جهود أئمة الدعوة السلفية بنجد في التصدي للعنف والإرهاب من خلال الدعوة إلى فقه إنكار المنكر
جهود أئمة الدعوة السلفية بنجد
في التصدي للعنف والإرهاب
من خلال الدعوة إلى فقه إنكار المنكر
إعــداد
د. صالح بن عبدالله الفريح
عضو الجمعية العلمية السعودية للدراسات الدعوية
والأستاذ المساعد بقسم الدعوة والثقافة الإسلامية
بكلية الدعوة وأصول الدين - جامعة أم القرى
المقدمــة:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ..
• • [آل عمران: 102].
•• • • [النساء: 1].
• [الأحزاب: 70-71].
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار .
أما بعــد :
فقد أوجب الله في كتابه الكريم، ورسوله في سنته المطهرة على كل مسلم القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجاءت النصوص الشرعية تتضافر في هذا الجانب لتأكد على أهمية هذه الشعيرة وعظيم قدرها عند الله جل وعلا، حتى عدها بعض العلماء ركناً من أركان الإسلام، فعدوها ستة أركان بدلاً من خمسة( ).
ولأجل هذا الأمر عُني العلماء سلفاً وخلفاً بهذه الشعيرة العظيمة، فبينوا أصولها وشرحوا أسسها.
والمتأمل لواقعنا المعاصر يلحظ وبوضوح شيئاً من ذلك الانحراف في الفقه الحقيقي لكيفية إنكار المنكر حيث طغت الغيرة على محارم الله وزادت عن الحد المشروع الذي يرضاه الله تعالى، وتجاوز بها أصحابها في غلو لا يحكم به شرع ولا عقل، وكان نتاج ذلك أعمال إرهابية فيها تدمير وتفجير وقتل وإرهاب، الأمر الذي يوجب على طلبة العلم والعلماء والمفكرين والكُتَّاب القيام بدورهم في التصدي لهذه الأفكار المنحرفة وبيان ضلالها لقطع دابر الفساد والإفساد .
ولعل من أعجب ما يراه المتأمل لهذه الأحداث المعاصرة وما صاحبها من ردود أفعال، اتهام بعضهم لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب بالضلوع في تغذية مثل هذا الفكر المنحرف وأنها سبب لظهوره، في جهل واضح بحقيقة الدعوة، ومواقف أئمتها من مثل هذه الأعمال، ولعل للهوى دور كبير في مثل هذا الاتهام .
أسباب اختيار الموضوع :
1- بيان جهود أئمة الدعوة السلفية في نجد في محاربة التطرف والغلو وما يتبعهما من إرهاب، وأن مواقفهم إزاء ذلك مواقف صارمة لا تقبل التجاوز في هذا الباب .
2- غموض موقف أئمة الدعوة السلفية بنجد من التطرف والإرهاب لدى بعض من يعدون من المثفقين والمفكرين، وما يتبع ذلك أطروحات متطرفة تحمل دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب كثير من التبعات التي هي منها براء مما سيبينه هذا البحث بحول الله تعالى .
3- عدم وجود دراسة علمية تتناول هذه القضية وتبرز للناس الموقف الجيد النابع من حقيقة الإسلام ضد هذه الأفكار .
4- إبراز تحذير أئمة الدعوة السلفية بنجد من التطرف والغلو وما يتبعهما من إرهاب وإظهار بعض الفتاوى المهمة التي كتبها أئمة الدعوة في التحذير من قضايا نعيشها في واقعنا المعاصر اليوم .
5- بيان انحراف من زعم أن منهجه المتطرف والغالي وما يتبعه هو منهج أئمة الدعوة السلفية بنجد وبيان تفنيدهم لذلك وحقيقة منهجهم .
مشكلة البحث :
يمكن تحديد مشكلة البحث في بيان الموقف الحقيقي لأئمة الدعوة السلفية في نجد من الغلو والتطرف والعنف والإرهاب، وهل كانت تلك الدعوة تغذي التطرف والإرهاب أو هل هي سبب في ظهوره أو ظهور شيء من آثاره التي نعيشها اليوم من إرهاب وعنف.
حدود الدراسة :
ستكون الدراسة منصبة على استخراج المنهج لدى أئمة الدعوة السلفية بنجد في قضية إنكار المنكر ومحاربتهم للغلو والتطرف والعنف فيها وتجاوز المأمور به شرعاً في تطبيقها .
وسيركز الباحث على ما سطره أئمة الدعوة من العلماء والحكام ويحلل عباراتهم ويستنبط منها منهجهم العلمي في ذلك .
منهج البحث :
سيستخدم الباحث في هذا البحث المنهج التحليلي الاستنباطي حيث سيجمع النصوص الواردة عنهم في قضية إنكار المنكر وما يتعلق بها ثم يحلل عباراتهم ويدرسها بعناية مستنبطاً منها منهجيتهم في هذه القضية الهامة وسيكون ذلك وفق الخطوات الآتية:
1- جمع ما تيسر من رسائل أئمة الدعوة السلفية بنجد والكتب التي عُنيت بجمع تلك الرسائل ومؤلفاتهم واستخراج النصوص المتعلقة بالموضوع منها.
2- إجراء دراسة تحليلية لما جُمع من نصوص تتعلق بموضوع البحث واستنباط منهجهم منها.
3- التركيز على ما كتبه أئمة الدعوة السلفية بنجد دون ما نُقل عنهم ليتم الوصول إلى منهجهم دون وسائط قد تحرف البحث عن مسار .
4- الحرص على نقل عباراتهم بنصها غالباً في الموضوع ليكون واقعياً .
5- عزو الآيات لموضعها من كتاب الله .
6- عزو الأحاديث لمن خرجها مقدماً الصحيحين على غيرهما .
7- الترجمة للأعلام باختصار .
قائمة المحتويات :
وسوف يتكون البحث من مقدمة وتمهيد ومبحثين :
المقدمة: وفيها خطة البحث وأسباب اختيار الموضوع ومشكلة البحث وحدود الدراسة ومنهج البحث وقائمة المحتويات .
التمهيد: فيه نبذة عن الدعوة السلفية بنجد .
المبحث الأول: فقه ما يجب قبل الإنكار. وفيه ثلاثة مطالب هي:
المطلب الأول: حقيقة فاعل المنكر .
المطلب الثاني: التثبت وعدم العجلة .
المطلب الثالث: العلــم .
المبحث الثاني: فقه ما يجب حال الإنكار . وفيه ثلاثة مطالب هي:
المطلب الأول: الحكم إذا ترتب على الإنكار مفسدة أعظم.
المطلب الثاني: أسلوب الإنكار .
المطلب الثالث: الإنكار على ولاة الأمور (الحكام) .
تمهيــد
نبذة عن الدعوة السلفية بنجد :
في منتصف القرن الثاني عشر الهجري وفي قرية حريملاء التي تقع بنجد كان ظهور النشاط الأولي لدعوة تجديدية تهدف إلى إحياء الإسلام الصحيح في عقول الناس وقلوبهم، وقد تمثلت في الواقع بما قام به الشيخ محمد بن عبدالوهاب( ) من دعوة الناس إلى مبادئ الإسلام وعلى رأسها توحيد الله والتحذير من الإشراك به إذ هو « أعظم فريضة جاء بها النبي » ( )، التي وقع فيه انحراف عظيم حتى تصاغر انحراف المشركين الأولين أمام شرك المتأخرين في أمور، حيث اجتمع لهم الجهل وضعف العقل إذ الأولون أصح عقولاً منهم( ).
ولأجل هذا شمر الشيخ محمد بن عبدالوهاب عن ساعد الجد قياماً بواجب الدعوة إلى الله تعالى؛ لكن الأمور لم تأت كما أراد، فواجهته المصاعب يتلو بعضها بعضاً ؛ ففي حريملاء كاد يُقتل( )، ثم في العيينة تم طرده بسبب دعوته( )؛ حتى حط رحله في رحاب الأمير محمد بن سعود( ) الذي لم يتاون في نصر الدعوة والقيام لأجلها ولم يثنه عن مواصلة السير في طريق مناصرة الدعوة ما واجهه في سبيلها من صعوبات كان أبرزها معاداة الجميع له ورميهم إياه عن قوس واحدة، وما تبع ذلك من مقتل ابنيه فيصل وسعود( )، لكن ثبت على نصر الدعوة واستمر.
ويعد المؤرخون لقاء الشيخ محمد بن عبدالوهاب والأمير محمد بن سعود عام 1157هـ( )، والبيعة المباركة التي تمت بينهما في الدرعية نقطة الانطلاقة العملية للدولة السعودية في أول أدوارها وهي كذلك الانطلاقة الفعلية للدعوة السلفية بنجد إذ منها بدأت الدعوة تأخذ طابعاً جديداً متميزاً؛ يظهر في وجودها ضمن كيان قام عليها ولأجلها ويهدف لحمايتها ونشرها، ومن هنا بدأت الدعوة السلفية في نجد تأخذ تميزها، ومما أسهم في ظهورها وبروزها أئمتها الذين يمثلهم مجموعة من الحكام الذين تعاقبوا على إدارة أزمة الأمور في الدولة السعودية، وعلماء كان لهم دورهم البارز في نشر مبادئ الدعوة وأفكارها التي تمثل مبادئ الإسلام وأسسه، كما كان لهم دورهم الفاعل في القيام بواجب الحماية الفكرية لتلك المبادئ العظيمة التي تمثل حقيقة الإسلام، وهؤلاء العلماء هم الذين تتلمذوا على الشيخ محمد بن عبدالوهاب؛ أو على تلامذته، وانتهجوا الأفكار والمبادئ نفسها التي دعا إليها الشيخ المجدد سواء كانوا من أبنائه وأحفاده أو من غيرهم .
وهؤلاء الأئمة كانوا فاعلين في الدعوة السلفية بنجد، في أدوار الدولة التي مرت بها، فقد كان من أبرزهم في الدور الأول: المجدد الشيخ محمد بن عبدالوهاب، والشيخ عبدالعزيز الحصين( )، وحمد بن ناصر بن معمر( )، والشيخ عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب( )، وغيرهم؛ أما الحكام فقد كان منهم الأمير/ محمد بن سعود، ثم ابنه/ عبدالعزيز( )، ثم ابنه/ سعود( )، ثم ابنه/ عبدالله( )، وهو آخرهم في الدور الأول. أما الدور الثاني فقد كان منهم الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ( )، والشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ( )، والشيخ عبدالله أبا بطين( )، والشيخ حمد بن علي بن عتيق( )، ومن تلامذتهم الشيخ سليمان بن سحمان( )، والشيخ عبدالله بن عبدالعزيز العنقري( )، والشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ( )، والشيخ عمر بن محمد بن سليم( )، والشيخ سعد بن حمد بن عتيق( )، وغيرهم كثير، وأبرز من ولي الحكم فيه الإمام تركي بن عبدالله( )، وفيصل بن تركي( )، وعبدالله بن فيصل، وعبدالرحمن بن فيصل، ثم الملك الموحد المجدد عبدالعزيز بن عبدالرحمن في الدور الثالث.
ولا شك أن أئمة الدعوة السلفية بنجد كان يمثلون وحدة متكاملة تتكون من الحكام والعلماء وكان بينهم توافق عجيب حيث كان كلاهما يكمل دور الآخر( )؛ حتى ذكر الشيخ محمد بن عبدالوهاب في معرض تأكيده على أن كليهما يكمل صاحبه، ولا يمكن أن يصل أداؤهما إلى الدرجة المطلوبة إلا بالتعاون والتعاضد حيث قال رحمه الله: « … وترى الكل من أهل الدين والأمير ما يعبد الله أحد منهم إلا برفيقه … » ( ).
المبحث الأول
فقه ما قبل الإنكار
المطلب الأول - حقيقة فاعل المنكر:
أدرك علماء الدعوة السلفية بنجد أن من المهم جداً أن يدرك القائم بشعيرة إنكار المنكر حقيقة فاعل المنكر، وذلك أن بعضهم قد يطغى عليه النظر إلى المنكر وقبحه ومخالفته لأمر الله جل وعلا، ثم يغفل عن النظر إلى أن فاعل المنكر يبقى مسلماً، لا يخرجه فعل المنكر عن دائرة الإسلام، الأمر الذي يوجب على المسلم أن يتعامل مع أخيه وفق ما جاءت به النصوص الشرعية في التعامل بين المسلمين بعضهم مع بعض وفاءً بالحقوق التي شرعها الله بينهم .
ولأجل ذلك جاءت توجيهات علماء الدعوة تؤكد وترسخ هذا المعنى؛ في الدعوة إلى نظرة متوازنة للعاصي أو فاعل المنكر؛ تُراعي ما فيه من الشر وما فيه من الخير، فليس كل عاصٍ فاقد لكل الخير، ولأجل ذلك فالعاصي وفاعل المنكر يُبغضُ على ما فيه من الشر والمعصية، ويُحب على ما فيه من الخير، ولا ينبغي للمسلم أن يجعل بغضه على ما معه من الشر قاطعاً وقاضياً على ما معه من الخير فلا يحبه ( ).
ومن المؤكد أن إدراك هذا المعنى وفهمه وترسخه لدى القائم بهذه الشعيرة له تأثيره في أدائه، فإذا علم أن فاعل هذا المنكر (العاصي) هو أخ له في الإسلام، تجمع بينهما رابطة الدين، وأدرك الحقوق العظيمة لهذا الرابط ، وحقوق أخيه المسلم عليه، دفق هذا الشعور إلى الترفق بأخيه، والاهتمام باختيار الأسلوب الأمثل والأفضل لإنكار المنكر وتعليم العاصي دون الإجحاف بحقه أو الإضرار به .
ومن أخطر المشكلات التي تواجه الدعوة من بعض القائمين بهذه الشعيرة هي عدم الفهم الحقيقي لهذا الأمر، فتجد من يغفل عن هذا الأمر؛ بل يشتط بعضهم فيتجاوزه إلى أمور خطيرة لا تصدر عمن رزقه الله علماً وبصيرة؛ فيرمي أخاه بالكفر، ويخرجه من الملة لأجل معصية لا توجب ذلك .
ولإدراك أئمة الدعوة السلفية بنجد خطورة الأمر، واحتمال بل تأكد وقوعه من بعض الغالين؛ كانوا يحذرون من حدوث مثل هذا، ويقفون سداً منيعاً أمام التجاوز في هذا الباب، ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك موقف الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ لما عُين قاضياً في الأحساء عام أربعة وستين ومائتين وألف للهجرة النبوية، حيث وجد فيها رجلين قد اعتزلا الجمعة والجماعة وكفرا من بتلك البلاد من المسلمين بحجج واهية وشبهات باطلة، فأحضرهما الشيخ عبداللطيف وكشف شبهاتهما وأدحض ضلالتهما ورد على زعمهم أن هذا هو معتقد الشيخ المجدد محمد بن عبدالوهاب، وبيّن لهم أن الشيخ المجدد لا يكفر إلا بما أجمع المسلمون على تكفير فاعله بعد قيام الحجة وبلوغها المعتبر ( ).
ولم يكتف - رحمه الله - بذلك بل كان يحذر من يشعر أن لديهم شيئاً من الانحراف في ذلك من خلال المكاتبات والرسائل، يقول في إحداها مخاطباً من شعر أن لديهم انحرافاً في الفهم نحو التكفير: « وأما التكفير بهذه الأمور التي ظننتموها من مكفرات أهل الإسلام فهذا مذهب الحرورية المارقين الخارجين على علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ومن معه من الصحابة … » ( )، ويقول في بيان أن التكفير لمجرد المعاصي مخالف لما عليه أئمة الإسلام من أهل السنة والجماعة: « … والتجاسر على تكفير من ظاهره الإسلام من غير مستند شرعي ولا برهان مرضي يخالف ما عليه أئمة العلم من أهل السنة والجماعة وهذه الطريقة هي طريقة أهل البدع والضلال … » ( ).
ويقول الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ: « … ما دون الشرك والكفر من المعاصي فلا يكفر فاعله لكنه يُنهى عنه، وإذا أصر على كبيرة ولم يتب منها فيجب نهيه والقيام عليه، وكل منكر يجب إنكاره، من تَرْكِ واجبٍ أو ارتكاب محرمٍ، لكن لا يكفر إلا من فعل مكفراً دل الكتاب والسنة على أنه كفر، وكذا ما اتفق العلماء على أن من فعله أو اعتقده كفر … » ( ).
ومما يتعلق بهذا الباب أمر أكد عليه أئمة الدعوة السلفية - رحمهم الله- وهو أن الواجب على المسلم قبول علانية إخوانهم، ولا يجوز لأحد التجسس عليهم أو اتهام نياتهم، بل الواجب أن توكل السرائر إلى الله تعالى، ولأجل ذلك كتب الشيخ المجدد محمد بن عبدالوهاب ~ٍٍِِ مؤكداً على هذا الأمر حيث يقول:«… إن النبي كان يعرف منافقين بأعيانهم ويقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله، فإذا ظهر منهم وتحقق ما يوجب جهادهم جاهدهم… »( )، وهذا كلام نفيس، فقد أشار الشيخ فيه إلى أن العبرة ليست فقط بمجرد ظهور ما يوجب جهادهم، بل لا بد من التحقق الكامل من ذلك، وهذا تأكيد لوجوب التعامل مع هذا الأمر بحساسية بالغة إذ هو من أخطر الأبواب وأعظمها في إفساد المجتمع وتدميره ، فاتهام النيات ومحاكمة المقاصد والتجسس لأجل ذلك له آثاره الوخيمة وعواقبه الخطيرة على المجتمع إذ تُشغل أبناءه بعضهم ببعض مما يكون بداية النهاية له .
المطلب الثاني - التثبت وعدم العجلة :
التثبت في الأمور وعدم الاستعجال منهج إسلامي متميز؛ يحفظ على المجتمع تماسكه وتآلفه، ويحميه من الأخطاء والزلات التي يتبعها فساد عريض، ولأجل ذلك نبه القرآن الكريم على حكمةٍ من حكم هذا المنهج العظيم فقال جل وعلا: • ( )، فيندم الفاعل ويتألم المتضرر .
وقد أدرك أئمة الدعوة السلفية بنجد هذا الأمر فأكدوا عليه في رسائلهم وتوجهاتهم، يقول الشيخ محمد عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ في هذا الباب:
« … ينبغي لمن قصد الخير والدعوة إلى الله التوقع في الأمور والتثبت وعدم الطيش والعجلة … » ( ).
وينقسم التثبت عند أئمة الدعوة السلفية بنجد من خلال الاستقراء إلى قسمين:
أ ) التثبت من أن المنكر قد وقع على الحقيقة؛ إذ لا يكفي أن يذكر ذلك أو أن يتردد في المجالس في إشاعات مغرضة وأقاويل مختلقة، يتناقلها بعض من لا خلاق لهم ولا معرفة لديهم، يقول الشيخ المجدد محمد بن عبدالوهاب في هذا الأمر: « … الواجب عليهم إذا ذكر لهم عن أحد منكر عدم العجلة، فإن تحققوا أتوا صاحبه ونصحوه…»( ).
وفي قوله ترسيخ لهذا الأمر فلا بد من التحقق قبل الإقدام على أي تصرف مترتب على الخبر الذي ورد، فإذا تحقق وثبت صدقه، هنا يأتي دور العمل وهو النصح والإنكار وأما قبل ذلك فلا .
ب ) أن يثبت أن هذا الفعل هو من المنكر حقاً، وهذا بالعلم الشرعي الذي لا يتم إلا من خلال معرفة الكتاب والسنة المطهرة، ولذا كان من الواجب المتحتم والمتأكد على من ليس لديه معرفة بالكتاب والسنة، ولا يملك الأهلية لذلك، أن يتريث ويتثبت ولا يستعجل حتى يرجع للعلماء الراسخين في العلم المدركين لمقاصد الشريعة ومعانيها فلا يتجاوزهم ، وهذا من الأمور التي كان يؤكد عليها أئمة الدعوة السلفية بنجد حيث يقول الشيخ المجدد محمد بن عبدالوهاب في هذا الباب: « … والإنسان لا يجوز له الإنكار إلا بعد المعرفة، فأول درجات الإنكار معرفتك أن هذا مخالف لأمر الله … » ( ). ولتعلق هذا الأمر بمسألة من أهم المسائل التي عُني بها أئمة الدعوة السلفية بنجد فسوف نفرد القول فيها في المطلب الآتي إن شاء الله تعالى .
المطلب الثالث - العلــم :
لا شك أن من أهم الأسس التي يقوم عليها أي عمل يُراد له النجاح: العلم؛ إذ هو من أهم الأسس التي تحقق ذلك للعمل، ولا سيما في أمر الدعوة إلى الله تعالى، وخاصة في جانب إنكار المنكر لخطورة هذا الأمر؛ ولأجل ذلك جاءت وصايا وتوجيهات أئمة الدعوة السلفية بنجد، تحمل في طياتها الكثير عن العلم في جوانب مختلفة، تصب كلها في الوصول إلى أداء أكمل في جانب الدعوة إلى الله عموماً، وإنكار المنكر خصوصاً، فمن ذلك ما يأتي :
1- بيان أن من أهم وأخطر أسباب الغلو والتطرف هو الجهل حيث يوقع في الخطأ في الفهم؛ ويدفع إلى بناء تصورات غير صحيحة، وعليها تنبني تصرفات منحرفة توقع فظائع الأمور ( ).
2- ولأجل القضاء على الغلو والتطرف وما يتبعهما من الإرهاب كان لا بد من الاهتمام بالعلم وتعليم الناس عامة، والممارسين للعمل الدعوي بخاصة، إذ من المؤكد أنه يرفع كفاءة القائم بالإنكار إذا ما طبق مفردات العلم على أرض الواقع، وهذا أمر معلوم؛ إذ فاقد الشيء لا يعطيه، فكيف ينكر وفق الأصول المعتبرة شرعاً؛ من لم يتعلمها، ولا يعرف منها شيئاً، يقول الشيخ المجدد محمد بن عبدالوهاب بعد رسالة له ضمنها أصولاً مهمة في إنكار المنكر مبيناً أثر الجهل بها: « … فالله الله العمل بما ذكرت لكم والتفقه فيه فإنكم إن ما فعلتم صار إنكاركم مضرة على الدين » ( )، ولقد سلك أئمة الدعوة السلفية بنجد سبلاً كثيرة للرفع من قدرة الناس المعرفية وإيصال العلم إليهم بكل الوسائل والأساليب، فمن ذلك :
أ ) مخاطبة من له الإمامة وولاية الأمر بوجوب الاهتمام بتعليم الناس، والتأكيد على إرسال من يعلمهم أمور دينهم، يقول الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ للإمام فيصل بن تركي: « وعلى الإمام - وفقه الله - أن يبعث للدين عمالاً كما يبعث للزكاة عمالاً ليعلموهم دينهم … » ( )، ويقول في رسالة أخرى: « … وكذلك يجب على الإمام النظر في أمر العلم وترغيب الناس في طلبه وإعانة من تصدى للطلب … » ( )، ويقول الشيخ محمد بن عبداللطيف ومجموعة من العلماء في بيان أهمية نشر العلم ودور الإمام في ذلك: « إن مما أوجب الله ورسوله على من ولي الأمر نشر العلم وإقامة الدين … » ( ).
وقد كان أئمة الدعوة السلفية من الحكام يبذلون في هذا الأمر الشيء الكثير حيث يرسلون الدعاة إلى مختلف البلدان ليقوموا بدورهم في التعليم والتوجيه، يقول الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ في رسالة منه لأحد طلبة العلم متضمنة تكليفه بالقيام بواجب التعليم بأمر الإمام عبدالرحمن الفيصل( ): « … وقد أجمع الرأي والمشورة على إلزامك بالدعوة إلى الله والتذكير بدينه … وهذا خط الإمام عبدالرحمن وأهلك فلا تجاوب بلا ولن … » ( )، ويقول في رسالة موجهة لأمير من الأمراء: « … والواصل إليك ولدنا علي بن سليم( ) بتدبير الإمام بتذكير أهل الإسلام وحثهم على الثبات والتمسك بدين الله … » ( ).
ويقول الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ ومجموعة معه من العلماء في بيان جهد الإمام في ذلك: « … والإمام - وفقه الله - وأعانه مهتم لهذا الأمر، وقد بعث لأكثر القبائل دعاة يعلمونهم أمر دينهم … » ( ).
ب ) جعل التعليم إلزامياً على مجموعة من كل بلد حيث يتكفل الإمام بنفقاتهم، ويُفرغون لطلب العلم وتلقيه؛ ليقوموا بدورهم في تعليم قومهم بعد ذلك، وهو منهج سلكه الإمام سعود بن عبدالعزيز، يقول رحمه الله في رسالة له: « … وأنتم خابرون أني قد لزمت على كل أمير ناحية يخص على خمسة عشر أو أكثر أو أقل من أهل بلدانه؛ ويلزمهم طلب العلم؛ لأنه أمر ضروري … ولا أعذر كل أمير ناحية إلا عنده أناس مخصوصين، ويلزمهم طلب العلم، ويكتب لنا أسماءهم في ورقة ونوصلهم - إن شاء الله - ما يعاونهم على معيشتهم … » ( ).
ج ) التأكيد على طلبة العلم القيام بواجبهم في تعليم الناس وبذل ما رزقهم الله من علم وفهم، وفي ذلك يقول الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ: «فالواجب على من أعطاه الله شيئاً من العلم أن يبذله للطالبين، وأن يقوم بما أوجبه الله تعالى عليه من النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم … » ( ). ويقول الشيخ عبداللطيف في تأكيد ذلك على بعض طلابه: « … ونشر العلم وبيان السنة من أوجب الواجبات وأفضل الطاعات … » ( ).
3- التأكيد على أهم قضية في منهجية تلقي العلم وهي: كيفية التلقي، فليس المراد بطلب العلم هو أن يجمع منه شيئاً لا يفهمه ولا يدركه، بل القضية هي الفقه والفهم قبل الحفظ، ولأجل ذلك كان أئمة الدعوة السلفية يؤكدون على المنهجية الصحيحة في طلب العلم وتلقيه، وفي ذلك يبين الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز العنقري أن الواجب على طلبة العلم أن يأخذوا العلم عن أهله، ولا يعتمدوا على مجرد أفهامهم أو التلقي عن الكتب فقط، ويؤكد أن ذلك غير نافع( )، وفي بيان ذلك يقول الشيخ عمر بن سليم: « … أن الذي يستغني بمجموعة التوحيد أو يقلد من يقرأها وهو لا يعرف معناها قد وقع في جهل وضلال بل يجب عليه الأخذ عن علماء المسلمين … » ( ). ويقول الشيخ سعد بن عتيق: « وأعظم أسباب السلامة الهرب من سبل أهل الغي والفساد واقتباس نور الهدى من محله والتماس العلم النافع من حملته وأهله وهم أهل العلم والدين … » ( ).
ولا شك أن من لا يتلقى العلم عن العلماء هو على خطر عظيم، إذ إنهم يتعلقون بألفاظ تلك الكتب ويغيب عن كثير منهم معانيها( )، ومما يزيد الأمر بلاءً أن هذا الصنف لا يسأل العلماء فيما خفي عليه من المعاني فلا يظهر له المقصود لا بفهمه ولا باستفساره فيبقى في جهل وضلال وهو يظن أنه على علم، وفي هذا يقول الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ والشيخ عبدالله العنقري: « … فأما من تعلق بظواهر ألفاظ من كلام العلماء المحققين ولم يعرضها على العلماء بل يعتمد على فهمه وربما قال حجتنا مجموعة التوحيد أو كلام العالم الفلاني وهو لا يعرف مقصوده بذلك الكلام فإن هذا جهل وضلال … إذا عُرف هذا يتبين أن الذي يدعي أنه يستغني بمجموعة التوحيد عن الأخذ عن علماء المسلمين مخطئ … » ( ). ويقول الشيخ عمر بن سليم في وصف هذا البلاء: « … فأما من رغب عن سؤال العلماء أو قال حجتنا الكتاب الفلاني أو مجموعة التوحيد أو كلام العالم الفلاني وهو لا يعرف مقصوده بذلك فإن هذا جهل وضلال … » ( )، ويُبين الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ أن وجود الكتب وحدها لا يكفي بل يجب أن يؤخذ العلم عن عالم رباني فيقول: « … وإن كانت الكتب موجودة فهي لا تغني ما لم يساعده التوفيق وتؤخذ المعاني والحدود والأحكام عن عالم رباني » ( ).
4- الزهد بالأخذ عن العلماء من أهم أسبابه فقد الثقة بهم لأجل أهواء وشبهات وحسد تدفع إلى الطعن بهم، ولأجل ذلك جاء تحذير أئمة الدعوة السلفية من الطعن في علماء المسلمين الصادقين لأن ذلك يوجد الفجوة ويزيدها بين العلماء وطلبة العلم والعامة؛ الأمر الذي ينعكس سلباً على طلبة العلم؛ حيث يصدهم الشيطان بمكره عن التلقي من العلماء، ويزين الطعن فيهم، واتهامهم بالتهم الباطلة، وقذفهم بالأوصاف القبيحة؛ لتزداد الفجوة مما يحرم طلبة العلم من الاستفادة من أولئك العلماء وما رزقهم الله من العلم النافع فيبقون في ضلالتهم وجهلهم ويحسبون أنهم على شيء، يقول الشيخ عمر بن سليم: « ومن كيد الشيطان أيضاً الذي صدهم عن تعلم العلم وطلبه واتهام علماء المسلمين وسوء الظن بهم وعدم الأخذ عنهم وهذا سبب لحرمان العلم … » ( ). ويقول الشيخ محمد بن عبداللطيف والشيخ عبدالله العنقري في التحذير من ذلك: « ومما أدخل الشيطان على بعض المتدينين اتهام علماء المسلمين بالمداهنة وسوء الظن بهم وعدم الأخذ عنهم، وهذا سبب لحرمان العلم النافع، والعلماء هم ورثة الأنبياء في كل زمان ومكان فلا يُتلقى العلم إلا عنهم . فمن زهد في الأخذ عنهم، ولم يقبل ما نقلوه فقد زهد في ميراث سيد المرسلين … والعلماء هم الأمناء على دين الله فواجب على كل مكلف أخذ الدين عن أهله كما قال بعض السلف: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم … » ( ).
وليست الخطورة في حرمان العلم فحسب بل تتعداه إلى أمور من أخطرها :
أ ) أن تجاوز الأدب مع العلماء في وصفهم بما لا يليق من الذنوب العظام، ولا يجوز لمسلم الوقوع فيها فهي غيبة لورثة الأنبياء الموقعين عن رب العالمين ولذا حذر أئمة الدعوة من ذلك يقول الشيخ سعد بن عتيق: « … ومن ذلك ما وقع من غلاة هؤلاء من اتهام أهل العلم والدين ونسبتهم إلى التقصير وترك القيام بما وجب عليهم من أمر الله سبحانه وتعالى وكتمان ما يعلمون من الحق ولم يدر هؤلاء أن اغتياب أهل العلم والدين والتفكه بأعراض المؤمنين سم قاتل وداء دفين وإثم واضح مبين … » ( )، ويوضح رحمه الله أن الوقوع في هذا دلالة ظاهرة على جهل فاعله وسبب مباشر لموت قلبه فيقول: « … الوقوع في أهل العلم والدين وإساءة الظن بهم ونسبتهم إلى ترك ما أوجب الله عليهم من الدعوة إلى الله والنصح لأئمة المسلمين وعامتهم … هذا من جهلهم وعدم مبالاتهم بما يقعون فيه من الغيبة لأهل العلم وثلبهم إياهم وذمهم وانتقاصهم ومن وقع في أهل العلم بالعيب والثلب ابتلاه الله بموت القلب …»( )، وهؤلاء لم يراعوا حق العلماء ولا عظيم قدرهم ولا رفيع منزلتهم ولم يحفظوا لهم سابقتهم في الإسلام وما بذلوه لطلب العلم وفي هذا الصدد يقول الشيخ سعد بن عتيق: « … والتماس العلم النافع من حملته وأهله وهم أهل العلم والدين الذين بذلوا أنفسهم في طلب الحق وهداية الخلق متى صاروا شهوداً لهم بالهداية والعدالة، وصانوا أنفسهم عن صفات أهل الغي والضلالة… » ( ).
ب ) ومما يتبع هذا الأمر التأكد قضية خطيرة وهي أن الطاعن في العلماء يعتاض عنهم بمن يوافق هواه من الجهلة الذين لا دراية لهم بأحكام الشريعة على الحقيقة ممن علم شيئاً وغابت عنه أشياء، الذين يتزيّون بزيّ العلماء والعلم والعلماء منهم براء فهم يخبطون خبط عشواء في جهالة وضلالة عمياء( )، وهؤلاء يفسدون عقائد الناس ويضلونهم بغير علم، يقول الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ: « … وهل حدث الشرك في الأرض إلا برأي أمثال هؤلاء المخالفين الذين يظهرون للناس في زي العلماء وملابس الصلحاء وهم من أبعد الخلق عما جاءت به الرسل … » ( )، ويقول أيضاً: « … وأخبرتكم أن هذا من أكبر الوسائل وأعظم الذرائع إلى ظهور الشرك ونسيان التوحيد، وأن من أعظم ذلك وأفحشه ما يصدر من بعض من يظنه العامة من أهل العلم وحملة الدين وما يصدر منهم من التشبيه والعبارات التي لم يتصل سندها ولم يعصم قائلها وبهذا ونحوه اتسع الخرق … » ( ).
ويؤكد الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ على التحذير من اللجوء إلى من لا يعرف عنهم رسوخ العلم وثبوت القدم فيه ممن تظاهروا بالعلم وهم لا يملكون الفقه الذي يؤهلهم لتوجيه الناس وتعليمهم لا سيما في القضايا المشكلات فيقول: « … ينبغي لمن قصده الخير والدعوة إلى الله التوقع في الأمور والتثبت وعدم الطيش والعجلة والحرص على الرفق والملاطفة في الدعوة فإن في ذلك خيراً كثيراً وينبغي له أن يعرف من له قدم صدق ومعرفة راسخة فيسأله ويستفتيه، ولا ينظر إلى الأشخاص ولا من ليس له بصيرة … وأقل الأحوال إذا لم يحصل للعبد ذلك أن يقتصر على نفسه … » ( ).
وأساس البلاء عند هؤلاء أنهم يهرفون بما لا يعرفون، يتكلمون في المعضلات ويعالجون أكبر الملمّات، وهم لا يملكون من العلم اسمه ولا رسمه، وهؤلاء هم القائلون على الله بغير علم، ولذا كان أئمة الدعوة السلفية يتصدون بكل قوة، ويحذرون بكل وسيلة من سلوك هذا المنهج، يقول الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ في التحذير من ذلك: « … والقول على الله بلا علم والخوض في دينه من غير دراية ولا فهم فوق الشرك واتخاذ الأنداد معه … » ( )، ويتجاوز دورهم الإفسادي ذلك، فهم من أعظم أسباب التفرق والخلاف والشقاق، يقول الشيخ عمر بن سليم محذراً: « ومن الأمور التي زينها الشيطان التفرق والاختلاف في الدين وسبب ذلك كلام أهل الجهل بأحكام الشرع، فلو سكت الجاهل سقط الاختلاف والكلام في دين الله بغير علم، وخوض الجاهل بمسائل العلم قد حرمه الله تعالى في كتابه حيث يقول: • ( )» ( )، ويقول الشيخ سعد بن عتيق: « ومن أعظم أسباب التفرق والاختلاف والعدول عن طريق الحق والإنصاف ما وقع من كثير من الناس من الإفتاء في دين الله بغير علم والخوض في مسائل العلم بغير دراية ولا فهم » ( ).
ولخطورة هذا الأمر فقد وردت عباراتهم في رسائلهم تحذر من القول على الله بغير علم ولا سيما عند ظهور هذا البلاء ( ).
ج ) التأكيد على أهمية فقه حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا سيما لطلبة العلم، فليس المراد معرفة وجوبها فقط؛ بل الأهم معرفة كيفية الأداء الأمثل لهما، ولا سيما قضية إنكار المنكر، وفي هذا يقول المجدد محمد بن عبدالوهاب: « … وأهل العلم يقولون: الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يحتاج إلى ثلاث: أن يعرف ما يأمر به وينهى عنه، ويكون رفيقاً فيما يأمر به وينهى عنه، ويكون صابراً على ما جاءه من الأذى في ذلك. وأنتم محتاجون للحرص على فهم هذا والعمل به، فإن الخلل ما يدخل على صاحب الدين إلا من قلة العمل بهذا أو قلة فهمه …… فالله الله في العمل بما ذكرت لكم والتفقه فيه فإنكم إن ما فعلتم صار إنكاركم مضرة على الدين … » ( ).
ويقول الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ: « … وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يستقيم إلا بالبصيرة والمعرفة التامة … » ( )، فإذا لم يكن له معرفة وعلم فيرشده الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ بقوله: « … أن يعرف من له قدم صدق ومعرفة راسخة فيسأله ويستفتيه، ولا ينظر إلى الأشخاص ولا من ليس له بصيرة » ( )، فإذا لم يكن ذلك فالواجب عليه كما يرشد الشيخ أيضاً: « أن يقتصر على نفسه » ( )، ليسلم ويُسلم منه .
المبحث الثاني
فقه ما يجب حال الإنكار
لعل مما لا شك فيه أن الممارسة الفعلية لواجب إنكار المنكر تحتاج من القائم بها إلى فقهٍ لكيفية الإنكار الصحيحة، وبدون هذا الفقه لا يتحقق الهدف منها، وهذا أمر له دوره المهم في نجاح الداعية، ولعل من أهم ما يجب على المسلم فقهه حال إنكار المنكر ما يأتي:
المطلب الأول - الحكم إذا ترتب على الإنكار مفسدة أعظم:
والمراد هنا أن المنكر قد يترتب على إنكاره وقوع مفسدة أعظم من المنكر نفسه، وهذا أمر معلوم ومشاهد .
ولإدراك هذا الأمر على حقيقته لا بد أن يدرك كل مسلم ما المقصد من التشريع الإلهي، وهو أمر كان أئمة الدعوة السلفية يعنون به، يقول الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ في إحدى رسائله منبهاً عليه: « والقصد من التشريع والأوامر تحصيل المصالح ودرء المفاسد حسب الإمكان وقد لا يمكن إلا مع ارتكاب أخف الضررين أو تفويت أدنى المصلحتين … » ( ).
والمتأمل يدرك خطورة الفهم الخاطئ في قضية ترتيب الأولويات في إنكار المنكر، وقد عُني أئمة الدعوة السلفية بنجد بهذا الأمر عناية فائقة، فكانوا ينبهون على الواجب فيها، حيث يبينون في كثير من رسائلهم أن المنكر إذا ترتب على إنكاره منكرٌ أكبر منه لم يجز الإنكار؛ سواء كان المترتب مفسدة عامة أو مضرة خاصة، ولذلك كانوا يؤكدون في رسائلهم على هذا المعنى وتأصيله من خلال بيان أنه رأي قديم قال به العلماء، يقول الشيخ محمد بن عبدالوهاب: «… يذكر العلماء أن إنكار المنكر إذا صار يحصل بسببه افتراق لم يجز إنكاره… » ( ).
ويبين المزيد حول هذا الأمر الشيخ حمد بن ناصر بن معمر فيقول: « … ولكن إن خاف حصول منكر أعظم سقط الإنكار، وأنكر بقلبه وقد نص العلماء على أن المنكر إذا لم يحصل إنكاره إلا بحصول منكر أعظم منه لا ينبغي، وذلك لأن مبنى الشريعة على تحصيل المصالح وتقليل المفاسد … »( )، بل إن الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ كان يدعو في رسائله إلى التفكر في النتيجة قبل ممارسة الشعيرة؛ حتى لا يقع الخلل ثم تصعب المعالجة، ولا سيما بعد وقوع النزاع والشقاق فيقول: « وأوصيكم أيضاً بالبصيرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا أمر الإنسان من أمور الخير نظر فإن كان يترتب على ذلك الأمر خير في العاجل والآجل وسلامة في الدين وكان الأصلح الأمر به؛ مضى فيه بعلم وحلم ونية صالحة، وإن كان يترتب على ذلك الأمر شر وفتن وتفريق كلمة في العاجل والآجل ومضرة في الدين والدنيا وكان الصلاح في تركه؛ وجب تركه ولم يأمـــر به؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح…» ( ).
ومن الذين أكدوا على وجوب مراعاة هذا الأمر من أئمة الدعوة السلفية بنجد؛ الشيخ سليمان بن سحمان حيث يقرر أن الإنكار لأي منكر إذا كان يسبب قمعاً لأهل الحق، ويمنعهم من إظهار دينهم، واجتماعهم عليه والدعوة إليه، ويسلط عليهم أعداءهم؛ فيشتتوهم ويشردوهم في كل مكان، أو يؤذوهم ويضيقوا عليهم، أو كان يسبب إظهاراً لأهل الباطل وإعلاءً لكلمتهم على أهل الحق؛ لم يكن الإنكار جائزاً، بل هو - والحال هذه - مخالف لما يحبه الله ويقرب إليه، وهنا يجب مراعاة القاعدة الشرعية التي تنص على أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، بل يبين الشيخ أمراً آخر لا يقل أهمية عن سابقه وهو: أنه لو حكم على الحكام بالردة؛ وهم لا يجرون أحكام الكفر في بلادهم، ولا يمنعون إظهار شعائر الإسلام، فالبلد حينئذٍ بلد إسلام بعدم إجراء أحكام الكفر فيها، ولأجل ذلك فمراعاة درء مفسدة الإنكار التي تؤدي إلى قمع أهل الحق، وتشريدهم وتشتيتهم وإذلالهم وإظهار أهل الباطل باطلهم، وإعلاء كلمتهم على أهل الحق؛ مقدم على مصلحة الإنكار على الحكام ومنابذتهم، ولأهمية كلامه رحمه الله ٍٍِِ في هذا أنقله بنصه هنا حيث يقول: « وقد ذكر أهل العلم أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فدرء مفسدة قمع أهل الحق وعدم إظهار دينهم واجتماعهم عليه والدعوة إلى ذلك، وعدم تشتيتهم وتشريدهم في كل مكان؛ مقدم على جلب مصلحة الإنكار على ولاة الأمور، مع قوتهم وتغلبهم وقهرهم، وعجز أهل الحق عن منابذتهم وإظهار عداوتهم، والهجرة عن بلادهم، بمجرد الدخول في طاعتهم في غير معصية الله ورسوله، فإذا كان لأهل الدين حوزة واجتماع على الحق وليس لهم معارض فيما يظهرون به دينهم ولا مانع يمنعهم من ذلك، وكون الولاة مرتدين عن الدين بتوليهم الكفار، وهم مع ذلك لا يجرون أحكام الكفر في بلادهم، ولا يمنعون من إظهار شعائر الإسلام؛ فالبلد حينئذٍ بلد إسلام لعدم إجراء أحكام الكفر، كما ذكر ذلك شيخنا الشيخ عبداللطيف رحمه الله ٍٍِِ عن الحنابلة وغيرهم من العلماء، وإذ كان الحال على ما وصفناه فمراعاة درء مفسدة قمع أهل الحق وتشريدهم وتشتيتهم وإذلالهم، وإظهار أهل الباطل باطلهم وإعلاء كلمتهم على أهل الحق، وكذلك مراعاة جلب المصالح في إعزاز أهل الحق، واحترامهم وعدم معارضتهم مقدم والحالة هذه على مصلحة الإنكار على ولاة الأمور، من غير قدرة على ذلك، لأجل تغلب أهل الباطل وقوتهم وعجز أهل الحق عن منابذتهم، وعدم تنفيذ الأمور التي يحبها الله ويرضاها، فدرء المفسدة المترتبة على الإنكار على الولاة أرجح من المصلحة المترتبة على منابذتهم بأضعاف مضاعفة، وإذا استلزم الأمر المحبوب إلى الله أمراً مبغوضاً مكروهاً إلى الله، وتفويت أمر هو أحب إلى الله منه لم يكن ذلك مما يحبه الله ويقرب إليه؛ لما ينبني عليه ذلك من المفاسد وتفويت المصالح، وقد ذكر أهل العلم قاعدة تنبني عليه أحكام الشريعة؛ وهي ارتكاب أدنى المفسدتين لتفويت أعلاهما وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاها » ( ).
ولقد أدرك أئمة الدعوة السلفية بنجد أهمية هذا الأمر؛ فكانوا يعلمون من خلال رسائلهم وفتاويهم طلبة العلم وعامة الناس الموازنة بين المصالح والمفاسد، فمن ذلك فتوى للشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ يقول فيها: « … وأما البداءة بالسلام فلا ينبغي أن يُبدأ الكافر بالسلام؛ بل هو تحية أهل الإسلام، لكن إن خاف مفسدة راجحة وفوات مصلحة كذلك فلا بأس بالبداءة … »، ثم يقول في بيان تطبيقات أساليب الإنكار وكيف يمكن مراعاة المصالح في ذلك والمفاسد: « … والهجر إنما شرع لما فيه من المصلحة وردع المبطل، فإذا انتفى ذلك وصار فيه مفسدة راجحة فلا يُشرع » ( ).
والخلاصة أن تطبيق هذه الشعيرة له ميزان مهم يجب أن يقاس به، وهو مراعاة المصالح والمفاسد، فلا يصح أن يكون القيام بهذه الشعيرة سبباً لما لا تحمد عقباه؛ من تسليط لأهل الباطل على أهل الحق! وإيجاد أسباب لهم ليشنوا عدوانهم ويمارسوا ظلمهم ويتهجموا على أهل الحق، ويسوموهم ومبادئهم كل سوء وأذى، مع أن سُبل التغيير والإصلاح متعددة ليست فقط سبيلاً واحداً .
ومن خلال ما سبق نلحظ بُعد نظر أئمة الدعوة السلفية بنجد في معالجة مثل هذه الظواهر والتصدي لها، ويتضح بما لا يدع مجالاً للشك سلامة فكرهم ومبادئهم من الدعوة إلى استخدام العنف والإرهاب في الإنكار بكل حال وأنهم يملكون منهجية متزنة في معالجة المنكرات والتعامل معها، بذلوا وسعهم في بيانها وتوضيحها للناس عموماً ولطلبة العلم خصوصاً.
المطلب الثاني - أسلوب الإنكار :
لا شك أن أسلوب إنكار المنكر مهم جداً في قبول المخاطب لهذا الإنكار، إذ إن النفوس البشرية تميل إلى القول اللطيف والتعامل الحسن، ولذا جاء في كتاب الله تعالى الأمر بالإحسان عموماً والإحسان في القول خصوصاً: • ( )، •• ( )، ومن أراد أن يغير المنكر بلفظ جاف وأسلوب غليظ؛ فإن احتمال نجاحه ضعيف للغاية، وليس سبباً مقبولاً أن يُعتذر بالمعصية على الغلظة إذ إن الإنكار للإصلاح وليس للعقاب .
ولقد بذل أئمة الدعوة السلفية بنجد جهوداً مباركة في بذل النصح والتوجيه للوصول إلى تطبيق أساليب الإنكار وفق ما جاءت به الشريعة، كما كان لهم دور كبير وفاعل في التصدي للانحرافات عن المنهج الرباني في ذلك، ولعل جهودهم تبرز من خلال ما يأتي :
1 ) تصحيح المفاهيم الخاطئة التي قد تدفع إلى استخدام الغلظة والعنف في الإنكار، ومن أبرزها:
أ - ارتكاب فاعل المنكر لما حرم الله، وصواب قول المُنْكِر .
ب - ظن بعضهم أن التلطف واللين من المداهنة في دين الله .
ج - اعتقاد أن الغلظة هي الأصل وبيان الأصل في الدعوة والحث عليه .
وتفصيل ذلك في ما يأتي :
أ - قد يفهم بعض من تجاوزت الغيرة على محارم الله لديهم الحد المراد شرعاً، أن مجرد وقوع فاعل المنكر في معصية، وارتكابه للمنكر، وصواب ما يذهب إليه هو، مما يبيح له أن يعالج هذا الخطأ بأي شكل، ولو كان بالتعدي على فاعل المنكر بالسب أو الشتم أو الضرب، وهذا فهم خاطئ، لذلك نجد الشيخ محمد بن عبدالوهاب يشير في معالجته لمثل هذا الأمر بقوله: « … بعض أهل الدين ينكر منكراً وهو مصيب؛ لكن يخطئ في تغليظ الأمر إلى شيء يوقع الفرقة بين الإخوان … » ( )، ويقول الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ عن فاعل المنكر: « … ينبغي هجره وكراهته فهذا هو الذي يفعله المسلمون معه من غير تعنيف ولا سب ولا ضرب ويكفي في حقه إظهار الإنكار عليه وإنكار فعله … » ( ).
ب - ومن الخلل الذي عالجه أئمة الدعوة السلفية في هذه القضية ظن بعضهم أن التلطف والرفق بفاعل المنكر من المداهنة في دين الله وتقديم رضى الخلق على رضى الخالق جل وعلا، ولا شك أن هذا الفهم السقيم يدل على جهل صاحبه ويدفعه إلى انتهاج الغلظة والعنف مع كل عاصٍ ثم يصبح طبعًا له حتى مع كل مسلم.
ولقد كان لأئمة الدعوة السلفية دورهم ومخاطباتهم في معالجة هذا الفهم الخاطئ وتصويبه، من ذلك كلام نفيس للشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ في بيان الفرق بين المداراة والمداهنة حيث يقول: « أما الفرق بين المداراة والمداهنة: فالمداهنة: ترك ما يجب لله من الغيرة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتغافل عن ذلك لغرض دنيوي وهوى نفساني … وأما المداراة: فهي درء الشر المفسد بالقول اللين وترك الغلظة. أو الإعراض عنه إذا خيف شره أو حصل منه أكبر مما هو ملابس … » ( )، وبهذا يتجلى عن الفهم الخلل الملابس لهذه القضية .
ج - ومن الخطأ في الفهم الظن بأن الغلظة هي الأصل وأنها كانت ديدناً للرسول أخذاً من قوله تعالى: • ( )، ويوضح هذا المعنى الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ بقوله: « … فإن هذا يصار إليه إذا تعينت الغلظة ولم يجد اللين كما هو ظاهر مستبين، كما قيل آخر الطب الكي، وهو أيضاً مع القدرة ويشترط أن لا يترتب عليه مفسدة … ثم إن الآية آية الغلظة مدنية بعد تمكن الرسول وأصحابه من الجهاد باليد وظهور الاستمرار على الكفر من أعدائهم فوقعت الغلظة في مركزها حيث لم ينفع اللين » ( )، ويقول واصفًا حال الرسول في دعوته للمشركين: « … فمكث على ذلك يدعو ويذكر ويعظ وينذر مع غاية اللطف واللين فتارة يكني المخاطبين، وطورًا يأتي نادي المتقدمين أو المترأسين، وحيناً يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون . وناهيك بخلق مدحه القرآن وأثنى على حلمه في الدعوة البيان … » ( )، ويؤكد هذا المعنى بضرب مثال في عصر الصحابة لرجل منهم كان له أكبر الأثر في دعوة الناس وهدايتهم وهو من ألطف الناس أسلوباً وأرقهم عبارة وهو الصديق رضي الله عنه وفي مقابله ما لقيه بعض الصحابة من عتب الرسول لما شقوا على الناس، ومقصدهم حسن ونيتهم صالحة فيقول: « … وكان الصديق أكمل الناس ولذلك أسلم على يده وانتفع به أمم كثير بخلاف غيره فقد قيل لبعضهم إن منكم منفرين …»( )، ويعد الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ أن الجهاد بالحجة والبيان مقدم على الجهاد بالسيف والسنان ( ).
والمتأمل للغاية من الدعوة ومقاصد الشريعة يدرك أن القصد هو تحصيل المصالح ودرء المفاسد، وهذا يحتاج إلى نظر وتحقق للوصول إليها بالوسائل الصحيحة، ومن أهمل ذلك أو ضيعه فجنايته على الناس وعلى الشرع أعظم جناية ( ).
2 ) بيان الانحرافات في أساليب إنكار المنكرات التي وقع فيها بعض الناس والتحذير منها:
تغيير المنكر والنهي عنه لا بد أن يتقيد بالشرع ولا يتجاوزه بحال؛ لأن المتجاوز لما شرع الله يشرع لنفسه وهذا أمر محرم، بل يجب على المسلم أن يكون وقافاً عند حدود الله لا يتعداها: ( )، وأساليب إنكار المنكر جاءت وفق قواعد عامة وضحها أئمة الدعوة السلفية بنجد فلا يجوز بحال مخالفتها وإلا كان ضرر الفعل عظيماً ، يقول الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ في بيان ذلك والتحذير من تجاوزه: « … والقصد من التشريع والأوامر تحصيل المصالح ودرء المفاسد حسب الإمكان وقد لا يمكن إلا مع ارتكاب أخف الضررين أو تفويت أدنى المصلحتين واعتبار الأشخاص والأزمان والأحوال أصل كبير فمن أهمله وضيعه فجنايته على الشرع والناس أعظم جناية . وقد قرر العلماء هذه الكليات والجزئيات وفصلوا الآداب الشرعيات فمن أراد أن ينصب نفسه في مقام الدعوة فليتعلم أولاً وليزاحم ركب العلماء قبل أن يرأس فيدعو بحجة ودليل ويدري كيف السير في ذلك السبيل، فإن الصبابة لا يعرفها إلا من يعانيها والعلوم لا يدريها إلا من أخذها عن أهلها وصحب راويها … » ( ).
ولم يكتف أئمة الدعوة السلفية بنجد بتأصيل هذه القضية؛ بل كانوا يتابعون ما يقع على الساحة الدعوية فينبهون على الأخطاء، ويحذرون من الزلات، ويوضحون منهج السلف الصالح في الدعوة والإنكار ، ولعل من أبرز توجيهاتهم في التصدي للعنف والإرهاب في أساليب الإنكار ما يأتي :
أ ) تصديهم للتجاوز في استخدام أسلوب الهجر: والمراد من الهجر هو هجر فاعل المنكر وعدم الحديث معه والسلام عليه، كما فعل رسول الله مع الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك( ).
ولقد كان أئمة الدعوة السلفية يؤكدون أن هذا الأسلوب ليس كما يعتقده بعضهم أمراً هيناً؛ فيهجر من خالفه بالرأي، أو لم يقبل منه، إذ هو يحتاج إلى فقه وبصيرة وفي ذلك يقول الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ: « وهجران أهل المعاصي يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يستقيم إلا بالبصيرة والمعرفة التامة … » ( )، ويوضحون أن الهجر شرع لحكمة عظيمة وهي التأديب والتعزير وفي ذلك يقول الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ والشيخ عبدالله العنقري: « … والهجر إنما شرع تأديباً وتعزيراً بترك السلام عليه وعدم تعليمه حتى يتراجع عن معصيته … » ( ).
ومن الأمور المهمة في هذا الباب التي كان أئمة الدعوة السلفية يؤكدون عليها الموازنة بين مصلحة الهجر ومفسدته فيقول الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ: « والهجر إنما شرع لما فيه من المصلحة وردع المبطل، فإذا انتفى ذلك وصار فيه مفسدة راجحة فلا يشرع … » ( ). ويقول الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ والشيخ عبدالله العنقري: « … المجاهر بالمعاصي يشرع هجره سواء كان من أهل البادية أو الحاضرة إذا كان فيه مصلحة راجحة ولم يترتب عليه مفسدة؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح »( ).
والهجر إذا طبق من غير فقه ولا بصيرة فقد تكون مفسدته أعظم وأكبر، يقول الشيخ عمر بن سليم في هذا: « … ومن الأمور التي أدخلها الشيطان على بعض الناس - لينال بها مقصوده من إغوائهم وتفريق كلمتهم وإلقاء البغضاء بينهم التي هي الحالقة أي حالقة الدين- ما حملهم عليه من التهاجر على غير سبب يوجب ذلك؛ بل بمجرد الرأي المخالف للكتاب والسنة وهذا ينافي ما عقده الله بين المسلمين من الأخوة الإسلامية التي توجب التواصل والتراحم والتواد والتعاطف … » ( ).
ب ) التشنيع على ولاة الأمر في المجالس والمجامع حيث يعده من يفعله من الإنكار، ولا شك أن هذا الأمر يحتاج إلى تأمل ونظر، وقد تصدّى أئمة الدعوة السلفية لهذا الأسلوب الخاطئ، وبينوا أن التشنيع على ولاة الأمور في المجالس ومجامع الناس واعتقاد أن ذلك من إنكار المنكر الواجب إنكاره على العباد مخالف لما كان عليه السلف الصالح، وهذا الفعل ظاهر البطلان من آثاره المترتبة عليه، فهو لا يزيل منكراً، ولكنه يؤجج الكره والبغض في قلوب العامة لولاة أمرهم، وفي قلوب الولاة على من فعله أو وافق عليه، ويوضحون في مقابل هذا المنهج والطريق الصحيح للإنكار وفي ذلك يقول الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ: «… وأما ما قد يقع من ولاة الأمور من المعاصي والمخالفات التي لا توجب الكفر والخروج من الإسلام فالواجب فيها مناصحتهم على الوجه الشرعي برفق ، واتباع ما كان عليه السلف الصالح من عدم التشنيع عليهم في المجالس ومجامع الناس، واعتقاد أن ذلك من إنكار المنكر الواجب إنكاره على العباد، وهذا غلط فاحش وجهل ظاهر لا يعلم صاحبه ما يترتب عليه من المفاسد العظام في الدين والدنيا كما يعرف ذلك من نور الله قلبه، وعرف طريقة السلف الصالح وأئمة الدين … » ( )، ويوضح الشيخ محمد بن عبدالوهاب المنهج الصحيح في الإنكار على ولاة الأمر تفصيلاً حتى لا يدع مجالاً لدخول المفسدين في ذلك حيث يقول: « … والجامع لهذا كله أنه إذا صدر المنكر من أمير أو غيره؛ أن يُنصح برفق خُفية ما يشرف عليه أحد، فإن وافق وإلا استلحق عليه رجالاً يقبل منهم بخُفية، فإن ما فعل فيمكن الإنكار ظاهراً إلا إن كان على أمير نصحه ولا وافق، واستلحق عليه ولا وافق، فيرفع الأمر إلينا خفية، وهذا الكتاب كل أهل بلد ينسخون منه نسخة ويجعلونها عندهم … » ( ).
ج ) ومن الأساليب المنحرفة في هذا الباب ما يستخدمه بعضهم من الاجتماع لأجل الإنكار بشكل ظاهر ودون خفاء، وهذا مخالف لما كان عليه السلف الصالح يقول الإمام عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل فيصل( ): « … وإعمال المطى بين الإخوان واجتماعهم لأجل إنكار المنكر ظاهراً مخالف لما كان عليه أهل السنة والجماعة من العلماء ولما كان عليه شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب … » ( )، وهذا لا شك أنه نهج محدث يقع منه ضرر كبير قد يكون بداية لفتنة عمياء ولأجل ذلك جاء التحذير منه .
د ) استعمال العنف سواء باللفظ كالسب والشتم، أو بالفعل كالضرب، وقد جاءت التوجيهات متوالية من أئمة الدعوة السلفية؛ في بيان المنهج الصحيح في الإنكار والتصدي لهذا النهج والتحذير منه، لما له من آثار مفسدة من أهمها الفرقة التي يحدثها بين الإخوان، يقول الشيخ المجدد محمد بن عبدالوهاب: « … بعض أهل الدين ينكر منكراً وهو مصيب لكن يخطئ في تغليظ الأمر إلى شيء يوقع الفرقة بين الإخوان … » ( ).
والأصل أن لا يكون الإنكار بشيء من العنف أو السب أو الشتم أو الضرب بل يكفي إظهار الإنكار عليه، والمعصية إذا وجدت أُنكرت على من فعلها أو رضيها إذا اطلع عليها( )، يقول الشيخ سعد بن حمد بن عتيق في التحذير مما وقع فيه بعض المتشددين: « … ومن ذلك ما التزموه وألزموا به غيرهم من أعراب المسلمين من ترك سكنى البادية والتزام الحضر وإنشاء العمران والبنيان، والتشديد في أمر العمائم والعدوان على كثير من أهل الإسلام والتوحيد بالضرب الشديد والهجر والتهديد إلى غير ذلك من الأمور التي خرجوا بها عن حكم العقل والعدل والإنصاف، وانتظموا بها في سلك أهل الجهل والظلم والاعتساف، وهم مع ذلك يحسبون أنهم مهتدون ويزعمون أنهم مصلحون … » ( )، ويقول الشيخ عمر بن سليم في هذا: « … ومن كيد الشيطان ما زينه لبعض الناس من الاستطالة على الناس بالضرب والتعنيف والكلام السيئ والتوعد للناس، وتعيير الناس وعيبهم، والطعن عليهم، وأدخل عليهم أن ذلك من باب الأمر بالمعروف وإنكار المنكر، وهذه الأفعال من أعظم المنكرات، واستحلالها واعتقاد أنها من الدين أكبر من فعلها، وهؤلاء لم يفهموا إنكار المنكر الذي جاءت به الشريعة فإن إنكار المنكر إزالة المنكر لا ضرب فاعله … » ( ).
3 ) التأكيد المتكرر من أئمة الدعوة السلفية على وجوب الرفق في إنكار المنكر والدعوة إلى الله عموماً، وأن هذا هو النهج الأمثل والأصوب الذي سار عليه السلف الصالح، حيث يؤكد الشيخ محمد بن عبدالوهاب على أن الإنكار لا بد أن يكون برفق ولطف وبصورة خفية بين فاعل المنكر والمنكر عليه( )، ويؤكد على ذلك الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ في رسالة إلى بعض طلبة العلم حيث يوصيهم بالدعوة إلى الله - تعالى - مؤكداً على استخدام اللطف واللين مع المدعوين فيقول: « … والذي أرى لكم في هذه الخلطة الصبر على مقام الدعوة والتلطف بالإبلاغ عن نبيكم … » ( )، وهذا منهج عام في الدعوة لديهم فهذا الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ يرسخه لدى الدعاة والناس في وقته فيقول: « … ينبغي لمن قصده الخير والدعوة إلى الله تعالى التوقع في الأمور والتثبت وعدم الطيش والعجلة والحرص على الرفق والملاطفة في الدعوة فإن في ذلك خيراً كثيراً…»( ).
المطلب الثالث - الإنكار على ولاة الأمور (الحكام) :
شريعة الإسلام شريعة محكمة لا خلل فيها ولا زلل، لا ريب في ذلك ولا شك فالمشرع هو العليم الحكيم جل في علاه، ولعل من أعظم ما جاءت به الشريعة التأكيد على اعتبار الأشخاص والأزمان والأحوال، وهذا يعد من الأصول العظيمة التي لا بد من مراعاتها واعتبارها .
والكلام في مسألة الإنكار على السلطان الأعظم، أو أي من الولاة والأمراء ممن بيده السلطة والقوة كلام يطول، وحسبنا هنا أن نشير إلى جهود أئمة الدعوة السلفية في ترسيخ مفاهيم أهل السنة والجماعة في الدعوة إلى فقه الإنكار على الولاة والأمراء؛ المسألة التي زلت فيها أفهام؛ فسببت الفساد العريض، وأشير إلى ما يأتي :
أ ) يؤكد أئمة الدعوة عملياً ونظرياً على أهمية حسن العلاقة بين العلماء والأمراء، وأن هذا له آثاره الحسنة على الطرفين، أو على المجتمع بأكمله، وفي ذلك يقول الشيخ المجدد محمد بن عبدالوهاب: « … فإن كان الأمير ما يجعل بطانته أهل الدين صار بطانته أهل الشر … » ( )؛ بل يرى رحمه الله أن أمر الدين لا يستقيم للعلماء ولا للولاة إلا إذا كان بالتكاتف والتعاضد والتعاون بينهم( )، ويقول الإمام سعود بن عبدالعزيز رحمه الله في التأكيد على هذا المعنى موجهاً للأمراء وطلبة العلم والدعاة وعامة الناس: « … وكل بلاد فيها طائفة أهل الدين يجتمعون ويصيرون يداً واحدة، وأميرهم ومطوعهم، والأمير يصير حربة لأهل الدين ويشد عضدهم ويحمي ساقهم ويطلق أيديهم، والمطوع يؤازر الأمير، ويقوم مع أهل الدين ويبث العلم في جماعته ويحضهم على المذاكرة … » ( )، ويحذر رحمه الله من مخالفة ذلك من قِبل الأمراء فيقول: «… والأمير الذي يبغي الإمارة شيخة ولا يرضى أن غيره يأمر بالحق وينهى عن الباطل، فذاك نعرف أنه شيخ ومدور ملك، ما هو يدور ديناً ولا حقاً، ولنا فيه أمر ثان، والذي غرضه الدين يبدل الممشى، ويصنف جماعة الدين ويقوم حقهم، ويظهر وقارهم، ويجعلهم بطانته وأهل مجلسه ورأيه، ويبعد أرباب الفسوق والمعاصي، ويقوم عليهم بالأدب الذي يزجرهم … وأهل الدين أنا مقدمهم ومطلق أيديهم، ومانع الأمراء لا يمنعون أهل الدين عن القول بالحق والأمر به … وبلغنا الخبر أن بعض الأمراء متسلط على من يدعي الدين، بأمور ظاهرها حق وباطنها مغشة … ولا يفعل هذا أمير مع أهل الدين فأدعه في الإمارة يوماً واحداً … » ( ).
وفي تطبيق عملي لعمق العلاقة بين العلماء والولاة يقول الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ في رسالة منه للإمام فيصل بن تركي: « من محبكم الداعي لكم بظهر الغيب عبدالرحمن بن حسن إلى الابن الإمام فيصل بن تركي … وكنت والله يعلم صدقي بما قلته أني أحبك وأقدمك في المحبة على من مضى من حمولتك وحمولتي، واليوم الذي أجتمع بك فيه عندي يوم مسرور، ولا عندي لك مكافآت إلا بالدعاء والنصح باطناً … » ( ).
ومن خلال ما سبق يتضح اهتمام أئمة الدعوة السلفية بنجد في تقوية الأصرة بين العلماء والأمراء، وأن قيام الدين على تمامه يكون بذلك، ويتضح منهجهم في التأكيد على ذلك وتطبيقه في أرض الواقع، الأمر الذي انتج دعوة سلفية جددت الدين في القلوب والعقول، وأقامت دولة لا يستهان بها .
ب ) التنبيه على المنهج الأمثل في التعامل مع الولاة والإنكار عليهم عندما يقع منهم شيء من المعاصي والمخالفات الشرعية التي لا يسلم منها بشر، وبيان خطورة تجاوز هذا المنهج وانعكاسات تلك السلبية على الدعوة والمجتمع بأسره، ويتضح ذلك من خلال النقاط الآتية:
1- الواجب على الدعاة معرفة ما للحكام من منـزلة ومرتبة أنزلهم الله إياها، فالتعامل معهم ليس كالتعامل مع غيرهم من سائر الناس، ولأجل ذلك فلا ينبغي أن تتحين أخطاؤهم وزلاتهم بل يُتغاضى عنها، يقول الشيخ محمد بن عبدالوهاب: « … وأهل الدين عليهم جمع الناس على أميرهم والتغاضي عن زلته، هذا أمر لابد منه من أهل الدين يتغاضون عن أميرهم … » ( )، والمراد بالتغاضي: التغافل( )، وهو أمر قد يكون له من الأثر أكثر مما للمواجهة والمصادمة.
2- ثم إذا كان الإنكار فلا بد من سلوك المنهج الصحيح معهم، وقد ذكر له أئمة الدعوة مجموعة من المعالم الرئيسية من أبرزها :
الرفق: فلئن جاز الإغلاظ في بعض الأحوال على فاعل المنكر، فهذا قد يكون ممتنعاً في حق الإمام، ومن له ولاية؛ لأنه قد يستخدم سلطانه في البطش بمن أغلظ عليه، ولأجل ذلك يؤكد أئمة الدعوة السلفية على هذا المعلم، فيقول الشيخ المجدد محمد بن عبدالوهاب في ذلك: « … والجامع لهذا كله أنه إذا صدر المنكر من أمير أو غيره أن يُنصح برفق … » ( ).
الإخفاء وعدم الإعلان بالنصيحة، وفي هذا يقول الشيخ المجدد محمد بن عبدالوهاب: « … والجامع لهذا كله أنه إذا صدر المنكر من أمير أو غيره أن يُنصح برفق خفية ما يشرف عليه أحد، فإن وافق وإلا استلحق عليه رجالاً يقبل منهم بخفية فإن ما فعل … فيرفع الأمر إلينا خفية … » ( ).
وتعليقاً على هذه الرسالة يقول الإمام عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل فيصل:
« … فالواجب على المسلم أن ينكر المنكر على من أتى به بخفية خصوصاً إن كان على أمير، فإن إنكار المنكر على الولاة ظاهراً مما يوجب الفرقة والاختلاف بين الإمام ورعيته … » ( )، ويقول أيضاً: « … وإنكار المنكر على الولاة ظاهراً من إشاعة الفاحشـة … » ( ).
ولا شك في أهمية مراعاة هذين الأمرين اللذين جاءت النصوص الشرعية ببيانهما، كما أن أئمة الدعوة السلفية بنجد كان لهم عناية بغيرها، وأحببت الإشارة إليهما لأهميتهما وحاجة الناس إلى الالتزام بهما اليوم .
ج ) التصدي لكل إخلال بالمنهج السلفي الأمثل في التعامل مع ولاة الأمور؛ يعد وأداً للفتنة في مهدها، وحماية للمجتمع من أن يغرق في فتن عمياء؛ تأتي على الأخضر واليابس، وذلك ببيان الحق فيما يقع من مخالفات في حق ولاة الأمر؛ بالتعدي على سلطاتهم، أو إساءة الظن بهم، أو رميهم بالفضائع والتهم الباطلة؛ لأن ذلك يدفع إلى ما لا تحمد عقباه، ومن أخطر ذلك التعدي على سلطة ولاة الأمور وعدم السمع والطاعة لهم، أو الإفتيات عليهم، ولا شك أن هذه الأمور له آثارها الفاسدة التي تدمر المجتمع بأسره، وتجعل الصراع داخلياً، ولأجل ذلك جاءت توجيهات أئمة الدعوة السلفية بنجد محذرة من هذا المنـزلق، ومقرعة لمن وقع فيه، وناصحة له بالرجوع، يقول الشيخ محمد بن عبدالوهاب: «… ومن تمام الاجتماع السمع والطاعة لمن تأمر علينا ولو كان عبداً حبشياً…» ( ).
ولا شك أن للسمع والطاعة آثارهما المصلحة للمجتمع، يقول الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ وعبدالله العنقري: « … وأما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين ففيها سعادة الدنيا وبها تنتظم مصالح العباد في معاشهم وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربهم … » ( ).
ومع هذا البيان يوجد من لا فقه لديهم ينقمون على ولاة أمورهم أشياء لا يدركون وجه الحق فيها على تمامه، فيناوئون ولاة أمورهم، ويستخفون بهم بناءً على فهمهم السقيم، وجهلهم المردي، ومن الأمثلة على ذلك ما ينقمه بعضهم على ولاة أمورهم في مسائل التواصل مع الكفار، والتعامل معهم، وعقد المعاهدات، والمصالحات، فيظنها من التولي، ثم يبني عليها أحكاماً جائرة، وتصرفات منحرفة، تفسد ولا تصلح؛ ولأجل ذلك جاءت عبارات أئمة الدعوة السلفية محذرة من هذا المنـزلق؛ حيث يقول الشيخ عمر بن محمد ابن سليم: «… فيحرم معصية ولي الأمر والاعتراض عليه في ولايته وفي معاملته ومعاقدته ومعاهدته ومصالحته الكفار… ولا يجوز الاعتراض على ولي الأمر في شيء من ذلك؛ لأنه نائب المسلمين والناظر في مصالحهم…»( )، ويقول الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ والشيخ عبدالله العنقري في رسالة لهما في هذا الصـدد: « … فتحرم معصيته والاعتراض عليه في ولايته وفي معاملته وفي معاقدته ومعاهدته؛ لأنه نائب المسلمين والناظر في مصالحهم ونظره لهم خير من نظرهم لأنفسهم لأن بولايته يستقيم نظام الدين وتتفق كلمة المسلمين … » ( ).
فهذا الفهم السقيم وغيره مثله قد ينحرف ببعضهم عن الجادة فيستهين بالإمام ويتصرف بما يخالف الشرع المطهر من افتيات على ولي الأمر بالغزو وإقامة الحدود( )، مما لا يصح إلا بإذنه، ولخطورة الأمر بيّن أئمة الدعوة السلفية الموقف الشرعي من مثل هذه التصرفات؛ حيث يقول الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ والشيخ عبدالله العنقري: « … لا يجوز لأحد الافتيات عليه ولا المضي في شيء من الأمور إلا بإذنه ومن افتات عليه فقد سعى في شق عصا المسلمين وفارق جماعتهم … » ( )، ويقول الشيخ عبدالله العنقري: «… إن الخروج عن طاعة ولي الأمر والافتيات عليه بغزو أو غيره معصية ومشاقة لله ولرسوله ومخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة … » ( )، ويبين الشيخ عبدالله العنقري أيضاً الآثار المترتبة على هذا الأمر فيقول: « … وأن الخروج على ولي الأمر والافتيات عليه من أعظم أسباب الفساد في البلاد والعباد والعدول عن سبيل الهدى والرشاد…»( ).
ولأجل ذلك كله كان أئمة الدعوة السلفية بنجد ينهون عن الطعن في ولاة الأمور والاستهانة بهم، ويعدونه وصمة عظيمة، وزلة وخيمة، على من فعله، يقول الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ: « … والطعن على من ولاه الله عليكم وعيبه وثلبه وتتبع عثراته للتشنيع عليه ونسبة علمائه إلى المداهنة والسكوت، فهذا والله وصمة عظيمة وزلة وخيمة وقاكم الله شرها …» ( ).
ولا شك في الختام أن هذه التوجيهات توضح المنهج الذي سلكه أئمة الدعوة السلفية بنجد في التصدي لأسباب العنف والتطرف والإرهاب التي قد ينتجها عدم الفقه الصحيح لكيفية إنكار المنكر، حيث بيّنتْ ما يجب أن يكون عليه الداعية من فقه لإنكار المنكر.
الخاتـــمة :
بحمد الله والثناء عليه أختم هذا البحث الذي حرصت من خلاله على توضيح المنهج المتميز لأئمة الدعوة السلفية بنجد في التصدي للعنف والتطرف وما يتبعهما من إرهاب وتدمير وأخلص فيه إلى ما يأتي :
1- أن أئمة الدعوة السلفية بنجد كانوا ينتهجون المنهج السلفي في دعوتهم إلى الله ذلك المنهج النابع من الكتاب والسنة، فقد كانوا ينهلون من معينها مستعينين على فهمها بكلام السلف الصالح عليهم رحمة الله، إذ هم مقتدون متبعون لا محدثون ولا مبتدعون.
2- يتلخص موقف أئمة الدعوة السلفية بنجد من العنف والتطرف والإرهاب بأنه: موقف لا يقبل العنف والتطرف منهجاً ولا الإرهاب مسلكاً، بل يحث على الرفق واللين ويؤكد على أنه الأصل في الدعوة إلى الله تعالى وإنكار المنكر.
3- يؤكد أئمة الدعوة السلفية بنجد على أن من أهم القضايا التي يجب مراعاتها في إنكار المنكر: المصالح والمفاسد، وذلك من خلال تحقيق المقصد الشرعي في أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
4- يهتم أئمة الدعوة السلفية من خلال منهجهم السلفي بالقضايا التي لا بد منها للقائم بالاحتساب ليكون على وعي جيد في فقه إنكار المنكر، وذلك من خلال العلم الشرعي والتأني والتمهل وعدم العجلة وإدراك حقيقة فاعل المنكر والأساليب المثلى في إنكار المنكر التي تحقق المقصود منه.
5- التركيز على فئة ولاة الأمور ببيان حقهم والواجب لهم وأهمية التآلف بين العلماء والأمراء، وما الأساليب الأمثل في الإنكار عليهم، والتحذير من الانحرافات في ذلك.
فهرس المراجع والمصادر
تاريخ نجد للشيخ حسين بن غنام، حرره وحققه: د. ناصر الدين الأسد، ط2، 1405هـ- 1985م، دار الشروق، بيروت.
الدرر السنية في الأجوبة النجدية (التراجم)، عبدالرحمن بن قاسم القحطاني النجدي، ط2، 1385هـ، مؤسسة النور للتجليد والطباعة- الرياض، من مطبوعات دار الإفتاء بالمملكة العربية السعودية.
الدرر السنية في الأجوبة النجدية، جمعها: عبدالرحمن بن قاسم القحطاني النجدي، ط2، 1385هـ، مؤسسة النور للتجليد والطباعة- الرياض، من مطبوعات دار الإفتاء بالمملكة العربية السعودية.
علماء آل سليم وتلامذتهم وعلماء القصيم، صالح السليمان العمري، ط1، 1405هـ.
علماء الدعوة، عبدالرحمن بن عبداللطيف آل الشيخ، ط 1386هـ.
علماء نجد خلال ثمانية قرون، عبدالله بن عبدالرحمن البسام، ط2، 1419هـ، دار العاصمة، الرياض.
عنوان المجد، عثمان بن بشر، ط4، 1403هـ، مطبوعات دارة الملك عبدالعزيز- الرياض.
القاموس المحيط، محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، ط2، 1407هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.
كشف الشبهات، محمد عبدالوهاب، طبع ونشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية، وكالة الطباعة والترجمة، الرياض، 1413هـ.
مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، ط2، عام 1409هـ، دار العاصمة، الرياض.
ملوك آل سعود، سعود بن هذلول، ط2، 1402هـ .
نجد وملحقاتها وسيرة الملك عبدالعزيز، أمين الريحاني، ط4، 1972م، دار الريحاني، بيروت.
واقع الدعوة إلى الله في الدولة السعودية الثانية، صالح بن عبدالله الفريح، رسالة علمية مقدمة لكلية الدعوة والإعلام، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض (غير مطبوعة).