مسلمو أوروبا تحت الحصار
موقع الإرهاب في تعامل أوروبا مع المسلمين فيها
يقول د. رولف جوسنر، رئيس الرابطة الدولية لحقوق الإنسان في ألمانيا ((باسم مكافحة الإرهاب يجري التضييق على حريات الإنسان وحريات المواطن وتوظيفها (أي: أدوات لتحقيق مآرب ما) ونعايش ردود فعل مثيرة للضحك ضدّ الإرهاب، تؤدّي إلى خسارة الحرية والتناسب بين الفعل وردّ الفعل، وبالتالي إلى افتقاد الأمن أيضا. هذا من الأبعاد المدمّرة للذات، كما تؤكّد منظمات حقوق الإنسان في كثير من البلدان الديمقراطية)).
هل تسير الدول الأوروبية على طريق تدمير الذات فعلا؟.. وهل يصحّ الحديث عن علاقة أوروبا بالإسلام والمسلمين على أرضها، وبالإسلام والمسلمين عالميا، عبر أنفاق "مكافحة الإرهاب"، وما بات يرتبط بها من "وصفات" وممارسات تحت عناوين الحروب الوقائية والشاملة؟..
مكافحة الإرهاب".. عنوان لمضمون آخر - جذور عقدية وفكرية وإعلامية
من الخطأ الاعتقاد بأنّ ما تمارسه الدول الأوروبية في تعاملها مع الإسلام والمسلمين على أراضيها، يرتبط بالهجمة الصهيو-أمريكية على المنطقة الإسلامية تحت عنوان "الحرب ضدّ الإرهاب"، ولا حتى بتوظيف حلف شمال الأطلسي لعسكرة مسيرة الهيمنة عالميا بعد عولمة أهدافه رسميا في مؤتمر واشنطون 1999م. إنّ صانع القرار الأوروبي في التعامل مع الإسلام والمسلمين ينطلق من أسباب ذاتية أوّلا، ومن منظور أوروبي ذاتي إلى مستقبل وجود الإسلام والمسلمين في أوروبا على وجه التخصيص.
وكما هو الحال مع الولايات المتحدة الأمريكية لم تُطرح القضية -كما يتوهّم كثيرون- بعد تفجيرات نيويورك وواشنطون، ولم تبدأ "عسكرتها" بغزو أفغانستان قبل خمس سنوات.
في الثمانينات من القرن الميلادي العشرين لم يكن الحديث عن "إرهاب إسلامي" قد انتشر بعد عندما ظهرت معالم التوجّهات الأوروبية علنا كرفض المؤتمر الأوروبي للأحزاب اليمينية (المحافظون والمسيحيون) لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي وتعليل ذلك علنا وبوضوح بالهوية المسيحية الأوروبية والهوية الإسلامية لتركيا، رغم سيطرة الحكم العلماني عليها.
وفي التسعينات لم تكن عمليات نيروبي ولا واشنطون ونيويورك قد وقعت، عندما بدأ الأوروبيون يبحثون عن شعار آخر غير "الإسلام عدوّ بديل" المطروح أمريكيا، ليجدوا بغيتهم في مصطلح "الأصولية" فاستُخدم مثلا في الصياغات الجديدة (الكتاب الأبيض) للمهام العسكرية لعدد من الجيوش الأوروبية، كما في فرنسا وألمانيا، وفي الأهداف الرسمية لعدد من التشكيلات العسكرية المشتركة، كقوة التدخل السريع جنوب أوروبا.
من هنا كانت النقلة "طبيعية" ولها مقدّماتها، عندما ظهر مصطلح "الإرهاب الإسلامي" بديلا عن الأصولية، وبدأ الحديث عن إسلام مرفوض وعن إسلام آخر يمكن قبوله في علاقات الحوار والتعايش، وعند النظر في المقصود نجد ما يوصف بالإسلام الرسمي الشكلي في عدد من البلدان العربية والإسلامية، أو "الإسلام الأوروبي" مع إعطاء محتواه معنى "علمنة الإسلام" وليس معنى الإسلام الذي يمكن أن يتعايش معتنقوه مع دولة علمانية ومجتمع توجّهه العلمانية وغالبيّته من غير المسلمين. وتشهد على ذلك كتب ومؤتمرات عديدة، وحملات إعلامية وتصريحات سياسية رسمية لا تنقطع.
ومع خلط منظمات تسلك طريق العنف بين كلمة جهاد وما تمارسه من مقاومة مشروعة أو عنف غير مشروع، أصبح مفهوم الجهاد الإسلامي الأصلي مستهدفا في أوروبا مع محاولة ربط ظاهرة الإرهاب الحديثة به، وهنا يمكن أن يجد المسؤولون ما يكفي من الذرائع لتسويق مواقفهم شعبيا، بما في ذلك حصار منظمات المقاومة المشروعة في بلدان إسلامية محتلّة، أو حصار جمعيات وهيئات خيرية ترسل المال لإغاثة المنكوبين، بدعوى أنّ ذلك يشجّع الإرهابيين/ المقاومين عبر اطمئنانهم على ذويهم وأطفالهم من بعد إقدامهم على عملياتهم الانتحارية/ الاستشهادية!!. ولكن أين موقع هذه الذريعة في حملة فرنسية أو ألمانية تستهدف "الحجاب" على مستوى الطالبات أو المعلّمات.
إنّ التعامل الأوروبي مع الإسلام والمسلمين بمنظور "مكافحة الإرهاب" قائم على التشدّد والمواجهة رغم علم الدول الأوروبية أنّ المسلمين فيها يعدّون عشرات الملايين (25-35 مليونا حسب اختلاف التقديرات) بينما تقول أشدّ التقارير الاستخباراتية الأوروبية تطرّفا أو تحاملا في مخاوفها وفي تقديراتها، إنّ من يمكن تصنيفهم منهم في خانة الدعوة إلى استخدام العنف لا تصل نسبتهم إلى واحد في المائة، ناهيك عمّن يمارسونه فعلا!
لا تكمن المشكلة الأوروبية مع الإسلام والمسلمين في أوروبا، في مظاهر عنف غير مشروع، جديدة نسبيا، ولم ينتشر التعاطف معها إلاّ بنسبة محدودة للغاية، وإنّما تكمن في انتشار مخاوف من امتداد الصحوة الإسلامية في أوروبا نفسها، وهي مخاوف يمكن أن يكون تعليلها مقبولا أو مرفوضا، وقد يعود بعضها إلى قصور وأخطاء من الجانب الإسلامي، وبعضها الآخر إلى موروثات أوروبية قديمة، ولكنّ الحصيلة واحدة، وهي أنّه لا ينبغي إغفال الجذور الحقيقية لتلك المخاوف، والاقتصار بدلا من ذلك على محاولة استيعاب ممارسات وأحداث جارية والمواقف الأوروبية فيها، وكأنّها صادرة عن شعار "الحرب ضدّ الإرهاب" فقط.
إذا تركنا الجذور التاريخية القديمة من العصور الأوروبية الوسيطة، ومن عهد الحروب الصليبية والاستبداد الكنسي، نجد أنّ للسياسة الأوروبية المعاصرة تجاه الإسلام والمسلمين جذورا معاصرة تعبّر عن نفسها، وتتلاقى مع الجذور العقدية والفكرية والإعلامية للهجمة الصهيوأمريكية الحديثة على المنطقة، كمقولة رئيسة الوزراء البريطانية السابقة تاتشر عن أحداث البلقان في مطلع التسعينات الميلادية إنّّها ترفض قيام "دولة إسلامية" في المنطقة بعد الهجمة الصربية على المسلمين، أو مقولة بيرلسكوني بتفوّق الحضارة الغربية عقب مقولة بوش بصدد "حرب صليبية"، أو ما عُرف بالإساءة الكاريكاتورية والموقف الأوروبي المشترك فيها بعد فضائح أبو غريب وجوانتانامو وفلّوجة وغيرها أمريكيا، ونكاد ندرج في هذا الإطار أيضا الإساءة البابوبة المعروفة مؤخّرا مواكِبةً لمقولة بوش عن "الفاشيين الإسلاميين".
ولا يعدّ جميع ذلك إلاّ من قبيل ما يسمّى "ذروة جبل الجليد"، ممّا اشتهر من خلال التفاعل معه، بينما لا تنقطع الإساءات على مستويات مختلفة، سياسية وفكرية وإعلامية، ولا تنقطع أيضا الإجراءات العملية، مثل الموقف الفرنسي من حجاب الطالبات المسلمات، والألماني من حجاب المعلمات المسلمات.
والميدان الأوسع نطاقا والأخطر هو ميدان التشريعات التقنينية، وقد شهدت البلدان الأوروبية منذ السبعينات في القرن الميلادي العشرين تحوّلا تدريجيا في التعامل مع المسلمين، وكانت غالبيتهم من الوافدين وليس من الجيل الثاني والثالث ومن أهل البلاد الأصليين كما هو الحال الآن، ففي تلك الفترة بدأت محاولات "تخفيض" عدد المسلمين بعد انتشار الصحوة الإسلامية في صفوفهم، عبر اللترحيل الجماعي، وعبر التشجيع بالإغراءات المالية على العودة إلى المواطن الأصلية، وكذلك محاولات الفصل بين جيل الشبيبة والجيل الأوّل، بقوانين تسمح للناشئة بالحصول على الجنسية ولو لم يرغب ذووهم في ذلك، إلى جانب عمليات الترحيل تحت عنوان مكافحة الهجرة غير المشروعة.
ولا ريب أنّ عمليات إرهابية من قبيل ما كان في مدريد ولندن، فضلا عمّا كشف عنه في الوقت المناسب للحيلولة دون وقوعه، ساهم في وصول هذا التحرّك الأوروبي إلى ذروة جديدة في الوقت الحاضر، ولكن لا يمكن التسليم المطلق بذلك دون الإشارة إلى أمرين:
1- لم تتعامل الدول الأوروبية مع ظاهرة "الإرهاب الأوروبي" من جانب إرهابيين أوروبيين، بدءا بإيرلندا الشمالية مرورا بأسبانيا وإيطاليا وألمانيا وفرنسا، كما تتعامل الآن مع المسلمين، جميعا، لا "الإرهابيين" فقط، أي لم تشرّع آنذاك من "القوانين" ما يبيح انتهاك الحريات الشخصية على أوسع نطاق، أو وضع فئات بأكلمها -كاليساريين المتشدّدين في البداية واليمينيين المتشدّدين لاحقا- تحت الرقابة وتحت طائلة الشبهة الجماعية، لتطبيق تلك القوانين "الاستثنائية" عليهم.
2- لا تنقطع التحذيرات من جانب منظمات حقوق الإنسان، والخبراء في الشؤون السياسية والقانونية، من أنّ السياسات الغربية العدوانية، هي من وراء تعزيز تيّار العنف غير المشروع، أي الإرهاب وفق المفهوم الغربي للكلمة. ولا يغيب في الوقت الحاضر ما يواجهه رئيس الوزراء البريطاني بلير على هذا الصعيد.
ولئن أصبحت الأساليب المستخدمة في البلدان الأوروبية الرئيسية، كبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، معروفة نسبيا، وكتب عنها الكثير، فالجدير بالذكر أنّه لا يوجد اختلاف كبير على هذا الصعيد مع دول أخرى لا يدور الحديث عنها بتركيز مماثل، كالسويد التي كانت تعتبر من البلدان ذات المواقف الإيجابية عموما، ولكن صدر فيها أيضا "قانون مكافحة الإرهاب" عام 2003م، ويسري عليه ما يسري على القوانين الأخرى التي وصفها "مرصد حقوق الإنسان في واشنطون" بأنّها تفرّغ حقوق الإنسان من مضمونها، ويمكن رؤية ذلك من خلال المحاكمة الأولى بناء على ذلك القانون لمتهمين بالإرهاب، بعد انتشار الحديث عن منظمة "أنصار الإسلام" في السويد، وربطها بمنظمة "أنصار السنة" في العراق، التي اتّهمت دون دليل قضائي حتى اليوم، بعملية إربيل في 1/2/2004م، ففي 19/4/2004م كان الاعتقال، فالسجن الانفرادي، فقرار الترحيل رغم التبرئة القضائية لاثنين من المعتقلين، ثمّ اعتماد حيثيات الحكم بالسجن على اثنين آخرين، على معلومات تلفازية، وأدلة "سرية" وإهمال مطلق لما أورده الدفاع عن واقع الاحتلال الأمريكي للعراق وممارساته، بل جاء في الحيثيات أنّ "المحكمة تقرّ بعدم إمكانية إثبات مشاركة المتهمين بالعملية، ولكن ترى أنّ الظروف المحيطة بالقضية مقنعة".
وكان الاتحاد الأوروبي قد أصدر تعريفا للإرهاب في 1/7/2003م، وُضعت بموجبه قائمة إرهاب شبيهة بالأمريكية، يقول الناقدون لها إنّ "الاتحاد الأوروبي يضيف ويلغي ويعدّل فيها باستمرار، ممّا يجعل دعم منظمة بعينها أمرا قانونيا اليوم ومخالفا للقانون غدا".
لقد أصبحت القوانين الاستثنائية "سيفا مسلّطا على المسلمين بالذات، في العديد من البلدان الأوروبية، بما في ذلك ما يبيح للسلطات الأمنية أن تراقب من تعتبرهم مشتبها بهم دون الرجوع إلى ترخيص قضائي، ومداهمة منازلهم والمساجد التي يصلّون فيها والمراكز الإسلامية التي يلتقون فيها، دون اعتماد الشروط التقليدية في دول تؤكّد سيادة القانون فيها، وتؤكّد إعطاء الأولوية للحريات الفردية.
وتوجد عوامل عديدة تفسّر هذه السياسة الأوروبية، رغم حساسية الرأي العام تجاه قضايا الحريات والحقوق الإنسانية، من ذلك العوامل المصلحية المادية، ففي السويد مثلا تتلاقى السياسة الحكومية مع المصلحة المادية من وراء تصدير تجهيزات عسكرية إلى بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، ومن ذلك مفعول التيار العلماني المسيطر على الفكر والإعلام عموما، وموقفه المبدئي من الدين عموما، بما في ذلك الإسلام، وتحت هذا التأثير نجد في بريطانيا مثلا أنّ رئيس الوزراء البريطاني بلير يواجه معارضة شديدة لمشاركته العسكرية في العراق وسواه، ولكن يجد أيضا الدعمَ للقوانين الاستثنائية بنسبة تصل -وفق بعض استطلاعات الرأي- إلى 79 في المائة لدى حزب المحافظين من المعارضة، و72 في المائة لدى حزب العمل في الحكومة، بل لم يعارض الترحيلَ الإداري إلى بلد قد يتعرّض المرء فيه إلى ممارسات التعذيب، سوى 19 في المائة من عامّة السكان.
على أنّ من العوامل الحاسمة من وراء تعامل صانع القرار الأوروبي مع المسلمين في أوروبا، بمن فيهم ذوو الأصول الأوروبية، تعاملا جائرا، ما يعود إلى المسلمين أنفسهم، سواء من حيث أخطاء تُرتكب، أو قصور في العمل لإثبات وجودهم على النحو الواجب للحفاظ على حقوقهم وحرياتهم على الأقلّ، ناهيك عن التأثير على الرأي العام فيما يخدم مصلحة الإسلام والمسلمين عموما، ممّا يحتاج إلى حديث منفصل، لا سيّما وأنّ باستطاعتهم الاعتماد على مواقف أوروبية منصفة، يحرّكها الخوف على الحريات والحقوق المدنية ومعارضة التحرّك في طريق "صراع حضاري"، وهذا ما يشير إليه د. جوسنر المذكور سابقا عندما يؤكّد أنّ ((المسلمين في هذه البلاد يحتاجون إلى حليف في الصراع على الحقوق والحريات الأساسية، يقف معهم ويساعدهم في الاختلاف مع مجتمع الغالبية من حولهم)).
المصدر: http://www.google.com/imgres?imgurl=http://www.midadulqalam.info/midad/u...