مفهوم الآخر..بين الجانب الأخلاقي والجانب الفكري

زكي الميلاد

 

عند النظر في مفهوم الآخر يمكن الفصل والتمييز بين جانبين أساسيين لابد من الإشارة إليهما، والتأكيد عليها في تكوين المعرفة بهذا المفهوم، وفي طريقة التعامل معه، وهما الجانب الأخلاقي والإنساني من جهة، والجانب الفكري والثقافي من جهة أخرى.

الطبيعة الإنسانية واحدة

 

في الجانب الأخلاقي والإنساني ليس هناك ما يسمى بالآخر، ولا ينبغي إطلاق مفهوم الآخر في هذا الجانب، وذلك لأن الطبيعة الإنسانية هي واحدة وثابتة من حيث الجوهر والخلق والتكوين، ولا تختلف أو تتمايز بين جميع البشر، وهذا ما يعرفه البشر أنفسهم، منذ أن وجد الإنسان على هذه الأرض، ومهما اختلفت ألسنة الناس ولغاتهم، ألوانهم وأعراقهم، مدنياتهم وثقافاتهم.

 

وليس هناك إنسان غير بين بني الإنسان، فالخلق كلهم عيال الله، فطرهم على فطرته ولا تبديل لخلق الله، وخلقهم في أحسن تقويم، وجعلهم على أحسن صورة.

 

ومن هذه الجهة، فإن النظرة الأخلاقية تنفي إطلاق مفهوم الآخر بين البشر على أساس اللون أو العرق أو اللسان، وترفض وتواجه من يقبل أو يتبنى مثل هذه التصورات وهذه الأفكار، ومن يتحدث عنها أو يميل ويشير إليها.

 

وعند العودة إلى القرآن الكريم نجد أنه استعمل تسمية بليغة جداً وفي غاية الدقة، لا مكان فيها ولا وجود لمفهوم الآخر، ولا تعطي إيحاء به على الإطلاق لا من قريب ولا من بعيد، وهي تسمية (الناس) التي وردت مراراً في السور القرآنية المكية والمدنية، وتسمت بهذه التسمية آخر سورة في هذا الكتاب المجيد، وتبوأت مكان آخر كلمة فيه، حيث يقال إن آخر كلمة في القرآن هي كلمة (الناس)، في دلالة على أهمية هذه الكلمة، وقيمة حقها الدلالي، وهذا ما لم يلتفت إليه!

 

ووجه البلاغة والدقة في كلمة (الناس) التي جاءت تعبيراً عن اسم الجنس البشري، أن هذه الكلمة تختلف وتتمايز عن سائر الكلمات القريبة منها والتي تدور في فلكها، أنها لا تقبل التجزئة أو التثنية أو الإضافة أو التقابل على مستوى اللغة، كما هو حال كلمات (الأمة والمجتمع والشعب والجمهور.. وغيرها)، فكلمة الأمة تقبل التثنية فيقال أمتان، وتقبل الجمع فيقال أمم، وتقبل الإضافة فيقال أمة عربية وأمة إسلامية، وهكذا الحال مع كلمات المجتمع والشعب والجمهور، وهذا بخلاف كلمة (الناس) التي لا تقبل التجزئة والتثنية، وليس لها كلمة تقابلها، والمراد منها الإشارة إلى العموم والاستغراق دائماً، أي الناس كافة دون أي وصف زائد أو إضافة أو تمايز.

 

بمعنى أن كلمة (الناس) هي الكلمة الوحيدة التي تستغرق عموم البشر، فلا مجال فيها لشيء اسمه الآخر، أو للحديث عنه، ولا أدري إن كان يوجد في اللغات الأخرى كلمة تشابه هذه الكلمة من جهة العموم والاستغراق في النظر إلى عموم الناس، وأشك في ذلك.

 

الإرتفاع بوعي الإنسان

 

ويتأكد هذا الموقف الأخلاقي والإنساني في النظر إلى مفهوم الآخر، بالاستناد إلى المقولة التي تروى عن الإمام علي عليه السلام، حين يصنف الناس، بقوله: "الناس صنفان إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق"، فهذه المقولة تجعل الناس ينظرون لأنفسهم من خلال رابطتين لا ثالث لهما، والثالث مرفوع كما يقول المناطقة، وهما رابطة الاشتراك في الدين، ورابطة الاشتراك في الخلق.

 

والحكمة البالغة في هذه المقولة، أن رابطة الاشتراك في الدين، لا تلغي رابطة الاشتراك في الخلق، بل إن رابطة الاشتراك في الدين هي التي تفتح وعي الإنسان على رابطة الاشتراك في الخلق، وتجعل منها منظوراً له في رؤية الناس والعالم.

 

وبالتالي فإن هذه المقولة ليست بصدد الإشارة إلى مفهوم الآخر، وإنما جاءت لكي ترتفع بوعي الإنسان بعيداً عن مفهوم الآخر، بكل ما يحمل هذا المفهوم من مضمنات فكرية.

 

لهذا جاز القول أن مفهوم الآخر ليس له مجال أو مكان أو اعتبار في الجانب الأخلاقي والإنساني، ولا ينبغي تحكيم هذا المفهوم والتعامل به في هذا الجانب.

 

تحديد مفهوم الآخر

 

من هنا فإن مفهوم الآخر إنما يتحدد في الجانب الفكري والثقافي، ويتأطر به بشكل خاص بوصفه المفهوم الذي يشير بصورة أساسية إلى الاختلافات الفكرية والثقافية بين الأفراد أو المجموعات البشرية، الصغيرة أو الكبيرة، وقد تتلون هذه الاختلافات تارة بلون سياسي، وتارة بلون اقتصادي، وتارة بلون اجتماعي، وتارة بلون آخر أيضاً.

 

وربط مفهوم الآخر بالجانب الفكري والثقافي يستند على خلفية أن هذا المفهوم هو الذي يشير إلى تلك الاختلافات الفكرية والثقافية الفارقة والفاصلة التي تظهر بين المجموعات والجماعات البشرية، ولا يتعلق بالاختلافات البسيطة أو السطحية أو العابرة. ويكشف عن ذلك طريقة التعاطي بهذا المفهوم بين المجموعات المختلفة، فهو لا يجري التعامل معه عند هؤلاء إلا على أساس الاختلاف الفكري والثقافي الفارق والفاصل بين هذه المجموعات.

 

 

المصدر: البلاغ.

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك