الفكر التّسامحيّ عند "ابن تيمية"

نتفهّم الانطباع السّلبيّ لدى البعض عن تشدّديّة الإمام ابن تيمية، بسبب المطالعة اللاشموليّة للتّراث التّيميّ، أو القراءة الإسقاطيّة لتراثه، أو بسبب الصّورة التي يقدمها أنصار الشّيخ والمتأثّرون به، وأيًّا كان السّبب فلا يمكن لأحد أن يحاكم الأفهام ويحاسبها، وغاية ما يفعله الحكيم أن يراقب حركة الأفكار وتشابكاتها وتطوّراتها، لينسجم بالمراقبة مع فعل الأنبياء «البلاغ». والإمام ابن تيمية واحد من أكثر الشّخصيّات المثيرة للجدل من حياته وإلى الآن، ما يعني أنّ فهمه ودراسته لم تتمّ بشكل تراكميّ، بقدر ما كانت عمليّة تنازعيّة اختلافيّة، ونفعيّة في بعض الأحيان، تمثّلت في شيء من أبحاث الرّسائل الجامعيّة!

هذا المقال يفتح نافذة على الفكر التسامحيّ في حياة وعلميّة الشّيخ ابن تيمية، وفي أوّل الأمر لا بدّ من ملاحظة أنّ في طبع الشّيخ «غضب وحِدّة»، فقد كشفت حادثة له في الصّغر - كما يحكي ابن القيّم - أنّه كان عند بني المُنجّى، فبحث معهم فادّعوا شيئًا أنكره، فأحضروا النّقل، فلما وقف عليه ألقى المجلد من يده غيظًا... الخ، وذكر ابن القيّم والذّهبيّ وغيرهما: أنّ فيه حدّة يقهرها بالحلم، أو كما يقول ابن رجب في «ذيل الطبقات»: وله حِدّة قويّة تعتريه في البحث، وفيه قلّة مداراة وعدم تؤدة غالبًا، كما كشف هو عنها حين يقول في سياق مناظرة طالبَ فيها السّلطان بإعمال السّيف في أهل البدع: «فقلت له ورفعت صوتي وغضبت...»، وأصحاب هذا الطّبع من أصحّ النّاس قلوبًا وأكثرهم مراجعة، والله يعطيهم على ما في نيّاتهم (إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا)، كما أنّ من المهمّ الوعي بما عبّر عنه الدكتور عبدالحكيم أجهر: من أنّ "العصور المضطربة تنتج أشخاصًا يتسمون بطبيعة حادّة، والظّروف التي عاشها ابن تيمية بين ضعف داخليّ، وتهديد خارجيّ غيّبت طموحه لأن يعلن فكرًا تسامحيًّا...."

من هنا كانت الفكرة العلميّة لدى الشّيخ مبنيّة على التّسامح، وعندما أقول "الفكرة العلميّة"، ليخرج عن ذلك ما كان منه ردود فعل على أقوال، أو أفعال تزعجه وتوقظ فيه حدّة طبعه؛ ففي «الفكرة العلميّة» نجد لابن تيمية رسالة، وهي الأخيرة من مجموع الرّسائل والمسائل، وعنوانها هكذا: «قاعدة أهل السّنّة والجماعة في رحمة أهل البدع والمعاصي ومشاركتهم في صلاة الجماعة»، بدأ الكلام فيها عن «الخوارج» وأورد الأحاديث التي قيلت فيهم، وأنّهم أوّل من كفّر المسلمين بالذّنوب، ثم يعلن قائلاً: «ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله، ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة»، هذا النّصّ يجعلنا «نضع كلّ تكفير مارسه هو نفسه بين قوسين، ونعتبره تكفيرًا انفعاليًّا أكثر من كونه مقصودًا بالفعل»، كما هي عبارة الدكتور أجهر.

ثم يواصل ابن تيمية الكلام عن الخوارج، وأنّه إذا «كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنّصّ والإجماع لم يكفروا، مع أمر الله ورسوله «صلّى الله عليه وسلّم» بقتالهم، فكيف بالطّوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحقّ في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟ فلا يحلّ لإحدى هذه الطّوائف أن تكفّر الأخرى وتستحلّ دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محقّقة»، هذا النّص - كما يقول الدكتور أجهر - يجب أن يكون البيان الرّسميّ الذي يُدخل إلى فكر ابن تيمية من بوابته... إنّ مضمون هذه الرّسالة التي تعارض كلّ عبارات التّكفير التي أطلقها ابن تيمية في نصوصه، هي ما جعل المفكّر الكبير محمد رشيد رضا، محقّق الكتاب، يقول عنها: إنّها «من أنفس ما كتب شيخ الإسلام وأنفعه في التأليف بين أهل القبلة".



المصدر: http://www.islamtoday.net/nawafeth/artshow-42-178252.htm

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك