الإرهــاب وإشكاليــات المفهوم ، والانـتماء ، والمواجهة

الإرهــاب وإشكاليــات
المفهوم ، والانـتماء ، والمواجهة

إعــداد
د. حسن بن فهد الهويمل
الأستاذ المشارك بفرع الجامعة بالقصيم
ورئيس النادي الأدبي بالقصيم

المفهـــوم :
1/1 يحسن بنا – ونحن في لجة من مخاضات أُذن لها أن تقلب الأوضاع العالمية رأساً على عقب – استبعاد الافتعال والانفعال ، وقصر الحديث على التناول الموضوعي والبحث المعرفي ، بعيداً عن صخب الخطابات التنصلية ، ومآزق التزكية والتبرئة للذوات الممارسة للمبادئ ، والانحاء باللائمة على الآخر ، دون مصلحة أو برهان . ومتى اعتمدنا في تناولاتنا تبادل الاتهامات ، وممارسة الإدانة والإقصاء ، زدنا الوضع تعقيداً والحلَّ استحالة ، وانفض سامرنا بوضع أشد إبهاماً مما سلف . ومؤتمر عالمي كهذا جدير بأن يجسر الفجوات ، ويجفف المستنقعات . وأحسب أن أوضاع العالم المتوترة تستدعي الكلم الطيب ، والقول السديد ، والدفع بالتي هي أحسن استجابة لأمر الله : { قُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . ومتى كان التعايش السلمي ممكنا فإن المصير إلى ما سواه جناية بحق البشرية فوق أي أرض ، وتحت أي سماء ، وعلى أية ملة . { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} والدين الإسلامي أقدر الأديان على وضع الحلول للأزمات المستعصية ، وتوفير أجواء تحقق للإنسانية العيش الكريم . وكيف تتأزم الأمور في ظله ؟ وهو لا ينهى عن البر والقسط لكل مخالف في العقيدة ، ما لم يقاتل في الدين خاصة ، أو يخرج المسلمين من ديارهم ، أو يظاهر عليهم الأعداء والمحاربين . ولن تتأتى الرغبات المشتركة إلا إذا حررنا مسائلنا ، وقاربنا بين مفاهيمنا حول القضايا المشتركة ، وحددنا مصادرها، ورسمنا أساليب مواجهتها . ومتى توخت الحضارات العدل والصدق، ووفرت الحقوق ، ووحدت المواقف والمكاييل ، أمكن الانتقال من الصدام إلى الحوار ، ومن التناحر إلى التعاذر ، ومن التناوش إلى التعايش ، ومجموع تلك الهموم الممكنة يتشكل منها منهج البحث وآلية التناول ، ومادة الحديث ، ولا يمنع من ذلك تصحيح المفاهيم ، ورد الظلم وإحقاق الحق .
2/1 ولما أن جاء في عنوان البحث مجموعة من المصطلحات والكلمات ، اقتضى التناول المعرفي السليم تعريف كل مفردة بما يقربها إلى الطرف الآخر زلفى، فإذا استقرت في الأذهان أمكن النفاذ إلى صلب الإشكاليات ، لتصورها أولاً ، ثم اتخاذ أجدى الحلول وأهداها وأيسرها . ولأن لكل طائفة من الأناسي والمفكرين والساسة رؤيتها وموقفها ومرجعيتها ، فإن من أوجب الواجبات استماع الرؤى والتصورات ، ومحاولة التماس القواسم المشتركة والانطلاق منها. ومفردات العنوان تعريفية وإجرائية : [ الإرهاب ] ، و [الانتماء ] و [المواجهة ] وهي حيازات دلالية وإجرائية تتداخل كالدوائر وتفترق كالمتوازيات . فما الإرهاب بوصفه ظاهرة ؟ وما هو بوصفه فعلاً إجرائياً يمس أطرافاً معينين ، ويقوم به أطراف معينون ، ويقع في ظل ظروف معينة ؟ ثم ما الأسباب ، وإلى أي فئة أو طرف ينتمي ؟ وكيف نواجه هذه الظاهرة القديمة الحديثة ؟
تساؤلات مشروعة يطرحها كل طالب حق بين يدي بحثه عنه ، ومن أراد إطفاء لظى الفتن لزمه التحري والتحسس عن وجوه الالتقاء وهي ممكنة عندما يجنح الجميع إلى السلام لا إلى الاستسلام . وإشكالية المفهوم أنها مرتبطة بالأزمنة والأمكنة والأحوال والمنفذين والمتضررين . وحين تخترق هذا الإشكاليات المصطلح لا يكون جامعاً مانعاً ، كذلك تضطرب أحوال المتجادلين حوله ، بحيث يتعذر الخروج بمفهوم جمعي . ولكن اليأس لا يمنع من زحزحة المشكل ليقترب من فرصة الحوار ، وقد يؤدي الحوار الحضاري إلى تنازلات جزئية ، لا تمس جوهر المفاهيم ، ولكنها توفر أرضية مشتركة ، تقترب بالمفهوم من هامش الاتفاق أو التعاذر ، وعندها تمتلك الأطراف المعنية فرصة الخلوص من دوامة الاختلاف المعمِّق للظاهرة . والإرهاب بوصفه ممارسة غير منتمية مسَّ العالم كله بالضر ، وكل أمة معرضة لمزيد من الممارسات الإرهابية ، ذلك أنه آلية لتصفية الحسابات بين الدول والأحزاب والطوائف والأعراق والحضارات ، حفَز إليه تعذر المواجهة العسكرية لحسم المواقف ، وأسهمت في تشكله المفاهيم الخاطئة للحرية والحقوق وتداول السلطات وعمليات الإقصاء والمصادرة ، وتلاحق الثورات الدموية ، وإخفاق كل المشروعات الوحدوية والقومية والحزبية ، وتجذر الانهزامية وخيبة الأمل . ولربما أشعل فتيل الإرهاب تصادم المصالح ، وتعارض الأهداف ، وعدم توازن القوى وتعددها ، والوقوع في إشكاليات القطب الواحد ، وتفكك كيانات تنطوي على [ إثنيات ] ، وطائفيات وإقليميات ، كل واحدة منها ترى أحقيتها بالاستقلال أو بالسلطة ، مع عجز واضح وانحياز مكشوف للقوى القادرة على ضبط الإيقاع العالمي ووقوع العالم في المتناقضات يتيح الفرصة للشيء ونقيضه ،فالإرهاب : ـ وضع العنف موضع الحوار ، والهوان : ـ وضع الحوار موضع الدفاع المشروع . فإذا أمكن الحوار فلا مناص منه ، وإذا قامت السلطة المشروعة العادلة الرفيقة فلا مقاومة ، ومن مارس أحد النقيضين من عند نفسه أسقط الأمة في الفتنة أو الذلة، [ والفتنة أشد من القتل ] .
3/1 وتصور الظاهرة يسبق الحكم عليها ، والخلفيات المعرفية والثقافية والفكرية لا تمكن الباحث من الاستعانة بنظرية معرفية بريئة ، وقراءة الأشياء من درجة الصفر مستحيلة ، وغير مشروعة ، ولو عدنا إلى مفهوم [ الإرهاب ] في ظل كل هذه التوقعات ، ومن خلال منظور إسلامي لوجدناه موازياً لمفهوم [ الردع ] فالدول الكبرى حين تخوض سباق التسلح وحرب النجوم ، وحين تمتلك وزارات الدفاع عندها أخطر المعامل والمختبرات والتجارب الجرثومية والكيميائية والنووية فإنما تريد أن تكون مهيبة الجانب ، وذلك ما حث القرآن عليه أمة الإسلام : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } ولم يكن الإرهاب بوصفه من مصطلحات الإسلام ممارسة فعْلية للقتل العشوائي والتدمير الشامل . وإنما يعني الإخافة والردع . و [ الرهبة ] تكون محمدة عندما تكون من العبد لربه ، وقد أمر بها القرآن [ فإياي فارهبون ] و [ وإياي فارهبون ] وتكون مذمة من جانب المخلوق المبطل للمخلوق المتردد [ واسترهبوهم ] ومحمدة من جانب المخلوق المحق للمخلوق المبطل [ لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ] .
و [ الرهبانية ] و [ الرهبان ] مصطلحات دينية لديانات سلفت ، والإسلام له مفهومه إزاءها ، فهو يحفظ التوازن بين [ الرهب ] و [ الرغب ] ، و [ الرجاء ] و [اليأس ] فلا رهبانية دون رغبة ، ولا يأس دون رجاء . وعقيدة السلف وسط بين الخوف والرجاء . وليس المصطلح بمفهومه الإسلامي مرتبطاً بمفهومه الغربي المعاصر . و[ الإرهاب ] بالقوة حين يقَابل [ الردع ] يكون مشروعاً ، وحقاً مشاعاً بين الحضارات ، لأنه يحقق سنة التدافع . ومن رغبه لنفسه ، وحققه على مرأى ومسمع من الناس فليس من حقه أن يحظره على غيره . وما تمارسه الحضارة الغربية المتغطرسة من حظر للسلاح ، يصل حد المحاصرة والتدخل السافر في شؤون الآخرين مظنة [ الإرهاب ] التدميري ، الذي تحاربه كل الحضارات ، بما فيها الحضارة الإسلامية ، والذين يجعلون [ الجهاد ] إرهاباً يحملون المفهوم ما لا يحتمل و [ الجهاد ] حين يكون ذروة سنام الإسلام في ظل تسامح الإسلام وجنوحه للسلام لا يتسع للمفاهيم التي يتداولها المغرضون . ولما كان الإرهاب ذروة الغلو والتطرف كان لابد من معرفة الدركات المؤدية إليه. فـ [ الغلو ] ظاهرة عرفتها كل الديانات ، ولقد ظهر مصطلح [ الغلو ] المنهي عنه بالنص القرآني عند طوائف إسلامية ، وقد لا تخلو طائفة إسلامية من غلاة لا يمثلون [ الوسطية ] في الطائفة . ومع أن النص القرآني نهى أهل الكتاب عنه مرتين فإنه بحق المسلمين أولى ، غير أن الغلاة لا يقرون بالغلو . والناقد المنصف يجب عليه ألا يُحمِّل أي مذهب إسلامي ما يمارسه المتطرفون فيه ، فضلاً عن أن يحمل الإسلام مسؤولية الإرهاب . والمتقصي لتاريخ الملل والنحل يجد أن لكل نحلة طرفين ووسطاً ، والإسلام حث على الوسطية ، ونهى عن الغلو . والرسول  أوصى بالإيغال الرفيق في الدين . والمتعاملون مع الطوائف أو الدارسون لها يجب أن يكونوا عدولاً ، بحيث لا يداهنون ولا يتحاملون ، ولا يغضون الطرف عن تجاوزات لا يحتملها النص . وليس هناك ما يمنع من المدارات التي تكفل التعايش والتعاذر ، وكم هو الفرق بين المداهنة والمداراة ، وليس من مصلحة الأمة التعذير ، ولكن مصلحتها رهينة التعايش والاشتغال في المساحات المشتركة ، فالزمن لا يحتمل مزيداً من التنازع . ولما كان الغلو والتطرف والتكفير بيئة مناسبة لنشوء الإرهاب ، كان لا بد من تحديد دقيق لهذه المفاهيم ، ذلك أن الاختلاف المتناقض حول المفاهيم هو الآخر يؤدي إلى العنف والإرهاب .
فما حقيقة الغلو والتطرف بوصفهما من بوادر الإرهاب ؟ وما معيارهما ؟ أحسب أنهما يعنيان طرفي الظاهرة فـ [ الغلو ] و [ التسيب ] طرفان ، فيما يكون [ الاعتدال ] وسطياً . وحديث الناس يكثر عن تطرف الغلو والإفراط ، فيما لا نجد من يتحدث عن التطرف المقابل ، وهو [ التفريط ] ، والحديث عن [ الغلو ] يعني نصف الحقيقة ، فالمتشدد المتنطع المضيق على الناس المعول على سد الذرائع في تحريم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق لا يقل إيذاء من المفرط ، الذي يقبل كل خطاب ، ويوالي كل خائض بآيات الله بغير علم باسم حرية التعبير ، فالتفريط قد ينشئ التطرف على سبيل الفعل ورد الفعل . فالمرأة المتبرجة الكاسية العارية المائلة المميلة الفاتنة ، تحمل المتشددين على مواجهة التبذل بالغلو والتطرف ، ومثلها المتعلمن المستفز والحداثي المدنس للمقدس . والإشكالية أننا نرى الناس لا ينفكون ينحون باللائمة على [ المتشدد ] في الدين فيما لا تتمعر وجوههم من تلك الفاتنة أو من ذلك المتعلمن. وليست حال [ المتنطع ] و [ المتميع ] بأسوأ حالاً من المتعصب لمذهبه ، المعطل للاجتهاد . وعلى كل الأحوال ، فإن الرد إلى الله ورسوله يحتاج إلى فهم سليم للنصوص على ضوء المقاصد الإسلامية ، والخلط العجيب عمَّى على الناس فهم الأشياء على حقيقتها فلو سئلوا : ما الإرهاب ؟ لما اتفق اثنان على تعريف جامع مانع له ، واختلاف الناس قائم على الرغم من توفرهم على كل ما يتداول من قول حول تلك الظاهرة .
ولأن مفهوم الإرهاب تحول إلى إشكالية معقدة ، فإن الناس رضوا بالتوصيف لا بالتعريف ، والتوصيف مرتبط بذوات الأحداث لا بذات الظاهرة، ولو قيل في تعريفه : إنه ممارسة العنف ضد من لا يستحقه وممن ليس يملك حقه . لكان أن جاء من يعذر ويؤيد ، أو يشجب أو يتحفظ . ومما يعمق الإشكالية تعدد مثيرات الإرهاب ، إذ إن لكل مثير حيثياته ومغايرته . فالمثير السياسي أو الاقتصادي ، أو الاجتماعي ، أو الفكري ، أو الديني ، أو غير ذلك ، يختلف عما سواه ، وباختلاف المثير يختلف المفهوم والموقف . وحتى لو مارسنا التجريد ، ونظرنا إلى الإرهاب من درجة الصفر ، لكان أن واجهتنا إشكاليات أخرى ، وذلك لا يمنع من أن نشير إلى مفاهيم عامة تقترب بالإرهاب من التجريد . فالمنصفون يرون أنه ليس مرتبطاً بفكر معين ، ولا بظرف زماني أو مكاني محدود ، ولا بجنس أو حضارة . وحين يكون فئوياً تكون له أسباب عارضة : ذاتية أو خارجية ، لا يستطيع المنصفون إنكارها . فالتسلط والكبت والاحتلال والاستبداد وسلب الحريات وفرض المبادئ والحزبيات وحكم الطائفة أو العرق والفقر والبطالة والأثرة ومواطأة المغتصب الظالم ومُساعدته المغتصب والإخفاقات المستمرة وغياب الدستور وتعثر السلطة المشروعة أسباب ، ولكل سبب مفهومه وحيثياته ، وهنا يمكن القول : بأن التصدي للظلم ومقاومة الاحتلال لا يعد إرهاباً بالمفهوم المتداول . ومما يشكل عقبة في التفريق بين [ الإرهاب ] و [ المقاومة ] تعارض القوانين والاتفاقات الدولية مع بعض الممارسات ، ولو أخذنا على سبيل المثال ـ القضية الفلسطينية ـ لوجدناها الأكثر خلطاً للأوراق ، فإذا كانت القضية عادلة والمقاومة مشروعة ، فليس معنى هذا أن نجعل كل عملية من العمل الفدائي المشروع ، فالفدائي قد يفجر نفسه بين أخلاط من الديانات والجنسيات ، ممن لا يعدون من المحاربين ، وقد يمارس الفعل في زمن الاتفاق على تصفية الخلافات، مع أن عملية الانتحار قضية خلافية ، وقد لا تكون من الاختلاف المعتبر ، وتعدد السلطات والصمت المريب على ممارسات الإرهاب المؤسس يزيد في تعدد المواقف .
وفي ظل تعدد الأسباب والمفاهيم والمواقف والمكاييل والحياد والانحياز السلبيين تبدت للمتابع عشرات الرؤى والتصورات المعمقة للإشكالية بحيث لم تكن وقفاً على التعريف ، وإنما هي في المفاهيم والمواقف . فجذر [ رهب ] من حيث لغويته يعني [ التخويف والقمع ] . ومن حيث [ إجراؤه ] يعني مباشرة [الاعتداء ] . ومن حيث [الممارسة ] يكون [ فردياً ] و[ جمعياً ] و [ دولياً ] . ومن حيث [ الأهداف ] يكون ضد أي كيان : سياسي أو ديني أو عرقي . ومن حيث [ الدوافع ] يكون بسبب اضطهاد أو اعتداء أو انحياز ، أو هو مبدئي تمليه [إيديولوجية ] معينة ، وتفرضه نحلة متطرفة . ومن حيث [ النتائج ] يؤدي إلى الفوضى والاضطراب واختلال الأمن والتخلف . إذ هناك مسلمات قد لا يختلف حولها أحد ، تتمثل في : الدلالة لا في المفهوم ، وفي الإجراء والمصدر والإعداد والأهداف والدوافع والنتائج . وحين نفرق بين [ الدلالة ] و [ المفهوم ] نكون قد وضعنا المؤشر على المفصل ، ولربما تتعذر علينا صياغة تعريف جامع مانع ، تلتقي حوله الأطراف . وحين يتعذر الاتفاق الكامل ، يتعذر الحل الشامل ، ولا يود مخلص أن ينفض سامر المؤتمرين حول الإرهاب والموقف منه دون التوصل إلى حل وسطي تحكمه التنازلات الجزئية للخروج ولو بأقل الفائدة . وبدهي أن القول بالخير المحض كالقول بالشر المحض . فالخيرية المطلقة لا مكان فيها للاختلاف ، والشرية المطلقة لا مكان فيها للاتفاق . والمشاهد العامة فيها اتفاق نسبي واختلاف نسبي . إذاً هناك خيرية نسبية وشرية نسبية ، وواجب الخيرين توسيع قاعدة الخيرية ، وتضييق جانب الشر ليحصل التغليب .
4/1 لقد دخل مصطلح الإرهاب أروقة الجمعيات والهيئات والمنظمات في وقت مبكر ، وشكلت له لجان في أعقاب كل [ حرب كونية ] . ومحاولة التماس بداية تاريخية له يعني الحصرية المرفوضة عقلاً وشرعاً وقانوناً . فالإرهاب بدأ مع بداية التجمع الإنساني ، واستهله [ قابيل ] و [ هابيل ] ، وقصة بسط اليد للقتل وكفها يعني أن هناك معتدياً ومعتدى عليه . ولسنا بصدد تحديد البدايات ، وإنما نحن بصدد التماس المرحلة الواعية للمفهوم ، أو قل مرحلة [ الإرهاب ] المنظم المواكب للمواجهة الجمعية مواجهة التفهم والحل . وأحسب أن اتفاقية عام 1937م المصوغة تحت رعاية [ عصبة الأمم ] هي ذروة النضج للحدث والمفهوم ، وتبع ذلك إنشاء [ المحكمة الجنائية ] ثم توالت بعد ذلك المؤتمرات والتوصيات وإنشاء المحاكم والمؤسسات للحيلولة دون الظلم أو التعدي ولما تكن تلك المؤسسات والهيئات قادرة على ممارسة مهماتها بل أصبحت في بعض الأحوال أداة طيعة للأقوى ، بحيث أصبحت بفعلها محرضة على توتر الشعوب وغضبها ، ومع تلاحق الأحداث غير المشروعة تنامت المواقف المضادة ، ومنذ السبعينيات أصبح [ الإرهاب ] مصطلحاً حاضر المشاهد الإعلامية والسياسية . ولقد ارتبطت الاتفاقيات والاهتمامات بأحداث ووقوعات ، سماها المتضررون إرهاباً ، فيما سماها المنفذون مقاومة مشروعة ، ولربما كانت دورات [ الأمم المتحدة ] تنطوي ملفاتها على مزيد من الدراسات والتوصيات التي لم تُفعَّل ، بسبب اقتضاء بعض المصالح حماية المنظمات الإرهابية باسم المعارضة المشروعة، وساعد على ذلك تفاقم المشكلات الإقليمية وتسلط السلطات ، ولما أن كانت الدول الكبرى كـ [ أمريكا ] التي هي الأقدر على تفعيل التوصيات لم تعرها أي اهتمام ، فقد رقدت على رفوف الهيئة ، ومتى لم تتعرض دولة عظمى كـ [ أمريكا ] للإرهاب فإنها لن تلح في أمره ، وحين لا ترمي بثقلها لا يكون للظواهر وزن ولا حضور . ولعل من دواعي تهميش قضية الإرهاب من قبل تناقض الآراء والمواقف ، وتعدد المفاهيم ، وحين اكتوت الدول المهيمنة ، عدَّلت من مواقفها ، حتى لقد تحولت المعارضة عندها إلى إرهاب ، ولولا اكتواؤها لكان الإرهاب معارضة مشروعة . وإذا لم نقل ما نعتقد وما نتصور ظل الحديث من باب اللغط الممل ، وحين نعجب بأرائنا ، وننفرد بالحل ، ونصر عليه ، نكون كمن سعى بطوعه لتعميق الخلاف . فالقول بأن الإرهاب معارضة ، وتعمد مواطأة الإرهابيين وإيوائهم لتوافق فعلهم مع المصالح ، وتعدد المواقف أمام الأعمال المتجانسة ، والانحياز السلبي ، وفرض الرأي بالقوة ، كل ذلك مؤذن باتساع دائرة الإرهاب والاختلاف معاً . وإذ تختلف وجهات النظر حول المفاهيم ، تختلف كذلك حول الأسباب وأساليب المواجهة . وحين تعرضت أمريكا لأبشع صور الإرهاب ، أقبل الناس عليها يزفون ، وتقبلوا مفهومها وأسلوب مقاومتها ، حتى لقد طرحت أقسى مفهوم عرفته الإنسانية [ من لم يكن معي فهو ضدي ] . وليس الإرهاب بمفهومه المطلق قصراً على التفجير ، وإنما هو أبعد من ذلك ، والمتتبع للاتفاقيات الدولية ، يدرك أنه يطال الملاحة والمنصات والمطارات واحتجاز الرهائن وخطف الطائرات والقرصنة وتسريب المواد النووية والاغتيالات والتصفيات والخطف ومخالفة الاتفاقات الدولية . وأي تخويف تمارسه جماعة مسلحة تحت أي مطلب يعد إرهاباً . غير أن ممارسة التفجير للمنشآت طغت على بقية الأنواع الأخرى ، ومن ثم دخل إطار الزمان والمكان والحدث ، وانفصل عن مطلقيته . والإرهاب أنواع يتعدد بتعدد الظروف والأحوال ، وقراؤه العدول يضعون قيماً حكمية لهذه التعددية ، فإذا حمي وطيس الحروب أو استشرى الظلم والقهر كان الإرهاب مخاض ظروف طبيعية ، بمعنى أنه متوقع ومرتقب .
وحين تنبعث الفتنة في إقليم دون غيره بسبب الجور والظلم أو بسبب التعدد الطائفي أو العرقي ، يكون الإرهاب تعبيراً عملياً عن رفض الواقع القائم ، وأسلوباً من أساليب حمل المتسلط باسم السلطة على فك الاختناقات ، وتسريب الاحتقانات، ومنح الأقليات حقها المشروع بوصفها شريكة في الحقوق والواجبات . وفي هذه الحالة تختلف المفاهيم والمواقف والأسباب ، وبخاصة حين تتحكم العلاقات والمصالح المتبادلة بالتدابير والوسائل . وفي ظل هذا التحكم تجد قوماً يصفون أي مواجهة بالإرهاب ، وآخرين يعدون مثل ذلك شأناً إقليمياً ، وقد نجد من يؤيد ويدعم ، ولربما تعم العمليات آفاق المعمورة ، وتصبح كل دولة معرضة للإرهاب ، أو قد تكون دولة دون أخرى معرضة مصالحها للإرهاب ، وهذه الأنواع تضع المتابع في حيرة من أمره . فمتى يقطع بأن مثل هذا العمل وفق تنوع أوضاعه إرهاباً أو مقاومة ؟ والتعاطف مع المتضرر لا يحسم المشكلات والمسايرة للمفاهيم الناتجة عن مواقف الانفعال لا تحظى بالقبول . وإذا كاد الناس يجمعون على أن الحسم العسكري مع إمكان الحل السلمي يعد إرهاباً دولياً ، فإنهم سيختلفون مع من يمارس ذات الحل العسكري ، ليكون الأمر غمة ، ونصف الحقيقة لا يضمن نصف الحل .
5/1 وفي حمأة الجدل الصاخب لم يعد من نوافل القول بأن الحديث عن [الإرهاب ] حديث طال وتشعب ، واختلفت فيه الآراء ، وتعددت المواقف ، وتباينت المفاهيم ، وقيل فيه وعنه ما لم يُقل في أي قضية أخرى ، لقد شاع الحديث عنه بين سائر العلماء والمفكرين والساسة ، ووسعته علوم الدين والإجرام والنفس والاجتماع والسياسة والقانون . وما من داخل في متاهته إلا وله فيه قول يحيل إلى مرجعية خاصة ، وينطلق من ظروف خاصة ، وتوجهه أنساق وسياقات خاصة ، وفي ذلك ما فيه من مضاعفة الرعب والخوف ، وكأننا في إرهاب الإرهاب . ولو صدق المهيمنون بالسلاح و [ التكنولوجيا ] مع أنفسهم ومع من حولهم من الأنداد ، ومع سائر الشعوب المهمشة والأجناس والديانات المضطهدة لكان أن عرف الجميع الحق وتوفروا عليه ، ثم لا يكون هناك إرهاب ولا سباق تسلح ولا هضم لحقوق ولا استعمار ولا احتلال ولا استيطان ولا إبادة ولا تفرقة بسبب عرق أو لون أو دين . وحين تملك المصالح و [ الإستراتيجيات ] حق إطلاق المصطلحات وتعريفها ، ثم تتباين المصالح وتتعارض [ الإستراتيجيات ] يكون من حق المباين والمعارض أن يسك مصطلحاته ، وأن يعطي مفاهيمه ، أو يتلقى مصطلح الآخر ، ويفرغه من محتواه ، تمهيداً لشحنه بمفهوم مغاير ، وعند إذ يظل الخلاف والتنازع في نمو مطرد ، وذلك ما يعانيه العالم حول مصطلح [ الإرهاب ] . وإذ نقول بأن الإرهاب سليل اللعب السياسية فإننا لن نغفل الحواضن والمواثرات الأخرى ، فالتطرف [ العلماني ] لعب دوراً تحريضياً ، والتطرف [ الحداثي ] لعب دوراً استفزازياً ، والتنظيمات الإسلامية الغاضبة المتطرفة لعبت دوراً تضليلياً ، وسائر المنظمات والأحزاب والجماعات ، وبخاصة ما كان منها خارج السلطة تشكل أرضية قابلة لتفريخ الإرهاب ، ولكن يجب ألا تغيب عن بالنا الضغوط والاستثارة للغضب ، بحيث لا نهمل أحداثاً شكلت منعطفات خطيرة في حياة الأمة تمثلت في :
 تلاحق الثورات العربية التي نشأ في ظلها طغيان الخطاب الإعلامي ، واستمرار الخيانة ، ونقض العهود ، والتصفية للخصوم بالاغتيالات .
 استشراء الضعف والوهن والحزن في كيان الأمة العربية مع تنامي العنف والشراسة في الكيان الصهيوني ، والتقدم المادي ورسوخ المؤسسات في الغرب .
 نكسة حزيران التي أحبطت الإنسان العربي 1967م .
 الثورة الإيرانية وإعلان الجمهورية الإسلامية 1979م .
 اعتماد تصدير الثورات والمبادئ في الخطابات الإعلامية .
 فشل كل المشروعات الوحدوية و [ الديموقراطية ] والحزبية والقومية .
 ظاهرة التطبيع والهرولة مع العدو الإسرائيلي 1981م، في ظروف استشراء الإرهاب والتطرف اليهودي .
 الحرب الأفغانية ، والتوسع في أسلمة الحرب ، والتعبئة الجهادية .
 الحرب العراقية الإيرانية ، وتناقض الآراء والمواقف .
 احتلال العراق للكويت ، وتصدع الصف العربي وانهيار القومية .
 تحرير الكويت من قبل أمريكا ، وغياب الحل العربي .
 احتلال العراق ، دون إجماع عالمي ، واستشراء الإرهاب في ظل الفراغ الدستوري .
 انكشاف اللعب الكونية والإقليمية وسقوط الأقنعة .
 سقوط الأقنعة وتعري المواطآت ، واستمرار المستهلكين لأقنعتهم المدانين بممارساتهم على سدة الحكم .
كل ذلك أدى إلى الإحباط واليأس وعدم المبالاة .

الانتمـــاء :
1/2 وبعد تجاوز التعريف والمفهوم والحواضن والمحفزات نلتمس الحديث عن [ الانتماء ] وإن كنا قد ألمحنا إلى أطراف منه في مجمل سياقات المفاهيم والأسباب ، أو قل إن بعض الأسباب تحيل إلى الانتماء لترابط ذلك كله ، وما الفصل بينهما إلا كما الخطوط الوهمية ، ودوَّامة الانتماء لا تختلف عن دوامة المفاهيم والأسباب . والحق أنه ليس للتطرف والغلو والإرهاب انتماء لطائفة من الطوائف ، ولا لعرق من الأعراق ، ولا لعصر من العصور ، بل ولا لحضارة من الحضارات ، فهو في حقيقته عرض لمرض ، فمتى وجد الإرهاب في أي بقعة من الأرض فإنما هناك خلل يعرفه قوم ، ثم ينكرونه ، أو يدعون غيره ، لحاجة في أنفسهم ، ويجهله آخرون ، ويضربون في بنيات الطريق بحثاً عنه ، فالعالم إزاءه بين جهل أو تجاهل . وعلى كل الأحوال فإن الإرهاب وسيلة ، وليس غاية ، وعرض وليس جوهراً . ولن تتأتى المواجهة الإيجابية إلا حيث يتحقق المعنيون من أسبابه . لماذا وجد الإرهاب في هذا الزمان وفي تلك البقعة وعلى يد هؤلاء الأفراد أو الجماعات ؟ والراصد لحركات الإرهاب يعرف شيئاً، وتغيب عنه أشياء ، فبقدر معرفته يكون سداد الرأي وصواب المواجهة ، والحصيف من يتقصى كل المتعلقات ، ولا يبادر في المواجهة ، فمواجهة العنف بالعنف تعميق للوحشية ، واستدامة للعمليات الهمجية ، والبصير المتثبت من يدقق في الأوراق ولا يستعرضها . ومتى أخطأ المواجه في التوقيت أو في التقدير أشعل الفتنة . فالعمليات الإرهابية حين تنفلت خيوطها ، أو حين يخطئ الطرف المقابل في تحديد مصادرها ، يستشري ذووها ، ويستمرئون مواصلة الأعمال الإرهابية ، لإجهاض المشروعات التي حملتهم على العمليات .
2/2 وأهل السنة والجماعة الوقافون عند حدود الله ، أقرب إلى التبين ، وأبعد عن العنف في القول وفي الفعل ، وأجواؤهم أبعد الأجواء عن الإرهاب بكل مفاهيمه ، ولقد استلهموا ذلك من قوله تعالي: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} ، وهم الأكثر إمعاناً في التثبت وامتثالاً للتوجيه الكريم : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } ففي الآيتين أمر بعدم مباشرة الحرب إلا بعد التبين، وأمر بالتثبت في الحكم على الناس بالكفر ، فهناك منع للفعل ومنع للقول ، وهما مصدر الإيذاء . وأمة هذا شأنها لا يمكن أن تتهم بالإرهاب ، لأن مؤشرات الغلو والتطرف المبادرة في القتل أو التوسع في التكفير، وليس في القرآن ولا في صحيح السنة ما يوحي بشيء من ذلك ، وحين يكون في كل حضارة أركان وواجبات ومستحبات ومباحات فإن فيها محرمات ومكروهات ، وما كان الإسلام بدعاً بين الديانات الإنسانية ، وحين يكون الكفر والردة تكون الضوابط والاحترازات . أما في مجال النهي عن التنابز بالألقاب والأمر باجتناب الظن ، فقد وردت آيات تحذر من ذلك . وهل بعد تكفير المسلم من ظن سيئ ؟ والإسلام نهى المسلمين عن قفو ما لا علم لهم به . وأوضح شيء في النهي عن التكفير ما جاء في صحيح مسلم : [ إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما ] وفي رواية : [ إلا حار عليه ] وفي البخاري : [ ولا يرمين بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك ] وعنده [ ومن قذف مؤمناً بالكفر فهو كقتله ] وعند أبي داود [ ثلاث من أصل الأيمان : الكف عمن قال لا إله إلا الله لا نكفره بذنب ] وفي حديث آخر جمع بين تحريم الدماء والأعراض ، وعقيدة السلف الصالح ألا نشهد على أهل القبلة بكفر ما لم يظهر ، وما في السرائر متروك لله ، والاحتراز من التكفير واجب المستبرئ لدينه وعرضه ، وتعمد القتل لمن يعلن الشهادتين بحجة التقية والنجاة يعد قتلاً لمعصوم ، حتى لو قالها حين ظفر به المسلم وقصة [ خالد بن الوليد ] رضي الله عنه واضحة في ذلك . وعلماء السلف المتشربون لأصول السلفية يدركون خطورة التوسع في التكفير، وفي تكفير المرتد عن الدين شرط الموت على ذلك ، تمشياً مع قوله تعالى : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ } ، وقد أشار [ ابن الجوزي ] إلى أن حكم الكفر يستقر بالموت عليه . وقد جاء ذكر الموت على الكفر في أكثر من آية قرآنية و [ لابن تيمية ] رحمه الله رؤية دقيقة في موضوع التكفير ، لو وعاها الموغلون لما كان لهم أن يقعوا في مثل هذه المآزق ، وبخاصة فيما يتعلق بمصطلحات علماء الكلام التي قد يكفر بموجبها من لم يفهم مراده ، وقد ضرب مثلاً في مصطلح [ تحيز الخالق ] عن المخلوق . واحترازات السلف في شروط التكفير وموانعه تحول دون انتماء الإرهاب إليهم، فهم لا يكفرون قائل كلمة الكفر جهلاً أو عن شبهة ، ولا يكفرون معَّيناً إلا بعد قيام الحجة المعتبرة في تكفيره ، وكون القول أو الفعل كفراً لا يحكم على صاحبه به ، والتحرز من تكفير المعين تحرز إيجابي . والسلف الصالح الوسطي المستنير لا يُقْدِمون على التكفير أو التفسيق إلا وفق ضوابط وقواعد ، واحترازهم يذودهم عن الاتهام ، ويحجزهم حسن الظن بالمسلم ، وتوخيهم العدل والإنصاف ، وتفادي الشائعات ، وامتثال أمر الله بالتثبت ، والتفريق بين من طلب الحق وأخطأ ، ومن بان له وجه الصواب فأخذته العزة بالإثم .
3/2 والذين يجازفون بالتكفير ، ولا يحترمون أعراض المسلمين ، لا شك أنهم لن يحترموا دماءهم وأموالهم . ولقد اجتاحت الأمة موجات من الاستياء والإحباط ، أدت إلى ظهور طوائف من الغلاة الذين حملتهم شدتهم إلى مقاطعة الأمة واعتزال مساجدها والتوقف عن الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأن المجتمعات في نظرهم كافرة ، وليس بعد الكفر ذنب ، حتى لقد قاطعوا المدارس والوظائف . لقد لعبت بهم عواطف دينية هوجاء ، حادت بهم عن الموضوعية وعن منهج السلف مع المخالف . ولقد كانت لطائفة التكفيريين أصول في غاية السذاجة والبدائية ، والقول من خلالها مؤشر بدائية وتخلف ، كالقول : بأن عرب اليوم ليسوا في تمثل اللغة وفهم مقاصدها كعرب الأمس ، ممن نزل القرآن بلغة التخاطب عندهم ، وكالقول : بثنائية الديانات: الكفر الخالص ، أو الإيمان الخالص ، وليس بين هذه الثنائية دركات ولا درجات ، على خلاف ما عليه الأمة اليوم . وكقسمتهم الإسلام إلى أصول وفروع ، ثم القول : بعدم العذر لجاهل في الأصول . وابتسارهم الآيات من الذكر الحكيم هي أبعد ما تكون عن مساندة ما يذهبون إليه . ولقد تقصى هذه الأصول ، وفندها واحداً واحداً الأستاذ [ عبد الفتاح شاهين ] في كتابه [ ظاهرة التكفير : شبهات وردود ] ، ولقد تبدت لطائفة من العلماء والمفكرين الراصدين للحركات الإسلامية بعض المشكلات سواء منها من كان في الحكم أو من كان خارجاً عليه معارضاً له ، وسواء منها من كان ذا طابع سياسي أو كان ذا اتجاه تعبدي سلوكي تعاملي ، لا ينظر إلى المسؤولية ولا ينازع السياسة سلطتها . ولعل من أبرز المشكلات التي ارتبكت بسببها بعض الحركات الإسلامية : فقد التخطيط ، واضطراب المفاهيم ، وتعدد مجالات الأداء وحدودها ، ونقص الكفاءات البشرية : إدارة وقيادة ، والخلط بين الحل المرحلي والنهائي ، ووضع الأهداف في معزل عن الإمكانيات ، والتقاعس عن المحاسبة والتقويم ، ونقد الذات ، وتحمل مسؤولية النكسات ، وممارسة الإسقاط ، والإغراق في دعوى الغزو والتآمر ، وتجزيئية الرؤى والتصورات ، وتغليب جانب الصدام والصراع على الحوار والتعاذر والتعايش ، والإغراق في المثاليات والعنتريات والعواطف والانفعالات ، في ظل فقد الأجواء الملائمة . فكل الدول تناصب الحركات الإسلامية والقومية والطائفية العداوة والبغضاء ، وتمارس التحفظ الذي يصل إلى حد التضييق والخنق . ولقد مرت الحضارة الإسلامية كغيرها من الحضارات بفترات تاريخية تمخضت عن حركات غالية ، أدت إلى صدامات دموية معلنة وتنظيمات سرية . ولما لم تكن الحضارة الإسلامية وحدها من مر بهذه الحالات ، فكل حضارة لها مراحلها التي يستفحل فيها الغلو والتطرف ، وما من منصف نسب الإرهاب إلى هذه الحضارة أو تلك . ولقد عرف التاريخ السياسي الإسلامي قوى المعارضة كـ [الخوارج ] و [ الشيعة ] و [ المعتزلة ] و [ المرجئة ] ، وسواء كانت المعارضة دينية أو سياسية ، ولقد صنفها بعضهم إلى يمين ويسار ، مسايرة للتصنيفات المعاصرة، فيما وصفها بعضهم الآخر بـ [ قوى الظل ] والتمس بعض الثوريين المعاصرين أسباباً سياسية مباشرة لقيام هذه التنظيمات ، بحيث عول على [الملكية الوراثية ] في العصرين : الأموي والعباسي ، والخلافة الكسروية المتداولة بين : الفرس والأتراك في العصر العباسي ، وتبادل المواقع في المشهد الفكري بين السلفية والعقلانية . وظروف سياسية ودينية كهذه مؤهلة للتنظيم السري ، وقد راوحت تلك الحركات بين العنف الثوري والدعوة السرية المنظمة، تصعد حتى تبلغ ذروتها على يد [ القرامطة ] و[ الحشاشين ] و [ الزنوج] ثم تخبو وتبلغ قعرها عند [ المرجئة ]و [الباطنية ].
4/2 ومهما حاول العالم التنصل من ظاهرة الإرهاب وتحميلها جهة دون أخرى فإن التاريخ السياسي الحديث يضع أصبعه على مفاصل المشكلة ، وذلك بتتبعه لبؤر التوتر في العالم ، ولو حاولنا تضييق الخناق على هذه الظاهرة وتجفيف منابعها فإن هناك جراحاً مفتوحة دامية ، ولن يتمكن العالم من محاصرة الظاهرة مع وجود تلك البؤر ، فأين العالم من [قضية فلسطين ] وأين هو من ذيول حروب مجانية حركتها المصالح الغربية كـ [ حرب لبنان ] و [ العراق ] و [ إيران ] و [ أفغانستان ] و [ الكويت ] ، وأين الإعلام الإسقاطي من مشكلة [الصحراء الغربية ] و [ مشكلة الجنوب السوداني ] و [ أريتريا ] و [ الصومال ] و [تشاد ] ، وحركات التحرر في أمريكا اللاتينية ، والحروب الطاحنة في جنوب شرق آسيا ؟ وأين المغالطون من الحروب الأهلية التي تحركها الأقليات العرقية والطائفية : كمشكلة [ الأكراد ] و [ السيخ ] و [ التاميل ] ، كل تلك المشكلات العالمية التي تتحرك ذاتياً تارة وبتدخلات خارجية تارة أخري تعد بؤر توتر ومستنقعات تفرخ الإرهاب ، وتسقط مقولة : إن الإرهاب بدأ من الإسلام وإليه يعود . وقد تتكون جينات الإرهاب من الشيء ونقيضه ، فالتماس بين عقيدة وأخرى على أرض مشتركة محفز طبيعي للإرهاب ، وبخاصة حين لا يحصل التوازن وتكافؤ الفرص بين الطرفين المشتركين في اللغة والأرض . وكل دارس موضوعي يستدعي [ الحركات الإصلاحية ] سواء كانت منطلقاتها دينية أو تربوية أو إدارية أو اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية ، لأنها تتعمد الإصلاح لما هو غير صالح ، فيما يكون وراء الأوضاع الفاسدة مصالح غير مشروعة، يحافظ عليها المستفيد ، وقد يدخل في مواجهة مع الحركة الإصلاحية ، ولكل من الأنصار والخصوم خطاباتهم المتواجهة . ومهما حاولنا عزل أي حركة عن تأثرها بكل الأنساق والسياقات الماثلة أو الكامنة في عدم الوعي الجمعي فإننا لا نستطيع ذلك ، فالاستجابة العفوية أو الثقافية أو العرفية تعيش حالة من الكمون ، ولو نظرنا إلى بداية الحركات الإصلاحية الدينية لوجدنا الدعوة الإصلاحية التي قام بها [ محمد بن عبد الوهاب ] وإلى جانبها الحركات : السنوسية والمهدية والباديسية ، ومن بعد أولئك الإخوان المسلمون في مصر وتحولاتهم على يد [ سيد قطب ] ومن بعده ، ووجود حركات في الوطن العربي، تستمد منها طرائقها وأهدافها . وانشقاق بعضهم وإغراقهم في التطرف، وظهور فرق التكفير والهجرة . وإلى جانب هذه الحركات ، وبعد أن شرعت الشعوب العربية بمقاومة الاستعمار التقليدي ، نشأت حركات قومية وحزبية و [ ثيوقراطية ] وتجديدية وحداثية ومحافظة ، واستعيدت مصطلحات قديمة على غير مراد ذويها كـ [ دار الحرب ] و [ دار الإسلام ] ، ولا شك أن لكل حركة أسسها ومرجعياتها : النصية والقواعدية والمذهبية ، وكلما أخذت الحركات سبيلها إلى الشيوع والسيطرة ، نهضت بإزائها حركات مضادة ، تحركها أزمات كامنة ، كأزمة الهوية والشرعية أو حركتها قوى معادية أو خائفة، وقد تطفو على السطح محرضات ذاتية لا يلقي لها المتابعون بالاً ، ولكنها وقود خفي ، كاستشراء [ الفساد ] بكل صوره و [ الظلم ] بكل أشكاله و [ الطبقية ] بكل صراعاتها : الخفية والجلية ، والشعور بالضعف الحسي والمعنوي بإزاء الدول الكبرى المتسلطة ، وافتقار التحديث إلى أرضية علمية وثقافية و[ تكنولوجية ] ، وهذه التحديات تخلق حالات نفسية غير سوية ، تتمثل بالتعصب للرأي ، والاستعلاء والعدوانية والتشدد والشك وممارسة التخلي والإسقاط وادعاء العصمة ، وتضخيم عقد الغزو والتآمر.
5/2 والإرهاب قد تمارسه مؤسسات وأحزاب وطوائف وعرقيات وحكومات وأفراد. ومن قصره على ديانة خاصة أو طائفة أو حكومة أو عرق، فَقَد المصداقية. ومقاصد الإرهاب متعددة ، والمتعقبون لتاريخه يقفون على مقاصد عدة فمن مقاصده : فرض نمط سياسي معين ، فقد تستخدم الإرهاب حكومات مستبدة لإخضاع الشعب المضطهد على التسليم والخنوع ، ولقد أشار بعض المؤرخين إلى [ الثورة الفرنسية ] في آخر القرن الثامن عشر الميلادي ، وتاريخ الثورة الفرنسية لا يشير إلى الإرهاب ، ولكن الأحداث والوقوعات واستشراء القتل والاغتيالات تعد ممارسات إرهابية ، وقد تستخدمه حكومات تفرض سيادتها على شعب من الشعوب، لإشاعة الروح الانهزامية، والرضوخ للمطالب التعسفية . وكل دولة قوية تفرض سلطتها بالقوة على أي شعب لا يبادرها بالمواجهة العسكرية تعد دولة تمارس الإرهاب الدولي ، وإن لم تكن بمجمل سياستها إرهابية . وقد تستخدمه أقليات عرقية أو دينية ، لتحقيق وجودها ، والحصول على حقوقها إلى جانب الأكثرية ، وهذا اللون يختلف قراء الأحداث في تصنيفه ، فمنهم من يراه دفاعاً عن الحقوق ومقاومة ضد الظلم والاستبداد ورفض الإقصاء والتهميش ، ومنهم من يراه إرهاباً وإخلالاً بالأمن ، وأحسب أن مثل هذا اللون يتسع لكل القراءات ، وتحكمه الظروف وطبيعة الأوضاع . فـ [ الأكراد ] مثلاً تتقاسمهم عدة دول ، وليست لهم حقوق مستقلة ، وقد تكون مقاومتهم في بعض الأحوال مشروعة ، ولكن التعدي على الآمنين والأبرياء مجال اختلاف واسع ، والإطلاقات غير الدقيقة لا تصيب المحز ، ولا تحق الحق ، وحتى قمع تمردهم داخل الدولة مسألة فيها نظر ، فهي إرهاب عند قوم ومطالبة بالحقوق عند آخرين ، ومثلما تعرضت [ أفغانستان ] للتدخل [ السوفييتي ] تعرضت مرة ثانية للتدخل [ الأمريكي ] ولغة الخطاب مختلفة إزاء التدخلين . وفي مثل هذه الحالات تجب الدقة وعدم المجازفة في الأحكام . و [ الجهاد ] و [ المقاومة ] و [ الإرهاب ] ممارسات لا يجوز الخلط فيما بينها، ومع كل التحفظات فإن الأحكام تنطلق من مفاهيم متباينة ومصالح متعددة . ومع صعوبة التقارب في وجهات النظر يجب على كل مستقل أن يتحرى الحق ، وألا يجرمنه شنئان قوم على ألا يعدل . وأخطر من ممارسة الإرهاب تناقض المواقف ، وافتراء الكذب ، فربط الإرهاب بنحلة أو قومية لا يختلف عن وصف المقاومة بالإرهاب ، أو جعل الجهاد الإسلامي إرهاباً .
وفي ظل اختلاف المفاهيم والمواقف فقد تستخدم الإرهاب جماعات إرهابية بطبعها ووضعها ، ومثل هذا المفهوم ينطبق على [ الإرهاب اليهودي ] ، فلقد تشكلت عصابات إرهابية قبل الإعلان عن قيام دولة يهودية في أرض إسلامية يعد اليهود أقلية فيها ، ولقد مارست هذه العصابات أبشع العمليات الإرهابية، عبر عصابات يهودية مدربة مثل عصابات [ أرغون زفاي ] و[ شترن ] و[آغودات] ولقد مارست هذه العصابات نسف المنازل ، وإلقاء المتفجرات في الأسواق ، واغتيال الأطفال والنساء ، وتنظيم المذابح الجماعية ، كمذابح [ دير ياسين ] و [ناصر الدين ] و [ حوامسه ] و [ عليوط ] و [ حلحول ] . وكان الهدف من هذا الإرهاب حمل السكان الأصليين على الهجرة ، وإخلاء القرى والضواحي والمزارع والمدن ، تمهيداً لاستيلاء الصهيونية عليها ، بمواطاة ودعم من دول العالم ، ولو لم يكن هناك حبل من هذه الدول لما استطاع اليهود إقامة دولة مغتصبة . وهناك جماعات إرهابية أوربية مثل جماعة [ بادر هوف ] الألمانية و [الألوية الحمراء ] الإيطالية و [ توباماروس ] بأمريكا الجنوبية . على أن هناك جماعات ليست من الإرهاب في شيء تطلق على نفسها جماعات التحرير واكبت الاستعمار التقليدي ، وقاومته : سلماً وحرباً ، وخاضت معه المؤتمرات . ومثل هذه الجماعات ، تمتلك شرعية المقاومة ، فيما يطلق عليها الطرف الآخر صفة الإرهاب مثل [ الجبهة الوطنية ] في مصر التي أسست علم 1936م للتفاوض مع الحكومة البريطانية ، ومثل [ جبهة التحرير الوطني ] في الجزائر التي تشكلت علم 1951م ، فلقد رسمت لها سياسة تقوم على مقاومة الاستعمار وإنشاء دولة جزائرية ، ومثل [جبهة تحرير الجنوب المحتل ] في عدن . وهناك جبهات متعددة مثل [ الفييت كونج ] الفيتنامية لمقاومة الاستعمار الفرنسي . وقد تتكون جبهات لمقاومة الحكم القائم ، وليس لمجابهة مستعمر خارجي ، ويندرج تحت هذا المفهوم أحزاب المعارضة . وعلينا أن نفرق بين [الجريمة المنظمة ] و [ الإرهاب ] فـ [ المافيا ] غير [ الموساد ] ومثل هذا يدخل في تعدد المفاهيم والرؤى ، ولو نظرنا إلى ظاهرة [ الحرابة ] في الفقه الإسلامي ، لوجدناها لوناً من ألوان الإرهاب غير المنظم ، وقد يتخذ الإرهاب مفهومه الدقيق حين يخيف المجتمع ، ويعرضهم للقتل ويعرض ممتلكاتهم للتدمير.
6/2 وإذ نقول بأن الإرهاب لم يكن عربي الأصل والمنشأ والولادة فإن ما نقوله ليس ادعاء لا نقيم عليه حجة ، ذلك أن المتتبع للأحداث في السبعينيات والثمانينيات يدرك أن دولاً أوربية كـ [ فرنسا ] و [ ألمانيا ] و [ إيطاليا ] و [ أسبانيا ] تجرعت مرارات الإرهاب ، وها هي ذي الأحداث الموجعة في [ أسبانيا ] التي أدت إلى تفجير القطارات تؤكد أن الإرهاب عالمي الأصل والولادة والنشأة ، ومثل هذه الأحداث المروعة تؤكد على أن هناك منظمات لما تزل قائمة وأفعالها تقع ضمن المفهوم الدقيق للإرهاب . وكم من عمل إرهابي لا يكون لدفع ظلم، ولا لتصفية ثارات ، وإنما يكون لإثبات وجود ، أو لفت نظر ، أو يكون للحيلولة دون نفاذ اتفاق تقترب منه فئتان أو دولتان ، ولقد وضع الإسلام أعدل المواقف لاقتتال الطوائف ، فقدم الصلح ، وعند البغي شرع القتل حتى تفيء الطائفة الباغية إلى أمر الله وبعده ، وتبقى كل الطوائف في إطار الأخوة الإسلامية ، وقد تتعمد مراكز القوى وجماعات الضغط إفساد بوادر الصلح فتمارس الإرهاب للإفساد والحيلولة دون السلام العادل . ومثل هذه الرسائل الموجعة لا تشكل ظواهر وأعراضاً ، وإنما هي تعبير عن الإحباط أو تذكير بالوجود الفاعل والمؤثر ، ومما يلفت النظر ويربك المواقف ما تتصف به بعض الدول من عنف في مواجهة الخصوم ، ومن ثم تمارس الإرهاب تحت سمع العالم وبصره ، نجد ذلك في [ إسرائيل ] ، وقد تمارسه قيادة الدولة عبر عملائها واستخباراتها ، حتى إذا انكشف أمرها أذعنت ، وتحملت تبعات ذلك . وتاريخ الثورات الحديث مليء بمثل هذه الممارسات الإرهابية ، وقد تسهم الدول كافة أو دولة بعينها أو مجتمع من المجتمعات بتشكيل فصائل إرهابية سواء جاء ذلك الإسهام اختياراً أو اضطراراً أو جهلاً أو تعمداً ، نجد ذلك عند من حُملوا على المشاركة في [ الحرب الأفغانية ] فعند عودهم كانت لهم رؤى وتصورات وتصرفات أدت إلى مطاردتهم ومحاصرتهم وعزلهم عن المجتمع ، وأي انقطاع اضطراري تنشأ عنه عقد نفسية ، تتطور إلى حقد فمواجهة ، والتعبئة الجهادية التي مارستها جميع الوسائل الإعلامية أثناء [ الحرب الأفغانية ] وتسهيل مهمة الشباب المتحمسين لمواجهة الاحتلال الروسي لدولة مسلمة شكل ذهنيات ترى مواصلة الجهاد ضد أي دولة غير مسلمة ، وحين ضُيق الخناق على عشرات الآلاف من العائدين من أفغانستان والمقيمين فيها ، تفرقت بهم السبل ، وظلت فكرة الجهاد قائمة عندهم ، وبعض هؤلاء الأشتات دخلوا اللعبة مرة ثانية عامدين متعمدين ، مما أضر بالمشروعات الدعوية والإصلاحية، الأمر الذي حفزهم على إعادة تنظيم صفوفهم ، وممارسة ضرب المصالح العائدة للدول التي مارست مطاردتهم ، ومثل هذا العمل يعد إرهاباً ، لأن الدول التي دخلوها ومارسوا الإرهاب فيها ، لها سلطاتها ، ولها أنظمتها ، ولا يجوز الإخلال بالأمن تحت أي سبب .
ومما يزيد الإرهاب استشراء ويعمق الخلاف الخلط بين الإرهاب والمقاومة ، فكفاح الشعوب من أجل تحرير نفسها من السيطرة أو التدخل الأجنبي عمل مشروع ، ومع ذلك لم تمنح هيئة الأمم المتحدة مشروعية ذلك إلا بعد ضغوط ومداولات ، غير أن الأقوى هو الأقدر على تحديد المفاهيم ، وليس أدل على ذلك من مقاومة الشعب الفلسطيني المستنكر من قبل الإعلام الغربي وانتهاكات الجيش الإسرائيلي المحالة إلى الدفاع عن النفس . وكيف يقبل عاقل هذه الرؤية الجائرة ؟ وهذه المقاييس المغالطة تسقط هيبة القرارات الدولية ، وتدفع بالشعوب المغلوبة على أمرها إلى التنظيمات السرية والمقاومة العنيفة التي قد تطال الأبرياء من رعايا الدول المتواطئة مع الظلم .

المواجهـــة :
1/3 ذلك ما يمكن قوله عن [ الانتماء ] في محاولة لإسقاط الادعاء المخادع، وخلاصة القول فيه : أن الإرهاب ليست له أرض ولا ديانة ولا جنس ، وأنه عرض لمرض متى وجد العرض فالتمس المرض ، وأن مثيراته جاءت نتيجة ممارسات غربية خارجة على الأعراف الدولية . وحينئذ نكون أمام [ المواجهة ] وهي عصية الانقياد كـ [ المفهوم ] و [ السبب ] و [ الانتماء ] ، ولكن لا بد مما ليس منه بد ، وإشكاليتها أن لكل سبب أسلوباً في المواجهة ، لا يصلح إلا له . وإذا كانت مثيرات الإرهاب : دينية أو سياسية أو عرقية أو غيرها ، وليست مرتبطة بلعب كونية ، فإن المشكلة تتفاقم ، وقد تتحول إلى [ حرب أهلية ] ، تفقد فيها الدولة السيطرة على الأوضاع ، وتفقد فيها الأمة الحياة السوية ، وقد تتعرض البلاد لفراغ دستوري ، ولربما يطال الفراغ الدستوري دولاً مجاورة ، ويغري دولاً انتهازية ، كي تستغل الفوضى لغرس أقدامها ، وتحقيق مكتسبات لا تحلم بها ، وليس بمستبعد أن تستشري الفتن في المنطقة برمتها فتصيب القاصي والداني ، وقد ينقلب الضرر على مثيره ، ولهذا فإن أي دولة لا تضمن جبهتها الداخلية يكون الإرهاب فيها نذير شؤم على أهلها . وحينئذ لا بد من تقصي الأسباب والعمل على تلافيها ، والتسمع لحسيس الداخل لا لزعيق الخارج ، واتخاذ الحلول المناسبة ، وعدم التعويل على الحسم بالقوة ، لأن للقوة تداعياتها المضرة ، وليس من الحصافة اقتصار المواجهة على مطاردة الفلول ، فذلك مؤذن بتصعيد العنف ، ولهذا لابد من الفصل بين العرض والمرض ، وتجاوز العرض إلى المرض . فالصداع قد تهدئه المسكنات ، ولكنها لا تمتد إلى المرض المثير له . ولقد بدأت العمليات الإرهابية في بعض الدول على شكل مظاهرات فئوية أو كلية ، تصاعدت بسرعة ، وتحولت من الهتافات والشعارات إلى العنف والتخريب ، وإشعال الحرائق ، وتعطيل الحركة والعمل، والامتداد بسرعة من شارع لشارع ، ومن مدينة لمدينة ، حتى إذا وجد الموكول لهم مهمة التصدي أنفسهم أمام طوفان الغضب ، اضطروا إلى التخلي عن مهماتهم والانضمام إلى الجماعات المعارضة التي تعبر عن معارضتها بنسف الجسور ، وتهديم المؤسسات ، وإحراق الممتلكات . وقد تعلن الدولة حالة الطوارئ ، وتنزل فرق من الجيش إلى الشوارع ، وعندما تستنزف الدولة كل وسائلها وإمكانياتها تخنع أو ترحل ، أو لا تتمكن من كل ذلك ، فتسقط . ولقد شهد العالم أنواعاً من المظاهرات المصحوبة بالعنف والإرهاب . أما حين تكون الدولة شرعية وجبهاتها الداخلية متماسكة ، والإرهاب فيها محصوراً في فئة قليلة ليس لها عمق بشري ولا مشروعية فإن عمليات المطاردة تكشف عن فئات الإرهابيين ، بحيث يسقطون الواحد تلو الآخر ، وهذا اللون من الإرهاب يكون جزءاً من لعبة سياسية ، استكملت مهمتها ، ولم تأبه بفلول المنفذين لها ، أو هو إفرازات لعبة سياسية . وأقرب مثلين أحداث [ إيران ] زمن الشاه وأحداث [ المملكة ] ، بعد الحادي عشر من سبتمبر . فأحداث [ إيران ] أسقطت الدولة ، فيما بدأت بوادر سقوط الإرهاب في [ المملكة ] . وقد لا يكون الإرهاب ناشئاً من خلاف بين السلطة والأمة ، وإنما هو ضد مصالح دولة كبرى منتشرة في أنحاء العالم ، وعندئذ تدخل حسابات الخسائر والأرباح ، وحين يتغلب الإرهابيون في نظر الدولة المحتلة ، تلملم أطرافها ، وترحل ، تاركة البلاد تعيش حالة من الفوضى . والمتابع للحروب الباردة والساخنة وصراع المصالح يقف على أعمال إرهابية خطط لها المتنازعون على الغنائم ، ونفذت في موقع التنازع ، وعدت من المقاومة المشروعة . وقد تتشكل في الدولة الواحدة مراكز قوى متعددة ، تقود البلاد إلى تناوش في السلاح ، وقد تنذر بتفكك الوحدة الوطنية وتعدد الكيانات ، إذا كانت تركيبتها السكانية من عدة طوائف أو قوميات أو كانت أقاليمها ذات خصوصيات جغرافية أو تاريخية . ومثل هذه الأحوال تستدعي النظر الثاقب ، وعدم خلط الأوراق ، ولا يمكن مواجهة أي عمل إرهابي وقطع دابره إلا برصد دقيق لكل ملابساته ، ودراسة متقصية لأسبابه : داخلياً وخارجياً ، ورسم خطة ناجزة أو مرحلية لمواجهته والحيلولة دون نمائه وانتشاره وإيقاظه للخلايا النائمة . فالمواجهة قد تكون بالمثل ، وقد تكون عن طريق الحوار والتنازلات ، وقد يكون الإرهاب عرضاً زائلاً ، لكونه إفراز ظروف خارجية ، لا يكون للبلد فيها إلا الظرفية المكانية . وليست المواجهة قصراً على رجل الأمن، وليس الحل وقفاً على المطاردة والمصادرة ، وتبادل إطلاق النار ، وليست التصفية حصراً على التصفية الجسدية ، فإذا كان وراء الإرهابي مبادئ يؤمن بها ، فإنها ستظل قادرة على التفريخ ، وإذا كان لا يفل الحديد إلا الحديد فإن الكلمة المحكمة لا يفلها إلا الكلمة الأحكم .
والتصفية الجسدية قد تطال شباب غرر بهم ، واتخذوا سبيل الإرهاب عن قناعة ، ولو هيئت لهم حواضن فكرية ودينية وسطية متزنة وقادرة على استمالتهم وإقناعهم لكان أن تحولوا عما هم عليه ، وندموا على فعلهم ، ومتى أمكنت المواجهة بالموعظة والتوعية فإن المصير إلى غير ذلك مصير إلى المفضول مع إمكان الفاضل ، والمواجهة السليمة الحكيمة تكون من هذا ومن غيره ، ولكل حدث حديث ، والمصابون بداء التطرف والغلو والإرهاب لن يقتصر فعلهم على التفجير والاغتيال ، إذ ربما يكونون أصحاب قضية لهم أهدافهم وذهنياتهم ، ولهم نظرتهم المستقبلية القائمة على الدعوة ، وتشكيل الخلايا المتنامية ، وحين تكون قضيتهم عقدية فإن من الصعوبة بمكان قطع دابرهم ، ولقد شهدنا مؤشرات لذلك ، وليس ببعيد أن يعيد التاريخ نفسه ، ونرى خوارج العصر يمثلون الغلو والتطرف الذي اتصفت به طائفة الخوارج في الصدر الأول من الإسلام ، ولقد شهدنا [ معتزلة العصر ] ممن عولوا على العقل ، وهمشوا النص في [ نظرية المعرفة ] ، والتطرف العقدي أنكى من التطرف السياسي ، وإذا كانت حركة التطرف العقدي تتنامى ، والشباب من حولهم يتعاطفون معهم ، ويسمعون منهم ، وينصاعون إليهم ، ويتقمصون رؤيتهم ، ويمارسون عملهم ، فإن الحل الأمثل لا يكون في واحدية المواجهة ، ولا في عنفها ، وقد لا يكون في تسامحها ، ومن ثم لا بد من التفكير والتقدير والنزول بكثافة الإمكانيات العلمية والثقافية والإعلامية لإيقاف تشكلهم الذهني ونموهم البشري ، والحيلولة دون ممارستهم للدعوة والتغرير بالناشئة ، ثم النظر في أساليب الدعوة والإرشاد والموعظة ، وتشكيل كوادر قادرة على مقارعة الحجة بالحجة ، وقادرة على اعتماد الأسس النفسية الممكنة من اختراق أجواء الآخر ، واستبعاد أي أسلوب قسري فوقي متعنت ، والحيلولة دون قيام أي كيان تطوعي لا يخضع للمراجعة والمساءلة والتقويم المستمر . والمتابع للخلايا والمنفذين يدرك أن وراءهم تعبئة ذهنية منظمة وقادرة على التكيف مع الأوضاع والسرعة في تحولات الخطاب ، ولما كان الإرهاب يتطلب تعبئة حسية ومعنوية ، تعبئة السلاح ، وتعبئة الأفكار ، كان لزاماً على المسؤولين والمقتدرين من المواطنين أن تتضافر جهودهم لمواجهة التعبئتين :
ـ التعبئة المادية .
ـ التعبئة المعنوية .
ولما كانت التعبئة الحسية عند الإرهابيين قائمة على صنع المتفجرات ، وتهريب الأسلحة ، وتخزينها فإن المعنيين من المسؤولين والمواطنين أمام ثلاثة أنواع من أنواع التعبئة الحسية : [ التهريب ] و [ التصنيع ] و [ التخزين ] ولكل نوع أسلوب مواجهة ، ذلك على مستوى المواجهة الحسية ، وهي أهون المواجهتين . أما المواجهة المعنوية فإنها ذات شقين : مواجهة الذات ، ومواجهة الآخر ، وكلتاهما تحتاجان إلى تحرف متوازن ، فالذات تحتاج إلى النقد والمساءلة والتقويم والتطوير ، والآخر يحتاج إلى خطاب يراوح بين الإحكام والتفصيل ، والمواجهة تكون بإزاء خطر قائم ، وآخر متوقع القيام . فهناك مواجهة تتمثل بأخذ الحذر ، وأخرى تأخذ بزمام المبادرة . والخطر القائم يكون قابلاً للنمو أو الانكماش أو الاجتثاث ، وقد يتبدل من حال إلى حال ، على سنن السباق بين أساليب الجريمة وأساليب المواجهة ، وعلى ضوء هذه التوقعات يحتاج المسؤول إلى مراجعة مستمرة
لكل أساليب الاحتياط والمبادرة ، فذلك يحول دون جمود آلية المواجهة ، واكتساب المناعة عند الممارسة الإرهابية . ولأن الجريمة والمكافحة في سباق مستمر ، فكلما تفنن المكافح في آلياته تحرف المجرم في محاولاته ؛ فإن الوقوف في المكافحة ولو للحظة واحدة أو ارتهانها بالمقاومة المسلحة تمكن الجريمة من التحرف الماكر .وهكذا يستبق كل من المجرم والمكافح طريق النجاة ، والظفر والنجاة مبتغى الطرفين ، وكل طائفة تعد لهما ما استطاعت من قوة أو حيلة . وما تعرض له رجال الأمن من قتل وما تمكن الإرهابيون من الإفلات والنجاة تعد مؤشر تفاوت في إعداد الخطط واتقانها ، ودليلاً على تعدد الحيل للوقيعة في الطرف الآخر . وحين تتخذ المواجهة مساراً واحداً وأسلوباً واحداً يتحرف الإرهابيون أنفسهم أو المخططون لهم من وراء الحجب لأساليب تمويهية ، وقد تضطرهم المحاصرة إلى التحول من التفجير إلى الاغتيال ، وقد يُضَيَّق الخناق عليهم ، فَيُمارسون البيات ، ومن ثم يتحولون من عصابات تنفذ الأعمال الإرهابية إلى دعاة على أبواب الفتنة ، كما يجد المستفيدون فرصة التغرير والتضليل والتعبئة الذهنية ، والجميع يتحينون فرص الغفلة أو الضعف ، فيما يتصور المتصدون لهم من رجال الأمن والمباحث أنهم قد قطعوا شأفتهم . ولهذا لابد من تنوع أساليب المواجهة وتعددها واستمرار التوعية والمتابعة ، ودخول المؤسسات الثقافية والفكرية والإعلامية والدينية طرفاً فاعلاً في المواجهة ، وليس طرفاً متطوعاً ، وليس من المعقول أن تقتصر تلك المؤسسات على مواجهة نفسها ومساءلة بعضها . وفي تعدد أساليب المواجهة وتنوعها ، وعدم الإذعان لمن يحيل على المناهج أو على الحركة الإصلاحية أو على بعض المؤسسات الخيرية بشائر خير ، ومكمن الخطورة أن القبول بإحالة الإرهاب إلى المؤسسات التربوية والدعوية والخيرية يصرف المواجهة عن مسارها الصحيح .ومع أننا نصر على أن الإرهاب وافد على البلاد ، وأن المؤسسات الإسلامية والدعوية والتربوية منه براء ، إلا أن من الحصافة أن نأخذ كل شيء في الاعتبار، وألا تحملنا الثقة على الغفلة ، إذ كل شيء ممكن ، ولا أقل من الرصد والتحري ، ووضع كل مؤسسة تحت المراقبة والمتابعة ، والنظر في أساليبها التربوية والدعوية ، فإذا سلم [ المقرر ] و [ نصوصه ] فقد لا يسلم [المنهج ] ، وإذا سلم [ المنهج ] فقد لا يسلم [ الموصل ] للمعلومة ، وإذا سلم الجميع فقد تكون [ المرحلة العمرية ] للطلبة غير قادرة على استيعاب المقتضيات وتمثلها ، ومن ثم لزم تحديث الناس بما يعقلون ، فسلامة المقرر والمنهج والمدرس قد يقابلها عقل المتلقي الذي أعطي ما لا يعقل ، ولقد نهي حملة العلم الشرعي من محادثة الناس بما لا يعقلون ، حتى لقد عدَّ مثل ذلك من دواعي الكفر بالله ورسوله ، والدعوة المرحلية سبيل الرسل . ثم إنه ما من أحد إلا وهو عرضة للخطأ أو الغفلة التي تمكن الماكرين من استغلال غفلته واختراق أجوائه . ومن زكى مؤسساته وغفل ، سبقه إليها من لا يهدأ له بال ، ولا يقر له قرار إلا بالإفساد . وقد يعمل الإنسان لا يريد من عمله إلا الخير ، وليس في نيته إلا ذلك ، ولكن عمله يؤدي إلى ما سواه ، وقد يندس في المؤسسات من ليسوا من أهلها ، مستغلين الثقة المتبادلة ودعوى الحصانة أو العصمة . والقطاعات الأمنية والتربوية والتوعوية والإعلامية مسؤولة أمام الرأي العام عن كل ما يحصل من تقصير أو انحراف . وكل بلاد العالم معرضة للمؤامرات والمكائد واللعب الكونية ، وكل مواطن على ثغر من ثغور أمته ، عليه ألا تؤتى الأمة من قبله . وإذا لم تأخذ الدولة حذرها ، أخذتها المصائب من كل جانب ، وليس أدل على ذلك من اختراق الحدود بأفتك الأسلحة والمتفجرات ،واختراق الأفكار بأضل الأقوال ، ولو كنا حذرين لما كانت الأسلحة بهذا الحجم ، ولا كان الانحراف بهذه الخطورة . وصفوة القول أن تكون المواجهة حضارية متعددة المستويات ، فوضع المواجهة المسلحة في موضع الحوار والتوعية مدعاة إلى مزيد من التدهور، ويقال مثل ذلك عن وضع الرأفة والرحمة والحوار موضع المواجهة المسلحة، فالمسألة مرتبطة بالأحوال ، ولا يجوز الرهان على مواجهة محددة، ولكي تكون المواجهة حاسمة لابد أن نحدد المفهوم والأسباب والانتماء فإذا وضح الأمر أمكن حسم المشكلة ، وإشكالية العالم الثالث أن أموره تقضي في غيابه وأنه لا يستشار عند حضوره ، وأن خطابه نقيض إمكانياته وأن أزماته في مؤسساته وأن العالم المتغطرس يتخذ منه مجالاً لتصفية الحسابات واكتشاف القدرات وكل لعبة يخطط لها ثم لا يتفق تنفيذها تكون مهيأة لتفريخ الإرهاب بوصفه الحل الوحيد لمواجهة التحدي . ولا يمكن حسم الإرهاب إلا بمواجهة الذات قبل مواجهة الآخر .

د.حسن بن فهد الهويمل

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك