التعامـــل مع الإرهـــاب والعنف والتطرف
التعامـــل مع الإرهـــاب
والعنف والتطرف
إعــداد
أ. عبدالمقصود محمد سعيد خوجه
الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان مالم يعلم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، خير من تعلم وأعلم بالله عز وجل.
يطيب لي أن أتناول في هذا البحث بصورة منهجية، جزئية مهمة فيما يتعلق بقضايا الإرهاب والعنف والتطرف وموقف الإسلام منها، وذلك من خلال إلقاء الضوء على حزمة من الوظائف الأساسية في المجتمع.
وقد اعتمدت (المنهج الوصفي) في هذا البحث، وهو كما تعلمون منهج يعتمد على دراسة الواقع أو الظاهرة كما توجد في الواقع ويهتم بوصفها وصفاً دقيقاً، ويعبر عنها تعبيراً كيفياً أو تعبيراً كمياً، فالتعبير الكيفي يصف لنا الظاهرة، أما التعبير الكمي فيعطينا وصفاً رقمياً يوضح لنا مقدار هذه الظاهرة أو حجمها، ودرجات ارتباطها بالظواهر المختلفة الأخرى( )، وسأعمل قدر الإمكان على الربط بين جميع عناصر البحث حتى تؤدي الدراسة دورها في تعميق فهم فئات المجتمع بمختلف ألوان طيفها وتأكيد التحامها في معالجة الظاهرة المعنية.
وفي البدء أشير إلى عدم وجود تعريف دولي متفق عليه بشأن "الإرهاب" غير أن بعضهم يميل إلى تعريفه بأنه: استخدام العنف ضد المدنيين سعياً وراء أهداف سياسية أو أيدلوجية أو دينية.. كما أن الذين يساعدون الإرهاب بتقديم الأموال أو الدعم السياسي إرهابيون.
ومن تعريفاته : الإرهاب هو الذي يشرع لقتل الأبرياء، وترويع الآمنين، وهدم منازل المدنيين . بيد أنه حتى هذه اللحظة لا يوجد تعريف دولي معترف به تحت مظلة الأمم المتحدة لتعريف "الإرهاب" الأمر الذي يدعو للقلق ويتطلب تضافر الجهود من أجل إيجاد هذا التعريف الذي سوف يساعد على تفكيك ظاهرة الإرهاب وإيجاد الحلول الناجعة لها ومحاربتها واقتلاع شأفتها من جميع المجتمعات المحبة للسلام . وعموماً إذا تم ذلك في القريب أم لم يتم، فإن كل مجتمع مدعو بكل قطاعاته وفئاته لمحاربة هذه الظاهرة الخبيثة كل فيما يخصه، ووفق إستراتيجيات محددة.
وظيفة العلماء والدعاة:
لقد أكرم الله – سبحانه وتعالى – هذه الأمة بالعلماء والدعاة وأعلى من شأنهم، { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } وقد أصبح لزاماً عليهم، ومن صلب عملهم، دعوة الناس إلى طريق الحق والخير والعدل، سبيلهم في ذلك اللين والرشاد وغزارة العلم الصحيح من الكتاب والسنة، فالحق – سبحانه وتعالى – أمر موسى وأخاه هارون عليهما السلام بالتوجه إلى فرعون مصر : { اذه اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ، فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى }( ). كما قال عز من قائل : { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً } ( )، وفي مجال الحكمة والسداد والأخذ بأسباب الإقناع هناك تدرج منهجي وأسلوب عميق في التعامل مع الآخرين للدعوة بينه الله عز وجل في قوله : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }( ) وهذه الآية من الأصول التي يحرص عليها الدعاة الصالحون لأنها تتضمن ثلاث درجات من العمل الدعوي تبدأ بالحكمة : ( ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ) وكلمة الحكمة تضم ألواناً كثيرة من المعارف الإنسانية وقد جاء في تفسير فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي لهذه الآية الكريمة في دروسه المعروفة: ( النصح ثقيل فلا تنصبه جبلاً، والحقائق مرة، فاستعيروا لها خفة البيان، وقد كان رسول الله حين يخطب لا يسمي أشخاصاً بعينهم بل يقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا ...) ومن هذا المنطلق فإن الداعية في عصرنا الحديث مطالب أكثر من أي وقت مضى بتوخي الحكمة والتريث في إطلاق الأحكام وعدم التعرض للناس بالأذى لأن النتيجة ستكون عكسية عندما يشعر المخاطب بأن الداعية يتكبر عليه ويوبخه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة . أما الموعظة الحسنة فتستوجب على الداعية أن يلم بالكتاب والسنة وأمثال العرب وقصص الأمم السابقة إلماماً يؤهله لعمله : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }( ) . ثم تأتي مرحلة الجدال الذي وصفه المولى عز وجل (بالتي هي أحسن) ذلك أن مسارب الجدل قد تقود إلى بعض الحدة في التناول والبحث ومقارعة الحجة بالحجة، لذلك أمر الله أن يكون الجدال وفق معايير معينة ضبطها بالحسنى . فلا يشتط الداعية ولا يلجأ إلى هذا الأسلوب إلا بعد أن يتمكن من أدواته، ويحكم عواطفه، ويلجم لسانه عن الإساءة للآخرين مهما كان بعدهم عن طريق الحق والرشد، وعليه أن يسدد ويقارب إلى أن يصل إلى مبتغاه مستعيناً بالصبر والأناة وسعة الصدر، وحسن الخلق مصداقاً لقول الله : { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ }( ).
ومن الأمور التي أصبحت عامل هدم كبير وخطير في جدار العمل الدعوي انفلات مسألة الفتوى، فقد تصدر كثير من الشباب لموضوع الفتوى بغير علم، إلا من أشرطة استمعوا إليها أو حلقات علم حضروها أو كتيبات اطلعوا عليها، ثم تشددوا وغلوا في آرائهم وأفكارهم، حتى وصل بعضهم إلى مرحلة تكفير كل من خالفهم الرأي. وهؤلاء هم أخطر فئة على المجتمع وأمنه واستقراره، لأنهم مثل الفعل المتعدي ، فقد ضلوا وأضلوا . والنتيجة انسياق عدد من الشباب خلفهم دون علم أو هدى من كتاب منير ، فقد أصبحت الوجاهة والمكانة الاجتماعية التي يتيحها التصدي للفتوى أهم من محتواها وعمق التفكير في آثارها ومدلولاتها ، لذا ينبغي عدم التغاضي عن هذا الأمر الجلل، في الوقت الذي نجد بين أيدينا قول رسول الله في خطبة الوداع: (أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا ).
ومما لا شك فيه أن الداعية الذي يتصف بالعلم والحكمة، والصلاح والقدوة في نفسه وبين أهله، والإخلاص في العمل، والتواضع وعدم المداهنة، سيكون خير دليل لمجتمعه، وأحسبه من الناس الذين قال فيهم الحق سبحانه وتعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ }. وبهذا يرسم ربنا – سبحانه وتعالى – صورة الداعية إلى الله ويصف روحه ولفظه، وحديثه، وأدبه، وأسلوبه في دعوته الخيرة النيرة( )، وهي صفات باقية إلى يوم القيامة، محفوظة بما حفظ الله به القرآن العظيم.. وسوف يسهم مثل هذا الداعية في تربية جيل معافى من أمراض الغلو والتطرف التي تؤدي إلى الإرهاب الذي هو في كل الأحوال وسيلة وليس غاية في ذاته، فإذا كانت الأهداف نبيلة وبعيدة عن التشويه والجهل فإن الوسائل المفضية إليها حتماً ستكون نظيفة الظاهر والباطن ، وبذلك تنتفي حالة الإرهاب وما يتعلق به من إزهاق أرواح بريئة، وضياع ممتلكات الدولة والأفراد.
وظيفة الأسرة:
لقد اهتم الإسلام بالأسرة اهتماماً كبيراً وجعلها الخلية الأولى في المجتمع، ولم يترك صغيرة ولا كبيرة من شؤونها إلا وأوضحها بما لا يدع مجالاً للشك : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً ورحمة}( ). "إن الأسرة في الإسلام هي المحضن الطبيعي للناشئة الصاعدة، فيها تشب على مشاعر المحبة والرحمة والتكافل – وركائز الإسلام هي هذه المشاعر الثلاثة جميعاً – لتصبح هذه الركائز جزءاً من طبيعتها، وخلقاً أصيلاً يكيف ويضبط سلوكها، ليبنى على أساسها مجتمع التقوى والعمل الصالح" ( ).
وعلى رغم تشابك العلاقات الأسرية إلا أننا في هذا المقام نسعى لإلقاء الضوء على علاقة الوالدين بالأبناء ، وهي علاقة أطرها الحق – سبحانه وتعالى – في قوله : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً }( ). وقال تعالى : { أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ }( ). "ولقد تكفل الإسلام ببيان أحكام الأسرة مع الإشارة إلى أسرار التشريع مفصلة تارة، ومجملة أخرى، في آيات وسور متعددة وأحاديث كثيرة، من إرث ووصية ونكاح وطلاق، وبين أسباب الألفة ووسائل حسن المعاشرة، وشيد صرح المحبة بين أفرادها على تأسيس حقوق معلومة في دائرة محدودة، فمتى روعيت تلك الحدود عاشت الأسرة في أرغد عيش وأهنأ حياة، وحذر من هدم الأسرة، وحث على تماسكها واتحادها، ونفر عن كل ما يدعو إلى تفكك عراها"( ).
فإذا قام الأبوان بدورهما كاملاً في تنشئة أبنائهما على تشرب روح التعاليم الإسلامية، وحرصا على تفادي عناصر التفكك الأسري، فإن هذه الخلية ستكون صالحة وتنبت رجالاً ونساء صالحين يسهمون في إسعاد أنفسهم وتقدم مجتمعهم نحو الأفضل . ومن هنا تبرز لنا الآية الكريمة : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ }( )، وبهذا تخرج البشرية من طور الفردية إلى رحابة الإنسانية لتدخلها من أوسع أبوابها وهو باب التعارف الذي يقود إلى التعاون والتآزر وحرية الحركة والتنقل والفكر والتجارة وغيرها من المصالح المرسلة بين الناس . وبضمان صلاح أفراد الأسرة فإن المجتمع كله سوف ينحو إلى الصلاح وتنحسر مسببات العنف والآفات التي تنخر في المجتمع وتسهم في ارتفاع هجمة الإرهاب والتطرف.
وبطبيعة الحال فهناك مسببات أخرى أدت إلى زيادة ظاهرة التطرف والعنف والإرهاب في مختلف المجتمعات على رغم أن البناء الأسري قد ظل على حاله دون زعزعة على امتداد عشرات بل مئات السنين . وهذه حقيقة مسلم بها، إلا أن إسهام الأسرة يأتي بتعرض أبنائها إلى طائفة من الأفكار الغريبة التي لم تكن متاحة من قبل ، فدخول القنوات الفضائية وشبكة "الإنترنت" قد شكل تدخلاً سافراً في خصوصية الأسرة المسلمة، ومع إيماننا بأهمية هذه العناصر وفائدتها إلا أنها أثبتت من الوهلة الأولى أنها سلاح ذو حدين ، إذا أسيء استخدامها فإنها تؤدي إلى نتائج وخيمة، وإذا أحسن التعامل معها والاستفادة من مخزونها المعرفي فإنها كنز لا غنى عنه لكل أسرة ، وبالتالي فإن دور الوالدين يزداد أهمية بمراعاة هذه العناصر الجديدة التي وفدت إلى بيوتنا ، ولا بد من تكريس المزيد من الوقت لمتابعة نشاطات الأبناء، والحرص على عدم انجرافهم مع التيارات التي تسعى في الأرض فساداً . علماً بأن الأسرة المسلمة مستهدفة بطريقة سافرة . وهناك جهات كثيرة تسعى لتقويضها حتى يفسح لها المجال لمزيد من التخريب داخل المجتمع الإسلامي ، وبالتالي فإن غسل عقول بعض الشباب والدفع بهم إلى أتون العنف والإرهاب قد تم بالتأكيد بعيداً عن رقابة الأسرة التي يفترض أن تكون على معرفة تامة بتحركات أبنائها وبناتها وعلى إدراك كامل بعلاقاتهم الاجتماعية والجهات التي يستقون منها أفكارهم، حتى لا يفاجأ الوالدان بتبدل عادات أبنائهما بعد تكرار تواصلهم مع بعض الجهات المشبوهة، وكثيراً ما تقع الكارثة ويستفحل الأمر قبل تداركه، لذا ينبغي على الأسرة أن تعي دورها جيداً وتعمل وفق منهج التربية الإسلامية وتحمل كامل المسؤولية من كل فرد وكما جاء في الحديث المتفق عليه : (عن عبد الله بن عمر يقول سمعت رسول الله يقول : كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته الإمام راع ومسؤول عن رعيته والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته قال وحسبت أن قد قال والرجل راع في مال أبيه ومسؤول عن رعيته وكلكم راع ومسؤول عن رعيته).
وتنعكس أهمية المسؤولية الملقاة على عاتق الوالدين، وتنبثق أهمية القدوة الصالحة . إذ : ينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه، فما أجمل أن تتفتح مفاهيم ومشاعر جيل جديد قادر على تحمل المسؤولية، مدرك ما له من حقوق وما عليه من واجبات ، حتى تستقيم الحياة على مرتكزات متينة من العلاقات الاجتماعية المثمرة.
وظيفة المدرسة:
(إن المجتمعات الحديثة اتجهت بوظيفة المدرسة من مجرد مؤسسة للتعليم إلى مؤسسة تعليمية ذات وظيفة اجتماعية مسايرة لتطورات الحياة الاجتماعية كما أصبحت المدرسة توصف بأنها مجتمع صغير وبأنها أحد الأجهزة الاجتماعية يدرب طلابه على العمل المحلي وعلى تحمل المسؤولية حيث يتمثل التلاميذ معنى القانون وفكرة الحق والواجب ، بل اصبح بعضهم يصف المدرسة بأنها مؤسسة تنظيمية تقوم على خدمة المجتمع ودراسة البيئة والتعرف عليها والوقوف على مواردها واحتياجاتها واشتراك الأهالي في تمويل المشروعات وتنفيذها لأن المؤسسة الوحيدة التي ترتبط بجميع أفراد البيئة هي المدرسة ، وهكذا تطورت وظيفة المدرسة كمؤسسة اجتماعية إلى المساهمة في أعمال المجتمع الكبير بعد أن كانت منعزلة عنه وأتاحت للآباء والأمهات أن يدخلوها ليتشاوروا في مصالح أبنائهم ومصالح المدرسة" ( ).
إن التوسع الذي شهدته المدرسة لكونها مؤسسة اجتماعية رائدة قل نظيرها في المجتمعات المعاصرة، يدعو إلى محاولة سبر غور هذه المنشأة الخطيرة وتشريح دورها ؛ فالبيت – بغض النظر عن قيامه بدوره وواجباته – يدفع بالأبناء إلى بوابة المدرسة حيث تتكفل أجهزة التربية والتعليم بالقيام بصقل تلك العقول الغضة وتلقينها أسس الفضائل من خلال المناهج الدراسية ليكونوا مواطنين صالحين في مستقبل أيامهم ، فهي مصنع الرجال والسيدات الذين سوف يقودون زمام المجتمع في يوم ما ، وتلك حتمية الحياة وصيرورتها الأزلية . وتكمن الخطورة في استغلال هذه العقول الصغيرة وتوجيهها إلى مسارات تبتعد بها عن جادة الطريق السوي، وأعني قيام بعض من لهم علاقة بالعملية التعليمية بغرس أفكارهم الخاصة ومفاهيمهم وما يعتقدون أنه صواب (من وجهة نظرهم فقط) والإصرار على تلقين الطلاب تلك الأفكار، والتركيز على أنها الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، مع أنها أفكار خاضعة للأخذ والرد، متناسين قول الإمام الشافعي رحمه الله : ( رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب).
إننا أمام إشكالية انحراف البعض بمسيرة التعليم بالرغم من الضوابط المنهجية التي تفرضها الجهات المعنية، ذلك أن علاقة الطالب بأستاذه لا تنحصر في الصف الدراسي فقط، بل تتعداه كما هو معلوم إلى النشاطات غير الصفية ، وهي مجال خصب وبيئة صالحة لتفريخ الكثير من الأفكار الغريبة ، والتوجهات التي تسعى إلى فرض نفسها بأساليب أقلها العنف والشدة ، والنتيجة أن ينحرف سلوك الطالب تجاه أقرانه ليفرض عليهم أفكاره التي استقاها دون تثبت من بعض أساتذته، فهو لا يملك أدوات التثبت لأنه غير مطلع على المصادر التي تتناول الموضوعات الخلافية وتنظر فيها بعين التدبر والعمل على إخضاعها لموازين الكتاب والسنة وأقوال العلماء وأهل الاجتهاد . وللأسف يخرج هذا الجيل – وهم قلة والحمد لله – وقد حمل بذرة العنف والإرهاب والتطرف، ويكون ديدنه بين الناس، فهو عندما يغادر المدرسة (المجتمع الصغير) يجد نفسه وجهاً لوجه أمام مجتمع كبير يجمع كل ألوان الطيف الثقافي والفكري والديني بمختلف مذاهبه، بينما يكون متشبعاً بأفكار لا يتزحزح عنها ويرى أنها الحق ولا شيء غيره، ومع ذلك تكتنف عقله هالة من القدسية تجاه ما يؤمن به، ويحسب أن مفاتيح الجنان معلقة بتنفيذ أفكاره على أرض الواقع حتى إذا ما اصطدمت بالنظام أو الدولة رفض بكل التعاليم الدينية التي تدعو إلى التسامح وعدم الغلو ونبذ التطرف، فهو ربما لم يسمع بها، أو أنها تتنافى مع معتقداته الفاسدة الضالة، وهكذا تجد هذه الفئة المنحرفة نفسها في جيوب منعزلة وتعمل في الظلام لتنفيذ مآربها، وتصل الكارثة إلى قمة المأساة عندما يتزنر هؤلاء الظلاميون بالمتفجرات ليغتالوا الفرحة في عيون الأطفال الأبرياء ظناً منهم أن ذلك من الدين، والدين منه براء.
ومن أبرز مقومات عمل المدرسة وظيفة الضبط الاجتماعي (Social Control) ( )وهي خاصية تجمع بين المنزل والمدرسة، فالأسرة تعمل على ردع عناصر الخروج عن سلوكيات التربية الدينية في طاعة الوالدين وبرهما والتنفير من العقوق لكونه من كبائر الذنوب، وعلى الجانب الآخر تسعى المدرسة لضبط علاقة الطالب بالمجتمع الصغير وفق أنظمة ولوائح تضمن الحقوق والواجبات، وهذا تدريب عملي على ممارسة الانضباط نفسه في المجتمع الكبير، بين الفرد ومن حوله في العمل والبيت ومع الدولة بمختلف مؤسساتها ، كل ذلك وفق أنظمة وقوانين تنظم هذه العلاقة وترعى مصالح الجميع ، علماً بأنه يتم التمهيد لكل ذلك من خلال إتاحة الفرصة للتلاميذ لكي يتدربوا على استخدام عقولهم وأفكارهم واستنباط حلول للمشكلات التي تعترضهم بعيداً عن العنف والإرهاب ، كما أن الجمعيات الأدبية والمنابر الخطابية وغيرها من وسائل التعبير عن النفس ذات أثر كبير في تذويب الفوارق بين التجمعات الطلابية، ويجب أن تسير هذه المنظومة في إطار بعيد عن تدخل الكبار إلا من قبيل التوجيه عن بعد ، ولكنها حتماً سوف تفسد فساداً كبيراً إذا تبنت أفكار الآخرين وأصبحت تغذيها بأسلوب يمنع عنها الاحتكاك بالأفكار الأخرى مع رفض الآخر والعمل على عزله وإنكار حقه في التعبير عن ذاته . وهذه هي البذرة الأولى والأكثر خطورة في إذكاء روح العدوانية والعنف والتطرف والإرهاب.
وظيفة المؤسسات الاجتماعية:
تختلف المؤسسات الاجتماعية أو ما يسمى بمؤسسات المجتمع المدني من بلد لآخر وفقاً لعادات وتقاليد ذلك البلد ودرجة انفتاحه وأخذه بأسباب التطور والشفافية في التعامل مع مختلف الناشطين الذين ينظمون العمل الطوعي ، والحديث عن وظيفة المؤسسات الاجتماعية يتجدد بتجدد الحاجة إلى تلك المؤسسات التي لا يمكن حصرها نظراً لإمكانية توالدها وتكاثرها بصورة غير طبيعية ، فالحاجة تؤدي إلى إيجاد المزيد من هذه المؤسسات، وبعضها قد يصبح غير ذي جدوى فيختفي من الساحة . وتجدر الإشارة إلى أن هذه المؤسسات تنقسم إلى قسمين رئيسين : مؤسسات اجتماعية حكومية منها السجون والإصلاحيات الخاصة بالأحداث المنحرفين وغيرها، ومؤسسات ثقافية مثل الأندية الأدبية، والمساجد، وجمعيات حماية البيئة وغيرها ، وأخرى أهلية . فيما تتسع قاعدة المؤسسات الاجتماعية الأهلية لتشمل جمعيات البر، وجمعيات رعاية الأطفال المعوقين، والأندية الرياضية، وجمعيات رعاية الأيتام، وغيرها من أوجه العمل الخيري التي تظل في مد وجزر حسب الحاجة إلى خدماتها.
وأحسب أن من أهم هذه المؤسسات على الإطلاق (المسجد) الذي كان مركز دائرة المجتمع، حيث كان محل عبادة بالإضافة إلى عقد ألوية الجيوش، والقضاء، وعقد اللقاءات ذات الشأن في تقرير مصير الأمة، وإقامة حلقات العلم وتحفيظ القرآن الكريم، وإبرام عقود النكاح، بالإضافة إلى أنه ساحة مباركة للتعارف بين الناس والتواصل بينهم ومعرفة أحوالهم والاطمئنان على المعارف والأصدقاء، وكلها مناشط خير وبركة وقد عم نفعها كثيراً . وللأسف انحسرت هذه المناشط فأصبحت المساجد في كثير من المدن عبارة عن دور عبادة، بينما اختفت سائر النشاطات الأخرى وكثيراً ما ترى المصلين ينصرفون كل في طريق دون أن ينبس أحدهم بكلمة واحدة مع الآخر ، وفي تصوري أن بعض الخلل قد طرأ على وظيفة المسجد فأصبح على ما هو عليه الآن ، وهذا يتطلب من الجهات المعنية دراسة هذه الظاهرة ومحاولة إيجاد الحلول التي تعود بالمسجد تدريجياً إلى دوره التاريخي في بناء المجتمع . ومن ناحية أخرى فقد استغلت بعض العناصر الضالة المساجد أسوأ استغلال لاصطياد الشباب وغيرهم من المتحمسين الذين تم تحويلهم إلى قنابل بشرية قابلة للانفجار في أية لحظة . وبعضهم خرج من المساجد إلى حيث فجر نفسه إيماناً راسخاً منه بأن العمل الذي يقوم به هو في خدمة الدين، وأنه سوف يوصله إلى مرضاة الله، ولا شك أن الفراغ الذي عانى منه المسجد الذي هو مؤسسة اجتماعية ذات وزن ومسؤولية ووظيفة جادة في خدمة المجتمع، قد أدت إلى تشويه رسالته فأصبحت الفئات الضالة المضلة ترتع بين جنبات المساجد وأروقتها دون رقيب، فخرج من بين جنباته الطاهرة بعض دعاة الإرهاب وترويع الآمنين.. وتلك حقيقة لا ننكرها رغم مرارتها، وهي مؤشر إلى ضرورة الاستفادة من هذه المؤسسات للارتفاع برصيد الخدمات الجليلة التي تقدمها للمجتمع وفق الصورة الزاهية التي عرفناها عبر التاريخ.
ومن أبرز المؤسسات الاجتماعية التي قامت بدور مشكور الأندية الرياضية ومجمعاتها التي صرفت عليها الدولة مبالغ طائلة لتكون ملاذاً نظيفاً لشبابنا يؤدون من خلالها ألعابهم الرياضية تحت رعاية وإشراف رجال أجلاء لهم باع في علوم التربية وعلم النفس والرياضة البدنية . غير أني أحسب أن هذه الإنجازات الحضارية الكبرى لم تزل منقوصة لأنها فتحت أبوابها لنصف المجتمع وتجاهلت نصفه الثاني . فأين مكان النساء من هذه المرافق، وأين المرأة التي كرمها الإسلام، وهي من شقائق الرجال ، إنها من أعز ما يضمه كل بيت في هذا الكيان الحبيب ، فلماذا لا تنال نصيبها العادل في هذه المنشآت العملاقة بحيث يتاح لها شطر من النهار لارتياد هذه المؤسسات (وهو الوقت الذي لا يحضر فيه الرجال) بل يحظر عليهم تماماً ارتيادها في أوقات تخصص للنساء، وتكون إدارة تلك المرافق بأيديهن أثناء استخدامهن لها، ولدينا من الأخوات ما يملكن الكفاءات التي تمكنهن من أداء هذا الدور بكل اقتدار . والشيء نفسه ينطبق على الأندية الأدبية، إذ يمكن تخصيص ساعات في النهار، بإدارة نسوية خالصة، للاستفادة من المنشآت القائمة وممارسة حقهن في الإبداع الأدبي والثقافي وشغل أوقات فراغهن بما يفيدهن شخصياً ويتعدى إلى المجتمع بصفة عامة، وفقاً للضوابط الشرعية.
وهناك مؤسسة اجتماعية لا تقل أهمية عن غيرها ، وأعني بها مؤسسة الحي السكني ؛ فالإسلام قد اهتم بحسن الجوار، وقد صح عن النبي أنه قال : (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه). هذه الوشائج التي تنمو بين الجيران وتصهر مشاعرهم وتوجهاتهم وتقرب بينهم ذات أثر كبير في تحسين المجتمع وتنقيته من الشوائب والدخلاء الذين قد يتورطون في بعض أعمال الشغب، فيهب أهل الحي بصورة حضارية منظمة لوضع حد لمثل تلك الممارسات غير المنضبطة، تحت مظلة الجهات الرسمية لحل الخلافات بين بعضهم بعضاً بعيداً عنها وعن المرافق القضائية بما يحفظ بينهم ودهم وتآزرهم من جهة ويخفف الضغوط على المرافق الرسمية من جهة أخرى، وبهذا يخلو الحي، وبالتالي المجتمع كله، من عناصر السوء التي قد تقود إلى الانحراف، والغلو، والتخريب، والإرهاب، فكل فرد في الحي يعد نفسه جندياً لخدمة بقية الأفراد، ولكن هذا الدور قد انحسر أيضاً، شأنه شأن الدور الذي كان منوطاً بالمسجد، ومما لا شك فيه أن هناك أسباباً موضوعية أدت إلى هذا التدهور بيد أنها أسباب يمكن معالجتها بقليل من الاهتمام والصبر حتى يعود للحي بإذن الله نشاطه المعهود ودوره المهم في خدمة الناس بوصفه واحداً من أهم مؤسسات المجتمع.
وبطبيعة الحال فإن المجتمع يضم جميع ألوان الطيف ، وهناك من الأفراد من امتحنهم الله سبحانه وتعالى ببعض الأمراض المزمنة، وبعضهم من ذوي الاحتياجات الخاصة، لذلك نشطت جمعيات اختصت بمثل هذه الحالات، منها جمعيات أصدقاء المرضى بصفة عامة، وجمعية أصدقاء مرضى السكر بفروعها المختلفة، وجمعية أصدقاء القلب الخيرية، وجمعية الأطفال المعاقين بفروعها المختلفة، وكثير من المراكز الخاصة التي تعنى بذوي الاحتياجات الخاصة مثل جمعيات البر المنتشرة في جميع مدن المملكة ، وهذه الجمعيات تشكل ظاهرة طيبة وهي تعبير عملي عن التضامن والتآزر والتكافل الذي دعا إليه الدين الحنيف . (وسئل رسول الله عن أفضل الأعمال إلى الله تعالى فقال: من أدخل على مؤمن سرورا إما أن أطعمه من جوع وإما قضى عنه ديناً وإما ينفس عنه كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كرب الآخرة ومن أنظر موسرا أو تجاوز عن معسراً ظله الله يوم لا ظل إلا ظله ، ومن مشى مع أخيه في ناحية القرية لتثبت حاجته ثبت الله عز وجل قدمه يوم تنعقد الأقدام ، ولأن يمشي أحدكم مع أخيه في قضاء حاجته أفضل من أن يعتكف في مسجدي هذا شهرين وأشار بإصبعه) ( ). هذه هي الروح الإسلامية الحقة التي تتجسد من خلال المؤسسات الاجتماعية، وهي في التحليل النهائي تساعد في إيجاد روح التماسك بين المواطنين، وتزيل بعض الغبن الذي قد يعلق بالنفوس، وتسهم في حل ضائقة حلت بفرد من أفراد المجتمع دون أن تساعده ظروفه في حلها أو إيجاد مخرج منها مع حفظ ماء وجهه، إنها من أبهى صور الخير والمعروف بين الناس، وباندياحها تقفل الطريق على كثير من الذين قد يصطادون في الماء العكر لتأليب الناس بعضهم على بعض، وإثراء مناخ الكراهية بين الناس ومختلف الطبقات، وإيجاد بؤر يعشش فيها الإرهاب والتغول على أرواح وحقوق الآخرين.
أما المؤسسات الاجتماعية الحكومية فهي تعمل وفق أطر محددة ولها آلياتها المتعارف عليها في إصلاح وتقويم سلوكيات الذين يحيدون عن جادة الطريق بدرجة أو أخرى، ومن المؤسسات الاجتماعية الحكومية ذات الأثر المباشر في صيانة المجتمع الإدارة العامة لمكافحة المخدرات، فهذه السموم لم تكن معروفة إلى وقت قريب قد استشرت للأسف بين الشباب ووجدت من يغذيها من مهربين ومروجين، كما تنوعت مصادرها وأصبحت تهدد استقرار المجتمع بصورة جدية الأمر الذي يستدعي تضافر الجهود بين جميع المواطنين والجهات المختصة لاقتلاع شأفة هذا الداء الخطير الذي يؤدي إلى تدمير جزء مهم من المجتمع ويضع المدمنين على طريق النهاية مع سهولة استغلالهم من قبل عناصر المتطرفين والإرهابيين لتنفيذ بعض عملياتهم البغيضة مما يشمل عرقلة مسيرة المجتمع القاصدة نحو الرفاهية والخير والحق والعدل.
وظيفة المؤسسات الإعلامية:
تنبع أهمية المؤسسات الإعلامية من أنها أصبحت الصوت المسموع لدى جميع أفراد المجتمع، وهي التي جعلت العالم قرية صغيرة تنتقل بينها الأخبار بسرعة البرق، فهي مؤسسات ضخمة ذات ميزانيات كبيرة تمكنها في أغلب الأحيان من أداء دورها بكل يسر وسهولة، كما أنها لا تقتصر على شكل معين في التواصل مع المتلقي، فتجد فيها الإعلام المقروء، والمسموع، والذي بالصوت والصورة، وبهذا أحكمت قبضتها على الإنسان في كل زمان ومكان، حلاً وترحالاً، وفي التجمعات الحضرية كما في البوادي والقفار . كما أصبحت تلك المؤسسات من أهم وسائل الترفيه المتاحة لمعظم المواطنين . فهي تدخل بيوتهم بدون استئذان وتخاطبهم بدرجة واحدة من الخطاب الذي قد يستوعبه الكبير ويستعصي فهمه على الصغير، ولكن هذه الوسائل ومن أهمها الفضائيات قد جعلت من (الإعلان) مورداً مهماً وأهم بيئة ينجح فيها الإعلان هي بيئة الترفيه، فانصرف كثير من الناس خاصة فئة الشباب عن متابعة الكتب الجادة، وأصبح الكتاب غريباً في معظم البيوت . ومن الشباب من أصابته هذه الفضائيات بالغثيان فانصرف عنها باحثاً عن قيم أخرى يتشبث بها، فكان أن تحول بدرجة 180 ْ ليجد نفسه أسير منظري الفكر الظلامي الذي يُكفِّر كل من خالفه الرأي، فينظر إلى المجتمع على أنه كافر، ويجب مجاهدته وقتل أفراده وتدمير موارده . إن الأثر الذي تتركه المؤسسات الإعلامية لا يقتصر فقط على ما تبثه خلال ساعات اليوم والليل، بل يتعدى ذلك إلى ممارسة دور الموجه حيث تحاول كل جهة غرس قيمها ومفاهيمها وأفكارها ونظرياتها في عقول المتلقين وصولاً إلى أهداف مبرمجة سلفاً . وليس غريباً أن يكون من بين تلك الأهداف الإضرار ببعض الأنظمة والدول عبر برامج سافرة أو مستترة تسعى إلى تقويض الأمن والأمان والاستقرار الاجتماعي ، ومن خلال دس السم في الدسم تتحرك بعض المؤسسات الإعلامية المشبوهة وذات التوجهات الخطيرة إلى محاولة إقناع الشباب (وهم الفئة المستهدفة في الغالب الأعم) بضرورة التغيير القسري لآليات المجتمع والدولة، فمنها ما ينسج من خياله، ومنها ما يمزج الواقع بالأكاذيب والأوهام، وتجد من يضع الزيت على النار ليزداد أوارها وتمتد إلى أقصى درجة ممكنة ، وهي في سيرها الحثيث نحو التخريب تستقطب الدعم من كل من هب ودب ، بل لا تستحيي أن تتعامل مع العدو اللدود وتمد يدها إلى الصهيونية العالمية للحصول على المعونات المادية والتقنية التي تمكنها من نشر شرورها . وكم من فتى ضال وقع فريسة بعض الإذاعات والفضائيات التي تبث سمومها من خارج الحدود، فتصل إلى القاصي والداني فيقع بين براثنها من لم تكن له حصانة كافية في البيت أو المدرسة أو غيرها من مؤسسات المجتمع المدني . وتصل المأساة مداها عندما يحاول هؤلاء البسطاء تنظيم أنفسهم ويتم تحريكهم من وراء ستار للقيام بأعمال شغب وتنفيذ مخططات إرهابية تزعزع أمن الوطن والمواطنين.
ومن المؤسسات الإعلامية التي انتشرت بقوة خلال السنوات الأخيرة شبكة "الإنترنت" التي أضحت تلبي احتياجات كل من سعى إليها ، ومع أننا لا ننكر أهميتها في سرعة الوصول إلى المعلومة والإبحار في مواقعها المختلفة.. إنها بحر لا ساحل له من العطاء المتنوع، ولا يعيبها أنها تحمل في تيارها الجارف الجثث والطحالب والأشجار النخرة ؛ فالأمر متروك لحصافة المستخدم الذي يستثمر وقته لما فيه خير وفائدة نفسه ومجتمعه ، وأحسب أنه من الأهمية بمكان تربية النشء على الوسائل المثلى للاستفادة من هذه التقنية وتفادي سلبياتها قدر الإمكان، وغرس قيم الفضيلة والحياء وقيمة الوقت بين الشباب وتكريس كل ذلك لخدمة الأهداف السامية التي تتطلع إليها كل أمة تسعى لكي تجد لها مكاناً تحت الشمس.
ولا أنسى في هذا السياق ما للمسرح من أهمية ، فهو أداة إعلامية وثقافية رائدة، وما للفنون بصفة عامة من دور مهم في ترقية المشاعر والأحاسيس، والابتعاد بها عن مستنقعات الرذيلة والعنف والإرهاب، وتنفير المتلقين من أساليب أهل الزيغ والضلالات ، وتبصيرهم بالواقع العملي الذي تنطلق منه خفافيش الظلام لتعبث في الأرض فساداً ، ذلك أن المسرح يستطيع أن يخاطب المتلقي بطريقة أكثر شفافية وقرباً، وينقل إليه قطعة من الواقع المعيش لتتجسد أمامه على خشبة المسرح.. وكم يكون جميلاً أن يمنح المسرح حقه الطبيعي في الازدهار مثل سائر وسائل التثقيف والتوعية الأخرى، فهو مؤسسة ذات فاعلية كبيرة ويستطيع أن يؤدي دوراً مميزاً في هذا المنعطف الذي نمر به، ويرسم علامات مضيئة على طريق الانعتاق من الغبش الذي تثيره بعض التيارات الفكرية الضالة.
وظيفة المؤسسات الأمنية:
{ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ }.
مما لا شك أن الأمن بمعناه الواسع ومقاصده السامية هو أساس كل تنظيم لأنه العمود الفقري للحياة الإنسانية كلها وأساس الحضارة والمدنية والتقدم والازدهار في سائر فروع المعارف البشرية والفنون والآداب والتجارة والسياحة وأداء المناسك والشعائر الدينية، وقد أوكلت إلى الجهات الأمنية مهمات الحفاظ على هذه المكتسبات القيمة، فهي مثقلة بكثير من المهام الكبيرة المناط بها تحقيقها حفاظاً على الأمن والأمان اللذان هما عصب الحياة ومنبع حركتها ومصب إنجازاتها.
والمتتبع لتطور وزارة الداخلية التي تقع تحت مظلتها جميع الأجهزة الأمنية يجد أنها تشتمل على أقسام عديدة منها: الإمارات، والأمن العام، وسلاح الحدود وخفر السواحل، والمباحث العامة، والدفاع المدني، والمديرية العامة للمجاهدين، والإدارة العامة للجوازات والأحوال المدنية، والحقوق المدنية، وإدارة المرور، بالإضافة إلى كليات وأكاديميات وأنشطة تدريبية تقنية ورياضية مختلفة ، وأنشئت كذلك قوة الحج والمواسم، وقوة الطوارئ، وحرس السفارات، وحرس الموانئ، والسجلات الجنائية، والمعامل الجنائية، والإدارة العامة للسجون، والإنتربول( ).
إن النشاطات الأمنية أصبحت معروفة لدى العام والخاص، (فمن المعلوم أن مهمة قوات الأمن هي المحافظة على النظام وصيانة الأمن العام وحماية الأرواح والأعراض والأموال، ومن مسؤوليات رجال الأمن التأكد من استمرارية النشاط العادي للمجتمع بسلام ولذلك فمن واجبهم أن يضبطوا ويقبضوا على أولئك الأفراد من أعضاء المجتمع الذين لا يتجاوبون مع رغبات مجتمعهم في استمرار الهدوء والاستقرار ومنع الاضطرابات( ).
(ومهمة الضبط التي تقوم قوات الأمن بها تتعلق بصفة مبدئية بأولئك الأشخاص الخارجين على المجتمع ، ولا يتسنى السيطرة الكاملة على هؤلاء حتى يوضع شرطي على كل زاوية من زوايا الشوارع ، ولكن المجتمع يحتاج إلى ظروف تقلل الاضطراب والفوضى وهذه الظروف ينبغي أن تتوافر في إطار التقاليد والعادات الاجتماعية والأنظمة التي تعمل على خدمة المجتمع والمحافظة عليه ، وقوات الأمن في المجتمعات المتقدمة تعد مسؤولة عن المجتمع وتعمل على خدمته ولكي تواجه قوات الأمن مسؤولياتها فإنها يجب أن تضطلع بأربع مهمات: ضبط الجريمة – منع الجريمة – تنظيم السلوك – الاستعداد للخدمة( ).
وقد قامت الدولة السعودية بترسيخ أسس الأمن والأمان بعد الانفلات الأمني الذي ساد الجزيرة العربية فكتب الشيخ عثمان بن سند البصري الفيلكاوي أن آل سعود (قد أمّنوا البلاد التي ملكوها، وصار كل ما تحت حكمهم حتى البراري والقفار، يسلكها الرجل وحده على حماره بلا خفر، وخصوصاً بين الحرمين الشريفين، ومنع غزو الأعراب بعضهم البعض، وصار جميع العرب على اختلاف قبائلهم من حضرموت إلى الشام كأنهم إخوان، أو أولاد رجل واحد، وهذا بسبب تأديبهم للقاتل والناهب والسارق، إلى أن انعدم هذا الشر في زمان ابن سعود) ( ).
إن هذا التاريخ الناصع في العمل الأمني يجعلنا ندرك الدور الخطير الذي تضطلع به هذه القوات المتنوعة المهارات والتدريب ، بيد أن الهجمة الشرسة التي تعرضنا إليها أخيراً على يد الإرهاب وأعوانه ومنفذوه جعلتنا نقف لوهلة أمام مرض غامض لم يخطر ببال أحدنا أن يكون من بني جلدتنا، ولكن بعودة رباطة الجأش وتماسك الجبهة الداخلية سريعاً عادت المبادرة إلى يد قوات الأمن وبسطت سيطرتها على الوضع تماماً ، وانتقلت المهمة من مطاردة فلول الإرهابيين بعد تنفيذ عملياتهم القذرة، إلى استطلاع وإحباط تلك العمليات قبل وقوعها ، وهذه قمة العطاء وأقصى ما يطمح إليه المواطن والمقيم على ثرى هذا البلد الحبيب ، وإنني على يقين أن القيادات الأمنية لقادرة بإذن الله على تفكيك كل جيوب الإرهاب واقتلاع شأفتها ودحرها إلى غير رجعة ، فهي نبت شيطاني مصيره إلى زوال، ومن بقي منهم على قيد الحياة فإنه عائد لا محالة إلى حضن الوطن ومرافئ الأمان بعد أن يتبين لهم الضلال والغي الذي سدروا فيه ، وهنا لا بد أن تتكاتف جميع الجهود المدنية والأمنية لرأب الصدع واللجوء إلى الحكمة والموعظة الحسنة، وفي ذات الوقت شحذ همم الحزم والقوة والردع لكسر موجة الإرهاب وتحجيمه إلى أقصى حد ممكن . وفي هذا الإطار فإن كل ما تقدم يذوب وينصهر في بوتقة واحدة تسير وفق وتيرة موحدة ومتناغمة لخدمة أثمن ما نملك وهو الأمن والأمان.
والله المستعان وهو من وراء القصد.
عبدالمقصود محمد سعيد خوجـه
المراجع
مناهج البحث العلمي – د. عبدالرحمن بدوي (دار النهضة بمصر 1993م) .
سورة طه، آية 43 – 44 .
سورة البقرة، آية 83 .
سورة النحل، آية 125 .
سورة يوسف، آية 111 .
سورة إبراهيم، آية 40 .
بين الدعاة والرعاة – محمد محمود الصواف – مؤسسة الرسالة – 1997م .
سورة الروم، آية 21 .
حقيقة الإسلام – د. عبدالهادي بوطالب (أفريقيا الشرق 1998م) .
سورة الإسراء، آية 23.
سورة لقمان، آية 14 .
أدب الإسلام في نظام الأسرة – السيد محمد بن علوي المالكي الحسني – 1398هـ .
سورة الحجرات، آية 13 .
تنمية ثقافة الطفل – عبدالتواب يوسف – دار الفكر، دمشق، 2002م .
المستدرك على الصحيحين .
الأمن في المملكة العربية السعودية – الفريق يحيى المعلمي/ 1411هـ – 1981م .
الأمن والتخطيط – اللواء يحيى المعلمي – بدون تاريخ .
نفس المرجع السابق .
الأمن الذي نعيشه – حسن قزاز – ج 3 ط 1 1409هـ – 1989م.