الفكر العربي بين التحرير والتخدير

أزراج عمر

 

منذ استقلال بلداننا إلى يومنا هذا لم يعط للفكر والمفكرين المجال والفرصة لبناء الدولة الحديثة وشروطها العلمية والثقافية والاقتصادية والتربوية والتقنية؛ فالمعمول به على مدى ما لا يقل عن نصف قرن هو ارتجال السياسات، والمشاريع الشكلية التي تُربط باستمرار بهذا الشخص أو ذاك في سدة الحكم، ثم سرعان ما تلغى أو تهمش بعد تغير الحكام والمسؤولين.

 

 

 

إن هذه الظاهرة هي من صميم الأزمة الفكرية في المشهد الفكري والسياسي في بلداننا جمعاء. وهنا نتساءل: هل أزمة الفكر العربي المعاصر أزمة مفاهيم أم أزمة أداء؟ ولماذا تتكرر نفس الأطروحات على نحو نمطي؟

 

 

 

إن مشكلة الفكر المعاصر هو أنه يتعامل مع أعراض الأزمة وليس مع البنيات المختلة. إن هذا الفكر يعادل غالبا الأعراض بأصل الأزمة، وأسبابها الجوهرية. ومن هنا نجده يعالج الأمور السطحية ولا يدخل في عمق المشكلات الكبرى التي تفرخ التخلف وتمظهراته سواء في السلوك، أو في الذهنية.

 

 

 

في هذا السياق فإن النظرية الفكرية المقاومة للأزمة هي ذلك الوعي الذي يتحول بناء في الواقع. وينبغي أن نعرف الأزمة حتى نستطيع أن نتعامل معها، ليس نقديا على المستوى النظري فقط، وإنما على مستوى قلع جذورها قلعا، واستبدالها ببنيات قادرة على أن تكون قاعدة للبناء الحقيقي والجدي والأكثر تقدما وتحضرا.

 

 

 

أستند هنا إلى تحليل المفكر الفلسطيني “إدوارد سعيد” وهو يناقش جملة من أفكار جورج لوكاش. قال سعيد بخصوص الأزمة بالاتكاء على لوكاش: “إن الأزمة تحوّل إلى نقد للواقع القائم. فالخبازون يكونون في إضراب لسبب ما. فالأزمة يمكن أن تفسر على أن النظام “النسق” لا يعمل على نحو ناجح. فالأزمة هنا لا تتمثل في إضراب الخبازين، بل إن الإضراب هو عرض لها؛ فالأزمة توجد في مكان آخر، أي في انعدام المادة التي يصنع منها الخبز، أو في ضعف مرتبات الخبازين” وهلم جرّا.

 

 

 

فالمعمول به في الحياة السياسية العربية هو الاستنفار ضد الإضراب ذاته سواء بسن قوانين تمنعه، أو بإقالة المسؤولين لامتصاص غضب المضربين، أو بحل النقابة التي تدافع عن حقوق هؤلاء الخبازين الذين نتخذهم هنا كمثال لشرح الموقف.

 

 

 

إننا نلمس ظاهرة التشخيص الفكري للأزمات في العالم العربي الذي يسقط باستمرار في هذا المطب. وبذلك، فإنه لا يحل الأزمات، وإنما يؤجل انفجارها الصاخب أو يغطي عليها بافتعال ترقيعات سرعان ما تفقد التأثر وتتحول بدورها إلى جزء من أجزاء البنية.

 

 

 

لنأخذ مثالا آخر لإضاءة الكيفية التي يتعامل بها الفكر العربي المعاصر مع التخلف باعتباره عنوانا للأزمة في الفكر، والثقافة والتعليم والسياسة. هنالك تيار يقترح بأن المخرج هو الديمقراطية. وبناء على ذلك فإن هذا التيار يلجأ إلى المطالبة بالتعددية الحزبية، وبمجرد أن تستجيب القيادة السياسية الحاكمة لهذا المطلب، فإن عناصر هذا التيار تغرق في التطبيل للديمقراطية المتحققة، والتحريف؛ ولكن هذا سرعان ما يكشف عن باطن الأشياء، ويبرز بأن الذي حصل لم يحرك سوى البنية السطحية، ولم يغير الذهنية، وبنية السلوك، والقيم السائدة، والعلاقات الاجتماعية التعسفية والثقافة التي ينبع منها كل هذا المشكل الذي يكمن وراء المجتمع اللاديمقراطي.

 

 

 

إن السبب يعود مرة أخرى إلى معالجة المظاهر الخارجية، أي الأعراض، وليس النسق الباطني الذي أسس ولا يزال يؤسس للتخلف في إدارة الحكم، وترشيد المجتمع. في هذا السياق وجدت المناقشة الفكرية التي يساهم بها الدكتور محمد العربي ولد خليفة الجزائري جديرة بالعرض والإبراز. ولقد لاحظت بأن الدكتور ولد خليفة ينطلق من منطلق النقد ما بعد الكولونيالي هادفا للتحرير الثقافي باعتباره واحدا من الآليات الضرورية فعلا لتجاوز الأزمة والتخلف فكريا وعمليا. وبهذا الصدد أجده يطرح سلسلة من الأسئلة: “حين نتحدث عن أزمة الثقافة، وننفي وجود هذه الثقافة، فلماذا نحصر الأزمة في الثقافة ونزعم أنها هيكلية، أي أن واحدا من انعكاساتها يظهر في الثقافة؟ وهل الثقافة كتلة واحدة صمّاء؟ أم هي تركيبة من ثقافات أولية وثانوية، وحديثة، وتقليدية، ورسمية وغير رسمية؟”.

 

 

 

ومن ثم يجيب عن أسئلته بما يدعم نظرية الكتلة التاريخية؛ وأقصد بهذه الكتلة أن الأزمة لا تحدث فقط على صعيد الثقافة بكل تنوعاتها المذكورة، وإنما تحدث تزامنيا على مستوى الاقتصاد والسياسة، والأخلاقيات. فالأزمة في المجتمعات العربية لا تقتصر على الثقافة والمنظومة التربوية، أو على صعيد الدين، وإنما تمتد إلى مجمل الواقع العربي، وتتغذى من سلسلة انتكاساتـه، وحروبه الأهلية وتطاحناته الطائفية والتراتبية الاجتماعية غير العادلة، ومؤسساته الاقتصادية العاجزة وتبعيته للمراكز الغربية بما يشبه التقليد الأعمى عن وعي ورضوخ، أو عن غير وعي تاريخي. إنها تمتد أيضا إلى العلاقات العشائرية والأسرية. وبذلك نجد الأزمة نتاجا لهذا الوضع العام في كليته وتركيبته.

 

 

 

وهكذا فإن التغيير لا ينبغي أن يكون جزئيا أو ظرفيا، وإنما شاملا يمس جميع البنيات التي تشكل ما ندعوه بالمجتمع. وبهذا الخصوص فإن الدكتور محمد العربي ولد خليفة يحلل جزءا مهما من واقع الأزمة في الفكر العربي المعاصر وتجلياته في المجتمع؛ إنه يطرح للحوار قضية مهمة جدا وهي فاعلية المفكر العربي.

 

 

 

وتنمو المناقشة عنده حين يشخص مواقع انعدام فاعلية المثقف والمفكر في الساحة العربية. في البداية يبرز عائقا لا يزال قائما في سلوك المفكر العربي وهو حياده “تجاه قضايا وطنه وأمته وعصره الذي يفقده الموقف والدور والوظيفة”. ويقترح مجموعة من الآليات لتجاوز هذا الوضع السلبي، كالالتزام بالتعبير عن الضمير الشعبي، وممارسة الحكم النقدي الشجاع على الأحداث واستخلاص نتائجها.

 

 

 

فالالتزام الذي يراد به كآلية للتغيير لا يعني به الالتزام الكوميدي الشكلي، إنما الارتباط الصادق بفكرة التقدم قولا وفعلا وأخلاقيات. كما أن ممارسة الحكم النقدي لا تعني مجرد إصدار الأحكام دون دراسة الظواهر والبواطن، وإنما تعني التقييم والتقويم بعد فحص الظاهرة الثقافية، أو الاجتماعية، أو الأخلاقية، أو السياسية فحصا علميا والوقوف على مواطن العجز فيها لاستبدالها بالطاقة المحركة، ومن ثم العمل بقوة الفكر الواعي على الدفع بها إلى الإقلاع والتحديث.

 

 

 

وفي سياق إشكالية الفاعلية الفكرية والعملية يطرح الدكتور ولد خليفة هذا السؤال: “لماذا يتفوق العلماء العرب في الجامعات والمعاهد الأجنبية ويتحولون إلى موظفين في بلدانهم؟”. مما لا شك فيه أن هذا السؤال من أكثر الأسئلة المطروحة على الفكر العربي ومنتجيه حرارة دراماتيكية.

 

 

 

وهنا نفتح إمكانية لفضاء النقاش: صحيح أن قضية الفاعلية لم تناقش في فكرنا المعاصر إلا نادرا وبكثير من الاستعجال، ومن هنا فإن انخراط الدكتور ولد خليفة في الدفع بالحوار حولها تسجل له ولصالحه. وهنا أريد التوضيح بأن ثمة من المفكرين العرب من انشغلوا بقضية الفاعلية. فالمثقف الإسلامي الجزائري الراحل مالك بن نبي قد طرح هذه المشكلة في مشروعه الذي دعاه بمشكلات الحضارة؛ إذ كتب في كتابه مشكلة الثقافة ما يلي: “فمن الملاحظ أن الطالب المسلم الذي يذهب لتلقي علومه في إحدى العواصم الأوروبية يحصل على الدبلوم نفسه الذي يحصل عليه زميله أكثر استعدادا وذكاء، ولكنه لا يحصل غالبا على فاعليته، أعني طريقة سلوكه وتصرفه أمام مشكلات الحياة الاجتماعية”.

 

 

 

إذن، فإن الفارق بين الطالب المسلم، وبين الطالب العربي بعد التخرج يتمثل في عدم فاعلية الأول، وفاعلية الثاني. فالمشكل لا يوعز أساسا إلى الأفراد، وإنما إلى الشروط الاجتماعية والسياسية التي يخضع لها كل فرد. وبتعبير مالك، الفارق هو في المناخ الحضاري: “إن المشاكل العديدة التي تطلق على مجموعها مصطلح التخلف، وهي في الواقع تعبيرات مختلفة عن مشكلة واحدة ومنفردة تواجه كل بلاد متخلفة، أي أنها مشكلة حضارة…”.

 

 

 

ومن ثم يضيف مبرزا أن الإنقاص من تخلص فعالية الفرد يعني الإنقاص من تخلف المجتمع، إلا أنه يتبقى لنا أن نعقد الصلة بين الثقافة والفعالية باعتبارها صفة ملازمة للإنسان المتحضر. فنتيجة الفاعلية أمر مؤكد بصور إجمالية في الوضعية الاجتماعية والاقتصادية لمجتمع متحضر، باعتبار أن حضارته ليست إلا تعبير عن مستوى معين للإنسان والتراب والزمن، المتضمنة في كل نتاج من منتوجاتها، وفي تركيبها الأصيل بصورة عامة”.

 

 

 

وهكذا يثير الدكتور ولد خليفة مشكلة أخرى تحد من الفاعلية بأن “العيب في الهياكل وليس في الأفراد”؛ وهنا أجد الدكتور ولد خليفة يتفق مع عدد من المفكرين البنيويين الذي يحاججون بأن البنية، أو البنيات بمختلف أنماطها في مجتمع معين هي التي تشكل الذات والذاتية.

 

 

 

والحال هذه، فإننا نتساءل أيهما يضع التاريخ: الفرد أم البنيات “الهياكل”؟ وما هو حظ الإنسان في تجاوز البنيات الموروثة أو المفروضة عليه؟ وبهذا الخصوص يمكننا أن نستدعي من جديد فاعلية المفكر العربي وقدرته على التجاوز، أي تجاوز الثقافة المتخلفة السائدة. مما لا شك فيه أن هذه هي ساحة الكفاح الفكري النقدي التي ينبغي أن يدخل المفكر العربي إليها بعد أن يكون هو نفسه قد أقام مسافة بين نفسه وبين المناخ السائد كعائق للتقدم، وبعد أن يمارس التطهير الذاتي لما علق به من شوائب الفكر المتخلف، والثقافة المعادية للفاعلية أو المثبطة لها، ولكل العناصر الذهنية والأخلاقية التي تنتج أو تعيد إنتاج التخلف.

 

 

 

إن إقامة المسافة بين الذات والواقع بكل أبنيته أمر فيه الكثير من التعقيد، ومحفوف بالصعوبات. فالذات ليست دائما مستقلة عن الواقع، وليست قادرة على أن تتنصل بجرة قلم. فالواقع ليس أشياء تقع خارج الإنسان دائما، حيث يكون أحيانا هو الذي يشكل هذه الذات الإنسانية إلى حد أنها لا تراه بسهولة كشيء خارج عنها. لقد قال الناقد محمود أمين العالم مرة بأن للتراث سلطة قوية تكاد تكون هي التي تحرك الإنسان.

 

 

 

وهكذا فإن عملية التطهير الذاتي هي من أكثر العمليات صعوبة وتعقيدا أيضا. فالفكر لا يقدر أن يتحرر من قيوده المرئية إلا إذا تمكن من مساءلة نفسه، ومكوناته، وآلياته، وجهازه الذي يتحكم فيه. في هذا تكمن شجاعة الفكر النقدي دائما.

 

المصدر: (العرب أونلاين).

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك