شاع استخدام كلمة (حوار) هذه الأيام في أدبيات الفكر، والسياسة، والاقتصاد، والإعلام، والحياة الاجتماعية وغيرها، فالحديث يدور حول "حوار الحضارات" و "الحوار العربي الأوروبي" و"الحوار الإسلامي المسيحي" و "حوار الشمال والجنوب" هذا على مستوى الدول والقارات والتكتلات الاقتصادية والسياسية، أما داخل العالم العربي والإسلامي فهناك "الحوار الإسلامي الإسلامي" و "الحوار الإسلامي العلماني" و "حوار الفرق والمذاهب" و "حوار التيارات الفكرية المختلفة". يدل – هذا- على أن الحوار روح العصر؛ إذ وسَّعت ثورةُ الاتصالات الحديثة- التي ألغت كثيرًا من الحواجز الجغرافية والسياسية- دوائر الحوار بصورة لم تعرفها الإنسانية من قبل، يشهد على ذلك العددُ الضخمُ من المؤتمرات، والندوات، والاجتماعات، والمنتديات التي تعقد على مدار الساعة واليوم في عالمنا، وتنوّع الموضوعات المطروحة.
إن ضرورة إجادة الحوار مع الذات أولاً، ثُمَّ إحسان الحوار مع الغير داخل الإطار العربي والإسلامي، مقدمةٌ لحوارٍ أكثرَ ندية وإيجابية مع الأديان والثقافات والأمم والحضارات الأخرى، ولتفاعلٍ أكثرَ تأثيرًا على الساحة الدولية.
إن عملية الحوار الموضوعي والجادّ تتميز بالمراجعة للمواقف المتخذة، إذ إن هذه المواقف لا تتخذ موقفًا سكونيًا قطعيًا غير قابل للتغيير والتبديل، بل موقفا حركيا قابلاً للتحول.
إننا إذا أردنا أن يكون حوارنا فاعلاً ومنفعلاً داخل الإطار الإسلامي بدءًا من المنزل ومرورًا بالمدرسة والشارع والجامعة ومحيط العمل وانتهاءً بالأمة، فلا بد من ممارسة حوار متناغم يَشِي بوجود مراجعة وتسامح وتفاعل إيجابي حتى يثمر نتائج محددة.
ممارسة الحوار الراقي أداة للوصول للأفكار الناضجة وقد قيل: "من المناقشة ينبثق النور" حيث يستفيد المحاور من مناقشة آرائه لإعادة صياغتها وبلورتها بشكل أفضل وأكثر ملاءمة لسياقها. لقد سمت المناظرات والمحاورات التي كانت تجُرى في كافة مجالات المعرفة الشرعية والإنسانية والطبيعية بالحضارة العربية والإسلامية في عصور ازدهارها، وجعلتها تتبوأ مراكز الصدارة والريادة على مستوى العالم , وأنتجت لنا تراثًا ضخمًا تمثل في المدارس الفقهية، والنحوية، والثقافية، وغيرها. هذا النتاج المتألق- من الأمثلة التي تتبادر للذهن في هذه اللحظة كتاب "الرسالة" للشافعي و "المقدمة" لابن خلدون- لم يكن ليرى النور بهذه الصورة المتوهجة لولا مروره بمراحل إنضاج من خلال محاورات ومناظرات ومناقشات طويلة، وليست جهدًا فرديًا كما يتبدى للبعض. لقد كان الباحث عن المعرفة في عصور النهضة الإسلامية ينتقل من حلقة إلى أخرى، ومن مجلس إلى مجلس يناقش ويحاور ويناظر ويعبر عن رأيه في جو متسامح دون خوف ودون أن يحجر أحد على رأي أو يمنع من قول، متمسكين بحدود حرية التفكير في الإسلام.
إن الحوار أداة لبناء التفكير السديد يجعل المعرفة استنتاجًا وممارسةً واختيارًا، ويجعل العلم نورًا في العقول لا متونًا في الصدور؛ ذلك أن العقل الإنساني كالجذوة بحاجة للإشعال كي يتوهج، وليس حاوية تقذف فيها المعلومات للحفظ!! لذا يجب على التربية الإسلامية اليوم وعلى كافة المستويات بناء التفكير على أساس التحصين والمنعة الذاتية في عصر يستحيل الانعزال والانغلاق فيه، وكذلك تجريد الفكر العربي والإسلامي مما علق به من تقاليد وأعراف محلية وإقليمية أبعدته عن فهم حقائق الدين والتأثير في دائرة الفعل الإنساني. إن تنشيط التفكير عبر الحوار يبني أجيالا قوية يصعب احتواؤها وتغيير قناعاتها في اتجاهات سلبية.
إننا بحاجة ماسة للتصالح والتحاور مع ذواتنا بالصدق، مع خالقنا أولاً ثم مع النفس والآخرين، فنحن نعيش حال تناقض بين سلوكياتنا، وأقوالنا، ومواقفنا، جعلتنا نتأزم مع ذواتنا، وجعلت الآخرين ينظرون إلينا بسخرية، ويرتابون نحو صدق ما نحمل من قيم نظرية عظيمة يغذيها الإسلام، لكنها لا تجد سندًا من ممارسة وحضور على مستوى الفعل والحدث الإنساني.
كيف نريد أن نؤثر في ذلك "الآخر" البعيد ونحن نمارس إلغاء الآخرين من ذوي القربى في الدين، والدم، واللسان، والوطن، وغيرها، ونفرض الوصاية على عقولهم وأفهامهم - محتكرين الصواب أو الحق - في مسائل الاجتهاد وصناعة الحياة رغم اعترافنا – نظريًا- أن طرائق وصولنا لهذا "الحق" متنوعة ومتعددة.
إن التعصب وأحادية الرأي آفة خطيرة، جِدُّ خطيرة، تنبع أساسًا من تنزيه الذات، وتضخم الأنا والتقليد والترديد، مما أدى إلى شيوع الانغلاق، والجمود، والتقوقع، والتقليد للجديد أو للقديم. إن القمع، والتسلط، والإرهاب الفكري، والنظر للناس على أنهم جهلة أو ذوو نيات سيئة يسد باب الحوار، ويحول الناس إلى إمَّعات منقادة انقيادًا أعمى، عندها تغيب الموضوعية في التفكير ويصبح "الأشخاص" هم سبيل اقتناع الناس بالأفكار وليس أدلتها الشرعية أو العقلية. إن ممارسة فرض الرأي على الآخرين، والإلغاء والوصاية على الثقافة والفكر، والتحدث بلغة الأستاذ تحت أية حجة أمر غير مقبول ولا مشروع، بل يؤدي إلى جلد أدمغة المتلقين، ويسهم في تشنجهم وتزمتهم، مما يلجئ البعض إلى العنف كوسيلة للتعبير عن الذات واكتساب الحقوق.
من الآفات الخطيرة أيضًا كراهية ممارسة عملية الحوار، وهي مرتبطة بتنزيه وتضخيم الذات المذكورة آنفا، إما لضعف الحجة التي تؤدي إلى بروز الرأي الآخر، أو بدعوى الحرص على وحدة الصف والكلمة، أو بدعوى ذم الإسلام للجدل مع التغافل عن نصوص وشواهد من السنة ووقائع من التأريخ تبين أن الحوار والجدال بالتي هي أحسن هو الممدوح والمطلوب.
إن من أبرز سلبيات الخطاب العربي والإسلامي المعاصر هو شيوع التفكير والتحليل العاطفي والسلبي للأحداث، وغياب العقل والفكر الناقد الذي ينطمر تحت أوهام المتابعة أحيانا أو التأصيل والتجديد أحيانا أخرى.
إن استمرار سياسات الإلغاء للشعوب، وأجواء الريبة والتربص، وعدم الثقة بين الحاكم والمحكوم، والتمكين لفئات وأفكار على حساب أخرى داخل العالمين العربي والإسلامي، واستمرار التقاتل والتهارش والتراشق بين مختلف التيارات، وعدم التركيز على نقاط الالتقاء ودعمها وتقويتها؛ سيؤدي إلى تمادي الأعداء والمنافسين في غيَّهم، وسيساعد أمريكا وربيبتها (إسرائيل) في فرض رؤيتهم وسيطرتهم لعقود طويلة قادمة.
لنبدأ بالحوار مع الأجنة في بطون أمهاتهم بتوفير جو نفسي لهذا القادم إلى الحياة برعاية الأم جسديًا ونفسيًا، ومن ثم تعليم هذا الطفل أدب المحاورة بممارسة نماذج عملية لحوار راق بين الأب والأم، وإعطائه الفرصة داخل المنزل بالتعبير عن ذاته وفق قواعد أصيلة تنبع من قيم الإسلام العظيمة، ومن ثم إتاحة المجال في سياق التفاعلات الاجتماعية، يأتي بعد ذلك دور المدرسة والمعهد والجامعة وحركة الحياة؛ لرسم معالم شخصية مستقلة مبدعة بالتربية على الحوار والمناظرة والمناقشة والمثاقفة، للوصول إلى النتائج بعيدًا عن أجواء القمع والتسلط والدكتاتورية.
إن مما يقوي ويعزز النسيج الوطني في البلدان العربية والإسلامية هو فتح باب الحوار والاستماع لما لدى شعوبهم، وعدم الحكم على النيات، وإعطاء الفرصة لكافة شرائح هذه المجتمعات للمساهمة في دعم الجبهة الداخلية، فمباركة تلك الدعوة إلى المصالحة والحوار بين الحكام والشعوب بكافة تياراتها، حتى يتوجه الجميع نحو قضايا الأمة الكبرى المرتبطة بالتنمية والاستقلالية الاقتصادية والعسكرية، وطيَّبة تلك الدعوة إلى تصالح التيارات المختلفة داخل الوطن الواحد، وعبر العالم الإسلامي طولا وعرضا.
آن لنا أن نكفَّ عن اجترار خلافات الماضي، وأن نواجه الحاضر، ونخطط للمستقبل؛ لدعم مسيرة التنمية وصولاً إلى الأهداف الكبرى على مستوى الأفراد والأوطان والأمة.
إن الحوار الجاد والصادق سيكون أداة محورية في سبيل التغيير الإيجابي الذي ينشده الملايين في العالم الإسلامي، إذا نحن طبقنا أسسه والتزمنا آدابه، انطلاقًا من مبدأ التعاون للوصول إلى الأهداف المشتركة، في إطار الثوابت الكبرى للأمة؛ لكي نتغلب على مشكلاتنا، ونساهم في حل مشكلات عالمنا المعاصر، شريطة أن ننهض أولاً بمسؤولياتنا ثم ننطلق إلى آفاق الريادة العالمية.
القائمة الرئيسية
أحدث التدوينات
المواضيع الأكثر تعليقاً
البحث
المتصلون الأن
There are currently 0 users online.