لا علاقة للمسلمين الألمان بأنشطة العنف الإرهابي
بعد إحباط مخطط للقيام بعملية تفجير إرهابية في ألمانيا
هل يمكن تعميم الحديث عن المسلمين من ذوي الأصول الأوروبية أنهم أصبحوا مصدر خطر على أمن الدول الأوروبية؟. هل يمكن تسويغ مزيد من الإجراءات الأمنية والرقابة الاحتياطية بعد الكشف عن "خلية إرهابية" ألمانية، كادت ترتكب ما يُكمل مسلسل التفجيرات السابقة في مدريد ولندن؟. هل أصبحت ألمانيا هدفا لعمليات إرهابية إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية، كما يتردّد بعد نجاح أجهزة الأمن في الحيلولة دون تنفيذ مخطط عملية تفجير، يقول المسؤولون إنّها -لو وقعت- لكانت أشدّ فتكا ممّا شهدته الأرض الأوروبية من قبل؟.. ثم ما الذي ينتظر مستقبل الوجود الإسلامي في ألمانيا بعد تسليط الأضواء عليه عبر ما تثيره هذه الأجواء وما واكب الحدث من ردود فعل سياسية وإعلامية؟..
تشديد القوانين؟
تعميم الشبهات؟
أبعاد سياسية
المسلمون الألمان
أسئلة عديدة أثارها الكشف عن وجود ثلاثة أفراد، أحدهم تركي الأصل والآخران ألمانيان، قطعوا شوطا لا بأس به في الإعداد لعملية تفجير ما، وهم غافلون عن رقابة أجهزة الأمن لهم منذ ستة شهور، ورغم ذلك لا تزال نتائج التحقيقات الجارية في حدود الأدلة على تورط الثلاثة المعتقلين، ووجود اتصالات بينهم وبين عدد من الأفراد داخل الحدود وخارجها، دون التوصل إلى أدلة قاطعة، أو صورة متكاملة المعالم، وهو ما أدّى إلى إطلاق سراح شخص رابع، بعد اعتقاله بفترة وجيزة، وقد وصل إلى مطار فرانكفورت عقب إبعاده عن باكستان. وما كاد النبأ يعلن حتى توالت التصريحات الرسمية وتراوحت ردود الفعل ما بين محورين رئيسيين:
أحدهما الدعوة إلى تشريعات قانونية تفرض العقوبة على من يذهبون بالفعل إلى معسكرات للتدريب، ممّا يدور الحديث عن وجوده في أفغانستان وباكستان -وهو ما قيل عن المعتقلين الثلاثة الآن- بحيث لا يُنتظر طويلا إلى أن يصل المتدربون بعد عودتهم إلى مرحلة التخطيط والتنفيذ لعمليات ما. ويشكّّك كثيرون بجدوى هذه الخطوة فليس من السهل الحصول على أدلة قاطعة تكفي لاستصدار أحكام العقوبات قضائيا على من يشتبه بهم، بحيث تثبت مشاركتهم في التدريب، ولا يُخلط بين هذا ومجرّد التطرّف الكلامي وزيارة للبلدان المشتبه بوجود معسكرات تدريب فيها.
والمحور الثاني التصريحات المؤيّدة لِما يطرحه منذ شهور وزير الداخلية الألماني فولفجانح شويبلي ويجد معارضة شديدة، بصدد تمكين أجهزة الأمن من إجراءات رقابة -لا سيما ما يتعلّق بالشبكة العالمية- تعتمد على قرار من جانبها وليس على استصدار ترخيص قضائي بذلك. بمعنى أن يصبح تقدير خطور حالة "الاشتباه" بجهة ما لاستباحة التجسس عليها، من صلاحيات رجل الأمن بدلا من رجل القضاء، وهو ما ينطلق معارضوه من القول إن القوانين الموجودة حاليا كافية إذا أُحسن تطبيقها، ويمكن أن يستندوا الآن إلى حقيقة الكشف عن الخلية ومراقبة أفرادها وإحباط ما يخططون له، وجميع ذلك اعتمادا على القوانين السارية المفعول حاليا، وهذا مقابل استناد الداعين إلى التشدّد قانونيا، إلى ما كشفه الحدث من "مخاطر" حقيقية، وفي هذا الاتجاه تصبّ تصريحات التعميم والتخويف على ألسنة بعض السياسيين وبأقلام كثير من الإعلاميين، وفي هذه الأثناء اعترضت "نقابات الشرطة" نفسها على التوجّه نحو تشديد القوانين واعتبرت ذلك خطوة خاطئة، ووجه رئيس الشرطة كونراد فرايبيرج تحذيره إلى وزير الداخلية مباشرة، أن يستغلّ الحدث لإعطاء دفعة لمشاريع تشريعاته القانونية المتعثّرة.
ويمكن القول إنّ أكثر ما يطالب به المتخصصون من أجهزة الأمن، من وراء العوامل "السياسية" هو تحسين التعاون بين الأجهزة، لا سيما ما بين أجهزة الولايات الستة عشرة والأجهزة المركزية، وهو ما تعرقله المنافسات والمناوشات الحزبية داخل الائتلاف الحكومي، مقابل تركيز الأنظار على مسلسل تشديد القوانين التي تحدّ من الحريات الشخصية.
وأما على المستوى السياسي الأبعد مدى وتأثيرا من مستوى المتخصصين الأمنيين أنفسهم، فلا تنقطع التصريحات والمواقف والتحليلات، بدءا بأعلى المستويات كتأكيد المستشارة الالمانية آنجيلا ميركل أنّ ألمانيا أصبحت هدفا للإرهابيين، وانتهاء بمستوى مسارعة بعض وسائل الإعلام إلى نشر مقولات "التخويف" المنسوبة إلى أفراد يعتبرون أنفسهم خبراء في الشأن الإسلامي، كقول أحدهم -وهو من أصل تركي- عمّن يعتنقون الإسلام ويميلون إلى العنف "إنهم يتخفّون بعد اعتناقهم الإسلام، فيأكلون لحم الخنزير، ويتردّدون على الكنيسة، ويصاحبون النساء، فلا أحد يعلم متى يوجّهون ضرباتهم".. والغريب أن يعلم مثل ذلك "الخبير" عنهم ما يزعمه، وهو ما لا تقول بمثله أجهزة الأمن نفسها.
أكثر التقارير الرسمية لأجهزة المخابرات تشدّدا لا تزعم وجود نزعات تطّرف عند ما يتجاوز نسبة نصف من الألف من المسلمين، وتقول إنّ هذا يعني "التشدّد" فيما يطرحون من أفكار، ولا يعني بالضرورة استخدام العنف بالفعل. ومثل هذه النسبة لميول العنف "الكلامي" لا يمكن نفي وجودها أو وجود أعلى منها عند غير المسلمين، لا سيّما من يوصفون بالمتطرفين اليمينيين، أمّا التصريحات الصادرة عن أجهزة الشرطة الألمانية بعد إحباط المخطط، فتقول بوجود 60 إلى 80 شخصا من المسلمين بألمانيا، موضع التقدير أمنيا أنّهم على استعداد لاستخدام العنف. والجدير بالذكر أنّ عدد المسلمين في ألمانيا يربو على ثلاثة ملايين ونصف المليون، وأن ذوي الأصل الألماني منهم في ازدياد مستمرّ وربما زاد عددهم على نصف مليون في هذه الأثناء.
إن الاستعداد لاستخدام العنف غير المشروع، والإقدام على ذلك هو حالة مَرَضية بالمقاييس الإسلامية بغض النظر عن الأسباب والدوافع، وهو حالة مرضية بالمقاييس الغربية أيضا، إنّما لا ينبغي تصويرها ظاهرة، ولا تعميم الحديث عنها، فجميع ذلك لا يساعد على استئصالها، ولا يخدم أغراض الحريصين على استئصالها بالفعل، بل يخدم أغراض من يريدون صناعة شرخ في المجتمع، وتعميقه، وإثارة أجواء الفزع والرعب المساعدة على ذلك.
يلفت النظر أنّ التعليلات المتداولة لوجود مسلمين متطرّفين على استعداد لاستخدام العنف على هذه الشاكلة، وإن كانت تنأى بنفسها عن ربط ذلك بالإسلام نفسه، كما ساد من قبل، أصبحت تتناول البعد السياسي المحتمل، ولكنّها تصطنع لذلك صور غير واقعية، وتنشر تصوّرات غير منطقية، دون الاستناد في ذلك إلى دراسة قويمة أو بحث استطلاعي، أو أي وسيلة أخرى يمكن لمن ينشر تلك التصوّرات في الإعلام أن يستند إليها.
من ذلك على سبيل المثال -وهو ما يتصل بالمقولة الشائعة عن اعتبار كراهية أمريكا فحسب سببا لعدائها- ما يتردّد من أنّ أنصار ارتكاب عمليات العنف والإرهاب في ألمانيا إنّما يريدون "الانتقام" من المستشارة الألمانية ميركل بسبب سياستها الأقرب إلى التحالف والتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية. والواقع هو أنّ التحالف الأمريكي-الألماني لم ينقطع منذ الحرب العالمية الثانية، وكان في عهد المستشار الألماني الأسبق هلموت كول أقوى ممّا هو عليه الآن، ولم يشهد ولادة ظاهرة العنف أو الميل إليه، كذلك لا يكفي لتفسير تلك الأقوال التعميمية إجراء مقارنة بين سياسة ميركل وسلفها شرودر، فقد كان الأخير أشدّ اعتراضا على السياسة العسكرية الأمريكية تجاه العراق، بينما كان في عهده هو اتخاذ قرار الوجود العسكري الألماني بأفغانستان تحت شعار "التضامن المطلق مع الأمريكيين"، وجميع الدلائل أقرب إلى الربط بين "تهديد ألمانيا بعمليات إرهابية"، وبين الوضع في أفغانستان وليس في العراق.
يضاف إلى ذلك أنّ الوجود الألماني العسكري شمال أفغانستان فقط، دون المشاركة في عمليات قتالية ما، لم يشهد لعدة سنوات ردود فعل "إرهابية" أو التهديد بها، إلى مستوى اعتبار الخطر حقيقيا، بل بدأ ذلك للمرة الأولى عقب اتخاذ القرار المعروف بإرسال طائرات استكشاف تساعد في تحديد الأهداف بصورة تدعم العمليات العسكرية التي تقوم بها القوات الأمريكية والأطلسية، ومنذ ذلك الحين بدأ قرع ناقوس الخطر في ألمانيا نفسها. وهذا ممّا يشير إليه توقيت الإعداد للعملية التي أمكن إحباطها الآن، كما يشير التوقيت إلى الرغبة في التأثير على الأجواء السياسية والشعبية في ألمانيا، قبل اتخاذ قرار تمديد فترة الوجود العسكري في أفغانستان.
والواقع أنّ حصيلة استخدام العنف والتهديد به وممارسته وتأييده كانت وما تزال دوما مناقضة للأهداف المعلنة من جانب أصحابه، سيّان في أيّ اتجاه وعلى أي مستوى.
وعند التأمّل فيما أوصل إليه مسلسل الحروب الأمريكية تحت عنوان "الحرب على الإرهاب" خلال عدة سنوات، يظهر أنّ انتشار ما يُسمّى ظاهرة الإرهاب ازداد واتّسع بتسارع يتجاوز أضعاف ما كان عليه من قبل، كذلك فإنّ كلّ عملية تعرّض لها بلد أوروبي لم تساهم إطلاقا في "إكراه" المسؤولين على تغيير سياساتهم، وهو ما شهدت عليه عملية مدريد بعد أن أصبح تبدّل الحكومة وقرار الانسحاب العسكري من العراق آنذاك في حكم المفروغ منه، وهو ما شهدت عليه عملية لندن أيضا، فانتقال السلطة من بلير إلى براون مع مؤشرات التميز السياسي التدريجي عن واشنطون، لم يكن من نتائج تلك العملية أو لاتهديد بأمثالها، ولا يمكن لعملية تقع في ألمانيا أن تؤدّي إلى تعديل اسلياسة الرسمية المتبعة، بل قد تزيد الضغوط في اتجاه مواصلة القيام بالمهام العسكرية الراهنة، في أفغانستان وسواها، دون تعديل، تجنّبا للظهور بمظهر الخضوع للابتزاز الإرهابي، وهذا رغم ازدياد عدد الأصوات الداعية إلى التراجع تدريجيا عن السياسات الراهنة والمشاركات العسكرية المرتبطة بها، وكذلك رغم التأييد المتصاعد في استطلاعات الرأي لتراجع من هذا القبيل.
ليس للمسلمين الألمان علاقة تستحق الذكر بجميع ما جرى ويجري على هذا الصعيد السياسي وما يُربط به تحت عنوان الأمن أو عنوان الإرهاب.
إنّ انتشار الإسلام بنسبة متزايدة في ألمانيا بدأ قبل عشرات السنين، وأصبح من العسير في هذه الأثناء التمييز تمييزا كبيرا بين المسلمين الألمان، بمعنى ذوي الأصول الألمانية، والمسلمين الألمان بمعنى المتجنّسين المقيمين منذ عشرات السنين وأولادهم وأحفادهم المولودين في ألمانيا نفسها. والاهتمامات الأكبر المرصودة على صعيد هؤلاء وهؤلاء، على امتداد سنين عديدة، من خلال الأنشطة والمواقف والكتابات، تكشف بوضوح أنّه إلى جانب عنصر الاقتناع العقدي، فعلى صعيد الجانب التطبيقي للإسلام، كان ولا يزال العامل الأهم في الإقبال على اعتناقه هو العامل الأسروي، بمعنى الاقتناع بأنّ الإسلام أقدر ممّا يسود في الغرب من تصوّرات على اختلافها، من حيث تكوين الأسرة ووظيفتها وتماسكها، وما يتصل بذلك من نتائج اجتماعية بعيدة المدى، لا سيما في تجنّب الناشئة والشبيبة للمشكلات المعروفة على صعيد الإدمان والإباحية وغيرهما.
لا ينفي ذلك وجود تأثير لأفراد أو فئات، من داخل الحدود وخارجها، يعملون لنشر أفكار التشدّد، ليتحوّل هذا التشدّد –وفق الأطروحات الإسلامية لا الرسمية الألمانية فقط- إلى أرضية قد تتقبّل مستوى آخر من التشدّد في اتجاه استخدام العنف. ولكن النسبة الحقيقية على هذا الصعيد -كما سبق التنويه بها- لا تستدعي القلق بل تستدعي التفكير الجادّ بالعمل على عدم تحويلها إلى "ظاهرة"، ويعني ذلك:
1- على الجهات الإسلامية في ألمانيا ممارسة المزيد من الجهود لتعزيز مكانة الإسلام الوسطي الواسعة الانتشار على كلّ حال بين المسلمين، مع تعزيز عناصر العلم والمعرفة والوعي بالإسلام، وما يعنيه الالتزام به جنبا إلى جنب مع الاندماج في بقية "عناصر المجتمع" بعد أن أصبح الوجود الإسلامي نفسه واحدا منها.
2- على الجهات الرسمية العمل للتعاون المباشر مع الجهات الإسلامية من أجل دعم الجهود المذكورة آنفا بدلا من عرقلتها ومحاولة فرض صيغة ما للإسلام سواء أعطيت عنوان إسلام ألماني أو علماني أو ما شابه ذلك، فليس هذا ممكنا عمليا، ولا مطلوبا واقعيا، بل المطلوب هو الإسلام الوسطي بطبيعته، وهو الأصلح والأقدر على تحقيق أهداف الاندماج المتوازن والمصلحة المشتركة.
3- على الجهات الفكرية والإعلامية العمل بأقصى جهد مباشر من أجل الحدّ من انتشار حملات التخويف من الإسلام والمسلمين، والانتقال بطرح مسألة الوجود الإسلامي ومستقبله إلى الأسلوب الموضوعي المنفتح دون أحكام مسبقة، ودون ترك المجال مفتوحا أمام المتطرّفين من أي جهة كانت، بما في ذلك الإعلامية نفسها، لنشر أجواء التخويف، فهي لا تخدم المجتمع الألماني ولا تخدم المسلمين فيه أيضا.
المصدر: http://www.google.com/imgres?imgurl=http://www.midadulqalam.info/midad/u...