المرجعية الفكرية للأديب العربي بين الثبات والتأرجح

كثيرةٌ هي الجُمَل المنتقاة الْمُنَمَّقة المتناثرةُ في أنسجة الحوارات المتناسلة المبثوثة هنا وهنالك، تلك المتضمنة للمعاني المعبرة عن الدوافع للكتابة لدى الأدباء.

كلماتٌ رنّانة تَتَفَتَّقُ من خلالها عبقريةُ كُلِّ أديبٍ في وصف تلكم الأحاسيس الجيّاشة، والمشاعر المتداخلة، التي تحدو به إلى نَفْثِ زفرات أنفاس حناياه "المتأججة"، والتي لا يمكنه تفادي إخراجها والوقوف ضدها، وذلك تحت طائلةِ اختناق إنسانيته ،وموت حقيقة كيانه، حسب تصريحاته و مضمون قوله.

هي تعابِيرُ تتعدد وتشترك في كونها الجواز، يستبيح بواسطته الأديبُ إضافةَ نفسه إلى قائمة الأدباء، وحتى أولئك المفكرين الغاصّة أدمغتهم وأذهانهم بأدواتٍ وآلياتٍ تشتغل، ولا يستطيعون معها شيئا، تُحَمِّلهم ما لا طاقة لهم على حَمْلِه، من هموم وانكساراتٍ وأوجاعٍ وآمالٍ وأحلامٍ للإنسانية جمعاء!

ولعلّ السمةَ المشتركة أيضا، وتلك الغالبة المُميِّزة أيضا، هو ذلك الجنوحُ الجامح لإشعار المتلقي بالصدق، وبالشفافية كامنةً في ثنايا النفس، ويستحيل معها تغيير حتى أبسط المعالم والمكونات الباعثة على إفراز سيل الأحرف والكلمات.

ولا شك أنّ لكل أديب أيديولوجيا وتَوَجُّهًا عقديًّا خاصَّيْن، و يَمْتَحُ منهما مضامين ما تنتجه خلايا عقله الواعي، وكذا لا وعيه، من أنساقٍ كلاميةٍ، ممهورةٍ بمميزات وخاصِّيَّات شتى الأجناس الأدبية، من شعرٍ وقصةٍ ورواية.. وهَلُمَّ جَرّا!

لكن ثمة أسئلة تبدو مؤرقة: 

ـ أهي تلك المرجعيات الفكرية ثابتة ومتجدرة، ومنتجة حقيقة لدافع الكتابة لدى الأديب العربي، أو ذلك الْمُنْتِجِ للأدب العربي ؟

ـ أ هو الصادق فعلا حين يتحدث في الحوارات معه - و حتى في سيرته الذاتية - عن مصادر معرفية معينة، يتبنى الانتساب إليها، بل ويعتبرها الفريدة الملهمة له، والموحية بانفعالاته، والبانية لصروح إبداعاته؟

فلا بد للقناعات -لكي تكون مقنعة- أنْ تكون السمةُ واضحةً، ظاهرةً ومُضْمَرَةً، في كل ما يُنْتَجُ و يُبْدَعُ ويُقَالُ، ويُتَحَدَّثُ به في كل المواقف والمناسبات، حتى الخاصّة منها.

فلا شيءَ أَضَرّ للأديب - ذلك المبدع الناحي نحو السمو ورفعة الفكر - من تناقُضٍ يخدش صفحةَ شَخْصِه، ويُدْنِي من نصاعة معاني كلماته.

وقبل البحث عن أسباب هذا الارتجاج المرجعياتي، وذلك الانتفاء لوحدة التوجه، المؤديين إلى فقدان المصداقية، وإلى تردي المكانة و انتقاص الاعتبار، لا بُدَّ من ذكر بعض الأدلة الغالب وجودها، والمنتشرة كينونتها، بهدف توثيق الظاهرة، وحسن التدليل عليها:

1 ـ تمجيدُ النصوص المتضمنة للدعوة إلى نبذ القيم والأخلاق، واعتبارها القيود المكبلة للانطلاق المجتمعي، وحتى اقترافها تلك النصوص بعزة نفس سامقة، وبإصرار راسخ على أن الأدب ما هو إلا ذلك التحرر من تلك الأغلال المقيدة أيضا للإبداع الأدبي، وتلك المحولة له إلى مَسْخٍ على هيئة مواعظ جامدة ثقيلة، تنضح بالكآبة و الحزن الدفين.

كل هذا، ويُرى الأديب في مجمل الأحيان في حياته الخاصة، وحتى في بعض المواقف الْمُعَيَّن،ة ناحيًا نحو اعتبار تلك القناعات السلوكية مجرد حمولة يجب توظيفها حين إنتاج الأدب، من أجل مسايرة الواقع الأدبي الطاغي والمهيمن السائد، إذ حتى وحين يكون الأديب مُنْحَلًّا، وغير عابئ بالأخلاق، فإنه لا يريد أن تمتد أذرع ذلك التفلت لتضم أسرته، وخاصةً شريك الحياة ، ولعل الرجل أكثرُ وَسْمًا بهذه الازدواجية من الأديبة المرأة!

و لقد عَلَّقَ أحد الأدباء "المميزين"في أحد المواقع الأدبية على أحد النصوص القصصية المتحدثة عن انجراف البطلة الجسدي السريع، وراء إغواءٍ مارسه عليها طبيب معالج - و شاركته فيه مُيَسِّرَةً إشعال شرارة الغريزة - فكتب ما مضمونه تقريبا:"... بالرغم من تصفيقنا لمثل هذه النصوص، إلا أنه لا يسعنا إلا أن ننأى بأُسَرِنَا وبناتنا ونسائنا عن التوجهات السلوكية الكامنة فيها ..."!!!

2 ـ الرَّفْعُ من شأن النصوص المشككة في الدين، ومبادئه، وتبجيلها تلك النصوص، والإعلاء من قيمة التيه الوجودي، واعتباره غير الْمُخِلّ بالجمالية ولا بقيمة النص، بل والاعتقاد بأنه العنصر الضروري من أجل إضفاء وَشْمِ الأَدَبِيَّة الرقراق المحرر"المميز" لكل الإبداعات الحداثية...ثم، والظهور في أحيانٍ أُخَر وكأن الدين موجودٌ في الحنايا ،بل مُسْتَجْلَبَةٌ منه الكثير من الإيحاءات والتصرفات....

يموت أحد الزملاء أو الزميلات فتجد من كانت تتناثر ذراتُ ـ أو حتى كتل ـ الشك في وجود الخالق من بين ثنايا كلماته، يترحم على الفقيد بجمل دينية بحتة، بل ومن قبيل المأثور من الأدعية عن الرسول الأكرم صلوات الله وسلامه عليه، ثم تجده يرجو له الجنة، ذلك "المشمول بالرحمة" مُسَبَّقًا حسب قوله، أو حتى يقرر - مستيقنا - أنه من أهل الفردوس الأعلى حتما؛ لما قدمه للإنسانية من خدمات "جليلة".

كل هذا وهو ذلك المؤبِّن ما تزال منشورةً كتاباته وحاضرةً، تلك المستهزئة بالجنة وبالنار وبكل الغيبيات، و حتى الْمُقَزِّمة للمؤمنين بها، و اعتبارها من قبيل الخرافات والأساطير، ابتدعها الإنسان لاستشراء جهله ليس إلا!!

و المشكلة تتفاقم حين يكون الراحل أيضا من المناضلين الدارئين لجهل "الخرافة"الإيمانية عن أنفسهم، ومن المترفعين عن الانتقاص منها تلك الأنفس لهم، بالانغماس في "وحل" الإيمان و تبعاته !!!

فيجد نفسه المسكين بعد وفاته وقد "دُنِّس"، ومن طرف "رفاق" الدرب، بكلمات تأبينية تمتح من الديني "الْمُركس" "المقبوح"، المحسوب على الجهلة وضعاف القدرة على تشغيل الألباب و العقول.

لا شك أن هذين النموذجين الدالين على الازدواجية البَيِّنة يسمحان بالتأكيد على عِظَمِ الخطب وجَسَامَةِ الطامة. 

فكل الأدباء يجعجعون حول صدق ادعاءاتهم بخصوص الدوافع الحقيقية للكتابة، وبشأن المرجعية الفكرية الواحدة الْمُوَحِّدة المؤسسة لتلك الدوافع، لكن يبدو وكأن كل هذا مُجَرَّدُ الهراء في الأغلب الساحق!

فلا بد وأن ما هي كامنة في الحنايا عندهم قناعات... والمُظهرة في الكتابات وفي الإبداعات وفي الحوارات والتصريحات قناعات أخرى و مغايرة للأولى تماما.

بمعنى أن هنالك القيم والمبادئ الهوياتية حاضرة ومتجذرة، وتبدو حين انفراجٍ يسمح ببروز اللاوعي..وأُخْرَى مستجلبة وموضوعة على الواجهة، و تنتمي لِسِجِلٍّ مستوردٍ، مُمْلًى من طرف الغير، يُمكن حين الانضباط والاتباع الحرفي له من نيل الامتيازات ـ و لربما حتى الجوائز ـ من لدن ذلك الغير، ومن لدن حتى المسيطرين على الواقع الأدبي السائد والمهيمن عندنا والمأتمرين بأوامر ذلك الغير، المُسير لهم عن بعد!!

كل هذه التناقضات والانحرافات الفكرية والتذبذبات القناعاتية لا بد وأن تعمل على إثارة الانتباه، وتدفع إلى طرح أسئلة من قبيل: 

ـ أهو الأديب العربي يُعَبِّرُ حقيقةً عن نفسه و عن واقعه و محيطه حين يمارس الكتابة كما يدعي؟؟؟؟ أم هو يُحَقِّقُ ما أُمْلِيَ عليه حين دُجِّن بفعل حملاتٍ فكريةٍ استهدفت هويته، ويفرز ما اصطبغت به واجهةُ ذهنه، ثم ويخُونُهُ عقله الباطن، ويُفْرِزُ ما هو الأصيل في هنيهاتٍ تفرض نفسها لظروف معينة مرة بعد أخرى؟؟؟؟

- أو يكون هو نفسه نَفْسَه حين يكتب، ويُخْرِجُ فعلًا ما تضج به أعماق كيانه ويسكنه من أحاسيس و مشاعر؟ أم أنه المرتزق يستعمل فكر الغير من أجل إخراج خبيئة تلك النفس، يَغْسِلُ كُلَّ ما يخرج منها..."يُطَهِّرُه" من شذرات هويةٍ قد تكون العالقة المتشبثة، قبل أن يسمح له بالظهور على صفحات إبداعاته؟؟؟؟

أسئلة لربما تبدو متشابهة... و لكنها الْمِلْحَاحة، وتُصِرُّ على إيجاد أجوبةٍ نابعةٍ من أغوار الأديب، وكذا تليق به كإنسانٍ ارتأى أن يكون لسانَ حالِ واقعٍ لن يُحْسِنُ التعبيرَ عنه أبدًا ما دام لا يستقيم على وحدة المرجعية، و ما دام لا يقيم لأركان الهوية وَزْنًا....



المصدر:http://www.islamtoday.net/nawafeth/artshow-53-14348.htm

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك