هويتُنا.. أوْ.. الهاويَة

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف

تحرصُ الدولُ على إبرازِ هَويتها الخاصةِ التي تستندُ غالباً إلى البُعدِ الوطني؛ ومن هذا المنطلقِ تُفرضُ البرامجُ الإعلاميةُ والمناهجُ الدراسيةُ بهدفِ ترسيخِ هذه الهويةِ في الواقعِ وزرعِ " تمجيد" الأمَّةِ أوْ الوطنِ أوْ الزعيمِ في نفوسِ النَّاس، كما تُلزِمُ الحكوماتُ مواطِنيها باستخراجِ بطاقةٍ شخصيةٍ تعبيراً عن الانتماءِ لهذه الهويةِ الوطنيةِ وتسعى وزاراتُ الداخليةِ لاتخاذِ التدابيرِ الواقيةِ مِنْ تزييفِ أو تشويهِ بطاقةِ الهويةِ مهما كلَّفتْ هذهِ التدابيرُ مِنْ أموالٍ وجهود؛ وتُعاقبُ على سوءِ استخدامها أوْ استغلالها فيما يخالفُ مقتضياتِ الانتماء.

 

وللمسلمينَ هويةٌ خاصةٌ بهم لا تُخطئها عينُ المشاهدِ غيرِ المتفحصِ فمنظرُ الرجلِ ولباسُ المرأةِ وسلوكُ المجتمعِ المسلمِ ونظامُه وثقافتُه كلُّها شواهدُ صدقٍ تُعبِّرُ عن هذه الهويةِ الإسلاميةِ التي تتميزُ بأنَّها ربَّانيةٌ مُقدَّسةٌ ارتبطتْ بالنبي الخاتمِ – صلى الله عليه وسلم- وبالدينِ الإسلامي الحنيفِ وبالقرآنِ المهيمنِ على ما قبلَه من كُتُبٍ سماوية .

 

وتكونُ الهويةُ في أفضلِ حالاتها وأكملِ تطبيقاتها إذا التزمَ النَّاسُ قاطبةً شرعَ الله وسنَّةَ نبيه -عليه الصلاةُ والسلام- واتبعوا التعاليمَ الإسلاميةَ في الخلوةِ قبلَ الجلوة؛ فالصوابُ هو الأصلُ والخطأُ موجودٌ غيرَ أنَّه شذوذٌ مستنكرٌ أوْ غيرَ مستعلنٍ به. وعلى هذه الصورةِ البهيةِ كانتْ حياةُ المجتمعِ المسلمِ إبَّانَ عزتِه وقوتِه وغلبةِ دولته.

 

ولأنَّ السلوكَ فرعٌ عن التصورِ والأخلاقَ الكريمةَ تابعةٌ للمعتقدِ السليمِ فقدْ دَهتْ هويتَنا الإسلاميةِ دواهٍ وغشتها غواشٍ بسببِ فسادِ التصورِ وضعفِ العقيدةِ فانقلبتْ معها المفاهيمُ واختلطتْ التصوراتُ فلا يكادُ يخلو حقٌّ مِنْ باطلٍ مهما قل؛ وتجدُ الباطلَ الصرفَ بلا حقٍّ معَه إلاَّ إنْ كانَ حقاً يُرادُ به الإفسادُ والبلاء.

 

واللافتُ للنظرِ في موضوعِنا أنَّ هذه "الهوية" حُوربتْ مِنْ قبلِ كثيرٍ مِنْ حكوماتِ العالمِ الإسلامي باسمِ الديمقراطيةِ والتقدُّمِ والحضارة؛ ولم نشهدْ لهذه البلدانِ أيَّ تقدُّمٍ باستثناءِ الدُّنُوِ من قعرِ الهاويةِ ولم نسمعْ عن حضاراتها الموعودة، وتكشَّفتْ "ديمقراطيتها" حين فازَ الإسلاميون برغبةِ الشعبِ فعادتْ تلكَ الأنظمةُ الخَرِبَةُ وصيِّةً على الشعبِ تئِدُ رغبتَه وتحاربُ خِيَرَتَه .

 

إنَّ الهويةَ نتيجةٌ أكيدةٌ مِنْ الثقافةِ السائدة؛ وثقافةُ الأمَّةِ يجبُ أنْ تحترمَ الدِّينَ وأحكامَه والعاداتِ المقبولةَ وتراتيبَها، كما أنَّ الثقافةَ تعتزُ بتاريخِ الأمَّةِ وحضارتِها وتدافعُ عنهما ضدَّ الأفَّاكين والأدعياء؛ وتضعُ الثقافةُ لغةَ الأمَّةِ وآدابَها في موضعٍ عَلِيٍّ شريفٍ وتذودُ عنهما الدعواتِ المشبوهةَ تحتَ أيِّ حجة. وما تزعزعتْ هويةُ المسلمينَ إلاَّ بعدَ اختفاءِ معالمِ ثقافتهم الأصيلةِ أوْ التغبيشِ عليها؛ هذه الثقافةُ التي يجبُ مساندَتها في المسجدِ والمدرسةِ وفي البيتِ والمتجرِ وعبرَ الأنظمةِ ووسائلِ الإعلامِ والترفيهِ حتى تصيرَ ثقافةَ ظهورٍ بَيِّنٍ لا ثقافةَ كمونٍ خائف, وفي لمحةٍ عجلى إلى عددٍ من السلعِ التجاريةِ المستوردةِ نرى شعارَ الصليبِ الصريحِ على كثيرٍ منها كتعبيرٍ غيرَ خجلٍ ولا متوارٍ من النصارى عن مدى اعتزازهم بهذا الرمزِ الديني المبينِ عن هويتهم الصليبية التى نجدها حتى في الرسومِ المتحركةِ ولعبِ الأطفال.

 

إنَّنا نلحظُ ضُموراً للهويةِ الإسلامية في مجتمعِ المسلمينَ وفي نفوسِ أبنائه؛ فعلى صعيدِ الحكمِ والسياسةِ:كَمْ دولة تُحَكِّمُ شرعَ الله في كلِّ شُؤونها؟ وفي مجالِ النُّصرةِ والحميةِ: كيفَ كانتْ مواقفُ المجتمعِ المسلمِ تجاهَ إخوانهم المقهورين في بقاعٍ شَتَّى؟ وإذا نظرنا إلى العلمِ الشرعي رأيناه غائباً أوْ مغيباً فلا تُفتتحُ كلياتٌ شرعيةٌ جديدةٌ وتختفي حِلقُ العلمِ من بعض البلدان, وأمَّا الأخلاقُ فقدْ أصابَها الإعلامُ الهابطُ بمقْتَل؛ ولا تَسَلْ عنْ مظاهرِ الشبابِ المخزيةِ ولباسِ الفتياتِ العاري؛ وحتى الأطفالَ لم يسلموا فألعابهم وملابسهم وبرامجهم الترفيهية تقودهم نحو الانسلاخِ من الانتسابِ للأمَّةِ المحمدية, وليستْ الصورةُ سوداءَ حالكةَ الظلامِ فثَمَّ وثمَّتَ بُقعٌ وهالاتٌ منَ النورِ غيرَ أنَّ مسيرةَ التغريبِ الجارفةِ قدْ تُلغي أثَرَ هذا الضياءِ إنْ لم تطمسهُ في جملةِ ما طمست.

 

إنَّ الاحتسابَ ومساعي الإصلاحِ للحفاظِ على الهويةِ الإسلاميةِ واجبٌ شرعيٌّ في عُنقِ كلِّ مسلمٍ؛ ويزيدُ من أهميته عاملُ الوقتِ وتضافرُ المفسدين نحو الاستعجالِ بتغريبِ معاقلِ المسلمين الأخيرةِ ودَكِّ آخرِ حصونِ الهوية الإسلاميةِ حتى يعودَ الإسلامُ غريباً كما بدأ ويذوب المسلمون في الحضارةِ الغازية؛ وإنَّ حملةَ الاحتسابِ والإصلاحِ والمواجهةِ ضرورةٌ لا مناصَ منها على أنْ يكونَ العلماءُ الربانيون على رأسها توجيهاً وإرشاداً حتى لا تنزلقَ في مكيدةِ استغفالٍ أوْ استعجالٍ أوْ تذوبَ في بؤرةِ تعايشٍ آسنٍ ومستنقعِ قبولٍ للآخرِ قاتل؛ وما أكثر التجاربِ التي تُعَلِمُنَا لو استلهمنا منها العبرةَ والفهمَ والسنن.

 

وقبلَ عقودٍ تناقلَ النَّاسُ قولَ أحدهم ناعياً على أمَّته أنْ تأكلَ مِنْ غيرِ زرعها وتشربَ مِنْ غيرِ عصيرها وتلبسَ مِنْ غيرِ نسيجها؛ ألا فما أهونَ أمرَ الطعامِ والشرابِ أمامَ الدِّينِ والمصير؛ وإنَّ أمَّةً فاخرتْ بغيرِ دينها وحكمتْ بنقيضِ شريعةِ ربها وشَوَهتْ تاريخَها وهجرتْ لسانَها تحدُّثاً وكتابةً واحتفلتْ بأعيادِ المحتلين القتلةِ المغتصبين، وحاكتْ الكفارَ بسافلِ شؤونهم ووضيعِ عاداتهم، لأمَّةٌ ضائعةُ الهويةِ محرومةُ القيادةِ ممزقةُ الأشلاءِ على وشكِ الفناءِ والذوبانِ إلاَّ إنْ تداركها اللهُ برحمةٍ منه وفضلٍ وبرجالٍ منها صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم مَنْ قضى نحبَه ومنهم المنتظر.

 

 

المصدر: http://www.google.com/imgres?imgurl=http://eqraa.com/html/images/article...

الأكثر مشاركة في الفيس بوك