آداب الحوار وقواعد الاختلاف

آداب الحـوار
وقواعــد الاختـلاف

إعــداد
د. عمر بن عبدالله كامل

مقـدمــة :
ابتلي العالم الإسلامي بفتن كثيرة ، وتعددت مسمياتها ، وأطلقوا عليها الأسماء الآتية: (أصولية – تطرف – إرهاب ... وغيرها) .
إلا أنها كلها تعبر عن مفهوم واحد هو: الغلو والتفسير الناقص للنصوص، وإطلاق هذه التسميات على المؤمنين دون بصيرة وروية ، فاستسهل أقوام قذف المسلمين بالبدعة والكفر والشرك والجهل في أمور خلافية ليست محلا لأي من هذه الأوصاف، بل ليست محلا للتخطئة والتجهيل، فكيف بالتبديع والتكفير؟!! .
إذ إن الكثير من هذه الأمور الخلافية سبقهم إليها أئمة من ذوي الرواية والروية ، ولا ينبغي أن يعيب مقلد على مقلد ولا مجتهد على مجتهد .
ذلك أن سر خلود الإسلام هو الاختلاف المحمود الذي سيرد تفصيله .
وإن الداء الأكبر الذي استشرى في زماننا ، وأدى إلى ظهور كل هذه التناقضات هو غياب سنة الحوار التي أرى أنها أولى الأولويات وأهم المهمات .
فقواعد الحوار والاختلاف وضوابطه هي العاصم للمتحاورين من الغلو وشتم الآخرين إن كان الحق هو الرائد والمطلوب .
أما إذا كان الخلاف انتصارا لأهواء سياسية وتعصبا أعمى ، فهذا أمر لا ينفع معه قواعد ولا ضوابط ، إذ إن الهوى ليس له ضوابط ولا موازين ، ولذلك حذرنـــا المولى – عز وجل – من اتباع الهوى فقــال سبحانه وتعالى : {          } [القصص : 50]
إن البناء الفقهي الإسلامي العظيم لم ينشأ من فراغ ، وإنما نشأ عن مناهج وأسس وضوابط وموازين علمية دقيقة اتبعها أصحاب المذاهب في الاستنباط والاستخراج .
لذلك فإن غياب هذه الأسس والمناهج في الحوار والاختلاف أوقعنا فيما نحن فيه .
ولا أحسب أن هذه الموضوعات نالت حظا وافرا من الاهتمام والتعليم سواء في المدارس أو الجامعات ، مما جعل حوار المتعالمين كحوار الطرشان ، ونشأ عن ذلك ما نراه اليوم من فتن وتيارات مختلفة متنافرة ، فقد يختلفون حيث لا اختلاف ، وقد ينزلقون وهم يعتقدون أنهم مصلحون ، وإنما هم في الواقع مفسدون ، كما قال الله – تعالى – في أمثالهم : {                     } [البقرة : 11]
سدد الله القول، وأصلح النية، وحقق الآمال، والحمد لله في البدء والختام، وصلى الله على سيد الأنام وعلى آله وصحبه وسلم .

د : عمر عبد الله كامل

أهداف الحوار ومقاصده :
1 – إقامة الحجة : الغاية من الحوار إقامة الحجة ودفع الشبهة والفاسد من القول والرأي. والسير بطرق الاستدلال الصحيح للوصول إلى الحق.
2 – الدعوة : الحوار الهادئ مفتاح للقلوب وطريق إلى النفوس. قال تعالى : {             } [ النحل : 125 ] .
3 – تقريب وجهات النظر : من ثمرات الحوار : تضييق هوة الخلاف، وتقريب وجهات النظر، وإيجاد حل وسط يرضي الأطراف في زمن كثر فيه التباغض والتناحر .
4 – كشف الشبهات والرد على الأباطيل ، لإظهار الحق وإزهاق الباطل، كما قال تعالى: {       } [الأنعام:55 ].
الأصول والقواعد الرئيسة التي تضبط مسار الحوار :
الأصل الأول : الوصول إلى الحق : فلابد من التجرد في طلب الحق، والحذر من التعصب والهوى، وإظهار الغلبة والمجادلة بالباطل.
يقول الإمام الغزالي عند ذكره لعلامات طلب الحق : "أن يكون في طلب الحق كناشد ضالة، لا يفرٌق بين أن تظهر الضالة على يده، أو على يد من يعاونه، ويري رفيقه معيناً لا خصماً، ويشكره إذا عرفه الخطأ وأظهر له الحق"( ).
الأصل الثاني : تحديد الهدف والقضية التي يدور حولها الحوار، فإن كثيراً من الحوارات تتحول إلى جدل عقيم سائب ليس له نقطة محددة ينتهي إليها.
الأصل الثالث : الاتفاق على أصل يرجع إليه، والمرجعية العليا عند كل مسلم هي : الكتاب والسنة، والضوابط المنهجية في فهم الكتاب والسنة. وقد أمر الله بالرد إليهما فقال سبحانه: {        } [ النساء : 59 ].
فالاتفاق على منهج النظر والاستدلال قبل البدء في أي نقاش علمي يضبط مسار الحوار ويوجهه نحو النجاح، إذ إن الاختلاف في المنهج سيؤدي إلى الدوران في حلقة مفرغة لا حصر لها ولا ضابط.
الأصل الرابع : عدم مناقشة الفرع قبل الاتفاق على الأصل فلا بد من البدء بالأهم من الأصول وضبطها والاتفاق عليها، ومن ثم الانطلاق منها لمناقشة الفروع والحوار حولها.

آدابُ الحوار النفسية :
هناك آداب تتعلق بنفسية المحاور وشخصه، وهناك ظروف نفسية قد تطرأ على الحوار فتؤثر فيه تأثيراً سلبياً، فينبغي مراعاة ذلك حتى يحقق الحوار غاياته ويؤتي ثمراته.
وأهم هذه الآداب النفسية :
أولاً – تهيئة الجو المناسب للحوار :
فلابد من الابتعاد عن الأجواء الجماعية والغوغائية، لأن الحق قد يضيع في مثل هذه الأجواء. كما ينبغي اختيار المكان الهادئ وإتاحة الزمن الكافي للحوار.
كما ينبغي مراعاة الظرف النفسي والاجتماعي للطرف الآخر، فلا يصلح أبداً أن يتم الحوار مع شخص يعاني من الإرهاق الجسدي أو النفسي، لأن هذه الأمور ستؤثر في الحوار .
ومن الوسائل في تهيئة الجو المناسب للحوار:
1 – التعارف بين الطرفين .
2 – طرح أسئلة في غير موضوع الحوار لتهيئة نفسية الطرف الآخر.
3 – التقديم للحوار بكلمات مناسبة ومقدمات لطيفة تلفت انتباه الطرف الآخر( ).
ثانياً – الإخلاص وصدق النية :
لابد من توفر الإخلاص لله وحسن النية وسلامة القصد في الحوار والمناظرة، وأن يبتعد المناظر عن قصد الرياء والسمعة، والظهور على الخصم والتفوق على الآخرين، والانتصار للنفس، وانتزاع الإعجاب والثناء.
ومن دلائل الإخلاص لله والتجرد لطلب الحق أن يفرح المحاور إذا ظهر الصواب على لسان مخالفه، كما قال الشافعي : "ما ناظرت أحداً إلا تمنيت لو أن الله أظهر الحق على لسانه".
ويعينه على ذلك أن يستيقن أن الآراء والأفكار ومسالك الحق ليست ملكاً لواحد أو طائفة، والصواب ليس حكراً على واحد بعينه.

ثالثاً – الإنصاف والعدل :
من المبادئ الأساسية في الحوار : العدل والإنصاف، ومن تمام الإنصاف قبول الحق من الخصم، والتفريق بين الفكرة وقائلها، وأن يبدي المحاور إعجابه بالأفكار الصحيحة والأدلة الجيدة، ومن نماذج الإنصاف ما ذكره الله – سبحانه – في وصف أهل الكتاب : {       •         } [ آل عمران:113 ] .
رابعاً – التواضع وحسن الخلق :
إن التزام الأدب وحسن الخلق عموماً، والتواضع على وجه الخصوص له دور كبير في إقناع الطرف الآخر، وقبوله للحق وإذعانه للصواب، فكل من يرى من محاوره توقيراً وتواضعاً، ويلمس خلقاً كريماً، ويسمع كلاماً طيباً، فإنه لا يملك إلا أن يحترم محاوره، ويفتح قلبه لاستماع رأيه.
وفي الحديث الصحيح : ( وما تواضع أحدٌٌ لله إلا رفعه الله ) ( ) . أي يرفع منزلته في الدنيا عند الناس، وكذلك يرفعه في الآخرة ويزيد من ثوابه فيها بتواضعه في الدنيا.
ومما ينافي التواضع : العجب والغرور والكبر .
خامساً – الحلم والصبر :
يجب على المحاور أن يكون حليماً صبوراً، لا يغضب لأتفه سبب، ولا ينفر لأدنى أمر، ولا يستفز بأصغر كلمة .
فقد أمر – سبحانه – نبيه بأخذ العفو وإعذار الناس وترك الإغلاظ عليهم كما في قوله تعالى : {        } [ الأعراف : 199 ] .
والصفح والعفو أبلغ من كظم الغيظ ورد الغضب، لأن العفو ترك المؤاخذة، وطهارة القلب، والسماحة عن المسيء، ومغفرة خطيئته.
وأعظم ذلك وأكبر هو دفع السيئة بالحسنة، ومقابلة فحش الكلام بلينه، والشدة بالرفق، ورد الكلمة الجارحة بالكلمة الطيبة العذبة، والسخرية والاحتقار بالتوقير والاحترام، وهذه منزله لا يصل إليها إلا من صبر وكان ذا حظ عظيم : {                                } [ فصلت : 34-35 ].
سادساً – الرحمة والشفقة :
إن المحاور المسلم المخلص الصادق يحرص على ظهور الحق، ويشفق على خصمه الذي يناظره من الضلال، ويخاف عليه من الإعراض والمكابرة والتولي عن الحق.
فالرحمة والشفقة أدب مهم جداً في الحوار، لأن المحاور يسعى لهداية الآخرين واستقامتهم فلذلك يبتعد عن كل معاني القسوة والغلظة والفظاظة والشدة. فلا يكون الحوار فرصة للكيد والانتقام، أو وسيلة لتنفيس الأحقاد، وطريقة لإظهار الغل والحسد، ونشر العداوة والبغضاء.
والرحمة جسر بين المحاور والطرف الآخر، ومفتاح لقلبه وعقله، وكلما اتضحت معالم الرحمة على المحاور كلما انشرح صدر الخصم، واقترب من محاوره، وأذعن له واقتنع بكلامه. يقول – سبحانه – مخاطباً نبيه : {                } [آل عمران : 159 ].
ولذلك كان الأنبياء في حوارهم مع أقوامهم يصرحون بالخوف والحرص والشفقة عليهم.
ومن نماذج ذلك تصريح مؤمن آل فرعون لقومه بالرحمة والشفقة والخوف عليهم في أكثر من موضع. قال تعالى : {                                  }
[ غافـر : 30 – 33 ] .
سابعاً – العزة والثبات على الحق :
إنٌ المحاور المسلم يستمد قوته من قوة الدين، وعظمة الإيمان، فلا يجوز أن يؤدي الحوار بالمسلم إلى الذلة والمهانة. والعزة الإيمانية ليست عناداً يستكبر على الحق، وليست طغياناً وبغياً، وإنما هي خضوع لله وخشوع، وخشية وتقوى، ومراقبة لله سبحانه.
ثامناً – حسن الاستماع :
لابد للمحاور الناجح أن يتقن فن الاستماع( )، فكما أن للكلام فناً وأدباً، فكذلك للاستماع، وليس الحوار من حق طرف واحد يستأثر فيه بالكلام دون محاوره، ففرق بين الحوار الذي فيه تبادل الآراء وبين الاستماع إلى خطبة أو محاضرة.
ومما ينافي حسن الاستماع : مقاطعة كلام الطرف الآخر، فإنه طريق سريع لتنفير الخصم إضافة إلى ما فيه من سوء أدب، كما أنه سبب في قطع الفكرة مما يؤثر في تسلسل الأفكار وترابطها، ويؤدي إلى اضطرابها ونسيانها.وقد ذكر العلماء في آداب المتناظرين : ألا يتعرض أحدهما لكلام الآخر حتى يفهم مراده من كلامه تماماً، وأن ينتظر كل واحد منهما صاحبه حتى يفرغ من كلامه، ولا يقطع عليه كلامه من قبل أن يتمه.
والاستماع إلى الطرف الآخر وحسن الإنصات، تهيئ الطرف الآخر لقبول الحق، وتمهد نفسه للرجوع عن الخطأ.
تاسعاً – الاحترام والمحبة على رغم الخلاف :
الخلاف أمرُُ واقع لا محالة( ) ، ولكن لا يجوز أن يؤدي الخلاف بين المتناظرين الصادقين في طلب الحق إلى تباغض وتقاطع وتهاجر، أو تشاحن وتدابر.
فأخوة الدين، وصفاء القلوب، وطهارة النفوس فوق الخلافات الجزئية، والمسائل الفرعية، واختلاف وجهات النظر، لا ينبغي أن يقطع حبال المودة، ومهما طالت المناظرة، أو تكرر الحوار، فلا ينبغي أن تؤثر في القلوب، أو تكدر الخواطر، أو تثير الضغائن.
لقد اختلف السلف فيما بينهم، وبقيت بينهم روابط الأخوة الدينية.
فهذان الخليفتان الراشدان، أبو بكر وعمر، يختلفان في أمور كثيرة، وقضايا متعددة، مع بقاء الألفة والمحبة، ودوام الأخوة والمودة.
ومع هذا الخلاف بينهما إلا أن كل واحد منهما كان يحمل الحب والتقدير والاحترام للآخر، ويظهر ذلك من ثناء كل واحد منهما على صاحبه.

آدابُ الحوار العِلمَية
أولاً – الـعلـم :
العلم شرط أساس لنجاح الحوار وتحقيق غايته، وبدونه لا ينجح حوار، ويهدر الوقت ويضيع الجهد.
فيجب على المحاور ألا يناقش في موضوع لا يعرفه، ولا يدافع عن فكرة لم يقتنع بها، فإنه بذلك يسيء إلى الفكرة والقضية التي يدافع عنها، ويعرض نفسه للإحراج وعدم التقدير والاحترام.
يقول الشيخ ابن تيمية في التأكيد على ضرورة العلم وأهميته لمن يتصدى للحوار: "وقد ينهون عن المجادلة والمناظرة، إذا كان المناظر ضعيف العلم بالحجة وجواب الشبهة، فيخاف عليه أن يفسده ذلك المضل، كما ينهي الضعيف في المقاتلة أن يقاتل علجاً قوياً من علوج الكفار، فإن ذلك يضره ويضر المسلمين بلا منفعة"( ).
ثانياً – البدء بالنقاط المشتركة وتحديد مواضع الاتفاق :
بين كل متناظرين مختلفين حد مشترك من النقاط المتفق عليها بينهما والتي يسلم بها الطرفان، والمحاور الناجح هو الذي يظهر مواطن الاتفاق. والبدء بالأمور المتفق عليها يساعد على تقليل الفجوة، ويوثق الصلة بين الطرفين، ويعيد الحوار هادئاً هادفاً.
أما إذا كان البدء بذكر مواضع الخلاف وموارد النزاع فإن فرص التلاقي تقل، وفجوة الخلاف تتسع، كما أنه يغير القلوب، ويثير النفوس للغلبة دون النظر إلى صحة الفكرة.
فالبدء بالنقاط المشتركة يساعد على تحرير محل النزاع، وتحديد نقطة الخلاف، ويفيد في حسن ترتيب القضايا والتدرج في معالجتها.
ثالثاً – التدرج والبدء بالأهم :
إن المحاور الناجح هو الذي يصل إلى هدفه بأقرب طريق، ولا يضيع وقته فيما لا فائدة منه، ولا علاقة له بأصل الموضوع، فمعرفة الأهم والبدء به يختصر الطريق.
وأوضح الأمثلة على ذلك بدء الأنبياء – صلوات الله عليهم وسلامه – بأهم قضــــية وأكبر غايــــة، وهي الدعوة إلى عبـــادة الله وحده لا شريك له : {        } [ الأعراف : 95،65،73،85 ]. قالها نوح وهود وصالح وشعيب عليهم السلام.
ومع التأكيد على هذا الأدب – البدء بالأهم – فقد يحتاج المحاور إلى أن يتدرج ويتنازل مع خصمه، ويسلَم له ببعض الأمور تسليماً مؤقتاً حتى يصل إلى القضية الأم والمسألة الأهم.
ومن نماذج هذا الأسلوب ما اتبعه إبراهيم مع قومه ليصل بهم إلى التوحيد وإبطال الشرك، كما قال سبحانه : {            } وهذا على وجه التنزل مع الخصم، أى ربي – بزعمكم – (فلما أفل قال : لا أحب الآفلين) فبطلت عبادة الكواكب، ثم فعل مثل ذلك لما رأى القمر ولما رأى الشمس حتى وصل بهم إلى حد إبطال ماهم عليه من الشرك( ).
رابعاً – الـدلـيـل :
إن أهم ما ينجح الحوار : الدليل، ولابد من إثبات صحة الدليل، كما قيل: "إن كنت ناقلاً فالصحة، أو مدعياً فالدليل". ولا يحسن بالمحاور أن يستدل بأدلة ضعيفة أو حجج واهية. فدليلان قويان لا يمكن الرد عليهما أفضل من سوقهما مع ثلاثة أدلة أخرى يمكن الأخذ والرد فيها، إذ ربما يستغلها الطرف الآخر، فيضعف الفكرة ويسيء إلى موقف صاحبها بسبب الأدلة الضعيفة.
ومتى وجد الدليل وثبتت صحته، فلابد من صحة دلالته على المطلوب، ولابد من ترتيب الأدلة حسب قوتها وصراحتها في الدلالة على المقصود.
خامساً – ضرب الأمثلة :
إن المحاور الناجح هو الذي يحسن ضرب الأمثلة، ويتخذها وسيلة لإقناع محاوره، إذ أن الأمثلة الجيدة تزيد المعنى وضوحاً وبياناً.
ولما للأمثلة من دور كبير في تقريب المعاني والإقناع بها، فقد اعتنى القرآن بها كثيراً، وأشار إلى أهميتها وبيان هدفها : {    ••   } [ الحشر:21 ] . {    ••   } [ إبراهيم : 25 ].

سادساً – العدول عن الإجابة :
إن الأصل في الحوار الناجح أن يبنى على الإخلاص والتجرد للحق والصدق والوضوح، ولكن قد تتعذر هذه الصفات في الخصوم، فقد يكون الخصم يهوى الجدال والمراء، ويقصد إضاعة الوقت والتهرب من الحوار الجاد، وقد يلقي أسئلة لا قيمة لها ولا تفيد شيئاً بالحوار.
ففي مثل هذه الأحوال يعدل المحاور الناجح عن الجواب المباشر للسؤال المطروح، إلى جواب مفيد مهم .
سابعاً – الرجوع إلى الحق والتسليم بالخطأ:
إن من أهم الآداب والصفات التي يتميز بها المحاور الصادق أن يكون الحق ضالته، فحيثما وجده أخذه، والعاقل هو الذي يسلم بخطئه، ويعود إلى الصواب إذا تبين له، ويفرح بظهوره، ويشكر لصاحبه إرشاده ودلالته إليه.
والتسليم بالخطأ صعب على النفس، خاصة إذا كان في مجمع من الناس، فهو يحتاج إلى تجرد لله وصدق وإخلاص، وقوة وشجاعة.
ثامناً – التحدي والإفحام وإقامة الحجة على الخصم :
إن الهدف من الحوار هو الوصول إلى الحق، فعلى المحاور أن يتجنب أسلوب الإفحام والإسكات، لأنه يترك في نفس المحاور حقداً وغيظاً وكراهية.
ولكن يلجأ المحاور إلى التحدي والإفحام مع من استطال وتجاوز حدود الأدب، وطغى وظلم وعادى الحق وكابر مكابرة بينة ولجأ إلى الاستهزاء والسخرية، ونحو ذلك.
وفي مثل هؤلاء جاءت الآية الكريمة : {           } [ النساء : 148] .
ولما أمر الله – سبحانه – بالتلطف في المناقشة – حتى مع الكفار – استثنى حالة إذا ما ظلموا وبغوا، فلا ينفع معهم الرفق واللين، بل يستعمل معهم الغلظة والشدة : {             } [ العنكبوت:46 ] .

آداب الحوار اللفظية :
وأعني بها الآداب التي تتعلق بالألفاظ المختارة، والكلمات المنتقاة، والعبارات المناسبة.
وحيث إن الحوار – غالباً – ما تصاحبه الرغبة في الظهور على الخصم، والخوف من الانهزام أو الإحراج أمام الآخرين، فربما انعكس أثر ذلك على ألفاظ المحاور، فيزل لسانه، ويلقي كلمة خشنة.
فلابد للمحاور أن يدقق ألفاظه ويراعي كل عبارة يتفوه بها، حتى يستقيم الحوار، ويحقق نتائجه، ويؤتي ثماره.
وأهم الآداب اللفظية :
أولاً – الكلمة الطيبة والقول الحسن :
لقد أمر الله – عز وجل – بدعوة الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، فقال سبحانه : {             } [ النحل : 125 ] .
ومن القول الحسن أيضاً : حسن المناداة للطرف الآخر، واختيار أحب الأسماء إليه، وقد تأدب الأنبياء بهذا الأدب في خطابهم لأقوامهم، فقد كان يقول الرسول لخصومه المعاندين: (يا قوم) في تودد وسماحة وتذكير بالروابط التي تجمعهم، ليستثير مشاعرهم، ويطمئنهم فيما يدعوهم إليه.
ثانياً – التعريض والتلميح بدلاً عن التصريح :
إن لفت النظر إلى الأخطاء من طرف خفي، وتجنب اللوم المباشر، وعدم تخطئة الطرف الآخر بعبارة صريحة، كل ذلك له أثره في تسليم الخصم للحق والرجوع عن الخطأ، فالنفوس غالباً لا تتحمل أن تواجه بقوة وصرامة، وهناك من الألفاظ الموحية والكلمات اللطيفة والتي تؤدي الغرض نفسه، دون جرح لمشاعر الآخرين، أو إشعارهم بالذل والهزيمة.
ثالثاً – ثناء المحاور على نفسه أو على خصمه بالحق :
إن الكلام عن النفس ومدحها والثناء عليها مذموم غالباً، ولا يحب الناس أن يسمعوا ممن يملأ آذانهم بمناقبه وسيرته وأحواله وتقلباته، بل إن من يفعل ذلك ويفرح به ويكثر منه يعد ناقصاً في عقله، أو ربما فاسداً في نيته وقصده.
وكما قال الإمام مالك : " إن الرجل إذا ذهب يمدح نفسه ذهب بهاؤه" ( ).
وقد نهى الله – عز وجل – عن تزكية النفس والتمدح بطهارتها فقال سبحانه : {        •} [ النجم : 32 ] ، وعاب أناساً فعلوا ذلك فقال فيهم : {                } [ النساء : 49 ] .
وفي المقابل فإن مدح الآخرين وإطراءهم والثناء عليهم بما ليس فيهم، وتجاوز الحد في ذلك، كل هذا مذموم ممقوت أيضاً .
ولكن قد تكون هناك حالات يحتاج فيها المحاور إلى أن يثني على نفسه بالحق، لتحقيق غرض معين، كأن يشعر خصمه بمقدار علمه في موضوع الحوار أو في مسألة من مسائله، أو لينفي عن نفسه تهمة أو طعناً في صدقه وأمانته أو نحو ذلك، فهنا قد يسوغ ذكر شيء من محاسن النفس بقدر وبحق .
وكذا قد يحتاج المحاور إلى أن يثني على الطرف الآخر – بالحق – لتحقيق غرض معين، كأن يكون القصد إشعاره بالتقدير والاحترام، والاعتراف بفضله أو علمه،
رابعاً – محذورات لفظية :
إن للسان سقطات، وللكلام زلات، والمسلم مأمور بحفظ لسانه، كما أنه مأمور بطيب الكلام، وأن يقول خيراً فيغنم، أو يسكت فيسلم، ويسلم الآخرون منه، وهناك أمور قد يقع فيها اللسان فتورد صاحبها الموارد، وقد تهوي بالحوار وتعطل سيره أو تحوله إلى جدل عقيم، أو تبادل سباب وشتائم، ولذلك ينبغي للمحاور أن يحذرها، فمن هذه المحذورات :
1 – اختيار الألفاظ والمعاني التي تقود إلى الجدل، أو تستثير الفتن والمشكلات .
2 – إظهار التفاصح والتشدق في الكلام، تيهاً على الآخرين واستعلاء .
3 – الغيبة : فإن المناظر لا ينفك عن حكاية كلام خصمه ومذمته، فيحكي عنه ما يدل على قصور كلامه وعجزه ونقصان فضله، وهو الغيبة.
4 – الكذب : ربما لا يقدر المناظر على محاورة خصمه ، فيلجأ إلى الكذب عليه، فينسبه إلى الجهل والحماقة وقلة الفهم، تغطية لعجزه فيقع في الكذب.
5 – تزكية النفس والثناء عليها بالقوة والغلبة والتقدم على الأقران، كقوله : لست ممن يخفى عليه أمثال هذه الأمور ونحو ذلك مما يتمدح به على سبيل الادعاء .
6 – الاستئثار بالكلام دون الطرف الآخر، والإطالة الزائدة عن حدها وعدم مراعاة الوقت في أثناء الكلام .
7– اللوم المباشر عند وضوح خطأ الطرف الآخر ، كقوله : "أخطأت" ، "سأثبت لك أنك مخطئ جاهل" ونحو ذلك مما يجرح الطرف الآخر .
8– رفع الصوت أكثر مما يحتاج إليه السامع ، ففي ذلك رعونة وإيذاء .
9– الهزء والسخرية ، وكل ما يشعر باحتقار الطرف الآخر .
10– استعمال الألفاظ الغريبة ، والأساليب الغامضة ، والعبارات المحتملة تلبيسا على الطرف الآخر ، تمويها للحقيقة .. إلى غير ذلك من المحذورات التي يجب على المحاور أن يبتعد عنها .

قواعد في أدب الاختلاف

أولا – أنواع الاختلاف وأسبابه :
الاختلاف نوعان : اختلاف مذموم ، واختلاف محمود :
أ – الاختلاف المذموم :
وهو اختلاف تضاد ، ويرجع إلى أسباب خلقية متعددة ، ومن هذه الأسباب :
1– الغرور بالنفس والإعجاب بالرأي .
2– سوء الظن والمسارعة إلى اتهام الآخرين بغير بينة .
3– الحرص على الزعامة أو الصدارة أو المنصب .
4– اتباع الهوى وحب الدنيا .
5– التعصب لأقوال الأشخاص والمذاهب والطوائف .
6– العصبية لبلد أو إقليم أو حزب أو جماعة أو قائد .
7– قلة العلم في صفوف كثير من المتصدرين .
8– عدم التثبت في نقل الأخبار وسماعها .
وهذه الأسباب وغيرها من الرذائل الأخلاقية والمهلكات هي التي ينشأ عنها اختلاف غير محمود وتفرق مذموم ، وكل واحد من هذه الأسباب يطول شرحه، وسنأتي على ذكر الكثير من هذه الأسباب عند الكلام عن القواعد العلمية والأخلاقية في أدب الخلاف.

ب – الاختلاف المحمود :
وهو اختلاف تنوع ، وهو عبارة عن الآراء المتعددة التي تصب في مشرب واحد ، ومن ذلك ما يعرف بالخلاف الصوري ، والخلاف اللفظي ، والخلاف الاعتباري. وهذه الاختلافات مردها إلى أسباب فكرية ، واختلاف وجهات النظر ، في بعض القضايا العلمية ، كالخلاف في فروع الشريعة ، وبعض مسائل العقيدة التي لا تمس الأصول القطعية .
وكذلك الاختلافات في بعض الأمور العملية ، كالخلاف في بعض المواقف السياسية ، ومناهج الإصلاح والتغيير ، ويدخل في الخلافات الفكرية : اختلاف الرأي في تقويم بعض المعارف والعلوم مثل : علم الكلام والمنطق والفلسفة والتصوف . والاختلاف في تقويم الأحداث التاريخية وبعض الشخصيات التاريخية والعلمية .
وهذا الخلاف ليس فيه مذمة ، وإنما الذم في عدم مراعاة آداب الخلاف العملية والأخلاقية التي سيأتي ذكرها في ثنايا هذا البحث .

وجود الخلاف في خير قرون الأمة :
لقد كان الخلاف موجوداً في عصر الأئمة المتبوعين الكبار : أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والثوري والأوزاعي وغيرهم . ولم يحاول أحد منهم أن يحمل الآخرين على رأيه أو يتهمهم في علمهم أو دينهم من أجل مخالفتهم .
بل كان الخلاف موجوداً في عصر شيوخ الأئمة وشيوخ شيوخهم من التابعين الكبار والصغار ، بل كان الخلاف موجودا في عصر الصحابة نظراً لاختلاف أفهامهم وتفسيرهم للنصوص .
بل إن الخلاف وجد في عهد النبي () ، فأقره ولم ينكره ، كما في قضية صلاة العصر في بني قريظة ، وهي مشهورة ، وفي غيرها من القضايا .

ثانيا – الاختلاف في الفروع ضرورة ورحمة وسعة :
أ– الاختلاف ضرورة :
الاختلاف في فهم الأحكام الشرعية غير الأساسية ضرورة لابد منها ، بسبب طبيعة الدين ، واللغة ، وطبيعة الكون والحياة .
فأما طبيعة الدين :
فقد أراد الله أن يكون في أحكامه المنصوص عليه والمسكوت عنه ، وأن يكون في المنصوص عليه : المحكمات والمتشابهات ، والقطعيات والظنيات ، والصريح والمؤول ، لتعمل العقول في الاجتهاد والاستنباط ، فيما يقبل الاجتهاد .
ولو شاء الله لأنزل كتابه كله نصوصا محكمة قطعية الدلالة ، لا تختلف فيها الأفهام ، ولا تتعدد التفسيرات . ولكنه لم يفعل ذلك ، لتتفق طبيعة الدين مع طبيعة اللغة ، وطبيعة الناس وضروريات الزمن .
وأما طبيعة اللغة :
فإن نصوص القرآن والسنة ، جاءت على وفق ما تقتضيه اللغة في المفردات والتراكيب ، ففيها اللفظ المشترك الذي يحتمل أكثر من معنى ، وفيها ما يحتمل الحقيقة والمجاز ، والعام والخاص ، والمطلق والمقيد .
وأما طبيعة البشر :
فقد خلقهم الله مختلفين ، فكل إنسان له شخصيته المستقلة ، وتفكيره المتميز، وميوله الخاصة ، ومن العبث صب الناس في قالب واحد ، ومحو كل اختلاف بينهم ، فهذا أمر مخالف للفطرة التي فطر الله عليها الناس .
وأما طبيعة الكون والحياة :
فالكون الذي نعيش في جزء صغير منه ، خلقه الله –سبحانه – مختلف الأنواع والصور والألوان ، وهذا الاختلاف ليس اختلاف تضارب وتناقض بل هو اختلاف تنوع .
وكذلك طبيعة الحياة ، فهي أيضا تختلف وتتغير بحسب مؤثرات متعددة ، في المكان والزمان.
فالخلاف سنة كونية اقتضتها الحكمة الإلهية ، قال الله عز وجل : {     •• •  } [هود : 118 – 119] .
وفي الأثر : "لا يزال الناس بخير ما تباينوا فإذا تساووا هلكوا"( ).
ب – الاختلاف رحمة :
الاختلاف مع كونه ضرورة ، هو كذلك رحمة بالأمة وتوسعة عليها .
ولهذا اجتهد الصحابة واختلفوا في أمـور جزئيـة كثيرة ، ولم يضيقوا ذرعا بذلك بل نجد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز يقول عن اختلاف الصحابة رضي الله عنهم : "ما يسرني أن أصحاب رسول الله  لم يختلفوا ، لأنهم لــو لـم يختلفوا لم يكن لنا رخصة".
فهم باختلافهم أتاحوا لنا فرصة الاختيار من أقوالهم واجتهاداتهم ، كما أنهم سنوا لنا سنة الاختلاف في القضايا الاجتهادية ، وظلوا معها إخوة متحابين.
ج – الاختلاف ثروة :
اختلاف الآراء الاجتهادية يثري الفقه ، وينمو ويتسع ، لأن كل رأي يستند إلى أدلة واعتبارات شرعية .
وبهذا التعدد والتنوع تتسع الثروة الفقهية التشريعية ، وإن تعدد المذاهب الفقهية وكثرة الأقوال ، كنوز لا يقدر قدرها ، وثروة لا يعرف قيمتها إلا أهل العلم والبحث ، فقد يكون بعضها أكثر ملائمة لزمان ومكان من غيره( ).

الضوابط العلمية للاختلاف : ( )
1– رد الاختلاف لكتاب الله وسنة رسوله  مصداقاً لقوله تعالى : {         } [النساء 59] ، شريطة أن نعود ونستنبط بالطرق التي استنبط بها علماؤنا السابقون ، وليس بالأهواء أو بالاعتساف أي أن يكون الأمر مجمعا عليه فلا نعود لمذهب دون مذهب بل يعرض الأمر على ثلة من العلماء حتى نحقق الأمور .
2– اتباع المنهج الوسط ، فالله – سبحانه وتعالى –يقول : {         } [البقرة 185]، ويقـول: {         } [النساء 28]، ويقول سبحانه وتعالى: {        }[المائدة 6].
فالتشدد منهج ينبذه الإسلام فلا بد إذاً من رخصة وتيسير على الناس ومراعاة ظروفهم .
3– التفريق بين القطع والظن في الأدلة والتركيز على المحكمات لا المتشابهات، فمن المعلوم أن النصوص بعضها ظني الثبوت وظني الدلالة، وبعضها ظني الثبوت قطعي الدلالة ، وبعضها قطعي الثبوت ظني الدلالة ، وبعضها قطعي الثبوت قطعي الدلالة . فقطعية الثبوت هي القرآن الكريم والسنة المتواترة ، والأحاديث أحاديث الآحاد الصحيحة التي حفت بها قرائن وتلقتها الأمة بقبول حسن .
4– تجنب القطع في المسائل الاجتهادية . فالاجتهاد إذا كان وفقا لأصول الاجتهاد ومناهج الاستنباط في علم أصول الفقه يجب عدم الإنكار عليه، ولا ينكر مجتهد على مجتهد آخر ، ولا ينكر مقلد على مقلد آخر وإلا أدى ذلك إلى فتنة .
5– إن من أراد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فلابد له أن يطلع على خلافات العلماء وأدلة كل منهم حتى لا ينكر على الناس أمرا هم متبعون فيه علماء أفاضل فالاختلاف من ضروريات الحياة ، وقد قال الله سبحانه وتعالى : {     •• •  } [هود 118] ، فالتعصب لمذهب واحد واعتقاد أن كل من خالفه مخطئ أمر يجرُّ إلى فتن عظيمة .
6– تحديد المفاهيم والمصطلحات التي يدور حولها النقاش إذ يجب أن تكون واضحة جلية وهو ما يسميه العلماء تحرير موضع النزاع فكثير من النقاشات التي تقدم اليوم مردها إلى خلاف في اللفظ .
7– النظرة الشمولية ، فلابد من الجمع بين كل ما ورد فيما يخص المسألة الواحدة لتحريرها تحريراً جلياً واضحاً . وأرى ألا ننساق وراء شيخ واحد نقدسه أو عالم واحد نعظمه ولا نلتفت إلى سواه وإلا دخلنا في محظور قول الله تعالى:{        }.
8– النظر في المقاصد واعتبار المآلات فمسألة المقاصد الإسلامية لها دور كبير في تيسير المعاملات وتسهيل العمل في هذا الزمن وفي ذلك يقول الرسول  : (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى).
9– أعمال القلوب مقدمة على أعمال الجوارح فالإخلاص مقدم على غيره .
يقول الرسول  : (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم وصوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) فكل الفضائل مردها إلى القلب .
10– الاهتمام بهموم المسلمين ، فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم . إن مشكلاتنا اليوم كثيرة ومتعددة احتوت الظلم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والتفسخ والانحلال وهناك أمراض جديدة لم نكن نألفها ، فلماذا لا نتفق على ما اتفقنا عليه وندع الخلافيات ونواجه الخطر الداهم اليوم خطر التمزق ، خطر التدهور .
11– التعاون في المتفق عليه . إن مشكلة الأمة الإسلامية اليوم ليست في ترجيح أحد الرأيين أو الآراء في القضايا المختلف فيها ، بناءً على اجتهاد أو تقليد. فالواقع أن الخطأ في هذه القضايا يدور بين الأجر والأجرين .
ولكن مشكلة الأمة حقا في تضييع الأمور المتفق عليها . مشكلة المسلمين ليست في الذي يؤول آيات الصفات وأحاديثها – وإن كان مذهب السلف أسلم وأرجح – بل في الذي ينكر الذات والصفات جميعا .
مشكلة المسلمين ليست فيمن يقول : استوى على العرش بمعنى (استولى) أو كناية عن عظمة سلطانه تعالى ، بل فيمن يجحد العرش ورب العرش معا .
مشكلة المسلمين ليست فيمن يجهر بالبسملة أو يخفضها أو لا يقرؤها في الصلاة ، ولا فيمن يرسل يديه في الصلاة أو يقبضهما ، ومن يرفع يديه عند الركوع أو الرفع منه أو لا يرفعهما ، إلى آخر هذه المسائل الخلافية الكثيرة المعروفة .
إنما مشكلة المسلمين فيمن لا ينحني يوما لله راكعا ، ولا يخفض جبهته لله ساجدا ، ولا يعرف المسجد ولا يعرفه المسجد .
مشكلة المسلمين ليست فيمن يأخذ بأحد المذاهب المعتبرة في إثبات هلال رمضان أو شوال ، بل فيمن يمر عليه رمضان كما مر عليه شعبان وكما يمر عليه شوال ، لا يعرف صياما ولا قياما ، بل يفطر عمدا جهارا ونهارا ، بلا خشية ولا حياء .
مشكلة المسلمين ليست في عدم تغطية الوجه بالنقاب ، واليدين بالقفازين ، كما هو رأي بعض العلماء ، بل في تعري الرؤوس والنحور ، والظهور ، ولبس القصير الفاضح ، والشفاف الوصاف ، إلى آخر ما نعرف مما يندى له الجبين .
إن المشكلة حقا هي وهن العقيدة ، وتعطيل الشريعة ، وانهيار الأخلاق وإضاعة الصلوات ، ومنع الزكوات ، واتباع الشهوات ، وشيوع الفاحشة وانتشار الرشوة وخراب الذمم ، وسوء الإدارة ، وترك الفرائض الأصلية وارتكاب المحرمات القطعية وموالاة أعداء الله ورسوله والمؤمنين .
مشكلة الأمة المسلمة الحقيقية في إضاعة أركان الإسلام ، ودعائم الإيمان ، وقواعد الإحسان .
فالواجب على دعاة الإسلام أن ينبهوا على التركيز على مواطن الاتفاق قبل كل شيء ، وأن يرفعوا شعار (التعاون فيما نتفق عليه) فإن هذا التعاون فريضة وضرورة ، فريضة يوجبها الدين وضرورة يحتمها الواقع .

خاتمــة :
إن الخلل الذي نعاني منه في مجتمعنا الإسلامي لا يصلحه إلا التفاعل من خلال الحوار بعيدا عن القهر وتأليب جانب على آخر، والسلطة السياسية يجب أن تمثل دور الوازع الذي يقف عند تهيئة جو الحوار الهادف ، والذي يحترم حريات جميع الفئات ، حتى وإن كانت متحفظة عليها ، ولا يمكن أن نتخيل عدالة اجتماعية بدون استقلال فكري ومذهبي ، نعم ولا بد من أدب في الحوار يحترم فيه صاحب السلطة .
إن الأمم التي بنت حضارتها أوجدت أماكن مناسبة للمفكرين والمثقفين بالقرب من السلطة ، واستفادت منهم في حركة النقد الهادف فأصبحوا عمادا لها ، ولم يكونوا حربا عليها .
فالكبت الفكري لا يضر المفكر والمثقف فقط ، بل سيضرب في عنق النظام بعد أن يستفحل خطره، فزبد النصائح التي تبذل للمجتمع والنظم إن لم تجد طريقها إلى النور ، ستجد طريقها إلى من يحملها في قالب عنيف ومفاجئ ، فالفكرة المكبوتة قنبلة موقوتة .
إن منهج الجدل والحوار الإسلامي قادر على احتواء جميع الصراعات والاختلافات ، فقد احتوى هذا المنهج الصراعات مع الأديان الأخرى وانتصر، واتسع فكيف لا يتحمل الحوار بين المسلمين ؟ إن الفكر الديني المستنير هو ضرورة مهمة لأي بناء حضاري ، ولن يكون هنالك فكر ديني مستنير إلا في ظل الحوار الإسلامي .

مصادر البحث

 إحياء علوم الدين – لأبي حامد الغزالي .
 الحوار (آدابه وضوابطه) – للزمزمي .
 صحيح مسلم .
 درء تعارض العقل والنقل – لابن تيمية .
 سير أعلام النبلاء – للحافظ الذهبي .
 الصحو الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم – للقرضاوي .
 صفحات في أدب الرأي – للشيخ محمد عوامة .
 فريضة الحوار – للدكتور عمر عبد الله كامل .
 دائرة الفتنة وسبل الخروج منها – للدكتور عمر عبد الله كامل .
 المتطرفون (خوارج العصر) – للدكتور عمر عبد الله كامل .

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك