيـع خمراً ولا نظهرها، ولا نظهر ناراً مع موتانا في طريق المسلمين، ولا نرفع أصواتنا مع جنائزهم، ولا نجاور المسلمين بهم، ولا نضرب أحداً من المسلميـن، ولا نتخـذ من الرقيق ما جرت عليـه سهامهم. شرطنا ذلك كله على أنفسنا وأهل ملتنا. فإن خالفنا فلا ذمة لنا ولا عهد، وقد حل لكم منا ما يحل لكم من أهل الشقاق والمعاندة"[3].
وذكـر مجير الـدين المتوفى سنة 927 هـ أن الخليفة عمر بن الخطاب عندما جيء إليه بهذا الكتاب زاد فيه "ولا نضر بأحد من المسلمين. شرطنا لكم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا وقبلنا عليه الأمان، فإن نحن خالفنا شيئاً مما شرطنا لكم وضمناه على أنفسنا فلا ذمة لنا". وأضاف مجير الـدين بأن هذا العهـد قد رواه البيهقي أيضـاً واعتمده أئمة المسلمين والخلفاء الراشدون وعملوا به[4].
4- نص ابنِ الجـوزي:
أورد ابن الجوزي المتوفى في عام 597 هـ ما يلي: "كتب عمر (بن الخطاب) لأهل بيت المقدس إني قد أمنتكم على دمـائكم وأموالكم وذراريكم وصلاتكم، وبيعكم، لا تكلفون فوق طاقتكم, ومن أراد منكم أن يلحق بأمته فله الأمان, وأن عليكم الخراج كما على مدائن فلسطين"[5].
5- نص الطبري ومجير الدين العليمي المقدسيِ:
أوردَ مجير الـدين العليمي المقـدسي المتوفى سنـة 927 هـ نصاً منقـولاً عن نص الطـبري، الـذي أسنـده لسيف عن أبي حازم وأبي عثـمان عن خالـد وعبادة، بأن عمر بن الخطاب صالح أهل إيلياء بالجابية وكتب لهم:
"بسم الله الـرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبـد الله أمير المؤمنين عمر، أهل إيليا من الأمـان، أعطـاهم أمـانـاً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم ولصلبانهم ومقيمها وبريئها وسائر ملتها، إنها لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حدها ولا من صلبانهم، ولا شيء من أموالهم، ولا يكـرهـون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيليا معهم أحـد من اليهود، وعلى أهـل إيليا أن يعطـوا الجـزيـة كـما يعطي أهل المدائن (يقصد مدن فلسطين)، على أن يخرجوا منها الروم واللصوص، فمن خرج منهم فهو آمن على نفسه وماله حتى يبلغـوا مأمنهم، ومن أقـام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيليا من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم، ويخلي بيعتهم وصليبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعتهم وصليبهم حتى يبلغوا مأمنهم, ومن كان فيها من أهل الأرض، فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على إيليا من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أرضه، فإنه لا يؤخذ منه شيء حتى يحصد حصادهم, وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمته، وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين، إذا أعطوا الذي عليه من الجزية.
شهـد على ذلـك خالـد بن الـوليد، وعمرو بن العـاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان. كتب وحضر سنه خمس عشرة[6].
6- النص المعتمد حاليا:
وآخـر هذه النصـوص، النص المعتمـد حالياً لدى كنيسة القدس الارثوذكسيه والذي نشـرتـه بطـريركيـة الروم الأرثوذكس عام 1953م، وهو الأساس الذي ينظم العلاقة بين السلطات الإسلامية الحاكمة للقدس، والنصارى فيها. وهذا نصه:
"بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام، وأكرمنا بالإيمان، ورحمنا بنبيـه صلى الله عليه وسلم، وهـدانـا من الضلالة، وجمعنا بعد الشتات وألف قلوبنا، ونصرنا عَلى الأعداء، ومكن لنا من البلاد، وجعلنا إخواناً متحابـين، واحمدوا الله عباد الله على هذه النعمة.
هذا كتاب[7] عمر بن الخطـاب لعهـد وميثـاق أعطي إلى البطرك المبجل المكرم وهو صفرونيـوس بطرك الملة الملكية في طورزيتا بمقام القدس الشريف في الاشتمال على الرعايا والقسـوس والـرهبـان والراهبـات حيث كانـوا وأين وجدوا، وأن يكون عليهم الأمان، وأن الذمي إذا حفـظ أحكام الـذمـة وجب له الأمان والصون منا نحن المؤمنين وإلى من يتولى بعـدنا وليقطـع عنهم أسبـاب جوانحهم كحسب ما قد جرى منهم من الطـاعة والخضوع، وليكن الأمان عليهم وعلى كنائسهم وديارهم وكافة زياراتهم التي بيدهم داخلا وخارجاً وهي القمامة وبيت لحم مولد عيسى عليه السلام كنيسة الكبراء، والمغارة ذي الثلاثة أبواب، قبلي وشـمالي وغربي، وبقيـة أجنـاس النصارى الموجودين هناك، وهم الكرج والحبش، والذين يأتـون للزيـارة من الإفرنج و القبـط والسـريـان والأرمن والنساطرة واليعاقبة والموارنة تابعين للبطرك المذكور, يكون متقدما عليهم لأنهم أعطوا من حضره النبي الكريم والحبيب المرسل من الله وشـرفـوا بختم يده الكريم، وأمر بالنظر إليهم و الأمان عليهم، كذلك نحن المؤمنون نحسن إليهم إكراماً لمن أحسن إليهم، ويكـونوا معافاً (معافيين) من الجزية والغفر (الخفر) والمـواجب، ومسلمين من كافـة البـلايـا في البر والبحور وفي دخولهم للقمامة وبقية زياراتهم لا يؤخـذ منهم شيء, وأمـا الـذين يقبلون إلى الزيـارة إلى القمامة، يؤدي النصراني إلى البطرِك درهم (درهما) وثلث من الفضة، وكل مؤمن ومؤمنة يحفظ ما أمرنا به سلطاناً كان أم حاكـماً والياً يجرى حكمه في الأرض, غني أم فقير من المسلمين المؤمنين والمؤمنات. وقد أعطى لهم مرسومنا هذا بحضور جم الصحابة الكرام، عبد الله، وعثمان بن عفان وسعد بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وبقية الأخوة الصحابة الكرام. فليعتمد على ما شرحنا في كتابنا هذا ويعمل به، وأبقاه في يدهم، وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله و أصحابه، والحمد لله رب العالمين حسبنا الله ونعم الوكيل.
في العشـرين من شهر ربيـع الأول سنة خامس وعشـر للهجـرة النبـويـة. وكـل من قرى (قرأ) مرسـومنا هذا من المؤمنين وخالفه من الآن والى يوم الدين فليكن لعهد الله ناكثا ولرسوله الحبيب باغضاً[8].
مناقشـة هذه النصوص
من المرجح أن مكانة القدس لدى النصارى من أهم أسباب تعدد الرِوايات للعهدة العمـريـة، واختلاف نصـوص هذه الروايات، وقد كان هذا الاختلاف قليلا، كـما نراه بين روايات اليعقوبي وابن البطريق وابن الجوزي، أو جزئيا أحيانا أخرى كـما هو الحال بين هذه النصوص ونـص الطبري ومجير الدين. أوكلياً، في الصيغة والأسلوب والمحتوى، كـما هو يبين الروايات المذكورة ورواية ابن عساكر, ورواية الوثيقة التي نشرتها بطريركـية الروم الأرثوذكس سنة 1953م.
ومكانة القدس لدى النصارى تعود إلى أنها تضم أقدس مقدساتهم، ومحجهم الذي يحجـون إليـه، ومقـر بطـريركيـة الـروم الأرثوذكس. فكان هذا التحريف تلبية لرغبتهم في الحصـول على أكـبر قسـط من الامتيـازات والتسهيـلات لهم، وللحجـاج من الطـوائف الأخـرى، وخاصة حجـاج الإفرنج، مستغلين في ذلك علمهم بأن المسلمين لا يحتفظون بنسخة من هذا العهد، وبعض فترات ضعف السلطة الإسلامية.
إنّ المطلع على أسلوب الكتابة عامة، وكتابة العهود والمواثيق والمراسلات الرسمية خاصـة في عصـر صدر الإسـلام، يدرك أنهـا كانت تعمد إلى الاختصار، وتبتعد عن المقدمـات، وألفاظ التفخيم، والمحسنات، وتعـالـج الموضـوع المقصود مباشرة، بأوضح الألفاظ وأقـل الكلمات. كـما أن من غير المحتمل ولا المقبول عقلاً أن ترد في هذه الروايات شروط وعهود تنظم أحوالاً وأوضاعاً لم تكن قد وجدت بعد.
لذلك يتوقع المطلع والمؤرخ أن يكون هذا العهد مصوغاً بأسلوب ذلك العصر، وأن يتضمن نصاً يعطي لأهل الذمة أماناً على أنفسهم وأموالهم وذراريهم وعبادتهم، مقابل دفع الجزية والدخول في طاعة المسلمين[9].
وبناء على ذلك نستنتج أن أقرب النصوص توافقاً مع مثل هذه الصيغة المتوقعة هو ما نقلناه عن اليعقـوبي[10]، وابن البطريق[11]، وابن الجوزي[12]. وذلك لأن هذه النصوص قد جاءت مختصـرة، ومعـانيها وألفاظها أقرب ما تكون لما هو متوقع من عهد كتب في ذلك العصر، وإنها وإن اختلفت بعض الكلمات فيما بينها، تشير إلى أنها قد أخذت عن مصدر واحد. والأرجح أن اليعقوبي قد روى عن مصدر أقدم منه قد يكون سيف وإن لم يشر إلى ذلـك، كـما يرجـح أن ابن البطريق قد نقل عن اليعقـوبي أو عن مصـدر نصراني. أما ابن الجوزي فإنه قد نقل عن أحدهما، على الأغلب.
أما النص الذي أورده الطبري عن سيف، والنص الذي أورده مجير الدين عن سيف أيضاً وعن آخرين، فبالرغم من ورود بعض الاختلافات بينهما، إلا أنه من المرجح أنهما أخذا عن مصـدر واحـد، وإن مجير الـدين قد أخـذ عن الطبري، مع بعض التصرف في النص, هذه واحـدة، أمـا الثانيـة فهي أن ما ورد فيهـما من تحفظات وشـروط قصد بها مصلحـة النصارى، كالتعهد بعدم هدم الكنائس، وعدم إكراههم على دينهم، وعدم مساكنة اليهود لهم بالقدس، وغـيرهـا[13]، يدعو للشـك فيهـما، ومما يقوى هذا الشك أنهما وردا مفصلين ومطولين، مع أن عهود المدن الأخرى جاءت مختصرة وبسيطة، بالغة البساطة كعهد حمص, ومما يؤكده أيضاً أن الطبري ومجير الدين الذي نقل عنه، أشارا إلى أنه أعطي لأهل القدس في الجـابيـة، مع أن المشهـور أنه أعطى لهم في القدس نفسها[14]، كـما أن التحفظات المذكورة تنافي الـواقـع ولم تذكر الروايات الأولى ما يؤيدها. ومن المحتمل أن هذا العهد قد وضع في فترة لاحقـة حيث يذكـر الـدكتور عبـد العـزيز الـدوري "أن الأمر لم يخل من ادعاءات يهوديـة"[15]. كـما تدعي روايـة يهوديـة بأن اليهـود طلبوا من عمر بن الخطاب السـماح لهم باستقدام مائتي عائلة يهوديـة من مصـر للسكن في القـدس، ولكن البطـريق صفرونيـوس عارض ذلك، فسمح عمر بن الخطاب لسبعين عائلة بالحضور من مصر وأسكنهم جنوب الحرم[16] القـدسي. ويسهـل كشف كذب هذا الادعاء ببساطة، فمصر قد فتحت بعد فتح القدير بأربع سنوات.
ومن المحتمل أن عبارٍة "ألا يساكنهم فيها اليهود" المذكورة في النصين إنما تدل على أن القدس كـما هو معلوم تاريخيا كانت خالية من اليهود، ولم يشأ النصارى أن يسكنها اليهود من جديـد تحت حكم المسلمين. وليس كما فسـرهـا اليهـود سن أن اليهـود كانوا يسكنـون في القدس, واشترط النصارى على المسلمين إخراجهم منها.
أما النص الذي أورده ابن عسـاكر، والـذي أورد مجيرالدين نصاً يشبهه بالإضافة للنص المـذكـور سابقـاً، فمن المستبعـد جداً أن يكـون صحيحا، بالإضافة إلى أنه يفيد بأنه وضع لأهل الشام عامـة وليس لأهل القدس خاصـة كـما ذكر مجيرالـدين. كـما أنـه من المستغـرب أن يضع المغلوبـون الشروط التي يرتضـونها لينعقد الأمان لهم على يد الغالب، كـما أنه من غير المنطقي أن يتعهـد النصـارى بعـدم قراءة القرآن في الوقت الذي يستشهدون بآية منه في النص نفسه {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}. ويلفت النظر أيضاً اختلاف هذا النص المطول عن عهود المدن الأخرى التي كانت بالغـة البساطة، وإنه نص يدل على وجود صلات قوية بين المسلمين والنصارى أقوى من الصلات الفعلية التي كانت في مستهل أيام الفتح, وأنه احتوى شروطاً لأمور لم تكن موجـودة في ذلـك الـزمن، كجـز المقادم وشد الزنـانـير ونقش الخـواتم والتكني بكنى المسلميـن... ويبـدو أن مثل هذا النموذج من العقود كانت تضعه المدارس الفقهية الإسلامية لتصور واجبات وحقوق لأهل الذمة كالنموذج الوارد في كتاب الأم للشافعي[17] .
من هذا كله نرى أن هذه الروايـات لنصـوص العهود المسـماة بالعهدة العمرية قد وسعت وطورت على الزمن تبعـاً لتطـور أحوال أهل الذمة منذ عهد عمر بن عبد العزيز وهارون الرشيد والمتوكل إلى عهود بعدها لأنها احتوت شروطاً لأمور لم تكن موجودة أو معروفة زمن الفتح، فطورت من نصـوص مختصـرة، أقـرب ما تكـون للحقيقـة، كنصـوص اليعقوبي، وابن البطريق وابن الجـوزي، إلى نصـوص مطـولـة تحتوي شروطاً مستهجنة كنص الطبري ومجير الدين[18] أو نص مختلف في الصيغة والشروط والمحتويات كنص ابن عساكر[19].
أما النص الأخـير الـذي نشرته بطريركية الروم الأرثوذكس بالقدس عام 1953 ميلادية، فإن جميـع الـدلائـل، من أسلوب، وألفاظ، وأحكـام، ومعلومات تاريخيـة، تشـير إلى أنـه غير صحيح. وسوف أقوم بتفنيده في بحث آخر إن شاء الله.
ولعـل من المفيـد أن نعلم في نهايـة البحث أن المـؤرخ فيليب حتي ينكـر وجـود العهدة العمرية[20] ذاتهـا، بدعـوى أن مؤتمر الجابية الذي عقده الخليفة عمر بن الخطاب، لبحث الأمور الإدارية بالشـام، لم يعـرف بالضبط ما الذي دار فيه وما هي القرارات التي اتخذها[21] معتمداً في ذلـك مع المؤرخ ترتون[22] على اختـلاف روايـات تلك النصوص، واحتوائها على معلومات وأحكـاماً وجـدت في عصـور تاليـة لعصر الفتح. وإنني لا أوافقه على نفي وجود مثل هذا العهد أصلا. والله اعلم.
ا لمرا جع
1- ابن البطريق، أفشيشيوس الإسكندري، المتوفى عام 328 هـ؛ التاريخ المجموع على التحقيق والتصديق، بيروت 1904م.
2ـ ابن الجـوزي، أبو الفـرج عبـد الرحمن علي بن الجوزي: المتوفى 597 هـ فضائل القدس، تحقيق د.جبرائيل سليمان بيروت 1980 م .
3- ابن عساكر، علي بن الحسن بن هبة الله… الدمشقي الشافعي أبو القاسم، المتوفى عام 571 هـ، تاريخ تهذيب دمشق وأخبارها ... (التاريخ الكـير)، دمشق دار المسيرة/ بيروت 1329هـ.
4- أحمد زكي صفوت: جمهرة رسائل العرب مصر 1917م.
5- البلاذري/ أحمد بن يحي بن جابر بن داود البغدادي (القرن الثالث الهجري): فتوح البلدان، القاهرة 1956 م.
6- Tritton (A.s)the calisphs and their non _ moslim subjects oxford 1930
7- حتى، تاريخ العرب، مطول بيروت.
8- الشافعي، محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع القرشي المطلبي الشافعي الحجاز المكي أبو عبد الله (150 ـ 204 هـ)، الأم، القاهرة 1325 هـ.
9- الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير (224-310): تاريخ الرسل والملوك، طبعة طهران.
10- عارف الغارف: المسيحية في القدس، القدس 1951 م.
11- د.عبـد العزيـز الدوري: (فكرة القدس في الإسلام) بحث أعده للمؤتمر التاريخي لبلاد الشام (فلسطين) المنعقد بالجامعة الأردنية سنة 1980م.
12- مجير الـدين الحنبـلي، عبـد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد العليمي المقدسي، (810 - 927 هـ)، الإنس الجليل بتاريخ القدس عمان 1977.
------------------------------------------------------------
[1] اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي: ج 2، ص 46.
[2] ابن البطريق: التاريخ المجموع على التحقيق والتصديق، 2، ص 147.
[3] ابن عسـاكـر: تهذيب تاريـخ دمشق، ج ا ص 179, انظـر مجير الـدين: ج ا ص 254, الطبري: ج 3 ص609, شذرات الذهب، ج1 ص 28, ذكر أن عقد الصلح كتب على جبل الطور بالقدس.
[4]مجير الدين: الإنس الجليل و تاريخ القدس والخليل، ج ا ص 255, انظر جرجي زيدان ج4 ص 109, تاريخ العرب.
[5] ابن الجوزي: فضائل القدس ص 123-124.
[6] محير الدين: الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل، ج اص253.
[7] لدي نسخه مطبوعة عام 1953 نشرتها بطريركية الروم الأرثوذكس بالقدس، وفي أعلاها صورة للخليفة عمر بن الخطاب يقود جملا يركبه خادمه أمام أسوار القدس التي وقف عليها النصارى يشاهدون هدا المنظر، صفرونيوس يتقدم لاستقبال الخليفة.
[8] انظر: أحمد زكي صفوت: جمهرة رسائل العرب، رسائل الخلفاء الراشدين.
[9] انظر البلاذري: فتوح البلدان ص 139.
[10] اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي، ج 2 ص 167.
[11] ابن البطريق: التاريخ المجموع على التحقيق والتصديق، ج 2 ص16.
[12] ابن الجوزي: فضائل القدس، ص 125.
[13] الطبري: تاريخ الرسل والملوك، ج 1، ص 2405- 2406.
[14] البلاذري: فتوح البلدان، ص 131.
[15] عبد العزيز الـدوري: فكـرة القدس في الإسلام، بحث أعده للمؤتمر التاريخي لبلاد الشام (فلسطين) المنعقد بالجامعة الأردنية سنة 1980م.
encyclobidia judacia Art Jerusalem[16].
[17] الإمام الشافعي: الأم، ج 4، ص118.
[18] مجير الدين: الإنس الجليل في تاريخ القدس والخليل، ج 1 ص 253-254.
[19] ابن عساكر: تهذيب تاريخ دمشق، ج ا، ص 179.
[20] انظـر عارف العارف: المفصّـل في تاريـخ القـدس، ص 91-92, وعبد العزيز الدوري: بحث بعنوان (فكرة القدس في الإسلام)، ص 11: 8.
Tritton;The caliphe and their non - Muslim subjects P5
[21] حتى فيليب: تاريخ العرب، ج 3 ص 19-20.
Tritton;The caliphe and their non - Moslem subjects12.[22]