مهرجان قازان الدولي لسينما العالم الإسلامي.. حوار الثقافات.. ثقافة الحوار

أشرف أبواليزيد

        

 

هرم فرعوني. أزياء إسلامية. حروف روسية. ورجل دين يرأس مهرجاناً سينمائياً فريدًا من نوعه. هذا هو المشهد المفاجئ لمن يشارك في مهرجان قازان الدولي لسينما العالم الإسلامي للمرة الأولى، لكنني كمتابع للمهرجان منذ ولادته، وفي زيارتي الرابعة إلى مدينته؛ قازان، عاصمة تتارستان، إحدى جمهوريات روسيا الاتحادية، ألِفْتُ الأمر، خاصة بعد أن أصبحت الدورة الثامنة للمهرجان أكثر حميمية، وكأن عائلتها السينمائية العالمية المشاركة من الشرق والغرب تكاد تحقق شعاره الذي تسعى الإنسانية من أجله: «من حوار الثقافات إلى ثقافة الحوار».

 

          كان الاسم السابق الذي اختاره منظمو المهرجان منذ تأسيسه قبل ثماني سنوات (مهرجان المنبر الذهبي لسينما العالم الإسلامي) إشارة إلى «منبر» آخر يمكن أن يبث المسلمون من فوقه أفكارهم للعالم. لكن انفتاح المهرجان على السينما خارج الدول ذات الأغلبية المسلمة، كرَّس للفكرة التي اقترحناها - الدكتور سامي عمارة وصاحب هذه السطور - قبل سنوات على نائبة رئيس الوزراء ووزيرة الثقافة آنذاك زيليا فاليفا، بأن يسمَّى المهرجان باسم المدينة، كعهد مهرجانات السينما العالمية الأشهر، لذلك أعدُّ حضوري هذا العام جديدًا لأنني أرى الاسم الحالي لائقا بمدينة عريقة هي قازان، التي جاوز عمرها الألف سنة.

 

          بمونودراما لشاب يستعرض تاريخ الخلق والمدينة، سيذكر الحفل الافتتاحي بتاريخ هذا الشعب، ويضيء حاضره. تتزين قازان اليوم استعدادا لاستضافة أولمبياد العالم لشباب الجامعات العام القادم. ويفخر التتاريون بقازان ورياضييها، فهي ليست مدينة الصناعات الحربية وطائرات الهليوكوبتر وحسب، وإنما هي مدينة تحترم كل الصناعات حتى التقليدية منها.

 

المفتي.. رئيسًا!

 

          لكننا قبل الحفل الافتتاحي، كنا التقينا برئيس المهرجان، وهو رئيس دار الإفتاء في روسيا الاتحادية، الشيخ رافيل عين الدين، الذي حيا ضيوف المهرجان في دورته الثامنة، بمدينة قازان التي عدَّها موحِّدة للشرق والغرب، بفضل سعيها لإذكاء روح التفاهم بين شعوب العالم. «نستطيع، وبوضوح، أن نصف المهرجان بالعامل الإيجابي لتأسيس الاستقرار بين روسيا والعالم».

 

          ضمت لجنة التحكيم رئيساً المصور والمخرج الطاجيكي دولت نظر خادونازاروف، وكلاً من الناقدة القرغيزية جولبارا تولوماشوفا، والكاتب والمخرج الإيراني نادر طالب زاده، والمخرجة النرويجية لينا هافورسين، والناقد التركي بورشن سعيد يلشين.

 

          نحو مدخل الهرم العصري، الذي يذكرك بأهرام الفراعنة، حيث أقيم حفلا الافتتاح والختام انطلقتُ ضيف شرف أعبرُ البساط الأحمر في مواجهة عدسات وعيون جمهور من كل الأعمار. هذا الجمهور الذي ملأ قاعات سينما رودينا التي عرضت أفلام المسابقة الرسمية، ولم تكن هناك حفلة وحيدة بمقعد خال، حتى أن الكثيرين افترشوا الأرض أمام الشاشات، وعلى جانبي المدرجات، وأصبحت الظاهرة الأهم التي تواجه المنظمين هي كيفية توفير أماكن إضافية، حتى أن عروضا بعينها تم الاتفاق مع أصحابها على أن يعاد عرضها بعد المهرجان. حين تحدثت مع وزير الثقافة خيرات سيباغاتولين اقترحت عليه تخصيص شاشات عملاقة في أماكن بالمدينة - ما أكثر حدائقها - لفائدة جمهور أكبر. هذا ربما ما سيحدث العام القادم في الأولمبياد الجامعي الرياضي، وقد يكون ملهمًا لمنظمي الدورة التاسعة للمهرجان.

 

شاشة الأفلام الفائزة

 

          لعل نظرة قريبة للأفلام الفائزة تشي بروح المهرجان؛ لأن اختياراته قد يكون معظمها فنيا، لكنها - بالمثل - لا تخلو من الحنو السياسي على المشاركات. لا بد أن نتوقع - مثل كل سنة في هذا المهرجان بالذات - سيادة إيرانية وروسية، ولكننا سنصفق أيضا لاختيارات لجنة التحكيم لما هو خارج التوقعات، ونعتب عليها لإغفالها إجماعا. دون أن ننسى شكوى أحد أعضاء لجنة التحكيم من أنهم قبيل المهرجان كانوا قد وافقوا على أفلام لم تحظ بموافقة دار الإفتاء، لذلك لم تشارك في الفعاليات!

 

          ذهبت جائزة «أفضل فيلم روائي» للفيلم الإيراني «قطعة من السكر» للمخرج الإيراني سيد رضا مير كريمي (إنتاج 2011). تأتي أربع نساء، مع عائلاتهن، للإعداد لحفل خطبة لشقيقتهن الأصغر. اجتماع نسوي يقض مضجع الرجال عكس ما يراه الأطفال. يستمتع الجميع بالمراوحة بين البيت والحديقة مثلما يستمتع المشاهدون بتلك الروح الحالمة للصورة المستوحاة من اللوحة الانطباعية الفرنسية. لذلك لم يكن غريبا أن يحصد الفيلم، بالمثل، جائزة «أفضل تصوير لفيلم روائي طويل».

 

          تبدو الحكايات الصغيرة المطرزة في ثوب الفيلم مثل خبطات ألوان الباستيل البراقة والحية. هكذا تتأرجح حواديت الأشباح، الباحثين عن الكنوز والجراح الخفية والمخبأة والمنسية، حتى تصل للعبة الإثارة حين تتأرجح العروس فوق أرجوحتها التقليدية تحاول التقاط تفاحة نضجت. ربما تكون هي الحكاية في أوجها، أو اللذة في قطافها. وربما تكون جائزة أفضل ممثلة خير تتويج للفيلم كذلك، وقد فازت بها الممثلات اللائي قمن بالأدوار النسائية لأنهن قدمن صورة للمجتمع النسوي الحي في إيران. في مقابل فوز الممثل التركي أحمد ممتاز طايلان بجائزة أفضل دور عن فيلمه «حياة خفية».

 

مهاجرون ومنفيون

 

          رغم قلة المشاركة العربية في المهرجان، إلا أن أفلاما غربية قدمت حكايات عربية. الفيلم الروائي القصير (البريطاني - الأردني)، الذي يحمل عنوان (3 ساعات) على سبيل المثال للمخرج ريجان هال، تدور أحداثه في قرية عراقية، ويحكي عن وجود طرف ثالث يؤجج الصراع بين السنة والشيعة، مما يجعلهم ينخرطون في حرب دامية لثلاث ساعات يروح فيها الأطفال ضحية، بعد أن كانوا قبل المعركة يتشاركون في لعب مباراة لكرة القدم.

 

          كذلك حضر العرب في الشريط الفرنسي الفائز بجائزة «أفضل مخرج لفيلم روائي طويل» وهو «الطابق العلوي، إلى اليسار»، للمخرج أنجلو سيانسي (إنتاج فرنسا/ لوكسمبورج 2010). العنوان يصف شقة تقيم فيها عائلة جزائرية مهاجرة، الأب هارب من الشرطة في بلاده بسبب تورطه هو وشقيقه في أعمال عنف، والابن متورط مع عصابة محلية لتهريب الكوكايين - بل ويخفي كميات منه في منزله - والأم الغاضبة لا تقيم معهما.

 

          يحضر مسئول حكومي ليسلم حكما بالطرد للأب، بسبب تأخره في سداد الأقساط، ويجيبه الأب من خلف الباب بأنه أرسل الشيك، ويخشى الابن من دخول الشرطة، فيخطف المسئول الحكومي، الذي يعاني - هو الآخر - من مشكلات مع زوجته، التي تشك في أنه ابتدع المشكلة حتى يتجنب الذهاب معها إلى طبيب العلاقات الزوجية. داخل الشقة تتبدل العلاقات، وتنكشف للجميع مخادعاتهم للمجتمع، وخداع المجتمع لهم. حتى أن شريك الفتى يأخذ الكوكايين عبر منفذ القمامة، بدعوى إنقاذ شريكه، ويهرب دون أن يفعل شيئًا.

 

          داخل الشقة سنتذكر الفيلم المصري «الإرهاب والكباب» حين يتخلى قائد الشرطة عن دعم الموظف الحكومي جابي الضرائب، فيتمرد هذا الموظف الفرنسي، ويبدأ في إلقاء محتويات الشقة على الشرطة التي اجتمعت بكثافة في شوارع حي المهاجرين، ويبدأ جميع سكان الحي في فعل الشيء ذاته، إنهم المهاجرون يشاركون المنفيين في المجتمع بالثورة على رموزه.

 

تحديات الرحلة المقدسة

 

          يحق لي أن أحكي لكم عن الدموع التي جعلها الفيلم الهندي «آبو، ابن آدم،» تتدفق في عيون المشاهدين والمشاهدات، خاصة العجائز. الفيلم الفائز بجائزة «أفضل سيناريو» يحكي سيرة عجوز مسلم هندي وزوجه لتحقيق حلم حياتهما بالحج إلى مكة. في حين تستعصي اللغة الملالايامية على المشاهدين، تنسج الطبيعة فردوسا للعيون، سحر تغلفه أصوات تغريد الطيور وألوان خضرة ولاية كيرالا. هدوء يسلمك لرحلة الوضوء والصلاة مطلع النهار للعجوز (آبو) الممثل (سليم كومار) الذي يقرر هو وزوجته عائشة (زارينا الوهاب)، أن يكون هذا العام فرصتهما الأخيرة لأداء فريضة الحج. التضحيات الكبرى تبدأ ببيع بقرتيهما اللتين تدران الحليب، وبيع جميع مجوهراتها، لنأتي إلى عصب القصة وهو قطع شجرتهما لبيعها خشبًا. الصعوبات باستخراج جوازي السفر، والارتحال الطويل إلى وكيل الحج في كوريكود، ورشوة الموظفين للإسراع بالإجراءات. وكم يبدو مشهد انتظار الزوجة في مكتب البريد بطيئا وهي تترقب وصول جوازي السفر. المسافر إلى كيرالا يعرف كم تغيرت هذه المنطقة من المشاهد التي يقدمها الفيلم، بعد أن سافر أبناؤها لعقود للعمل في مدن الخليج العربية. المهم أن الشجرة المجوفة لا تساوي شيئا، ويرفض الزوجان أن يأخذا صدقة للقيام برحلة الحج. ويصفق الجميع للمخرج سليم أحمد وهو يصعد مرتين إلى خشبة المسرح، الأولى لكي يتسلم جائزة أفضل سيناريو، والثانية جائزة جمعية نقاد السينما الروسية.

 

وللأطفال نصيب من المهرجان

 

          حرصت على مشاهدة الكثير من الأفلام التي عرضت للأطفال، ومنها الفيلم الفائز بجائزة «أفضل فيلم صور متحركة» «ذات مرة كانت هناك أم،» للمخرجة آنّا آرتمييف، وهو في قصته يشبه حكاية الملك لير الشكسبيرية مع بناته، كما حضرت مجموعة الأفلام الفائزة بالجائزة الخاصة للمنظمة الدولية للثقافة التركية «TURKSOY» لسلسلة الرسوم المتحركة المستلهمة من الحكايات الشعبية للأطفال التتار، للمخرج سيرغي كياتروف ـ تتارستان (روسيا).

 

          الأطفال كانوا حاضرين أيضا في الأفلام الوثائقية، ومنها «مهد السعادة»، الذي منح جائزة «أفضل وثائقي قصير» للمخرجة آسيل زهراييفا (قيرغيزستان). ويحكي الفيلم عن يوم في حياة طفلين في حديقة بكل ما يأتيان به من حركات أثارت الضحك والدهشة.

 

هنا أفريقيا

 

          أما أفضل الأفلام الوثائقية الطويلة فكان «نادي الموسيقى - زنجبار» للمخرجين فيليب جاسنير، وباتريس نزان، من إنتاج مشترك (تنزانيا - كينيا). في ساعة الغروب، في شوارع المدينة العتيقة، تستيقظ نوادي زنجبار بموسيقاها الحية. أنغام تعكس التآلف بين الشرق والغرب. بين الشمال والجنوب. أداة تلون بثقافاتها المتعددة سبورة الأيام والليالي، وتبعث الحياة في وجه خليط من الأعراق. إنه الطرب المرتبط بالطقوسي والاحتفالي والاحتفائي للحياة اليومية لتلك الجزيرة التي لا تزال عربية القلب مسلمة الديانة. الفيلم يمكن أن يكون عنوانه قصيدة موسيقية، أو شعراء وموسيقيون، ولكنه مع اختلاف العناوين دعوة إلى إعادة اكتشاف أفريقيا.

 

حضور عربي على استحياء

 

          لعلي أبدأ بالفيلم الذي أثار جدلا مع الحضور بعد عرضه (تحريك) وهو الذي لم يزد عن دقيقتين وخمس ثوان، للمخرجتين البحرينيتين عائشة المقلة ونورا كامل، الذي يقدم رجلا تحاول يدان - خلفه - تحملان قفازي العائلة والمجتمع بالسيطرة على رغباته وطموحاته وآماله، فما كان منه إلا أن قطع يد المجتمع، وجرح يد العائلة للتخلص من تأثيرهما. حديث المخرجتين يعطي لمحة عن جرأة الجيل الجديد وانفتاحه، حتى وسط مجتمع لايزال يعيش تحت خيمة مثقلة بالتقاليد السلطوية، ذكوريا وأبويا. هذا المجتمع نفسه - بأيديولوجياته المعقدة - هو الذي يفرض على الطفل يونس ألا يذهب إلى المدرسة إلا في سن الحادية عشرة في فيلم للمخرج طاهر بوشي ـ إنتاج سويسري جزائري مغربي مشترك. وبوشي صحفي وسينمائي جزائري شاب أسس مهرجان السينما الشرقية في سويسرا. وهو المجتمع الذي قدمته الإمارات في فيلم المخرج أحمد زين علوي (بصيرة)، عن العجوز ذي الستين عاما الذي فقد بصره منذ 30 سنة ولكنه لايزال يصر على الذهاب في رحلة يومية لقضاء حاجيات بيته، لقد فقد بصره، لكنه لم يفقد بصيرته. والمجتمع الذي يشهد آخر قطرة نفط في فيلم المخرج محمد جاسم (البحرين). أيضا عرض المخرج العراقي شكوان عبدالله في فيلمه (داليا) جزءا من معاناة المدنيين بسبب من حولوا بلاده إلى جسد مثخن بجروح الانفجارات. وعن الثورة في تونس كان هناك فيلم (كريم) للمخرج الإيراني محسن بارمهاني. المهم أن هذا الحضور العربي كان حييا حتى أنه لم ينل أي جائزة!

 

جوائز خاصة

 

          كانت هناك جائزة خاصة من لجنة التحكيم لتجسيد جماليات الماضي في الفيلم الوثائقي لشريط «صيدلية على شارع برولومنايا»، للمخرج سيرغي ياكوفليف، روسيا (تتارستان). فيما منحت جائزة رئيس جمهورية تتارستان «الإنسانية في السينما» للمخرج الإيراني الشاب محمد علي هاشمزيهي عن عمليه اللذين صورهما في مسقط رأسه ببلوشستان (إيران) الأول عن حياة جمل، والثاني عن قصة بناء مسجد في الصحراء. أما الجائزة الخاصة لوزارة الثقافة في جمهورية تتارستان، فمنحت للفيلم «خارج المنطقة»، للمخرجة إيلينا تاجيروفا (داغستان)، ومنحت جائزة خاصة من أحد الرعاة «للمساهمة في الحفاظ على التقاليد الوطنية واللغة التترية» لفيلم «مفقود» للمخرج إلدار ياجافاروف (تتارستان).لن أتحدث عما تمنيت أن ينال جائزة في فرع هنا أو هناك من الأفلام التي شاهدتها، فلا توجد لجنة تحكيم قادرة على إرضاء الفن والجمهور والنقاد وصناع السينما معًا.

 

          لن أنسى أن أشكر مجموعة من المترجمين والمترجمات صاحبوني في عروض الأفلام التي لم يكن بها سوى الترجمة الروسية، مثل روشانيا عفيفا، والدكتور عبدالرقيب، وتلميذه القرغيزي صبحي، والشاب النشط خيرت زاباروف، والسيدة رئيسة عفيفا التي جعلتني ألتقي مع معظم صناع الثقافة في قازان - سينما ومسرح وموسيقى وتشكيل - ربما يأتي ذكرهم في مقالات أخرى ـ ويبقى الأمل في أن تكون الدورة القادمة في قازان لمهرجانها الدولي أكثر إنصافا للسينما العربية، وبالمثل أن يسعى أبناء سينما عمرها أكثر من مائة عام للمشاركة في مهرجان يزداد توهجا عاما بعد آخر.

المصدر: http://www.alarabimag.com/arabi/Data/2012/12/1/Art_105406.XML

الحوار الخارجي: 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك