إنفاق العفو.. واستنفار طاقات المجتمع

"إنفاق العفو" مصطلح قرآني وردت الإشارة إليه في كتاب الله تعالى مرتين؛ حيث قال تعالى: {ويسألونك ماذا يُنفقون قُلِ العفو}. [البقرة: 219]، وقال عز من قائل: {خذِ العفوَ وأْمُرْ بالعُرفِ وأَعرِضْ عنِ الجاهلين}. [الأعراف: 199].

وتُعد فكرة "إنفاق العفو" إحدى أهم الأفكار التي جاء بها الإسلام ليحقق بها نماء المجتمع من خلال تحقيق التكافل الاقتصادي والاجتماعي بين أفراده.

والعفو في اللغة: الفَضْل، أي: ما زاد على الحاجة؛ يقول النسفي في شرح الآية الأولى: أي: أنفقوا العفو مما فضل عن قدر الحاجة، ثم يُضيف: وكان التصدق بالفضل فرضًا في أول الإسلام؛ فإذا كان الرجل صاحب زرع أمسك قوت سنة وتصدق بالفضل، وإذا كان صانعًا أمسك قوت يومه وتصدق بالفضل، فنَسَخت آيةُ الزكاة الفضلَ. ومعنى ذلك أنه: إذا كان المجتمع الإسلامي قليل الموارد كان على كل عضو منه أن يَرُدَّ إليه -أي: أن يدفع إلى الفقراء المحتاجين- جميع ما يزيد عن حاجته حتى يمكن إقرار التوازن المعيشي، وهكذا يتسع حق الفقراء في أموال الأغنياء إلى درجة أخذ العفو منهم إذا اقتضت الضرورة ذلك. ويشهد لمشروعية هذا التدبير حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما آمن بي مَن بات شبعانَ وجاره جائع وهو يعلم". رواه الطبراني والبزار والمنذري بإسناد حسن.

ويقول صاحب الظلال يرحمه الله: العفو: الفضل والزيادة، فكل ما زاد عن النفقة الشخصية في غير سرف ولا مخيلة فهو محل للإنفاق.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا ابن آدم، إنك إنْ تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تُلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى". رواه مسلم.

وحيثما وُجد المسلم يوجد نوع من إنفاق العفو يُمَكِّنه من تحقيق التكافل الاقتصادي والاجتماعي الذي هو نفع وخير للمجتمع وأفراده، فالعفو ليس موجودًا عند الأغنياء أصحاب المال فقط، ولكنه موجود عند كل مسلم غنيًّا كان أو فقيرًا، فالغني لديه فضل مال يفعل به الخير، والفقير لديه فضل جهد يفعل به الخير ويقدم به العفو.

ولقد ظن بعض الصحابة من فقراء المهاجرين أن العفو هو العفو المالي فقط، ورأوا أن القدرة المالية للأغنياء تَمكِّنهم من السبق إلى الخير والتقدم بذلك على الفقراء، فقالوا: يا رسول الله، ذهب أهلُ الدثور (أي: الأغنياء) بالأجور، لكنه صلى الله عليه وسلم صحَّح لهم هذا المفهوم وبيَّن المدى الواسع الذي ينتشر به العفو، وأنه موجود لدى كل إنسان بقدرٍ ما، وأن كل مسلم يستطيع أن يبذل الخير وينافس أصحاب المال باستخدام ما لديه من إمكانات تجعله محل رضوان الله تعالى، فالخير ليس وسيلته المال فقط، بل كل نفع للناس أيًّا كانت أداته فقال لهم: «أوَليس قد جعل الله لكم ما تَصَدَّقون به؟ إن كل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة». رواه مسلم.

وباتساع العفو وشموله كلَّ أفراد المجتمع تُستَنْفَر كل الطاقات لتصب في مجرى واحد؛ لتحقيق تقدم المجتمع الإسلامي، وتتكاتف الإمكانيات المالية مع الإمكانيات البشرية في منظومة واحدة، من أجل الإسهام في بناء المجتمع المتكافل الذي يمثل كل فرد فيه لبنة بناء قوية يساهم بها في عمارة الأرض.

ولا شك في أن إنفاق العفو على الغير، بتمليكه له، يُعدُّ إنفاقًا في سبيل الله ما دام يقصد بذلك وجه الله تعالى، غير أن التكليف بإنفاق العفو جاء مَرِنًا إلى حدٍّ كبير، وجاء مطلقًا من دون قيود، فلم يكن تكليفًا بنسبة محددة، كما هو الحال في التكليف بالزكاة، وإنما جعل الله تعالى العفو كله محلاًّ للإنفاق كما يفيد صاحب التحرير والتنوير الطاهر بن عاشور، يرحمه الله.

ومن هنا، فإن إنفاق العفو يساهم بأكثر من صورة في تحقيق التكافل الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع.

واستخدام العفو في تحقيق التكافل بين المسلمين، مع الاحتفاظ بملكيته، يمثِّل الحدَّ الأدنى لإنفاق العفو في سبيل الله؛ فبناء المشروعات الاستثمارية التي تحقق مصالح مؤسسيها، وفي الوقت نفسه تحقق مصلحة المجتمع الإسلامي؛ يمثِّل صورةً من صور إنفاق العفو في سبيل الله. وعدم إنفاق العفو في هذه الصورة يعني تعطيل المال والجهد وإضاعتهما، وفاعل ذلك يقع تحت طائلة النهي عن إضاعة المال وتبديد الجهد.

وتتدرج صور «إنفاق العفو» صعودًا بعد هذه الصورة التي تشتمل على تحقيق مصلحة صاحب العفو بتنمية ثروته وزيادة دخله، وتحقيق مصلحة المجتمع بإيجاد فرص للعمل وسلع للاستهلاك؛ حيث تليها صورةٌ كثيرًا ما استخدمها المسلمون ودعا إليها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تتمثل في إنشاء مشروعٍ يزيد من حجم ثروة صاحب العفو، ولكنَّ دخله وعوائده تكون لصالح المجتمع، مثل: مَن يبني دُورًا يملكها ويزيد بها حجم ثروته، لكنه يخصصها لسكنى الفقراء وأبناء السبيل مثلاً، وينتفع بها إذا احتاجها، وهي المنحة التي دعا إليها النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان لرجال فضول أَرَضِينَ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له فضل أرض فلْيزرعْها أو لِيمنحْها أخاه، فإن أبى فَلْيُمسكْ أرضَه». رواه البخاري.

والمنحة نوع من الإعارة، ولكن فيها معنى العطية، فإن إعارة شاةٍ أو ناقةٍ ليُشرب لبنُها تسمى منحة؛ ولهذا، فإن مَن منح غيرَه شيئًا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه -كالدار، والدّابة، والثوب- فإن المنحة ترد على المانح؛ لأن منفعة النقل حصلت؛ وبالتالي فإن من ينفقون العفو يتنافسون فيما بينهم لسد حاجات المجتمع، ويترتب على ذلك أن المجتمع يجد دائمًا مِن أفراده مَن يقوم بسد حاجاته؛ فإذا وُجِد جائع تسابق الناس لإطعامه، وإذا وُجد عارٍ تسابق أصحاب العفو لكسوته، وإذا وُجد مريض تسابق أصحاب العفو لعلاجه، بل إذا وُجِدت الحاجة إلى مشروع زراعي أو صناعي أو خدمي تسابق أصحاب العفو إلى إنشائه. وهكذا يصبح العفو مصدرًا لتمويل التنمية؛ بحيث إنه كلما احتاج المجتمع إنفاقًا على ما يُسْهِم في تحقيق هذه التنمية، وُجِد من أصحاب العفو من يقوم به، متخليًا عن ملكيته أو محتفظًا بها، تبعًا لطبيعة الإنفاق الذي يُوجَّه إليه العفو.

وحتى يصبح كلُّ فرد في المجتمع إيجابيًّا وعضوًا نافعًا، فقد مُنِح فرصته ليكون متصدقًا في حدود ما يمتلك من موارد أو قدرات؛ فقد تكون الصدقة في شكل إماطة الأذى عن الطريق، وهي أيضًا تتضمن أبعادًا اقتصادية خطيرة تتعلق بالمساهمة في علاج التلوث البيئي الذي أصبح يمثل ظاهرة عالمية خطيرة. وقد تكون الصدقة في شكل كلمة طيبة أو تبسم في وجه الآخرين، وهذا أيضًا ثبت أثره الاقتصادي الإيجابي حيث يساعد على التخلص من أية مشاعر سلبية لدى الفرد من إحباط أو اكتئاب أو غيرهما، فيساعده ذلك بدوره على الانتعاش والعطاء الإنتاجي البنَّاء في دائرة نشاطه. وهناك أيضًا مساعدة الشخص على ركوب راحلته أو مركبته، أو مساعدته في حمل متاعه؛ حيث يمكن أن يمثل عاملاً من عوامل رفع أداء الإنتاج والنشاط الاقتصادي، من جهة أنَّ تلك المساعدات وأشباهها تخفض من الوقت المستغرق والطاقة المبذولة في أداء الفرد، وبالتالي يمكن أن تتيح للشخص العامل دورات استثمارية أكثر عددًا وكفاءةً عما إذا كان سيقوم بكل أعماله وحده بدون مساعدة الآخرين؛ لأنه في الحالة الأخيرة سيستخدم أعضاءه وحده، بينما في الحالة الأولى سيكون هناك أعداد أكثر من ذات الأعضاء البشرية التي تقوم بالعمل الإنتاجي.

ويكون إنفاق العفو عملاً اقتصاديًّا يعود على صاحبه بعائد مادي ومعنوي، كما يعود على المجتمع بسدِّ حاجةٍ من حاجاته؛ ذلك أنَّ الإسلام يجعل كل عمل مباح يمارَس بنيَّة صالحة عبادةً لها ثوابها في الدنيا والآخرة؛ حيث يقول صلى الله عليه وسلم: «فلا يغرس المسلم غرسًا، فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا طير إلا كان له صدقة يوم القيامة».رواه مسلم.

فإنتاج الطيبات في المجتمع الإسلامي، وكل طرق استخدامها بعد إنتاجها، تعود على منتجها بالثواب حتى ما يأكله منها، وليس فوق ذلك حثٌّ على بذل الجهد في ممارسة الإنتاج وتوجيه العفو من الجهد البشري إلى إثراء الحياة بكلِّ الطيبات من المنتجات.

وهكذا نرى أن ميادين إنفاق العفو من الجهد البشري لا تقع تحت حصر، وإنما هي كثيرة بقدر ما توجد وسائل وأساليب النفع وتحقيق تكافل المجتمع. وهذا النوع من العفو يملكه كل صاحب مقدرة عضلية، أو رُوحية، أو فكرية، والمجتمع بحاجة إلى جميع هذه الطاقات، وإلى مداومة تحريكها وصيانتها وعدم تبديدها.



المصدر: http://www.islamtoday.net/nawafeth/artshow-45-179131.htm

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك