التعدد اللغوي وعلم الترجمة في الأندلس

لم تكن الغنيمة الكبرى التي فاز بها المسيحيون يومَ استعادوا إسبانيا مقصورة على الأقمشة الحريرية والدمَقْس فحسب، بل حوت مخطوطاتٍ قيمة وجودها هناك أيضاً. لذا استطاع اللاجئون القادمون من مناطق كانت في حوزة المسلمين في السابق، والمثقفون الذين بقوا في المدن التي استعادها النصارى من جديد، أن يمنحوا الأشخاصَ الذين تلقّوا دراستهم في المدارس اللاتينية مجملَ المعارف العلمية التي تحصّلت لديهم هم، من ثقافة كانت أرفعَ من ثقافة هؤلاء، وأن يباشروا مهمة ترجمة المخطوطات العربية التي وجدوها.

         كان من الطبيعي أن ظلّت الترجمة بعد استعادة الأندلس - كما كانت قبل ذلك ـ تتمُّ على جميع مستويات المجتمع في إسبانيا الإسلامية. فقد كان المجتمع الأندلسي في واقعه مجتمعاً متعدد اللغات. نعم، كانت اللغة الرسمية لدى الإدارة وفي مستوى التحصيل العالي هي العربية الفصحى، فصحى القرآن الكريم. بيدَ أن العربيةَ المحكيّة (العامية) كانت تُكتب في بعض الأحيان. خذ نمطَ الشعرِ المعروف بِـ "الزجل" مثلاً. وعلى كل حال، فإن غالبية أهل البلاد كانوا يتكلمون لغة الرومانس. ويبدو ذلك واضحاً في نمطٍ آخر من الشعر نشأ في إسبانيا هو "الموشّحة" التي كانوا يجعلون "الخرجة" (القُفل) فيها بلهجة الرومانس أحياناً. وكانت العادةُ أن تغنّي هذه "الخرجة" واحدة من الجواري. ومن الجدير بالملاحظة أنهم كانوا يعتبرون العاميّة اللغةَ الأنسب لأن تستعملها ربّات البيوت وجواريهنّ. وإلى جانب العاميّة العربية ولغة الرومانس هاتين كانت هناك لغة عاميّة أخرى هي اللهجة (بل بالأحرى اللهجات) التي يتكلمها البربر. وكان هؤلاء قد وفَدوا عبر مضيق جبل طارق، وبأعدادٍ كبيرة، مع قادتِهم العرب. ونحن نعثر على كلمات بربرية في مواضع تثير الدهشة، كما هي الحال في مجموعةٍ واحدة من الستة عشر عدداً التي كانت مستعملة في "قراءة الطالع"، وفي الأسماء الأوروبية المبكّرة لـ "الأرقام العربية".

كذلك إلى جانب العربية، ظلّت اللغة اللاتينية قيدَ الاستعمال، بصفتها اللغة الرسمية للكنيسة. وعلى أي حال، فقد تبنّى كثير من المثقفين المسيحيين اللغة الأدبية عند المسلمين، أي فصحى القرآن ذاتها، وبذلك جَلَبوا على أنفسهم، جرّاءَ فعلتهم هذه، مشاعر حنق ونفور المتعصبين من أبناء ملتهم. وخاتمةً لهذا التعدد اللغوي ظلّ اليهود الإسبان يستعملون "العبرية" إلى جانب العربية. ولم يكن هؤلاء يشعرون بالتوقير والاحترام تجاه القرآن، فجعلوا يكتبون العربية كما يحكونها (وإن ظلّوا يستخدمون الأبجدية العبرية في مخطوطاتهم). وهكذا، قدّموا لنا شاهداً على اللهجة العربية التي كانت مستخدَمة في الأندلس.

   وكانت المجتمعات المسيحية واليهودية، والإسلامية مجتمعاتٍ ذاتيّة الحكم لها قوانينُها الخاصة، وقُضاتها، ومع هذا، فقد برزت هناك حاجة لمن يقومون بالترجمة، ونعرف، أنه كان هناك قاضٍ واحدٌ، على الأقل، في قرطبة، يقوم بوظيفة المترجم.

         ذاك هو المجتمع المتعدد الألسُن الذي ورثه الحكام المسيحيون في إسبانيا. وبمقدور المرء أن يتبيّن، تعدّدَ لُغاتهم من عدد الوثائق القانونية التي تَظهر فيها العربية واللاتينية معاً، حيثُ تظهر العربية في كثير من الأحيان على صورة ترجمة أو ملخّص موجز للنصّ اللاتينيّ، كيما يستفيد من ذلك المدّعي في القضية أو المدعَى علَيه فيها. وكان من الضروري أن يوجد آنذاك مترجمون يحضرون جَلَسات القضيّة المطروحة للفصل، ونحن نجدهم أحياناً يقومون بترجمة اللاتينية المكتوبة في الوثيقة إلى لغة الرومانس المحكيّة، والتي يقتضي الحال أن تكون مفهومة من قِبل الطرفين. فمثلاً، في ختام حكمٍ صدر باللاتينية، أصدره أسقف طليطلة في سنة 1178 م، نجد ملحوظة مكتوبة بالعربية تبيّن أن خالِد بن سُليمانِ ودومينكو سلوات،  قد استمعا إلى رئيس الشمامسة يكرّر "باللغة الروميَّة" نص الحكم الذي أصدره الأسقف. هذا، كما ظلّت الجاليةُ الإسلامية (المدجّنون) (Mudejars) تكتب بالعربية، حتى بعد أن صارت لغةُ الرومان لغةَ الأُم في ما بينهم، وبذلك أنتجوا الأدب الذي يُعرف باسم الألخاميادي (aljamía).

     في ظِل السيادة الإسلامية تمت ترجمة كثير من المخطوطات إلى العربية، بما في ذلك كتاب في علم الزراعة، كتبه كولوميلا، وكتاب تاريخ عام ألّفه أوروسيوس، وكتاب لاتيني يبحث في التنجيم، وآخر في الاشتقاق لمؤلّفه إيزيَدور. وقد وقع على عاتق المسيحيين أحياناً القيام ببعض الترجمات. كما تم ترجمة عدد كبير من المؤلّفات إلى العربية لفائدة العناصر المستعرِبة من المسيحيّين. وقد تمت ترجمة ثلاث نسخ من المزامير، على الأقل، من بينها واحدةٌ ترجمها حفص القوطيّ سنة 276هـ/ 889م شعراً، وكان المقصود بها خصِّيصاً أن تحل محل نسخةٍ نثرية غير فصيحة كانت دارجةَ الاستعمال في ذلك الوقت. كذلك تمت في سنة 357 هـ/ 967 م ترجمة تقويم كنَسيّ أُلحِقَ بآخر عربي يبحث في تقسيم السَّنةِ على أساس الثماني والعشرين دورة فلكيّة المعروفة باسم "منازل القمر"، وأُطلق على الترجمة اسم تقويم قرطبة.

         وقد ظل "المستعربون" (كما سمّاهم غيرهم من المسيحيين) يستعملون اللغة العربية في ظل السيادة المسيحية حتى في القرن الرابع عشر للميلاد. وهذا واضح تماماً من عدد المخطوطات اللاتينية ذات المضمون المسيحيّ في معظمها، والترجمات العربية في حواشيها. والأغلبُ أن المعجم العربي ـ اللاتيني/ واللاتيني ـ العربي، المعروف باسم معجَم ليدِن، إنما تمَّ تصنيفه لتمكين تلك الفئة من المجتمع، أي التي كانت العربية هي اللغة الأدبية الأولى لديها من تفهُّمِ الطقس الديني في الكنيسة الكاثوليكية.

         وأحياناً كانت تظهر تعليقاتٌ وحواشٍ بالعربية على نُسخ الكتب العلمية والفلسفية، فمثلاً، هناك حواش بالعربية على نسخة من الموسوعة الطبية لِـ أوريباسيوس (Oribasius) عُثر عليها في مكتبة كاتدرائية شارتريه (Chartres) في القرون الوسطى، وعلى مخطوطة لكتاب بوثيوس (Boethius) تعود إلى القرن الحادي عشر معنونةٍ باسم في الحساب، وموجودة في دَير رِيبول (Ripoll) بمقاطعة قطلونية، وهذا أمر له دلالة عظيمة. ذلك أن كتابَ بوثيوس هذا كان أرقى وأقدم كتابٍ وجدناه في الحساب قبل أن تفد  الثقافةُ العربية على الأندلس، وكان دير ريبول هذا أقدمَ مركز خارجَ الأندلس يبيّن تأثير هذه الثقافة. ولاشك أن المستعرِبَ الذي كتب المرادِفاتِ (المقابِلات) المكافئة لتعريفات بوثيوس لأنواع التبايُن الخمسة في مخطوطة ريبول، كان على معرفةٍ بالمصطلحات الفنيّة المستعملة في الرياضيات عند العرب. والحقّ، أن أمثالَ ذلك المستعرِب هم الذين شكّلوا قنوات سالت عبرها الثقافة العربية ووصلت إلى بقيةِ أنحاء أوروبا.                       

 

نقلاً عن الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، بتصرف. تشارلز بيرنيت، الجزء الثاني، إشراف سلمى الخضراء الجيوسي.

 

المصدر: http://www.andalusite.ma/index.php?option=com_content&view=article&id=24...

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك