التطرف في الدين

التطرف في الدين
دراسة شرعية

إعــداد
د. محمد بن عبدالرزاق الطبطبائي
عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
جامعة الكويت

مقدمــــة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد:
الإسلام دين الوسطية، بين الغلو والتقصير، قال الله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}( )، قال الجصاص: قال أهل اللغة: الوسط العدل، وهو الذي بين المقصر والغالي( ).
وهو خطاب لجميع الأمة، أولها وآخرها، من كان منهم موجودا في وقت نزول الآية، ومن جاء بعدهم إلى قيام الساعة، كما أن قوله تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}( )، وقوله: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ}( )، ونحو ذلك من الآي، خطاب لجميع الأمة( ).
وقال الشوكاني: معنى أمره – سبحانه – بالعدل أن يكون عباده في الدين على حالة متوسطة، ليست بمائلة إلى جانب الإفراط، وهو الغلو المذموم في الدين، ولا إلى جانب التفريط، وهو الإخلال بشيء مما هو من الدين( ).
وقد حذر النبي ـ  ـ من الغلو ، وأنكر على عبد الله بن عمرو بن العاص التزامه قيام الليل وصيام النهار، واجتناب النساء، وقال له: "أرغبت عن سنتي"، فقال: بل سنتك أبغي، قال: "لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"( ).
وقد نهى الله – تبارك وتعالى – عثمان بن مظعون وأصحابه عما عزموا عليه من سرد الصوم، وقيام الليل، والاختصاء، وكانوا قد حرموا على أنفسهم الفطر والنوم، ظناً أنه قربة إلى ربهم، فنهاهم عن ذلك لأنه غلو في الدين، واعتداء عما شرع، فقال عز من قائل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}( )، والتقدير ولا تحرموا تناول ما أحل الله لكم من الأكل والشرب والنوم والنكاح، ولا تعتدوا بالاختصاء، إن الله لا يحب المختصين، أو لا يحب المعتدين بالاختصاء وغيره( ).
وفى الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله  : "إنها تكون بعدي أثرة، و أمور تنكرونها . قالوا: يارسول الله، كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم، و تسألون الله الذي لكم"( ).
وسأتناول في هذا البحث أحكام التطرف من خلال أربعة مطالب، وذلك كما يأتي:
المطلب الأول: مفهوم التطرف، والكلمات ذات الصلة.

المطلب الثاني: حكم التطرف في الإسلام.
المطلب الثالث: صفات أهل التطرف.
المطلب الرابــع: سبل علاج ظاهرة التطرف.
ثم ألحقت البحث بخاتمة ، ذكرت فيها أهم نتائجه .
والله – تعالى – أسأل أن ينفع به، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

––––––––––––––

المطلب الأول
مفهوم التطرف

الفرع الأول – المفهوم :
أولا – التطرف لغــــة :
قال ابن فارس: الطاء والراء والفاء أصلان، فالأول يدل على حد الشيء وحرفه، والثاني: يدل على حركة فيه( ).
طرف الشيء في اللغة ما يقرب من نهايته، وقيل: ما زاد عن النصف.
قال الجصاص: طرف الشيء إما أن يكون ابتداءه ونهايته ، ويبعد أن يكون ما قرب من الوسط طرفا( ).
ثانيا – التطرف في الاصطلاح:
لقد أطلق العلماء قديما كلمة المتطرف على المخالف للشرع، والتطرف على القول المخالف للشرع، وعلى الفعل المخالف للشرع.
ومن الأول ما قاله ابن تيمية:" وكثيرا ما قد يغلط بعض المتطرفين من الفقهاء في مثل هذا المقام، فإنه يسأل عن شرط واقف، أو يمين حالف، ونحو ذلك، فيرى أول الكلام مطلقا أو عاما، وقد قيد في آخره، فتارة يجعل هذا من باب تعارض الدليلين، ويحكم عليهما بالأحكام المعروفة للدلائل المتعارضة من التكافؤ والترجيح، وتارة يرى أن هذا الكلام متناقض لاختلاف آخره وأوله، وتارة يتلدد تلدد المتحير"( ).
وقال ياقوت الحموي:" إن بعض المتطرفين قرأ: الأكراد أشد كفرا ونفاقا، فقيل له: إن الآية: { الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً}، فقال: إن الله – عز وجل – لم يسافر إلى شهرزور، فينظر إلى ما هنالك من البلايا، المخبآت في الزوايا، وأنا أستغفر الله العظيم من ذلك، وعلى ذلك، وقد خرج من هذه الناحية من الأجلة والكبراء، والأئمة والعلماء، وأعيان القضاة والفقهاء، ما يفوت الحصر عده، ويعجز عن إحصائه النفس ومده"( ).
ومن الثاني – المتعلق بالقول – ما ورد في المسودة: "ومن الناس من لا يحكي إلا القولين المتطرفين دون الوسط "( ).
ومن الثالث: ما قاله القرطبي: وتكره القبلة للصائم؛ من أجل ما يخف عليه من التطرف إلى الجماع والإنزال( ).
وعلى ذلك يمكن القول : إن المقصود بالتطرف عند العلماء:
القائل أو القول، أو الفعل المخالف للشريعة.

الفرع الثاني – الكلمات ذات الصلة:
أولا – الإرهاب:
الإرهاب لغــــة: التخويـــف ، قـــــال تعــــــالى : {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}( )، يعني: تخيفون به عدو الله و عدوكم( ).
ثانيا – التنطع:
التنطع: هو التكلف المؤدي إلى الخروج عن السنة( ).
والتنطع داء لا دواء له إلا بتركك إياه برمته( ).
ثالثا – الغلو:
لقد بين العلماء معنى الغلو في الدين، ومن ذلك ما قاله النووي: الغلو هو الزيادة على ما يطلب شرعا( ).
وقال ابن حجر: هو المبالغة في الشيء، والتشديد فيه بتجاوز الحد، وفيه معنى التعمق( ).
وقال المناوي: الغلو تجاوز الحد( ).
ولذا يمكن القول : إن الغلو تجاوز ما أمر الله – تعالى – من جهة التشديد.
رابعا – التعمق:
لقد سمى النبي –  – المتشددين في الدين بالمتعمقين، فقد روى البخاري في صحيحه عن أنس – رضي الله عنه – قال: واصل النبي –  – آخر الشهر، وواصل أناس من الناس، فبلغ النبي –  – فقال: ثم لو مد بي الشهر لواصلت وصالا يدع المتعمقون تعمقهم، إني لست مثلكم، إني أظل يطعمني ربي ويسقين"( ).
وفي مصنف عبدالرزاق عن ابن سيرين عن عبيدة قال: مر النبي –  –عليهم فلم يردوا عليه، أو قال: فلم يتكلموا، فسأل عنهم، فقيل: نذروا أو حلفوا ألا يتكلموا اليوم، فقال النبي –  –:"هلك المتعمقون"، يعني: المتنطعين( ).
قال صاحب عون المعبود: "هلك المتنطعون" أي: المتعمقون، الغالون، المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم، قاله النووي . قال الخطابي: المتنطع المتعمق في الشيء، المتكلف للبحث عنه على مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم( ).
خامسا – التشدد والتعنت والتحمس:
التشدد والتعنت والتحمس بمعنى واحد قال صاحب إعانة الطالبين: التعنت: أي التشدد( ). وقال ابن حجر: التحمس هو التشدد، قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: تحمس تشدد، ومنه حمس الوغى: إذا اشتد( ).

المطلب الثاني
حكم التطرف في الإسلام ومفاسده

الفرع الأول – حكم التطرف في الإسلام :
لقد ذمت الشريعة الإسلامية التطرف في الدين، فعن الأحنف بن قيس عن عبد الله قال: قال رسول الله  :"هلك المتنطعون". قالها ثلاثا"( ).
قال النووي: أي: المتعمقون، الغالون، المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم( ).
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:" إياكم والتبدع، وإياكم والتنطع، وإياكم والتعمق، وعليكم بالدين العتيق"( ).
قال ابن حجر: وفيه التحذير من الغلو في الديانة، والتنطع في العبادة، بالحمل على النفس فيما لم يأذن فيه الشرع، وقد وصف الشارع الشريعة بأنها سهلة سمحة( ).
وما أحسن قول ابن العماد في منظومته:
لم يجعل الله في ذا الدين من حرج لطفا وجودا على أحيا خليقتـــــه
وما التنطــــــع إلا نزغـــــة وردت من مكر إبليس فاحذر سوء فتنته
إن تستمع قوله فيمــا يوسوســــــه أو نصح رأي له ترجــــع بخيــــبته
القصد خير وخير الأمر أوسطـــــه دع التعمـــق واحذر داء نكبته( ).

الفرع الثاني – مفاسد الغلو والتطرف :
أولا – أنه بدعة في الدين:
لقد أمر النبي –  – بالاتباع، ونهى عن الابتداع، والغلو هو نوع من الابتداع في الدين.
عن العرباض – رضي الله عنه – قال: صلى بنا رسول الله –  – الصبح ذات يوم، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا، قال: "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبدا حبشيا مجدعا، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"( ).
قال ابن تيمية: " ففي هذا الحديث أمر المسلمين باتباع سنته، وسنة الخلفاء الراشدين، وبين أن المحدثات – التي هي البدع التي نهى عنها – ما خالف ذلك( ).

ثانيا – سبب لهلاك الأمم:
إن أحد أسباب هلاك الأمم الغلو في الدين، وقد حذر عنه الله – تعالى – في كتابه العزيز، حيث قال : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ}( ).
وروى ابن عباس أن رسول الله –  – قال غداة العقبة: القط لي حصا، فلقطت له سبع حصيات، هن حصى الخذف، فجعل يفيضهن في كفيه ، ويقول: " أمثال هؤلاء فارموا، ثم قال: أيها الناس ، إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين"( ).
ثالثاً – الغلو فيه مشابهة للنصارى:
إن من أسباب ضلال النصارى التنطع في الدين، فابتدعوا الرهبانية.
قال تعالى: { رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} ، قال ابن الجوزي: أي: جاؤوا بها من قبل أنفسهم، وهي: غلوهم في العبادة، وحمل المشاق على أنفسهم في الامتناع عن المطعم والمشرب والملبس والنكـــاح، والتعبد في الجبال، { مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} : أي: ما فرضناها عليهم( ).
رابعاً – أنه يناقض ما بنيت عليه الشريعة من السماحة:
لقد بين النبي –  – بأن هذا الدين بني على اليسر، وكان يقول لأصحابه حين يبعثهم : "يسروا ولا تعسروا " ووصف النبي –  – الرسالة التي بعث فيها بالحنيفية السمحاء ، حيث قال : "بعثت بالحنيفية السمحاء" . ووصف الله تعالى رسوله –  – : { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ }( ).
وقال  : " بعثت بالحنيفية السمحاء " . قال ابن تيمية: الحنيفية ضد الشرك، والسماحة ضد الحجر والتضييق . ( )
وقال –  – لعلي ومعاذ – رضي الله تعالى عنهما – حين وجههما إلى اليمن: " يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا"( ).
خامساً – أن فيه مشقة على النفس:
قال :" إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فاستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة، والقصد القصد، تبلغوا"( ).
قال ابن حجر:"وقوله: "أوغلوا" بكسر المعجمة، من الوغول، وهو الدخول في الشيء، قوله:" واغدوا وروحوا وشيئا من الدلجة"، في رواية الطيالسي عن ابن أبي ذئب وخطا من الدلجة، والمراد بالغدو: السير من أول النهار، وبالرواح السير من أول النصف الثاني من النهار.
والدلجة بضم المهملة، وسكون اللام، ويجوز فتحها، وبعد اللام جيم: سير الليل، يقال: سار دلجة من الليل، أي: ساعة، فلذلك قال: "شيء من الدلجة" لعسر سير جميع الليل، فكأن فيه إشارة إلى صيام جميع النهار، وقيام بعض الليل، وإلى أعم من ذلك من سائر أوجه العبادة، وفيه إشارة إلى الحث على الرفق في العبادة. قوله: "والقصد القصد": بالنصب، على الإغراء، أي: الزموا الطريق الوسط المعتدل"( ).
قال ابن تيمية : إن المشروع المأمور به الذي يحبه الله ورسوله ، هو الاقتصاد في العبادة، كما قال النبي : " عليكم هديا قاصدا، عليكم هديا قاصدا"( ). وقال: " إن هذا الدين متين، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فاستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة، والقصد القصد، تبلغوا"، وكلاهما في الصحيح. وقال أبي بن كعب: اقتصاد في سنة، خير من اجتهاد في بدعة . فمتى كانت العبادة توجب له ضررا يمنعه عن فعل واجب انفع له منها، مثل أن يصوم صوما يضعفه عن الكسب الواجب أو يمنعه عن العقل أو الفهم الواجب أو يمنعه عن الجهاد الواجب . وكذلك إذا كانت توقعه في فعل محرم لا يقاوم مفسدته مصلحتها مثل أن يخرج ماله كله ثم يستشرف إلى أموال الناس ويسألهم.
سادساً – أن في ذلك التنفير من الدين:
قال رسول الله :" إن منكم منفرين".

سابعاً – أنه سبب للخروج عن الدين:
إن الغلو في الدين أحد أسباب الخروج عنه، فعن أبي سعيد الخدري قال: ثم بعث علي – رضي الله عنه – وهو باليمن بذهبـــة في تربتهـــا إلى رسول الله –  – فقسمها رسول الله –  – بين أربعة نفر: الأقرع بن حابس الحنظلي، وعيينة بن بدر الفزاري، وعلقمة بن علاثة العامري، ثم أحد بني كلاب، وزيد الخير الطائي ثم أحد بني نبهان، قال: فغضبت قريش، فقالوا: أيعطي صناديد نجد، ويدعنا . فقال رسول الله –  – :" إني إنما فعلت ذلك لأتألفهم" . فجاء رجل كث اللحية، مشرف الوجنتين، غائر العينين، ناتئ الجبين، محلوق الرأس، فقال: اتق الله يا محمد . قال: فقال رسول الله –  – " فمن يطع الله إن عصيته، أيأمنني على أهل الأرض، ولا تأمنوني" . قال: ثم أدبر الرجل، فاستأذن رجل من القوم يرون أنه خالد بن الوليد، فقال رسول الله : "إن من ضئضيء هذا قوما، يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد"( ).

المطلب الثالث
صفات أهل التطرف

هناك صفات تميز بها المتنطعون، ويمكن ذكر بعضها، وذلك كما يأتي :
أولا – حداثة السن :
لقد وصفهم رسول الله –  – بقوله: "يخرج قوم في آخر الزمان، أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتهم فاقتلهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة"( ).
مرق السهم من الرمية مروقا من باب قعد : نفذ من الجانب الآخر، والرمية ما يرمى من الحيوان ذكرا كان أو أنثى( ).
فعن قبيصة بن جابر قال ابتدرت أنا وصاحب لي ظبيا في العقبة فأصبته ، فأتيت عمر بن الخطاب فذكرت ذلك له، فأقبل على رجل إلى جنبه، فنظرا في ذلك، قال: فقال: اذبح كبشا، قال يعقوب في حديثه: فقال لي: اذبح شاة فانصرفت فأتيت صاحبي، فقلت: إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول، فقال صاحبي: انحر ناقتك، فسمعها عمر بن الخطاب، فأقبل علي ضربا بالدرة، وقال: تقتل الصيد وأنت محرم وتغمص الفتيا، إن الله – تعالى – يقول في كتابه: { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} هذا ابن عوف وأنا عمر( ).
وفي رواية عن قبيصة بن جابر قال: خرجنا حجاجا، فكنا إذا صلينا الغداة اقتدرنا رواحلنا نتماشى نتحدث، قال: فبينما نحن ذات غداة إذ سنح لنا ظبي أو برح فرماه رجل منا بحجر، فما أخطأ خششاءه، فركب ردعه ميتا، قال: فعظمنا عليه، فلما قدمنا مكة، خرجت معه حتى أتينا عمر، فقص عليه القصة، قال: وإذا إلى جنبه رجل، كأن وجهه قلب فضة، يعني عبد الرحمن بن عوف، فالتفت إلى صاحبه فكلمه، قال: ثم أقبل علي الرجل، قال: أعمدا قتلته أم خطأ؟ قال: الرجل لقد تعمدت رميه، وما أردت قتله، فقال عمر: ما أراك إلا قد أشركت بين العمد والخطأ، اعمد إلى شاة فاذبحها، وتصدق بلحمها، وأسق إهابها، قال: فقمنا من عنده، فقلت: أيها الرجل ، عظم شعائر الله، فما درى أمير المؤمنين ما يفتيك، حتى سأل صاحبه، اعمد إلى ناقتك فانحرها، ففعل ذاك، قال قبيصة: ولا أذكر الآية من سورة المائدة: { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} . قال: فبلغ عمر مقالتي، فلم يفجأنا إلا ومعه الدرة، قال: فعلا صاحبي ضربا بالدرة، وجعل يقول: أقتلت في الحرم وسفهت الحكم، قال: ثم أقبل علي، فقلت: يا أمير المؤمنين، لا أحل لك اليوم شيئا يحرم عليك مني، قال: يا قبيصة بن جابر، إني أراك شاب السن، فسيح الصدر، بين اللسان، وإن الشاب يكون فيه تسعة أخلاق حسنة، وخلق سيئ، فيفسد الخلق السيئ الأخلاق الحسنة، فإياك وعثرات الشباب( ).

ثانيا – إعجابهم بأنفسهم:
روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: قال النبي  : "سيكون في أمتي اختلاف وفرقة، وسيأتي قوم يعجبونكم، أو تعجبهم أنفسهم، يدعون إلى الله، وليسوا من الله في شيء، يحسبون أنهم على شيء، وليسوا على شيء، فإذا خرجوا عليكم، فاقتلوهم، الذي يقتلهم أولى بالله منهم"، قالوا: وما سمتهم؟ قال: "الحلق"( ).
وعن عمر أنه قال: إن أخوف ما أخاف عليكم إعجاب المرء برأيه، فمن قال: إنه مؤمن، فهو كافر، ومن قال: هو عالم، فهو جاهل، ومن قال: هو في الجنة، فهو في النار( ).

ثالثا – الطعن في العلماء:
من صفات هؤلاء الجرأة على العلماء، والطعن في نواياهم، واتهامهم بالمداهنة للحاكم، فلا يعتدون بقول عالم من غير القرون الثلاثة المفضلة ، أو من الأحياء الثقاة، وإنما يعدونهم في ضلالة، وبعضهم يكفرهم.

رابعا – تقديم العقل على النقل:
عن أبي سعيد قال: بينما رسول الله –  – يقسم قسما، إذ جاءه ابن ذي الخويصرة التميمي، فقال: اعدل يا رسول الله، فقال : ويلك، ومن يعدل إن لم أعدل.
فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، ائذن لي فأضرب عنقه.
قال: دعه، فإن له أصحابا، يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فينظر في قذذه، فلا ينظر شيئا، ثم ينظر في نصله، فلا يجد شيئا، ثم ينظر في رصافه، فلا يجد شيئا، قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود، إحدى يديه، أو قال: يداه ، مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة، تدردر، يخرجون على حين فترة من الناس( )، قال: فنزلت: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ}( ).

رابعا – الاجتهاد في الطاعة:
ليس الاجتهاد في الطاعة دليلاً على المتابعة الكاملة للرسول الكريم ، بل قد وصف النبي –  – الخوارج بقوله: "تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم"( )؛ لأنهم كانوا يصومون النهار ويقومون الليل.
وتحقرون: بكسر القاف، أي: تستقلون صلاتكم.

خامسا – التعدي على ولي الأمر:
قال ابن حجر: وهذه صفة الخوارج الذين كانوا لا يطيعون الخلفاء( ).

سادسا – ظهورهم يزداد في حالة رخاء الدولة:
يزداد التطرف في زمن رخاء المسلمين، ويظهر ذلك جليا في جريمة قتل عثمان رضي الله عنه . قال النفراوي: إنه لما حسنت في أيامه الفتوحات، كالإسكندرية، وإفريقية، وفارس، وسواحل الروم، وغير ذلك، وعمرت المدينة وصارت قبة الإسلام، وكثرت فيها الخيرات والأموال، بطرت الرعية بكثرة الأموال والخير والنعم، وفتحوا أقاليم الدنيا، واطمأنوا وتفرغ الوشاة ينقمون على خليفتهم عثمان – رضي الله عنه – بأنه صار منذو ولي الشأن العظام، وحتى صار له ألف مملوك، ويعطي الأموال لأقاربه، ويوليهم الولايات الجليلة، فتكلموا فيه إلى أن قالوا: هذا ما يصلح للخلافة، وهموا بعزله، وصاروا لمحاصرته فحاصروه في داره أياما، وكانوا أهل جفاء، ووثب عليه ثلاثون، فذبحوه والمصحف بين يديه، وهو شيخ كبير.
وفي رواية : وفتحوا عليه داره والمصحف بين يديه، فأخذ محمد بن أبي بكر بلحيته، فقال له عثمان: أرسل لحيتي يا ابن أخي، فوالله لو رأى أبوك مقامك هذا لساءه ، فأرسل لحيته، وولى، وضربه تبار بن عياض وسودان بن حمران بسيفيهما، فنضح الدم على قوله: { فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}( )، وجلس عمر بن الحمق على صدره وضربه حتى مات، ووطئ عمر بن ضابئ على بطنه فكسر له ضلعين من أضلاعه، وقتل ـ رضي الله عنه ـ وهو ابن ثمانين سنة( ).

المطلب الرابع
سبل عــلاج التطرف

إن التطرف مرض من الأمراض الفكرية، يمكن للمسلمين معالجته من خلال ما يأتي:
أولا – إزالة أسباب الظلم في المجتمعات، فقد يؤدي تطرف الحاكم في جوره إلى تطرف المحكوم في تكفيره.
ثانيا – نشر العلم بين الناس عموما، وأحداث الأسنان خصوصا، من خلال المقررات في المدارس، والجامعات الإسلامية، والمحاضرات العامة.
ثالثا – ربط شباب الأمة بعلمائها الموثوقين، من خلال عقد اللقاءات المفتوحة معهم، وسهولة الوصول إليهم.
رابعا – التضييق على أهل التطرف، وعدم تمكينهم من نشر مذهبهم.
خامسا – فتح أبواب الحوار معهم.
ويشترط في ذلك عدة أمور:
1 - أن يكون في محلهم، وليس أمام عامة المسلمين، حتى لا يتأثر العامة بشبههم.
2 - أن يكون المحاور لهم عالما بالدين.
3 - أن يكون مقبولا لديهم.
4 - أن يجادلهم بالتي هي أحسن.
كما فعل ابن عباس – رضي الله عنهما – مع الخوارج.
وذلك أن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: لما خرجت الحرورية، اعتزلوا في دار، وكانوا ستة آلاف، فقلت لعلي: يا أمير المؤمنين، أبرد بالصلاة، لعلي أكلم هؤلاء القوم، قال: إني أخافهم عليك، قلت: كلا، قال: فخرجت إليهم، ولبست أحسن ما يكون من حلل اليمن، ومضيت إليهم، حتى دخلت عليهم في دار وهم مجتمعون فيها، فقالوا: مرحبا بك يا ابن عباس، فما هذه الحلـــة ؟ قلت : ما تعيبون علي ، لقد رأيت على رسول الله –  – أحسن ما يكون من الحلل، وقرأت: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ}( ).
فقالوا: ما جاء بك ؟ قلت: أتيتكم من عند أصحاب النبي –  – المهاجرين والأنصار، من عند ابن عم النبي –  – وصهره، وعليهم نزل القرآن، وهم أعرف بتأويله منكم ، جئت لأبلغكم ما يقولون وأبلغهم ما تقولون، فانتحى لي نفر منهم، قلت: هاتوا ما نقمتم على أصحاب رسول الله – – وابن عمه، وختنه، وأول من آمن به.
قالوا: ثلاث، قلت: ما هي؟ قالوا: إحداهن أنه حكم الرجال في دين الله، وقد قال تعالى: { إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ}( )، قلت: هذه واحدة، قالوا: وأما الثانية، فإنه قاتل ولم يسب، ولم يغنم، فإن كانوا كفارا فقد حلت لنا نساؤهم وأموالهم، وإن كانوا مؤمنين فقد حرمت علينا دماؤهم . قلت: هذه أخرى . قالوا: وأما الثالثة فإنه محا نفسه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين فإنه يكون أمير الكافرين، قلت هل عندكم غير هذا ؟ قالوا: حسبنا هذا.
قلت لهم: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله، وحدثتكم من سنة نبيه –  – ما يرد قولكم هذا، ترجعون؟ قالوا: اللهم نعم . قلت: أما قولكم إنه حكم الرجال في دين الله، فأنا أقرأ عليكم أن قد صير الله حكمه إلى الرجال في أرنب، ثمنها ربع درهم، قال تعالى: { لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ }( )، وقال في المرأة وزوجها: { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا}( )، أنشدكم الله، أحكم الرجال في حقن دمائهم وأنفسهم، وإصلاح ذات بينهم أحق، أم في أرنب ثمنها ربع درهم ؟ قالوا: اللهم بل في حقن دمائهم، وإصلاح ذات بينهم . قلت: أخرجت من هذه ؟ قالوا: اللهم نعم، قلت: وأما قولكم: إنه قاتل ولم يسب ولم يغنم، أتسبون أمكم عائشة، فتستحلون منها ما تستحلون من غيرها، وهي أمكم، لئن فعلتم لقد كفرتم، فإن قلتم: ليست أمنا، فقد كفرتم، قال الله تعالى: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}( )، فأنتم بين ضلالتين، فأتوا منهما بمخرج، أخرجت من هذه الأخرى ؟ قالوا: اللهم نعم، قلت: وأما قولكم: إنه محا نفسه من أمير المؤمنين، فإن رسول الله –  – دعا قريشا يوم الحديبية على أن يكتب بينه وبينهم كتابا، فقال: اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقالوا: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني . يا علي ، اكتب محمد بن عبد الله، فرسول الله –  – خير من علي، وقد محا نفسه، ولم يكن محوه ذلك محوا من النبوة، أخرجت من هذه الأخرى ؟ قالوا: اللهم نعم.
فرجع منهم ألفان ، وبقي سائرهم ، فقتلوا على ضلالتهم ، قتلهم المهاجرون والأنصار( ).
وقد عاملهم علي – رضي الله عنه – بأربعة أمور:
أولا: الحوار معهم لردهم إلى الحق.
ثانيا: مقاتلة من قاتل منهم.
ثالثا: اليقظة والحذر منهم.
رابعا: الترك لهم ما لم يظهروا بدعتهم.

خاتمـة البحـث :
توصلت من خلال هذا البحث إلى العديد من النتائج، أهمها ما يأتي :
 التطرف يشمل كل رأي مخالف للشرع.
 يخالف التطرف أصل الشرعة المبنية على التيسر والسماحة.
 حذر سلف الأمة من التطرف لخطورته على المسلمين.
 يزداد التطرف في حالة رخاء الدولة.
 الحوار أحد أساليب القضاء على التطرف.
 نشر العلم الشرعي المبني على الكتاب والسنة يحد من انتشار التطرف.
 نشر العلم الشرعي أحد أسباب القضاء على ظاهرة التطرف في المجتمع المسلم.
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك