تجديد مناهج الاجتهاد من أصول الفقه إلى فلسفة الفقه
د. عبد الجبار الرفاعي
تشهد فلسفة الفقه ومقاصد الشريعة اهتماماً متنامياً، يمكن ملاحظته من خلال تنوع الكتابات في هذا المضمار، وملاحقة طائفة من تلامذة المؤسسات الدينية لهذه
الكتابات ومحاولة استيعابها في إطار متطلباتهم العلمية.
ويلوح في الأفق اتساع وتكامل بحوث فلسفة الفقه في الأيام القادمة، لاسيما إذا ما لاحظنا المسيرة العلمية الخصبة للعلوم الإسلامية ومعطيات التجربة الاجتهادية في مختلف المعارف الإسلامية فيها.
وفلسفة الفقه كأي علم في طور الصِيرورة والتشكيل تنوعت الاجتهادات في تحديد معالمه، وبيان حدوده، وتشخيص موضوعه، واكتشاف منهجه، ومعرفة وظيفته، وموقعه في سلم العلوم الشرعية، خاصة علاقته بالفقه وأصول الفقه ومقاصد الشريعة.
وبالرغم من تباين مواقف الدارسين لفلسفة الفقه إزاء هذه القضايا، غير أنهم متفقون جميعاً على ضرورة إنشاء علم يُعنى بدراسة فلسفة الفقه في هذا العصر، على غرار ما شاع من انبثاق فلسفة بجوار كل علم، تتناول تحليل ماهية ذلك العلم، وفهمها فهماً يغور في خلفياتها، ويوضح مناهجها، ويشرح التنظيم الأمثل لتلك المناهج، ودائرتها، وأهدافها، ومجموعة العوامل التي تتحكم في تقنين أسس ذلك العلم ومرتكزاته.
البواعث
انطلقت الدعوة لبناء علم يعنى بفلسفة الفقه في السنوات الأخيرة، وعقدت عدة ندوات ونشرت عدة مؤلفات وبحوث تعالج ماهية هذا العلم ومجاله ومسائله، ويمكن القول إنّ بواعث هذه الدعوة تتلخص فيما يلي:
1- إنّ انفتاح التجربة الإسلامية المعاصرة وسعيها لأسلمة المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية طرح عدداً وفيراً من الاستفهامات الفقهية الجديدة، مما لم يألفها العقل الفقهي من قبل، وتجاوزت الاستفهامات التعرف على الأحكام الشرعية الخاصة بالاجتماع الإسلامي إلى السؤال عن: مجال الفقه وحدوده، وقيمة الفقه الموروث، وأثر الزمان والمكان في الاجتهاد، وعلاقة الاستنباط الفقهي بالعلوم البشرية ومكاسبها، وأثر خلفية الفقيه ورؤيته الكونية في اقتناص مدلول النص، وضمانات موضوعية عملية الاستنباط وعدم تعرضها لتحيزات ومواقف قبلية … وغير ذلك.
ولم يكن بوسع الفقه أو علم الأصول المتداول الإجابة عن الكثير من هذه الاستفهامات، مما حفّزَ بعض الدارسين لتحليل تلك الاستفهامات واقتراح مجموعة رؤى ومفاهيم وافتراضات، تصلح أن تشكل بنية تحتية أولية لتدشين علم جديد خارج مجال الفقه وأصوله.
2- تطور العلوم الانسانية، خاصة ما يتصل منها بوشيجة عضوية بعلم الاصول والفقه، مثل: الألسنية والاتجاهات النصوصية الراهنة، والحقوق والقانون، وفلسفة العلم، وعلم النفس، والاجتماع، والانثروبولوجيا… وغيرها.
وانفتاح نخبة من طلاب الدراسات الشرعية على هذه العلوم، وانخراطهم في دراسات تكميلية في فروع العلوم الانسانية في الجامعة، ومتابعة دراساتهم العليا في هذه الفروع، بل وابتعاث البعض منهم لمواصلة تعليمه في الجامعات الغربية، ثم عودته بعد التأهيل الأكاديمي لممارسة وظيفته كباحث وأستاذ في المؤسسات الدينية.
وكان لحضور هذه النخبة في أروقة الجامعات الدينية أثر بالغ في إضاءة شيء من الابعاد الخفية للعلاقات بين علم الاصول والفقه من جهة، والعلوم الانسانية المعاصرة من جهة أخرى، واكتشاف بعض الحقول المشتركة والقواعد العامة بينهما.
وهكذا أضحى من الأهمية بمكان المناداة بصياغة فلسفة للفقه تكون بمثابة ما للعلوم الأخرى من فلسفات.
3- الشعور بضرورة اصلاح النظام التعليمي في المدارس الدينية، ودراسة مواطن قصور العلوم والكتب المتعارفة عن الوفاء بالمتطلبات المعرفية والثقافية للاجتماع الإسلامي اليوم.
وتبلور جملة رؤى تدعو لاستئناف النظر في التراث، وإعادة بناء العلوم الإسلامية، وتدشين حقول جديدة تواكب وتيرة التحولات الحياتية المتسارعة، وتجيب عمّا يتوالد على الدوام من إشكاليات تكتنف التجربة الفقهية. فكانت فلسفة الفقه من أهم الحقول التي نادت بها طائفة من المهتمين باعادة بناء العلوم الإسلامية، باعتبار أن حيوية الاجتهاد الفقهي تستند الى حيوية الاجتهاد في بقية العلوم الإسلامية، والحرص على تنمية روح الابداع وتأصيل علوم جديدة، مثلما نمت بالتدريج العلوم الإسلامية عمودياً وافقياً بمرور الزمان.
الأغراض
ليس المقصود من كلمة (فلسفة) المضافة الى (الفقه) هو المعنى المعروف للفلسفة في تراث المعقول الإسلامي، وهو (العلم بأحوال الوجود من حيث هو موجود( لأن الفلسفة بهذا المعنى تُعنى بدراسة الوجود المطلق والاعراض اللاحقة للوجود بنحو عام. بينما فلسفة الفقه مثل بقية الفلسفات المضافة التي تطلّ على موضوعها من الخارج، وتتولى تحليله وتفسيره واستكناه أبعاده وحدوده، والتعرف على ماهية ذلك العلم، بوصفه ظاهرة قابلة للبحث والتحليل، مضافاً إلى دراسة القبليات والفرضيات المستترة وراء المقولات والقواعد الكلية للعلم، ومعرفة كل ما من شأنه أن يساهم في صياغة مفاهيم العلم ويحدّد اتجاهه ويتحكم في مناهجه.
إن النسبة بين الفقه وفلسفته كالنسبة بين القانون وفلسفة القانون، والاخلاق وفلسفة الاخلاق، والتاريخ وفلسفة التاريخ، واللغة وفلسفة اللغة… وهكذا، هي كالنسبة بين كل علم وفلسفته.
فالفقه كما هو معروف يتناول الاحكام الشرعية لعمل المكلف، اي انه علم استنباط الاحكام الشرعية، وتحديد الموقف العملي تجاه الشريعة بنحو مستدل، بالتوكؤ على أدوات وقواعد يجري تنقيحها في أصول الفقه. بينما لا يبحث فلسفة الفقه اسلوب الاستنباط، ولا علاقة له ببيان الموقف العملي تجاه الشريعة، وإنما يتجاوز ذلك إلى ميدان آخر يتناول فيه تشريح ماهية الفقه، واكتشاف طبيعة نسيجه الداخلي ومكوناته، وكيفية نشأته وتطوره، وتفاعله مع المؤثرات الزمانية والمكانية والبيئة الجغرافية، والتأثير المتبادل بينه وبين الاعراف والعادات والتقاليد، والعصر الذي انتج في فضائه الثقافي ومحيطه الحضاري، مضافاً إلى دراسة اصطباغ الفقه بقبليات الفقيه ومنظوره الذاتي، ولون ثقافته، وميوله، ومزاجه، وبيئته الخاصة, والمحيط الذي نشأ وترعرع فيه.
إن فلسفة الفقه ترمي لتناول هذه المسائل ودراستها خارج دائرة الاستنباط الفقهي، بما يتيح لدارسي فلسفة الفقه التوغل في عمق العملية الفقهية، وتفكيك العناصر الظاهرة والمستترة المكونة للموقف الفقهي، وانجاز قراءة اخرى لاختلاف الفقهاء، لا تستند إلى التفسير الموروث لهذا الاختلاف; لأن الباحث في فلسفة الفقه لا يقف عند السطح، بل يجري عملية حفر وتنقيب عميقة في طبقات المعرفة الفقهية، ويقودنا إلى منابع هذه المعرفة وجذورها وما تستقي به من روافد.
إنّ فيلسوف الفقه كأنه باحث في الآثار، فعندما يحفر الآثاري طبقات التربة ويغور في اعماق التلال الأثرية، يبتغي التعرف على النمط الحضاري السائد قبل آلاف السنين، ثم يقوم بتشكيل صورة تشي بخصائص وأحوال الحضارة موضوع دراسته، بالافادة من مجموعة لُقى واختام وألواح طينية وفخاريات أثرية، واجراء بحوث تحليلية دقيقة عليها، بتفحّص وتأمل كل شكل أو صورة أو كتابة أو اشارة مهما كانت بسيطة, وتوظيفها في قراءة تلك الحضارة.
وهكذا يعمل الدارس في فلسفة الفقه، فإنه يمارس حفريات معرفية في التراث الفقهي، بهدف بلوغ الأنساق الداخلية الخفية، والمقدمات والمبادئ والمسلمات غير المرئية التي تسبق العناصر المرئية الظاهرة في الاستنباط، وتوجّه مسار عملية الاستدلال الفقهي، سواء كانت آراء كلامية، أو مقولات فلسفية، أو علوماً اجتماعية، أو موروثات تربوية مترسبة في لاوعي الانسان منذ المراحل الأولى في حياته.
ان فلسفة الفقه تهتم بتشخيص ما يطبع المعرفة الفقهية، وما تتلون به هذه المعرفة من رؤية الفقيه الكونية، وثقافته، ومحيطه، أي أنها تغامر باجتراح أسئلة غير مألوفة، أو على الاقل لم تكن متداولة فيما مضى، من قبيل: هل الفقيه المتكلم والفقيه المحدِّث والفقيه الفيلسوف والفقيه العارف يتعاطون مع نصوص الكتاب الكريم والسنة الشريفة من منظور واحد، فيستظهرون منها مدلولا مشتركاً، لاتساهم في تكوينه سوى المواضعات العرفية والتبادر اللغوي، أم أن النص يتجلّى في ذهن كل منهم بصورة تتناسب مع ما يثوي في وعيه ولا وعيه من خلفيات مسبقة؟
ثم ما هو أثر الاعراف والقيم السائدة في المجتمع في تبلور مدلولات النص؟
وما هو دور الاحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في نمو الفقه أو انكماشه؟
وما هي العلاقة بين مشاركة الفقيه في الحياة السياسية الاجتماعية واتجاهه الفقهي؟
أليست المعرفة الفقهية واحدة من ضروب المعارف البشرية؟ فهل يمكن جعلها بمعزل عن التحولات الهائلة في علوم الألسنية والقانون والنفس والتربية والاجتماع والانثروبولوجيا؟
وهل هناك علاقة بين تطور العلوم الطبيعية والعلوم البحتة والمعرفة الفقهية؟
أليس هناك تأثير متبادل بين التفكير الفقهي ومسار الحضارة الإسلامية، باعتبار الفقه أحد المنجزات العلمية لهذه الحضارة، وهو بالتالي تعبير عما تزخر به الحضارة الإسلامية من ابداع وابتكار؟ فإذا ازدهرت أية حضارة تزدهر تبعاً لذلك معارفها وفنونها وآدابها، اما اذا انكفأت وانحطت فسوف تنحط معارفها وفنونها وآدابها ايضاً، فماذا ورث الفقه الإسلامي من عصور الانكفاء والتراجع؟
وأخيراً أليست المعرفة الفقهية معرفة نسبية تاريخية محكومة بالحقبة الزمنية المنتجة في فضائها؟ فلماذا يتعامل البعض مع هذه المعرفة وكأنها معرفة مطلقة أبدية، من دون أن يدري أن الفقه لن ينفصل عن الحياة البشرية وما تحفل به من تحولات شتى ووتيرة تغيير متسارعة، ومن دون أن يميز بين الفقه والشريعة، فالشريعة خالدة، فيما المعرفة الفقهية لا تنفك عن البيئة والمحيط؟
هذه نماذج من سلسلة استفهامات كثيرة يطمح دعاة فلسفة الفقه إلى اقتحامها والبحث في آفاقها. والتأمل في هذه الاستفهامات يشي بوظيفة هذا العلم ومدياته، وهذا يعني ان مديات فلسفة الفقه تتجاوز اهتمامات علم اصول الفقه المعروفة ولا تتوقف عندها، فبالرغم من ان بذور فلسفة الفقه أثمرتها بحوث الاصوليين والفقهاء وتغذت في حقل هذه البحوث، بل اعتبر أحد الباحثين علم الاصول بمثابة فلسفة للفقه، لكن فلسفة الفقه تتسع لمباحث جديدة لم يطرقها علم الاصول، ذلك أن مهمة علم الاصول تتلخص في تأمين العناصر المشتركة في عملية الاستدلال الفقهي واستنباط الاحكام الشرعية، بينما تدرس فلسفة الفقه الخلفيات، التي تسبق تلك العناصر، وتوجه آليات استخدامها في الاستنباط، وبعبارة موجزة إن فلسفة الفقه تنقلنا إلى «ماوراء اصول الفقه» و«ماوراء الفقه» فتقودنا إلى مجال آخر مختلف، وتمنحنا رؤية معمقة تبصرنا بما يكتنف فهم النصوص وتحديد مدلولاتها من عوامل، وما يوجه عملية تعاطي ادوات الاستدلال الفقهي برمتها.
ان فلسفة الفقه تضع بين يدي الفقيه أدوات اضافية ظلّت خارج دائرة الاستنباط زمناً طويلا; لأنها كانت مستترة وراء الأدوات المتداولة في الاستدلال الفقهي، ولم يشعر دارسو الفقه فيما مضى أنهم بحاجة إلى غيرما هو متاح لديهم، لا سيما وأن فلسفة الفقه لا تدخل مباشرة في عملية الاستنباط، وانما تطل على هذه العملية من الخارج، وتتعامل مع نتائج ومعطيات الاستنباط، مضافاً إلى اهتمامها قبل ذلك بالمبادئ التي ينطلق منها الفقيه، ونوع المنهج الذي يستخدمه وأثره في تحديد الموقف الفقهي.
وهذا يعني أن فلسفة الفقه تستقي أدواتها من عدة علوم؛ لذلك ينبغي أن تنفتح على مكاسب العلوم الانسانية الراهنة، للاستعانة بها في حفرياتها المعرفية؛ لأن تبلور صيغة نظرية علمية لفلسفة الفقه في وعي الدارسين يتوقف على تلقي بعض الأسس في اللسانيات والهرمنيوطيقا، وفلسفة العلم… وغير ذلك.
المواقف
فلسفة الفقه علم في طور الصيرورة، وهو كأي علم في مرحلة ولادته يصبح مجالاً رحباً لتنوع الاجتهادات وربما تباينها، وتعدد الآراء وتقاطعها. وقد يفضي ذلك إلى سجالات ومنازعات لفظية ينجم عنها اضطراب المواقف والتباسها.
وتبدو هذه الحالة بوضوح في فلسفة الفقه؛ لأن هناك طائفة من طلاب العلوم الإسلامية تتبرم حتى من العبارات والأساليب البيانية الجديدة، وتضيق ذرعاً بأية محاولة لتنمية الموروث، فضلاً عن تخطي بعض حقوله. فكيف إذا صدم هؤلاء موقف اجتهادي جديد، يدعي أنه يسعى لتأصيل علم ينخل التراث الفقهي، ويتقصى الثغرات المنهجية التي تمنى بها الممارسة الفقهية، ويُعلن عن الأطر الجوانية التي تشكل أنساقاً تحتية لهذه الممارسة؟
كما أن بعض دعاة هذا العلم الجديد أنفسهم لم تستبن لهم معالمه ومسائله ومنهجه، فأمسى كل واحد منهم يتكلم في مفهومات مختلفة، تمتزج فيها الافتراضات بالأماني والمقترحات.
ولعل ذلك يعود لتنوع المرجعيات الفكرية التي تصدر عنها هذه الآراء.
وقد يستغرق النقاش في هذه القضية مدة طويلة نسبياً، وتتسع دائرة المشاركين فيه بالتدريج، مما يعني أن قضية فلسفة الفقه أذكت فاعلية العقل الفقهي فأقحمته عالماً لم يكن في إطار اهتماماته من قبل، وعملت على الاقلاع به عن شيء من مشاغله التقليدية إلى هموم بديلة.
ويمكن القول: إنه متى ما تغلغلت آراء دعاة فلسفة الفقه بشكل أعمق في فضاء الدراسات الشرعية، وأثارت ردود فعل إيجابية وسلبية أوسع، سيعجل ذلك في إنضاج هذا العلم وصياغة معالمه النظرية وتجلي مرتكزاته وأصوله المنهجية.
الاتجاهات
بالرغم من أن تسمية (فلسفة الفقه) أصبحت عَلَماً يستخدمه قطاع من الدارسين عند الحديث عن هذا العلم، غير أن هناك تسميات أخرى يحلو لبعض المهتمين بهذه القضية أن يطلقها، منها على سبيل المثال: «ماوراء علم الفقه»، «علم كلام الفقه»، «علم علم الفقه»، «علم معرفة الفقه»، «نظرية معرفة الفقه»، «ابستمولوجيا الفقه»، «علم اجتماع الفقه»، «سوسيولوجيا الفقه». ويبدو أن هذه التسميات ينطلق كل منها من الزاوية التي يعاينها لفلسفة الفقه، وبحسب أن هذا العلم تتمحور وظيفته حو لها.
ولا يتوقف تنوع وجهات النظر عند المسألة السابقة، وإنما يتعدّاها إلى خلط بعض الدارسين بين فلسفة الفقه وأصول الفقه، وبين فلسفة الفقه ومقاصد الشريعة، فبينما ذهب البعض إلى أن فلسفة الفقه هو شعبة من أصول الفقه، وتحمس في الذود عن رأيه هذا، أدرج آخرون مقاصد الشريعة في فلسفة الفقه، وتمدد واستطال لديه مدلوله بحيث دمج فيه مساحة شاسعة من علوم المعقول والمنقول، زحفت على مباحث من علم الكلام، وفلسفة الدين، وعلم الاصول، والتفسير، والحديث… وغيره.
من اصول الفقه إلى فلسفة الفقه
إن فلسفة الفقه بمثابة علم اجتماع الفقه «سوسيولوجيا الفقه» ونظرية المعرفة الفقهية «ابستمولوجيا الفقه» خلافاً لما يراه بعض الدارسين ممن اعتبر فلسفة الفقه شعبة من اصول الفقه، أو البعض الآخر الذي خلط بين فلسفة الفقه ومقاصد الشريعة.
وأخال أن مثل هذا الخلط لا تسوغه المبررات التي ذكرت في محلها؛ لأن فلسفة الفقه علم لا يلتقي مع أصول الفقه ومقاصد الشريعة إلا في إطار لقاء الفقه مع هذين العلمين، بل إنهما أقرب للفقه منهما إلى فلسفة الفقه، إذا ما كان العلم الأخير يرمي لتشخيص النسيج المستتر للفقه واكتشاف أنساقه الجوانية، ومختلف القبليات والمسلمات التي تصوغ المنظورات الفقهية. بينما تهتم مقاصد الشريعة بالتعرف على اهداف الشريعة وغاياتها الكلية، وتحديد الحِكَم والمصالح والملاكات الملحوظة للشارع في الأحكام. وتلك مهمة خارج الاطار المفترض لفلسفة الفقه.
وهكذا يدرس علم الأصول القواعد الممهدة للاستنباط، ولا يعالج ما يتصل بعملية الاستنباط من خلفيات ومبادئ. إن المهمة المفترضة لفلسفة الفقه لا تنصب على تنقيح قواعد الاستنباط، والتنقيب عن دليليتها وحجيتها، مثلما هي وظيفة أصول الفقه. وإنما يذهب هذا العلم الى ماوراء تلك القواعد ويعالج قضايا أبعد مدى مما تتحرك في حدوده القواعد الاصولية، كما ألمحنا لذلك فيما سبق.
ويبدو أن دمج فلسفة الفقه بعلم الاصول تارةً، وبالمقاصد تارةً أخرى، نجم عن عدم اتضاح المجال الخاص لهذا العلم ومدياته.
اننا لا ننكر وجود صلات عضوية وثيقة بين اصول الفقه ومقاصد الشريعة وفلسفة الفقه، خاصة إذا لاحظنا أن علم الاصول هو المحضن الذي توالد في فضائه هذان العلمان، إلاّ أن نشأة العلوم في التاريخ تكررت فيها حالة ولادة علوم متعددة من رحم علم واحد يمثل الأم لها. كما في ولادة علم الفقه في أحضان علم الحديث، وعلم الاصول في أحضان علم الفقه، وهكذا ولد علم المقاصد في أحضان علم الاصول، مثلما يولد الآن علم فلسفة الفقه في سياق علم الاصول أيضاً، غير أن فلسفة الفقه تستدعي مكوناتها من علوم اخرى ايضاً، مثل فلسفة الدين، وعلم الكلام القديم والجديد، وعلم التفسير والهرمنيوطيقا، والعلوم الألسنية، وغيرها.
وبوسعنا التعرف على تنوع هذه العلوم الثلاثة وتمايزها عبر الاستعانة بغرض كل واحد منها; لان الغرض أحد المعايير الهامة للتمييز بين العلوم حسب قول المرحوم الشيخ محمد كاظم الخراساني في «كفاية الأصول».
فالغرض الذي يلبيه علم الاصول هو – كما مر – تأمين العناصر المشتركة في الاستنباط الفقهي، أي أن مهمة هذا العلم ذرائعية آلية منهجية منطقية، فهو آلة الاستنباط، ومنهج البحث الفقهي، وبكلمة بديلة انه منطق الفقه. اما مهمة فلسفة الفقه فانها تقع خارج هذا المجال، لأنها مهمة معرفية «ابستمولوجية» واجتماعية «سوسيولوجية»، فهو لا يؤمّن للفقيه عناصر وأدوات الاستنباط، بل لا يساهم في إنتاج الفقه مثلما هي مهمة علم الاصول، وإنما يتمحور دور فلسفة الفقه في تفسير وبيان مضمون الفقه، وتشريح عملية تكوين الفقه، وتحليل نسيجه الداخلي، واكتشاف ما يرقد وراءه. بمعنى أنه بينما تتولى أدوات علم الأصول وقواعده بناء الفقه، تصف لنا فلسفة الفقه أثر ما قبل تلك الادوات والقواعد في أداء الفقيه واستنباطه، وتسعى لمعاينة صيرورة الفقه ومختلف العوامل المؤثرة في تشكيله.
أما مقاصد الشريعة فهي «المعاني والحِكَم الملحوظة للشارع في جميع احوال التشريع أو معظمها»(1). وعلم المقاصد يدرس أهداف الشريعة وغاياتها العامة، وهذا العلم نشأ أيضاً في اطار علم الاصول – كما ألمحنا – وبلغ مرحلة متقدمة على يد الشاطبي الغرناطي المتوفى سنة790 هـ في كتابه «الموافقات في أصول الشريعة»، وأعاد تحريره بعد ستة قرون الشيخ محمد الطاهر بن عاشور المتوفى سنة 1393هـ في كتابه «مقاصد الشريعة الإسلامية» واصطلح عليه «علم المقاصد».
وفي تراث مدرسة الفقه الشيعي ظهرت كتب عديدة كانت تمثل بداية مبكرة للمنحى المقاصدي التعليلي(2)، من أقدمها كتاب «علل الشرائع» للمفضّل بن عمر، واشهرها كتاب «علل الشرايع» للشيخ الصدوق المتوفى سنة 381 هـ.
ويبدو أن هذه المؤلفات نهجت نهجاً حديثياً أثرياً، كما نلاحظ فيما وصلنا منها، لكنّ ظروفاً تاريخية أعاقت نمو وتكامل هذا المنحى المقاصدي التعليلي، فلم يخط خطوات مميزة تتجاوز الجهود الواسعة في بداياته في مدرسة أهل البيت، مما يلزم استئناف النظر في تطوير المنحى المقاصدي التعليلي في التفكير الفقهي، بالإفادة من ذلك التراث، مضافاً إلى التراث المقاصدي الذي أنجزه العلماء المسلمون.
وقد بدأ الاتجاه المقاصدي يتبلور بوضوح في أثار جماعة من الدارسين في الحوزة العلمية الشيعية أخيراً، وهذا ما نلاحظه في الكتابات المتنوعة حول (المصلحة) وأثرها في التشريع الإسلامي، ودراسة اثر الزمان والمكان في الاجتهاد، والاهتمام بالأبعاد الاجتماعية للفقه، ومراعاة الضرورات والأولويات في تطبيق الشريعة.
فلسفة الفقه فى آثار السابقين
عادة ما تنشأ العلوم بامتصاص مكوناتها من العلوم السابقة لها، والتي تجد فيها بذراتها الجنينية، ثم تأتلف هذه البذرات فتتكون منها خميرة العلم الجديد، عندما يحين أجل ولادة هذا العلم وصياغة مرتكزاته وأسسه على يد أحد العلماء.
ويمكن أن نعثر على بوادر فلسفة الفقه في آثار غير واحد من الفقهاء والاصوليين في العصر الحديث، لكن الجهد التأصيلي الذي بلور مفهومات واضحة في حقل فلسفة الفقه سبق اليه الشهيد محمد باقر الصدر قبل أربعين عاماً تقريباً، في بحثه لاكتشاف المذهب الاقتصادي في الإسلام، وحديثه عن الخطر الذي يحف بعملية الاكتشاف، باعتبارها انعكاساً لاجتهاد معين، وهو خطر تسرب الذاتية إلى عملية الاجتهاد(3)، واشتداد هذا الخطر وتفاقمه بفعل الابتعاد عن عصر النص.
فقد عقد الشهيد الصدر بحثاً مفصلاً درس فيه منابع الذاتية في الاجتهاد، وحددها بأربعة منابع هي «تبرير الواقع، ودمج النص ضمن إطار خاص، وتجريد الدليل الشرعي من ظروفه وشروطه، واتخاذ موقف معين بصورة مسبقة تجاه النص»(4). وهنا يشير بصراحة إلى انه يقصد «باتخاذ موقف معين تجاه النص: الاتجاه النفسي للباحث، فان للاتجاه أثره الكبير على عملية فهم النصوص»(5).
ولسنا هنا بصدد استقراء مثل هذه الاشارات في آثار الفقهاء، وانما أردنا التذكير فقط بوجود محاولات رائدة في الاشارة الى قضايا فلسفة الفقه، قبل أن يتصدى بعض المعاصرين لاقتراح تأسيس علم تحت عنوان (فلسفة الفقه) بسنوات عديدة(6).
تقويم
ينبغي ان لا نُسرف في التوقعات، فنحسب أن فلسفة الفقه علم كفيل بإحداث منعطف في التفكير الفقهي، ذلك أن هذا العلم لما يزل في طور الولادة، فلم تتضح حتى الآن تمام مرتكزاته، وتقنن سائر قواعده، وتصاغ جميع أدواته، وتستبين كافة معالمه وحدوده، وليس ممكناً أن نقطف ثمرة علم في مثل هذه المرحلة, لا سيما إذا ما لا حظنا الالتباس الذي يكتنف رؤية بعض الباحثين المهتمين ببيان معالم واسس فلسفة الفقه.
مضافاً إلى أن عملية الاستنباط الفقهي ترتهنها مجموعة مشكلات وتجابهها عدة عوائق، ليست ناجمة بأسرها عن غياب فلسفة الفقه، وانما تستبطن عوائق غيرها، يعود قسم منها إلى قصور علم الاصول المتوارث من جهة، فيما يعود قسم آخر إلى عدم وفاء علوم ذات صلة عضوية بعملية الاستنباط بوظيفتها من جهة ثانية.
ويتجلّى التباس رؤية بعض الدارسين في حيرتهم وارتيابهم من بيان الدور الوصفي التفسيري لفلسفة الفقه، وكيف أنها تتولى الإخبار عن الواقع، ووصف وتفسير مجموعة الظواهر ذات الصلة بالاستدلال الفقهي. وهو دور ينسجم مع أغراض فلسفة الفقه وغاياته. فيما ينشد أولئك الدور المعياري الوصائي لهذا العلم، ويشددون على نفي الدور الوصفي التفسيري له.
وهكذا نلاحظ مظهراً آخر للالتباس في السجال حول ما إذا كان فيلسوف الفقه لاعباً في الميدان أم متفرّجاً يطلّ من الخارج على عملية الاستنباط الفقهي. بينما من الواضح أن فيلسوف الفقه لا يمارس الاستنباط، لكي يحتاج أن يكون في الميدان، وإنما هو يراقب العملية من الخارج، ويحاول اكتشاف وجهتها وما يتحكم فيها من عوامل.
ولا يعتقد البعض بجدوى ملاحقة فقه السلف وتقصّي فلسفة الفقه التراثي، عبر تحليل الانتاج الفقهي للاعلام الماضين، ويؤكد على ضرورة أن ينصب البحث على ما بأيدينا اليوم من انتاج فقهي. وبتعبير هؤلاء أن فلسفة الفقه الراهن هي التي تستطيع أن تخدم عملية الاستنباط، أما فلسفة الفقه الماضي فلا تجدي نفعاً في مشاغل الفقه الحاضرة.
لكن هذا الكلام لا يرتضيه مَنْ يعتقد أن الفقه عبارة عن مجموعة المعطيات المترابطة وفق نظام معين، ولها منهج وغايات محدّدة، وهو ظاهرة ذات هوية تاريخية واجتماعية. وفلسفة الفقه هي التي تبحث عن حقيقة الهوية التاريخية والاجتماعية عبر صيرورتها، ولا تتجمد في حقبة خاصة، فتدرس الفقه في مقطع يقف عند تلك الحقبة.
هذه إضاءات عاجلة تلخّص مفهوم فلسفة الفقه ووظيفته والمواقف والاتجاهات السائدة في بحثه.
وستظل بعض أبعاد فلسفة الفقه يلفّها الغموض مادامت هذه القضية في طور التشكل.
نقلاً عن موقع: مؤسسة الفكر الإسلامي المعاصر الإلكتروني
الهوامش:
(*) مدير مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، ورئيس مجلة قضايا إسلامية معاصرة، بيروت/بغداد.
(1) الشيخ محمد الطاهر بن عاشور وكتابه مقاصد الشريعة الإسلامية. تحقيق ودراسة: محمد الطاهر الميساوي. البصائر للانتاج العلمي، 1418هـ ـ 1998م : 171.
(2) أورد صاحب «الذريعة إلى تصانيف الشيعة» خمسة عشر كتاباً من مؤلفات القدماء تحت عنوان «علل». لاحظ الذريعة 15: 312 ـ 314.
(3) اقتصادنا. السيد الشهيد محمد باقر الصدر. المجمع العلمي للشهيد الصدر، 1408 هـ،(عملية الاجتهاد الذاتية : 402 ـ 423).
(4) المصدر السابق: 404.
(5) المصدر السابق: 413.
(6) أول من اقترح تدشين علم جديد باسم «فلسفة الفقه» هو الشيخ محمد مجتهد شبستري ـ فيما نعلم ـ في حوار اجرته معه مجلة: نقد ونظر (العدد الاول، اكتوبر 1994م):18 ـ 28. (يلاحظ أن اهم بُعد في دعوة الشيخ مجتهد شبستري لتشكيل فلسفة الفقه هو دراسة قبليات الفقيه ومواقفه المسبقة وخلفياته وثقافته ومحيطه وبيئته الخاصة ورؤيته الكونية واثركل ذلك في عملية الاستنباط).
المصدر: (نصوص معاصرة).