تحالف الأضداد

د. عبد الكريم بكّار

تحالف الأضداد ليس بالشيء الجديد؛ فقد رأى الناس تجلياته عبر التاريخ في الكثير من الأشياء، ونحن نعرف أن الذي يظهر مدلولات (القبح)، وينفّر النفس منه هو (الجمال)، كما أن القبح هو الذي يجعل للجمال ذلك الإشراق الأخّاذ، وقد قالوا قديماً: إن للشوهاء فضلاً على الحسناء؛ لأنه لولا القبح الذي يُلحظ لدى الشوهاء ما بان للناس روعة الجمال الذي يُلحظ لدى الحسناء.

 

ولا أريد هنا التعمق في هذا المبحث الطريف، لكن أودّ أن أشير على نحو موجز إلى التحالف الخفي وغير المقصود بين فريقين من بني جلدتنا: فريق الغلاة المتنطّعين المعسِّرين وفريق المتساهلين والمتسيّبين الذين يريدون للتدين أن يصبح عبارة عن علاقة حسنة بين العبد وربه ـ عزوجل ـ بعيداً عن توجيه الحركة الاجتماعية وضبط مسيرة النهضة.

 

إن كل فريق من هذين الفريقين يتغذّى في الحقيقة على تطرّف الآخر وبعده عن النهج القويم، بل إن الأمر يصل إلى استمداد مشروعية الوجود؛ فالخروج عن الأصول يحتاج إلى مسوّغ، والمسوّغ لخروج أي من الفريقين هو خروج الآخر، ورحم الله ابن القيم حين قال: (فما أمر الله ـ تعالى ـ بأمر إلاّ وللشيطان فيه نزعتان: إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلوّ، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين الجبلين والوسط بين طرفين ذميمين؛ فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له، فالغالي فيه مضيع له، هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه للحد).

 

إن الناظر في الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة يجد أن معظمها ظني الدلالة، وفيها مجال للاجتهاد والترجيح، ولو شاء الله ـ تعالى ـ لكانت جميعاً قطعية الدلالة، و لكان في كل مسألة قول واحد، لكن الله الرحيم بعباده أتاح لعلماء الأمة أن يختلفوا في كثير من الأمور حتى يرتفع عنها الحرج، و يخفف عنها في التكليف، ولدينا الكثير من الآيات والأحاديث الدالة على التحذير من التنطع والغلو، وحمل الناس على ما يوقعهم في المشقة والعنت.

 

إن الغلاة على مستوى التنظير يتعاملون مع كثير من القضايا الخلافية كما يتعاملون مع القضايا المتفق عليها، وإذا كان في المسألة الواحدة قولان، حجبوا القول الذي فيه يسر، وأنكروا على من يأخذون به، وأبرزوا القول الذي فيه شدة، وفيما يتعلق بالواقع المعيشي فإنهم يشخّصونه، ويصدرون عليه الأحكام القاطعة، مع قلة ما لديهم من علم وخبرة، ثم يتهمون من خالفهم بأنه من مشايخ السلطة، أو من أهل الأهواء، أو أصحاب المصالح، أو ممن يخاف من سطوة الحكام.

 

وهم إلى جانب هذا يتوسّعون في باب سدّ الذرائع توسّعاً يؤدي إلى خنق الحياة العامة؛ مما يجعل الناس يشعرون بالضيق؛ فيندفعون خلف رغباتهم خارج الإطار الشرعي، وبعيداً عن المتفق عليه والمختلف فيه، ويتوّج الغلاة غلوَّهم باستخدام السلاح في عملية الإصلاح السياسي والاجتماعي في الداخل، واستخدامه في تأديب الدول العظمى في الخارج نيابة عن المسلمين، دون أي تبصر في الآثار المدمرة لكل ذلك، ودون أي استعداد لقراءة الثمار المرة التي جناها المسلمون في أنحاء العالم من وراء ذلك؛ والمنطلق في كل هذا هو تزكية النفس وتزكية الفهم.

 

هذا الفريق يقدّم بغلوّه الذريعة للعلمانيين- وهم درجات – كي يقفوا على الضفة الأخرى وليتحدثوا عن الصحوة الإسلامية، وأنها كانت عبارة عن ورطة أو خديعة خُدعت بها الأمة أو كانت - كما يقول بعضهم – غفوة وغفلة، ويتجاوز الأمر ذلك إلى التحدث عن الإسلام بوصفه محرضاً على العنف، وبوصفه بنية غير ملائمة لهذا الزمان، وهم يحتكمون في ذلك إلى مرجعية فكرية وثقافية مشوبة بالكثير من الشوائب...

 

أتباع هذا الفريق يحرضون الفريق الغالي المتشدد على العنف، ويمدّونه بمقومات البقاء، وذلك من خلال محاولتهم فرض رؤيتهم العلمانية على المجتمع، والنظر باستخفاف إلى من يخالفهم، كما يغذونه من خلال إعاقة حركة الإصلاح السلمي الهادفة إلى تعزيز القيم الإسلامية الأساسية، ونشر العدل، ومكافحة الفساد، وحماية المكتسبات الوطنية.

 

وهم يغذون التيار الغالي أيضاً من خلال التهوين من شأن كثير من الآداب والأحكام الإسلامية؛ بهدف جعل الدين عبارة عن هيكل عظمي، أو شيء هلامي غامض يحمله المسلم في صدره، وبالطبع فإن هناك اليوم من يعمل على كسر ذلك الهيكل العظمي على نحو نهائي!

 

أما الأغلبية الصامتة أهل الوسطية والاعتدال من عموم المسلمين، فهم أشبه بركاب طائرة مخطوفة، لا حول لهم ولا طول! وأعتقد أنه قد آن الأوان للصامتين أن يتكلموا، ويهبُّوا لحماية القاسم المشترك الذي يجمعهم جميعاً، والذي يتمثل في قطعيات هذا الدين وفهم جماهير أهل العلم لها، كما يتمثل في مجموعة القيم الضامنة مثل: العدل، والحرية، والنزاهة، والتعاون، والتضحية، والدعوة إلى الفضيلة، وحق ممارسة النقد...

 

إن حروب الإمبراطوريات القادمة، هي حروب بوليسية استخباراتية، قوامها حروب أهلية مدمرة لإمكانات الأعداء، وليس أدل على ذلك من أن ميزانية (السي آي إيه) قد بلغت أربعة وأربعين مليار دولار، وهذا المبلغ يزيد على ميزانية عشرين جيشاً من جيوش البلدان الفقيرة، ومن المؤسف أن الفريقين يدفعان في اتجاه إشعال حروب أهلية: فريق يعمل على تدمير المرجعية الثقافية للأمة والتشكيك في ركائز إجماعها، وفريق يقدم الوقود لتلك الحروب من خلال ممارسات عنيفة وطائشة وغير مشروعة، بل يمكن القول: إن الفريقين منخرطان في حروب أهلية بالنيابة ـ وهي باردة وساخنةـ عن العدو المشترك.

 

حروب أبطالها وقتلاها أبناء ملة واحدة ودين واحد!!

المصدر: http://www.google.com/imgres?imgurl=http://eqraa.com/html/images/article...

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك