الإنسان والروح والتاريخ
الدكـتور نـبيـل طعمة
حوارية بحثية استراتيجية، أنشأها الإنسان من تلك اللحظة التي شعر أنه يحمل مسؤوليتها، ليجعل منها هدفاً متحركاً أمامه، لا يصل إليه عبر كامل حقبه الحياتية- بمعنى أدق- إنه عرف بمروره اللحظي، فصنع له ماضياً بعد أن كان قد أنجز بدءاً، أي: نقطة الانطلاق الأولى، مخفياً بذلك ماضيه أو ما وراءه، وعاش في حاضره، وترك للمستقبل القادم منه بعده لغة استمراره، فكان أن أوجد لذاته المتحررة والمنعتقة إصراراً بإقامة علاقة مهمّة بينه وبين المحيط البصري، أوجدت للحياة الكونية معنى ومفهوماً ومصطلحاً، أي إن التداخل الإبداعي الحاصل بينهما ما كان ليكون لولا تسجيل الأول لرحلة سعيه بغية إثبات وجوده، وحفظ الثاني الذي أوجده الأول كطرف حقيقي ضمن معادلته التي حملها، منجباً من خلالها استمرار وجوده وحضوره. للأسف، إن الإنسان ذاته عاد وتمرّد على ذاته، وقسّم التاريخ مشوِّهاً أحياناً كثيرة حضوره من خلال ما ابتدعه وعنونه بأنه التأريخ، وفي ذات الوقت كمنت عظمة هذا الإنسان في امتلاكه لماهية العلوم دفعة واحدة أي إن ظهوره كان كاملاً، وأيضاً لم يكن همجياً أو وحشياً أو غابياً أو كهفياً أو قرداً؛ إنما وعبر كافة عصور الحياة كان اسمه إنساناً، واستحق لقب أعظم ما في الوجود الحيِّ من كائنات، وكذلك تجلّت عظمته في أنه أنجز في تاريخ وجوده الذي أرّخه منذ بدء حركته وظهوره على وجه الحياة أعظم إنجازاته؛ بدءاً من المقدس بكامل أبعاده الثقافية إضافة للروحي، الروحي الذي كانت غايته المثلى متجلّية في ضبط جوهر الإنسان، وبشكل خاص النوع العام منه؛ المتمثل في الكثرة بعد أن تذوّق كامل ملذات الحياة وجمالياتها، وبكونه فهم معنى الخاصة، وانتقل لخاصة الخاصة، خاف من الكثرة ليضع لها قوانين المحرّم والمقدّس والمسموح والممنوع، وكذلك الفكر العلمي، وأسّس لمناهج الإبداع ومدارسه: الفنية والتقنية العلمية والأدبية والفلسفية، كما أنه أوجد قواعد للخلاف والاختلاف واللغات واللهجات، ومايز بين الألوان، واخترع الأسماء التي لم تفارق حامليها - سواء الأحياء منها أم النباتات أم الجمادات - من ذلك الوقت الموغل في القدم وإلى الحاضر انتقالاً إلى المستقبل. وحينما نتدارس معاً ماضيه وعبر لغاته العالمية التي ابتدعها من علم اللسانيات؛ نجد مرافقته لحقبها فمثلاً: إنسان العصر الجليدي، وإنسان العصر الحجري، وإنسان العصر الحديدي، وكذلك إنسان العصر البرونزي والذهبي والفضائي. فمن هو هذا الإنسان وما هي علاقته بالتاريخ؟ ولماذا علينا أن نفرِّق بينه وبين التأريخ؟. وبالوقوف أولاً عند مفهوم ومعنى وفلسفة ومغزى وجود الإنسان، وبعيداً عن مفاهيم الفلاسفة الذين عرّفوه أو حاولوا تعريفه؛ أجدُ من الضروري الدخول إليه، وتقديم لغة جديدة حوله نبتعد بها عن التعريفات القائلة إنه: كائن اجتماعي، أو إنه النفس العاقلة، أو الحيوان الناطق، أو النفس المجردة، أو ثنائية النفس والجسد، أو كائن الرغبة، أو كائن الإرادة، أو إن وجوده سبق ماهيته.. هنا أضيف مبتعداً عن تلك التعريفات: بأن الإنسان كائنٌ روحيّ، ظهر مع ظهور الحياة الحيّة، أي مع الطبيعة: نباتها وحيوانها وجمادها، وبدقة أكثر يتكوّن الإنسان من مجموع الخلايا الحيّة لأن الكون حيّ والخلايا تتجدد، أي: أنّ لها عمراً ينتهي بانتهاء الحياة، فإذا كان الكلّي هو الكون؛ فالإنسان نسبة ضئيلة منه تعادل الذرة، تتجدّد بالاستمرار النطافية، أي: إن الإنسان كائن ترابي يبدأ منه وينتهي إليه، وبينهما ظهر على شكل رسالة عليه تأديتها، فمنه الشكل الاجتماعي، والاجتماعي متنوع بين الخير والشر، ومنه الاقتصادي الغني والقنوع والبسيط، ومنه السياسي القوي والسهل الممتنع، ومنه الديني المحبّب والمقبول والمرفوض، ومنه العسكري الشرس والقائد الشجاع، أما بالنسبة للتاريخ، فهو سلالة إنسانية أبدعها عقل الإنسان ليسجِّل مسيره، وما يجري في محيطه على جدار الزمن اللامتناهي الأبعاد، فتحوّل ما حدث معه إلى ماضٍ، وما يحياه الحاضر، وما سيأتيه المستقبل، فكان تسجيلاً لحضور الإنسان وما جرى من سياق طبيعي لأحداثه، كما أنجز الإنسان التأريخ الذي يعني كتابة الأحداث، والمسيرة الإنسانية بشكل فردي، وبصورة من صور الأنا، أي: إن التأريخ يكتبه الأقوياء، والتاريخ يدونه العلماء والحكماء.
لذلك تراني أدعو العقل لخوض غمار حقيقة الحياة الكونية التي لم يحدّها بدءٌ، ولم يُعرف زمن نشأتها؛ إنما الذكاء الإنساني الخارق هو الذي أوجد لها بداية من حاجته للحظة بدء في كل ما يريد فعله، أو إنجازه أو المسير إليه. بهذه الكلمات البسيطة أدعوكم لتأسيس منهجٍ للتفكّر العميق والعودة للتأمل العلمي والروحي في آن، والبحث في القضايا الكونية لعلاقة الإنسان بمحيطه الموغل في القدم والقديم والحديث والمستحدث، وفي ذات الوقت نفتح ملفات ما يلقى إلينا من علوم نظرية سادت الفكر الإنساني ضمن مرحلة نشوئه الافتراضية، وأيضاً دعونا نناقش نظرية النشوء الكوني العلمية المتجسدة في حادثة الانفجار الكوني العظيم، وأيضاً ندخل على فهم المقدس القادم من أسفار التوراة وإصحاحات الإنجيل والفتق والرتق في القرآن، وكذلك نناقش بوذا وتعاليم كونفوشيوس ونتحاور مع زرادشت، تعالوا إلى مائدة الفكر لنتبادل المعرفة الساكنة في عقولنا، ونسأل عن مدى تقبّلنا لتلك النظريات التي نُخضعها أولاً وأخيراً للتفكير العلمي والتحليل التاريخي لا التأريخي؛ من خلال الإيمان بالعلم المتجول ضمن تلافيف العقل الإنساني، يبحث عن توافقه كي يظهر إبداعه، ومحققاً للكلّي رؤاه في خلافته التي تثبت وحدة الوجود القائمة حصراً بين الإنسان ومكونه الكلّي. فالإنسان يأكل كلّ شيء: النبات والحيوان والجماد ولا يأكل جنسه، وبنى مجداً لا مادياً لمكونه الذي يؤدّي إلى فهم جوهر الأشياء، والدخول إلى عمقها، والإيغال فيها من أجل فهم أسرار الروح وماهيتها؛ التي يسأل عنها جميع الإنسان ليل نهار، وطيلة رحلة عيشه، والتي تتحرك في داخل الأشياء الحيّة أي: ضمن الجوهر الذي يمنحنا فرصة تكوين سؤال جدّ مهم، وهو الروح وعلمها من أمرِ المكوِّن الكلّي، وهل هو هي، أي: الروح في كلّيتها الموزعة على الأحياء من خلال "فنفخنا فيه من روحنا" أيْ كلّ حيّ ضمنه جزء منه، وأقصد الإله الواحد. ما معنى معادلة الماء والتراب؟ أليس الإنسان نتاج معادلتها، هل تفكَّر أيٌّ من الإنسان في بذرة النبات وتعدّد أنواعها، كيف هي تُزرع في التراب وتسقى بالماء فتُنتِج الألوان واختلاف الثمار باختلاف البذور؟، لندقق من أجل العلم أن الإنسان مادة ترابية ممزوج بالماء (من طين)، وهذا ما أخبرنا به المقدّس، ودليلنا أنه حين فنائه نراه تراباً أي يعود إليه وتشكيله يشبه الكوكب الحيّ من حيث التركيب70% ماء 30% مادة مكونة من لحم وعظم.
إذاً ما هو سرّ الروح؟ لقد حاول العلماء مراقبتها إذ أحضروا إنساناً سليماً معافىً خالياً من الأمراض، وهو محكومٌ بالإعدام، وأجروا عليه تجربة، وقاموا بوزنه بدقّة لا متناهية ووضعوه في صندوق زجاجي، وقاموا بعملية إفراغ الصندوق من الهواء وحقنوه بالمادة القاتلة بعد احتساب وزنها وأضيف إلى وزن هذا الإنسان، حيث أعدم بها وتوقف كل شيء فيه، أي أنه انتهى من الحياة، راقبوا قليلاً لم يخرج منه شيء، أعادوا وزنه فوجدوه بالدقة ذاتها بالنسبة لوزنه، فما الذي نقص ولم ينقص شيء، فما هي حالة الروح هنا؟ أي إنه لم ينقص منه سوى روحه التي وبأدق المجاهر والكاميرات لم يستطع أيُّ عالم حتى اللحظة أن يدركها، فهل هي النفخة منه؟ أيضاً هل استطعنا وزن خليّة حيّة تعيش ضمن الهواء الطلق؟ أوصلنا إلى جوهر الروح، وأيضاً هل سنتمكن من وزنها أو قياسها أو معايرتها عبر الحصول على عيِّنه منها؟ وفي العود إلى البنى الحيّة (إنسان. نبات. حيوان. جماد) أليست جميعها مركبة من خلايا حيّة؟ كيف تقف الروح عن العمل في الكائنات الحيّة، وكيف تعمل أيضاً؟ ولحظة حاول العلماء إنتاج جنين.. حينها هيؤوا رحماً صناعياً دقيقاً مودعين فيه بيضة ملقحة، راقبوا عملية تعشيشها على جداره الداخلي معتبرين نجاح العملية الأولية، وربطوا ذلك بحبل سرّي زُوِّد بذات المادة اللبنية القادمة من الأم الحامل لتغذيته، كما هو تماماً في رحم الأنثى بانتظام، وفي اعتقادهم أنهم نجحوا من خلال أجهزة الفحص التي أنبأت عن كبر حجم الزراعة وارتجاجها في الرحم، وبعد تسعة أشهر كُشف عليه وإذا بكتلة مخاطيّة نتنة كريهة تظهر.. ما هو سرّ هذه العملية التي فشلت؟ لكن المحاولات مستمرّة تراقب ولادته وانتهاء الإنسان وعودته إلى تراب، حيث تنمو فيه النباتات والأشجار وتظهر منه الثمار ويتناوله الإنسان والحيوان! ماذا يعني لنا ذلك؟ هل تنتقل الجينات محدثة الاستمرار الفكري والعلمي والروحي؟ ولماذا الإنسان طبقات: عامة وخاصة وخاصة الخاصة، هل الكلّي هو المجموع الذرّي للحياة الكونية الحاملة للخلايا، تدور بها النيترونات والبروتونات والإلكترونات التي لا تفنى أبد الدهر، تحيا في الفراغ الكوني على شكل مجموع وتدخل في الأحياء، نِسَب منها هي التي تدخل وتخرج أي تبقى حيّة أبد الدهر، فتكون بذلك أشكال الروح أو أساساً مؤسساً لها، والإنسان المتشكل منها والحامل لها، حيث تمنحه قوة الحيوية والنشاط كما تمنح النبات والحيوان.
اختصّ الإنسان بالعقل فأبدع حينما نبت من الكوكب الحيّ أسماء للمكون الكلّي الأزلي السرمدي، وفي الحقيقة امتلك سرّ الكون فكان روحَ كامل الأجناس، أطلق عليه بالعربية الله وبالإنكليزية ( God- lord ) وبالفرنسية (dieu ) وبالإيطالية (Dio ) وبالروسية (бог ) وبالهندية (rama ) بالفرعونية (amon ) وبلغة الأنكا ( apa ) وبالفينيقية ( baal ) وبالكنعانية (aton ) وبالعبرية ( jhvh ) وبالفارسية ( خدا ) وكلّ أسماه بحسب لغته النابعة من جغرافيته المكون الأول لظهوره عليها، أي احتاجه الإنسان في الجوهر، فهم ذلك أن الكلي يسكن كلّ حي من باب "بناء الماديات" فالإنسان الذي يبني منزلاً لا تظهر الحياة فيه إلا إذا دخله الإنسان، وكذلك البناء الإنساني الحاوي على قيمة أو نسبة أو جزء من الكلّي الذي نطلق عليه (الإله)، وحينما نمسك بالجوهر يسهل جداً فهْم المظهر، وهل يحقّ لنا استعراضها وتقليبها ومحاكمتها، ومن ثم تثبيت الصح ودحض المختلق، فنؤسس معاً للغة واقعية تقبل الإضاءة، وتحيا تحت نورها من أجل الأجيال القادمة، وأجيالنا أيضاً التي فقدت الكثير من فهْم بريق تاريخها، وتقلّب تأريخها أمام الضخ الهائل لتكنولوجيا الاستهلاك، وكل ذلك يجري العمل عليه من أجل إلهاء الفكر، وإشغاله باللحظة وإبعاده عمّا يجري ويحاك وما حيك له في الماضي وإلى ما سيأتي من المستقبل، فكيف نفكر إن لم نمتلك المعلومة الدقيقة عن الماضي، وماهي طرق الوصول إلى المستقبل، وكم ستحيا الأجيال فيه حتى تعود إلى نقطة البدء؟.
إن حدوث النهاية لكل دورة حياتية في العالم التاريخي المثبت يقع ضمن حالات ست:
1. ذوبان المتجمّد الشمالي أو الجنوبي أو كليهما؛ ما يسود العالم حالة فيضانية طارئة تهطل فيها كمية من الأمطار تصل إلى 10مم في الدقيقة، وهو ما ذكر في تفسير علم المقدس الرمزي لا الروحي، (ولحظة أن انفتحت طاقات السماء) مما يؤدي لحدوث الطوفان العظيم الشامل ليخفي حضارات وأمماً ودولاً ومدناً ويُظهر أخرى، بعد أن يقلب الثوابت ويحيل الماء إلى أماكن غير أماكنه، كما حصل في السابق الذي أخفاه التأريخ بعد أن أغفل التاريخ.
2. حدوث ثقب في طبقات الأوزويوسفير نتاج انبعاث الغازات الكربونية أو الفريونات، ودخول الأشعة الكونية التي تمتصّ الأوكسجين وتنجب الحرائق الهائلة وانتهاء الجاذبية، فالغلاف الجوي هو الذي يشكل القشرة الحامية للحياة على كوكبنا.
3. أن يصطدم نيزك كبير يُحدث ارتجاجات هائلة تشكل زلازل لا تبقي ولا تذر تعيد تشكيل الحياة من جديد، محدثاً بُنى جغرافيّة جديدة تقلب الظاهر وتظهر الباطن.
4. أن تتفجر الطاقة النووية المخزّنة ضمن الأسلحة النووية وهي قادرة على تفتيت الأرض الحية عدة مرات، وربما تعدّل في الجين الوراثي للأجناس الحية.
5. أن يفقد العالم غذاءه وماءه حيث الحروب القادمة سيكون من أهمّ أسبابها الصراع على الماء والغذاء.
6. وهو الأهم: وصول الدورة الحياتية إلى تسعة آلاف سنة وعدد السكان إلى تسعة مليارات مما يخضع الحياة الإنسانية لنظرية العدد ( 0- 9) والتي كنت قد شرحتها في بحثي "الدورة الحياتية" ضمن فلسفة التكوين الفكري الجزء السادس، حيث ترتبط بعملية الولادة القائمة من تسعة أشهر للجنين الإنساني والتكوين المنجز من علم العدد (7) ولحظة وصول العدد إلى (10) يعني أنه متشكِّل من الصفر والواحد، حيث يعود الإنسان إلى نقطة الصفر ليبدأ في دورة حياتية جديدة تنطلق من الكهوف التي هرب إليها، وهو بأحسن حال منتظراً سكون الاضطراب، وحين خروجه منها يبدو وكأنه بدائي أو متوحش، نظراً لفقدان شكله المتحضِّر نتاج خوفه، وفي تلك الأمكنة رسمَ على جدرانها الأشكال التي تنبئ عن الحالة التي كان عليها، ولم يتسنَّ له امتلاك الأدوات أثناء دخوله، وبما أنه امتلك فكراً نوعياً علمياً وفلسفياً وروحياً فقد صنع من الأحجار أدوات تخدم حياته كأدوات الصيد، إلى أن اكتشف الحديد وكذلك فعل، وأضاف بعده النحاس والبرونز، والفضاء يستكشفه الآن بحثاً عن الماء والمعادن، وأيضاً من أجل هروبه من كوكبه الحي الذي بدأ يموت؛ علَّه إن لم يجد طرقاً لإعادته إلى الحياة أن يكتشف كوكباً حياً آخر يهبط عليه، مستذكراً حينها أنه كان في الجنة وهبط إلى أرض كوكب آخر حياً.
إذاً، لنتفق أن الكائن الحي المسمّى إنساناً احتاج للحظة بدء فاخترع بدءاً أسماه ما أسماه، من منطلق "أن أيّ فعل مهما كان صغيراً أو كبيراً يحتاج إلى نقطة انطلاق" فلا يمكن أن يكون لأيِّ شيء لا بداية؛ بل الضرورة والحتمية والصيرورة تتحدث عن الحاجة إلى تلك اللحظة التي ندعوها الصفر الذي انطلق منه، وطبيعي أن يرافق تلك الانطلاقة الزمن بحكم وجوده كرقيب يسجِّل ما ندعوهما (الفعل والزمن) بالتاريخ، من باب "حدث هذا هنا وجرى ذاك هناك"، ماذا يعني لنا توافر كمّ هائل من الأسئلة حول نشأة الكون ونظريات وجود الإنسان؟، وهذا ما يخصّنا منه وهو الباحث والمدوّن عن مفاهيم: الأرض والقمر والشمس، ثلاثي الحياة الكونية، ومن باب أن الشمس صاحبة الإشراق الأزلي أي التوهج الذي لا يخمد، والقمر المنار بفعل ضوء الشمس أيضاً كي ينير الحياة على كوكبنا الحي، ومنه وُلد فضل وجود الليل والنهار والأرض بما تحتويه من حياة أجناسها، بسبب وجود الماء المتوفر عليها وضمنها الذي أعطاها لقب الكوكب الحيِّ، طبعاً الكل يدور بالنسبة والتناسب والنظام والانتظام دون كلل، وتحت ما يسمى الثوابت الأزلية، وإلاّ لما كانت هناك حياة، ولم نكن لنعرف عنها شيئاً، والفضل في كلِّ ذلك للإنسان صاحب العقل المتأمّل والمتفكر منجز أفكار التاريخ والتأريخ، إنه بدون الإنسان لا معرفة لا تدوين لا تاريخ، ولذلك كان الإنسان مصدر كلِّ شيء على الأرض الحيّة التي وفّرت له عناصر حياته، فبدأ عليها رحلة البحث عنها، عملاً بأنه إنسان وَلَّد حوله استفسارات عدة، فبكونه بالصورة والهيئة والمحتوى محكوماً إلى العقل، تلك الصورة التي هو عليها لم تتبدل عبر مسيرة حياته التي اشتغل بها على أرضه، بناها ودمّرها بعد أن بنته وشكّلته، حاول ويحاول دائماً وأبداً التمسّك بها، رغم صغر مساحة عبوره عليها، ومسافة عمره المقدرة، إلاّ أن طبائعه الأربعة لم تتغير.
لقد نسج بدقة أفكاراً عنها: بعضها رائع وإبداعي، وبعضها خيالي وتخيّلي وغرائبي، فلم يكن يوماً متوحشاً ولا بدائياً ولا قرداً، فمن وصفهم هو ذات الإنسان من ذات الجنس المستمر منذ أعمق أعماق وجوده الموغل في القدم؛ والذي تصلنا أخباره عبر بقاياه المستمرة، وحتى اللحظة لازال الإنسان يتبادل وصف بعضه بالمتوحش والبدائي والهمجي والمتخلف، على الرغم من امتلاكه لكافة عناصر التحضّر والحضارة، كما أنه ينعت بعضه بصفات موجودة في محيطه: كالقرد والكلب والخنزير وما شابه ذلك.
قد يسأل البعض: لِمَ نخوض في هذا الغمار، أي البحث في الحياة الإنسانية المرتبطة بحياة الأرض والمحيط الكوني؟ وللكل الحق في تكوين الأسئلة حول هذا المبحث، إنني أفصل بين التاريخ والتأريخ، من باب تلك الممارسات التي اختصّ بها البعض من الإنسان، حيث شوّهوا التاريخ وأساؤوا كثيراً للصورة الإنسانية التي أوجدت ذاتها أولاً واخترعت لها بداية، كما أنهم أخفوا الكثير من الحقائق المثيرة للدهشة، وأيضاً ما جرى للحقب الإنسانية التي مرّت في دورات حياتية متعددة ينبئنا عنها ذلك الثراء الإنساني الكبير المنسيّ والمغيَّب عن السواد الأعظم، ليس فقط عن الإنسان وإنما عن أولئك الذين تخصّصوا في علوم تاريخ الإنسان.
هل عمر الأرض أربعة عشر مليار سنة؟ وهل إنسان لوسي في إثيوبيا عمره ثلاثة ملايين ونصف، وإنسان جاوا أربعة ملايين ونصف، وإنسان نياندرتال في أواسط أوروبا ستة ملايين سنة؟ وكيف يقدِّر العلماء بأن عمر البشرية لا يتجاوز ستة إلى سبعة آلاف سنة؟ طبعاً عبر التقييم الروحاني الديني، أي: من إبرام أبراهام إبراهيم أور مابين النهرين واتجاهه عبوراً نحو الغرب، وبوذا قادم من سفوح التيبت وعبر الإله الراما في شمال الهند إلى الشرق الصيني شرقاً، ما معنى أن نعود من اللحظة المعاشة الحاضرة بيننا أي من عصرنا الحديث إلى عصور النهضة، مروراً بالحضارات الواقعة في بلاد ما بين النهرين، والحضارات الإغريقية والفينيقية والرومانية والعربية، وحضارات أمريكا الوسطى والجنوبية الأنكا والمايا، أي إلى أين نستطيع أن نعود تأريخياً فيما دُوِّن بحادثة الطوفان العظيم، وهل كان لكل منطقة جغرافيّة طوفان خاصّ بها؟ أم أنه ساد الأرض من خلال ارتفاع مياه البحار والمحيطات دفعة واحدة لآلاف الأمتار؛ مما غمَر الأرض برمّتها، ومن ثم عادت إلى تشكيلها من جديد بعد أن أخفت مساحات جغرافية مظهرة بدائل جديدة؟ ما معنى أن تختفي كامل التكنولوجيا الإنسانية، وبقايا البشر تعود من جديد لتشكّل حياة إنسانية جديدة تمتلك المعرفة التاريخية؟ ألم يحتج نوح في صناعته للسفينة الكبرى التي نقلت بقايا الإنسان من رؤوس الجبال- أي الناجين- إلى التكنولوجيا الهندسية وشروطها الكيميائية والفيزيائية والحيوية؟ ألم تكن المعارف العلمية ممتلكة معه ومع من حملهم؟ لنتأكد بأن جلَّ تأريخنا قادمٌ من التاريخ الديني المفسّر بطرق ملتبسة، عبر مثلث الأديان والمخطوطات التي يتسرب إلينا بعضها لا جلُّها، بكونها تحمل في طياتها أسراراً حتى اللحظة لم يؤمن القيّمون عليها بنشرها؛ خوفاً من الاعتراف بأن ذلك الإنسان القديم جداً كان متطوراً جداً، وما يجري اليوم من تطور ما هو إلا فعل حقيقي لما بين يدي المسيطرين على تاريخه القديم، حيث ينشرون علومه بين الفينة والأخرى على أنها اكتشاف واختراع وتقدم وتحضّر دون أيِّ اعتراف بفضله العظيم على دورتنا الحياتية؛ التي يشوهها الكثير من تكتل علماء الغرب الأوروبي والأمريكي بشكل خاص، وإني ألفِتُ إلى أن ما يجري اليوم على كوكبنا الحجري ما هو إلاّ مؤشر إلى ذهابنا نحو النهاية، أي أننا نعيش نهاية دورة حياتية بكل ما تعنيه النهاية، وبشكل أدق نقترب كثيراً من طوفان جديد، أو كارثة طبيعية، زلزال عظيم، أو اصطدام بنيزك، أو ذوبان المتجمدين الشمالي والجنوبي مما سيؤدي لارتفاع مياه المحيطات والبحار آلاف الأمتار، لتتكون نشأة جديدة من بقايا إنساننا الحالي يسمّى قائده نوح جديد.
لذلك اخترت عنوان بحثنا هذا: الإنسان والتاريخ والانتقال الجيني الوراثي ضمن العقل الحامل الأول والأخير لهذه الذاكرة الممتلئة والمتنقلة من حضارة إلى حضارة عبر توارث أجيالها.
بما أن الحياة في تشكلها قادمة من تجمع خلايا ذرية حية، بُنيت من خلال الصلب والسائل والغازي أي الأرض وما عليها وما حولها؛ فإذا أخذنا كتلة صلبة وطحنّاها ونثرناها نراها ذرات، وحينما نعيد تجميعها تعود لشكلها الأصلي: التربة والصخور والحديد، الإنسان لحظة انتهائه يتحول إلى منثور ذري مائي وترابي، ينتشر في الأرض ويتبخّر في الفضاء. الإنسان الجديد والأشجار والنباتات والحيوان جميعها تتغذى من بعضها، وتحيا على بعضها، لتنتقل الذاكرة عبر كلِّ ذلك من إلى هذا المحور، أما المحور الثاني فهو المتروك الباقي من المخطوطات والأوابد، ذات الإبداع الإعجازي في نظم البناء الهندسي؛ الذي يتم تخيّل أسس بنائه والعلوم المستخدمة في وسائط إنجازه.
إن جوهر أيّ أمة أو حضارة أو حالة بشرية سائدة على وجه الأرض هو ذاكرتها المسكونة في الإنسان المنجِز الأول والأخير للتاريخ والتأريخ معاً، ولا يعني اندثارها وفناؤها أو انتهاؤها تحت أيّ ظرف انتهاءَ ذاكرتها المتكونة من أحداثها وتألّقها وإبداعاتها، ومن الممكن أن تتحول ذاكرتها إلى أساطير وأمثال أو موروث شعبي، وحينما أشير إلى هذا فإني أنبّه أن مثلث المقدس هو الذي قدّم هذه الرؤى، معتبراً أن هناك ثلاث أمم: اليهودية. المسيحية. الإسلامية نسبة إلى رسالاتها السماوية، علماً بأن هناك أمماً كبيرة مثل الهندوسية والبوذية، وأمم صغيرة وصغيرة جداً هي بقايا أمم قديمة، حملت موروثاً دينياً حينما نتدارسه نجد أن به مغزىً ومعنىً يشابه إلى حدٍّ كبير ما جاء في المقدس السماوي، وبنظرة محايدة إلى ذلك التاريخ القديم نلحظ أنه كانت هناك عبادات بدأت مع عصر الإنسان الجليدي، أي بعد التشكل الافتراضي للحياة الكونية، ومنها كان الانتقال إلى الإبداع والاختراع الإنساني إلى امتلاك الكيمياء وعبادة الأشتاف، ومن ثم نشوء التابو وعبادة الطوطم، وبعدها إلى ظهور آلهة القبائل والملوك الآلهة إلى نظم استرضاء أرواح الطبيعة، وبعدها عبادات الخصب وصولاً إلى ظهور إبرام أبرهام إبراهيم وسلالاته التي أنجبت الديانات السماوية، فإذا دُقق فيه وتمت إزاحة المضاف منه ظهر لنا جمال وأساس تلك الفترة من العهود القديمة، والموغلة في القدم وما قبلها وما احتوته، وحينما نبحث في المقدّس نرى أساطير الأولين متجسّدة بشكل كامل، وتتقبّل لغة المناقشة والتحليل والإيمان أو الكفر بها، فإما أن تكون فكراً يجلس إلى مائدته، أو مقدساً سكن مثلث الأديان الذي يكمن به رقيّ الحوار والنقاش من باب "لكم دينكم ولي دين" أي إنه المقدس احترام الحوار والنقاش وجدلية الإنسان مع أخيه الإنسان، إذاً، من يجادل الإنسان؟ بالتأكيد الإنسان الذي هو شكله، وحينما يتفكّر يجادل جوهره، يتناقش معه، يحاوره، فيخرج من بينه فكرة تُطوِّره أو تؤخره أو تبقيه في مكانه، فالتأخر عامة يكون نتاج الشهوة للحياة ونتيجته طبقة العامة والبقاء في الوديان، وثقافته قائمة على الاستهلاك أولاً وأخيراً فقط، والساكن السائر في السهول يرى ويراقب الأشياء دون فعل وانفعال راضياً لا يصعد الجبال ولا يهبط الوديان؛ إنما هو في حالة طلب للأمن والأمان، منفذ أمين ومشتغل، يبغي الوصول إلى النهاية بأمان أي إنه منتج ومستهلك في آن، أما الباحث عن التطور فهو محاور إيجابي، متأمّل حقيقي حامل لجينات الأولين من ذاك التراب الممتلك لجينات الفكر الإبداعي المسكون في الثمار، وضمن الأشياء المحيطة: الماء والهواء والطعام الذي لا شهوة فيه؛ بل كفاية منطق الحياة التي تؤمن بالسير بين نقطتي البداية والنهاية للفرد الإنسان.
هو الإنسان صنعه باليقين الكلّي من مبدأ "أن لكلِّ شيء مادي صانع"، فالطاولة والكرسي والطائرة والحاسب صناعة إنسانية، وقد اقترب كثيراً من صناعة إنسان باختراعه إنساناً آلياً يمتلك عقلاً حاسوبياً مبرمجاً؛ لكنه لا يمتلك الروح، وبالتأكيد، إن الإنسان صناعة كنْ فيكون الروحية، كما الطير والحيوان والأسماك والنبات، وكذلك صنَع الإنسان التاريخ؛ سجَّل أحداثه والأحداث المحيطة، لقد طوّر الإنسان صناعاته وحسَّن مواصفاته بالتأمّل الروحي المحيط، ومنه استمدّ قوة استمراره، أي من ذاك المسكون فيه، وأدواته العقل والقلب؛ والروح التي لم يصل إلى سرِّها بعد رغم جهده واجتهاده وراءها.. والسؤال الكبير هل يستطيع أم ستبقى ضمن إرادة المكون الكلّي؟؟.
وأيضاً من أجل أن يبقى الإنسان لاهثاً وراء العلم؛ الذي كلّما وصل إلى نتيجة منه اكتشف أنه في البداية، ليبدأ من جديد مقتنعاً بأن ما أوتيه من العلم مازال قليلاً، فإلى أين يذهب هذا الإنسان الكوني، وما الذي يدوّنه وسيدوّنه في تاريخه الحاضر المتحول إلى ماضٍ والمستقبل المتحول إلى حاضر ينتظر به مستقبلاً.
المصدر : الباحثون العدد 57