بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
“الطريق الوحيد للنهضة هو تطبيق مبادئ الإسلام الحقيقية: الحرية والعدل والمساواة.. وهذه لن تتحقق إلا بإقامة الدولة المدنية التى يتساوى فيها المواطنون جميعا أمام القانون، بغض النظر عن الدين والجنس واللون. .. الديمقراطية هى الحل “.
بتلك العبارات اختتم د.علاء الأسواني مقاله المنشور في جريدة المصري اليوم بتاريخ 31/5/2011 تحت عنوان "هل نحارب طواحين الهواء ؟!"
* وسأبدأ من حيث انتهى كاتب المقال متفقاً معه أن الطريق الوحيد للنهضة هو تطبيق مبادئ الإسلام الحقيقية: الحرية والعدل والمساواة، ولكن هل يريد التطبيق من خلال الشريعة الإسلامية التي أفرزت تلك المبادئ؟
كلا.... فقد أحدث فصلاً بين الشريعة ومبادئها مكتفياً بالمبادئ دون الشرع، ليفصح عن السبيل إلى ذلك وهو إقامة الدولة المدنية التي لا تحملُ صبغةً دينية أو مرجعيةً إسلامية، بدليل أنه استنتج في نهاية تحليله لتاريخ الخلافة الإسلامية وفق ما أراد أن يصوِّره أن تاريخ الحكم الإسلامى لا وجود فيه لمبادئ أو مُثُل نبيلة وهو اتهامٌ ظالمٌ لايصح.
* واستعراضاً لذلك المقال نجد أن الكاتب قد وقع كذلك في تناقضٍ واضح بين استنكاره للدعوة إلى استعادة نظام الخلافة الإسلامية، وبين الإشادة بخطاب أمير المؤمنين أبي بكرٍ الصديق أبوبكر رضي الله عنه والذي قال فيه « أيها الناس لقد وُلّيت عليكم ولست بخيركم.. أطيعونى ما أطعت الله ورسوله فإن عصيتهما فلا طاعة لى عليكم" ، إذ اعتبره بمثابة دستور حقيقى يحدد العلاقة بين الحاكم والمواطنين، بل ووصفه بأنه أفضل دستور ديمقراطي، وهذا لا يعدو كونه مدخلاً تسللياً لدسّ السُّمّ في العسل، وإلاّ فإني أدعوه أن لا يتراجع عن هذا الاعتراف وأن يعلن على الملأ في وسائل الإعلام قبوله لهذا الدستور الديموقراطي المنضبط بضوابط طاعة الله ورسوله.
* وإنّه لخطاٌ فادح من الكاتب وخروجٌ عن منهجية البحث العلمي أن يحاول تقييم نظام الحكم الإسلامي بالرجوع إلى التاريخ، فتقييم نظام الحكم يكون من خلال دراسة انتقادية لأصوله ومقوماته وطبيعته وغايته وخصائصه وتفاصيله وما يكفله من حقوقٍ وحرياتٍ عامة، أما الرجوع إلى التاريخ فلا يكون إلا لاستعراض كيفية التطبيق وقياس أثره، فإذا توصَّل –فرضاً- لوجود أخطاء في التطبيق فهذا يعني الحاجة إلى إصلاح الخلل في التطبيق وليس عدم صلاحية ذات النظام واقتراح نظام بديل.
* واستقراءً للتاريخ نجد أن المهاجمين لتطبيق الشريعة قد سلكوا في معرض الرد على تجربة الخلافة مسلكين مختلفين، فأقرّ الأول بتطبيق الشريعة خلال عصور الخلافة المتتابعة، ولكنه عمد إلى مهاجمة فكرة الخلافة زاعماً أنها مثلت نظاما قمعيا استبداديا مارس جرائم ضد حقوق الانسان، وبالتالي فهي تجربة غير صالحة للتكرار، فرفض الخلافة الإسلامية التي هي جمعٌ لشمل الأمّة، ثم رفض تطبيق الشريعة على اعتبار أنه من توابعها.
وأما الثاني فكان أكثر إمعاناً في الغيّ فلجأ إلى مغالطةٍ تاريخية منكِراً تطبيق الشريعة في عصور الخلافة التالية للخلفاء الراشدين، وموجّهاً النقد اللاذع لذات الحكام واصفاً إياهم بالمجون والفساد اعتماداً على بعض الكتابات التاريخية المشوَّهة، وبالتالي فهي أنموذجٌ يفتقد إلى القدوة ويستند الحكم فيه إلى الأهواء منتهياً إلى أنه لا يُحتذى به.
* وإنك إن سلكت أغوار هذا المقال وجدت كاتبه معبِّراً عن الاتجاه الثاني، فهو يركز على حصر زمن الحكم الإسلامي الحقيقي في فترة الخلافة الراشدة ليقلل من شأن تطبيق الشرع كحلٍّ لم يصمد لأكثر من واحدٍ وثلاثين عاماً ، ثم هو يَحيدُ عن القراءة المنصفة للتاريخ بحثاً عن الشعرة السوداء في وجه الفرس الأغرّ، ليؤسِّس لاستنتاجٍ باطل لا سند له مفاده أن التاريخ الطويل للدولة الإسلامية لم يعدو كونه استبداداً من الخلفاء باسم الإسلام لا يتفق مع مبادئه ، وتلك سلسلةٌ من المغالطات في استقراء التاريخ وفي الاستنتاج، فالشريعة الاسلامية كانت هي المطبقة النافذة في سائر العصور التي تلت عصر الخلافة الراشدة ، فبقيت هي النافذة في عصر الخلافة الأموية ثم العباسية، ثم في عصور الدول المتتابعة ، وظلت هي النافذة حتى الدولة العثمانية، فكان قانون دولة الإسلام هو الشريعة الاسلامية ، وحَكم قُضاتُها من أهل العلم بين الناس على أساس الشرع، وأسهب في ذكر أدق تفاصيل ذلك الحُكم الإسلامي كثيرٌ من المؤرِّخين، فادّعاءُ الكاتب باطلٌ لا أصل له، وما ليس له أصلٌ فمهدوم، وما ترتَّب عليه من استنتاجٍ فمعدوم.
* ثم ما لبث الكاتبُ أن وقع في تناقضٍ حاد وإشكاليةٍ أخرى، حين وصف معظم أولئك الخلفاء بالمجون والصراع الدموي على السلطة والنفوذ والمال في حين اعترف بقدرتهم على بسط نفوذ الدولة الإسلامية مترامية الأطراف وحسن إدارة الدولة الإسلامية، وعجز عن تقديم تفسير منطقي مقبول لذلك، فحاول الخروج من هذا المأزق مدّعياً أنه يذكر للإنصاف وإحقاقاً للحق أن أولئك الحكّام تميّزوا بالكفاءة الشخصية في إدارة شئون الحكم، فيا للإنصاف! وأنّى لذوي المجون والأهواء ومتتبعي الشهوات والغارقين في الملذات وأصحاب الخيانات والمتناحرين على الزعامات ان يكونوا ذوي كفاءة في إدارة شئون الحكم فيسودوا العالم ويقيموا الحضارة ويحسنوا إدارة شئون البلاد والعباد لقرونٍ عديدة ؟!!!
* والكاتب ينتهي بك إلى معضلة حيث يجعلُ الدين نِدّاً مع الحكم، والبدائل إمّا الديمقراطيةُ وإمّا الاستبداد الدينيّ ليضعك بين اختيارين لا ثالث لهما.... ثم هو يشخِّص لك الدواء في أن الديموقراطية هي الحل من خلال الدولة المدنية كما يريد أن يتصورها، إنّه لطرحٌ منقوصٌ جائر، ويعلم الكاتب وهو طبيب أسنان أن ضرسه لو آلمه فإنه سيبحث عن موطن الداء فيه ليعالجه، لكنّه يُلخِّص لنا الحل في اقتلاع الضرس اقتلاعاً !
وسأوجز تعليقي على هذا المقال في ثلاث نقاط أساسية:
أولاً: السرد التاريخي للدولة الإسلامية منذ بدء الخلافة وإلى نهاية الدولة العبّاسية:
تناول الكاتب الفترة التاريخية التي بدأت بالخلافة الراشدة وإلى نهاية الدولة العبّاسية، ولم يتطرق من قريبٍ أو بعيد إلى تاريخ الدولة العثمانية التي أقامت حكم الإسلام وأرعبت أوروبا ونشرت الإسلام في أقصى بقاع الأرض.
والمتتبع لهذا السرد التاريخي الذي طرحه كاتب المقال وفق تصوره يستطيع بسهولة أن يلمس تقسيمه إلى عصرين:
1-عصر الخلفاء الراشدين:
* نجد أن الكاتب يحشد التاريخ بمقتضى الأهواء، فهو قد اختزل الحكم العادل للدولة الإسلامية في واحدٍ وثلاثين عاماً للخلفاء الراشدين، وحتى عصر الخلفاء الراشدين أبى ان يمر عليه دون إساءة، فتعرَّض باللمز القبيح لأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وادعى أنه لم يعدل بين المسلمين وآثر أقاربه بالمناصب والعطايا، تلك فرية منقولةٌ عن مشوّهي التاريخ، فهذا الصحابي الجليل بشَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، ووعده بالشهادة، وزوّجه ابنتيه، ومات وهو راض عنه، وجهز جيش العسرة، وكان ثالث الخلفاء الراشدين، وجمع الناس على مصحفٍ واحد، واستشهد وهو يقرأ القرآن الكريم، ولا صحة لجميع ما اورده الكاتب من أباطيل في هذا السياق، ومن شاء فليراجع كتابي العواصم من القواصم لابن العربي، والبداية والنهاية لابن كثير ففيهما ما يغني ويفيد.
2- عصر الدولة الأموية والدولة العباسية:
* إذا كانت الخلافة الراشدة قد قامت على أساس الشورى، فكذلك كانت نشأة الدولة الأموية من حيث الأساس بعد تنازل الحسن بن علي لمعاوية رضي الله عنهم جميعًا، والمستقرأ لتاريخ تلك الفترة عليه بالتدقيق والتمحيص، إذ معلومٌ أن الكتابات التاريخية التي تناولت تلك الحقبة قد دُوِّنت لاحقاً في أجواء معادية لبني أمية، بل لقد تعددت الأدلة على حدوث الكذب والتحريف في كتابة التاريخ الأموي؛ وأثبت بعض المؤرخين القدماء ذلك وحذَّروا منه.
* ولقد تتبع الكاتب ما نُسِب لخلفاء الدولة الأموية والعبّاسية بهتاناً وزوراً من عثرات ، فأسهب في ذكر عيوب بعض خلفاء الدولة الأموية، وما أكثر ما نسبه لهم من أقاويل وأفعال لا تصح عنهم، منها نسبته إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه مقولة: "الأرض لله وأنا خليفة الله فما أخذت فلى وما تركته للناس بفضل منى" وتلك من افتراءات الشيعة، فمعاوية من أكابر الصحابة -رضوان الله عليهم- وهو أحد كُتَّاب الوحي، العاملين بكتاب ربهم، المحافظين على سنة نبيهم، الذَّابِّين عن شريعته، القائمين بحدوده، المجاهدين في سبيله، نال شرف الصحبة، وشرف الجهاد تحت لواء الرسول، فهل يصدِّق تلك الإفتراءاتِ ذوو العقول؟
* وأما عبد الملك بن مروان - والذي ناله من الكاتب ما ناله- فهو باني المسجد الأموي والمسجد الأقصى وقبة الصخرة، لم يبنِ بيت مغنى ولا ديوان شعر، وهو من أرسى دعائم الوحدة والاستقرار في الدولة الإسلامية، وأصدر عملة إسلامية لأول مرة ووحَّد أوزانها، ضمانًا للعدالة، قال عنه نافع : "لقد رأيت المدينة وما بها شاب أشد تشميراً ولا أفقه ولا أنسك ولا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك ابن مروان" ، وكاتبنا يكيل له الاتهامات الباطلة، وقس على ذلك الافتراءات التي نسبها لغيره مما يطول المقام بسرده.
* إنَّ المنصف ليرى بعين الإنصاف أن الدولة الأموية قد بذلت جهودًا كبيرة من أجل الحفاظ على نصاعة العقيدة الإسلامية وصحتها، كما حققت إنجازاتٍ كبرى في مجال الفتوح ونشر الإسلام، واستمرت لأكثر من تسعين عامًا تقود البشرعلى اختلاف أجناسهم وألوانهم وأديانهم في دولة واحدة امتدت من حدود الصين إلى جنوبي فرنسا.
* أما الدولة العباسية التي شرع في ذمِّ بعض خلفائها فقد شهدت نهضة ثقافية وعلمية بالغة القوة والتنوع لم يشهدها الشرق من قبل، وكان الناس يجوبون العالم سعيًا إلى موارد العلم والعرفان ليعودوا إلى بلادهم فينشروا العلم ويصنِّفوا الكثير من المصنفات القيّمة.
* وإن يزعم الكاتب أنّ تلك الأنظمة اعتبرت المعترضين عليها كفاراً مرتدين عن الدين يجب قتلهم، فأبلغُ ردٍّ عليه أنها لم تعامل أعداء الإسلام بتلك القسوة... فكيف تقابلُ بها أهلها؟
فالمجاهدون المسلمون وهم الفاتحون القادرون المنتصرون لم تعهد البشرية على أيديهم دماراً ولا تخريباً ولا قهراً، بل على النقيض كان القتل وسفك الدماء وجرائم الحرب ديدن غير المسلمين، تعرض له المسلون على يد التتار، كما أصاب مسلمي الأندلس بمحاكم التفتيش الإجرامية على يد الأسبان الذين تأثر كاتب المقال بدراسته لأدبهم، وأصابهم كذلك على أيدي الحملات الصليبية، ثم على يد الغرب، بل لم يعرف الحكم الإسلامي جرائم الدولة المدنية التي روَّج لها الكاتب ولكنّه تجنَّب المقارنة بها، كجرائم الثورة الفرنسية، والحضارة الأمريكية التي قامت على إبادة أهل البلاد واستعباد الأفارقة، والدمار الذي أحدثته الحروب العالمية والجرائم البشعة في هيروشيما ونجازاكي وتورا بورا والفالوجة وغيرها.
* ولأن الإنصاف خُلَّةٌ تتحدى الهوى وترتفعُ عن الهَوية، فلقد كان مدرس الأدب الأسباني أكثر إنصافاً من تلميذه كاتب المقال إذ عبّر عن تقديره لحضارة الدولة الإسلامية بقوله " يجب أن تفخروا بما أنجزه أجدادكم من حضارة فى الأندلس"، وفي التاريخ شواهدٌ لبعض المؤرخين من غير المسلمين ممن أنصفوا التاريخ الإسلامي ولم يحشدوه وفق أهوائهم.
* إننا في تتبع سِيَر أولئك الخلفاء على عظيم إنجازاتهم قد نلمس بعض ما يعرض للبشر من انحراف عن النهج الإسلامي القويم، لكن إن أخطأ بعضهم فمن التحامُل أن يُنسَب الخطأ إلى الكل، وإن طغى أحدُهُم فلا ينبغي أن يُعزى طغيانه إلى الفكر، فسوء التطبيق لا يهدم الأساس الفكري، ولو أننا حاسبنا الفكر على أخطاء منتسبيه ما وسعنا إلى أن نهدم كل فكر، فتلك مغالطة، كما انّنا لا يعنينا في هذا المقام ما هي الظروف التي تولى فيها بعض هؤلاء الخلفاء السلطة، بل يعنينا كيف مارسوا السلطة وكيف أقاموا شرع الله، أمّا أن يؤسِّس الكاتب نقداً لكيفية تداول السلطة ليستدل به على أنهم حكموا –باسم الحقّ الإلهي- وفق أهوائهم مخالفةً للشرع فهو من قبيل الاستدلال الفاسد.
* إن الاستقراء المنصف لسِيَرِ أولئك الخلفاء يرينا كيف كانت القدوة، فمنهم من كان يحجُّ عاماً ويغزو عاماً، ومنهم من عني بنشر العِلم، ومنهم من بسط العدل على ربوع الأرض، وعلى أيديهم ألقت الحضارة الإسلامية ببذور عصر النهضة الأوروبي، وأسهمت في ظهور الكثير من جوانب الحضارة الغربية، وليكن معلوماً أن تلك الحضارة الإسلامية العظيمة كانت نتاجاً طبيعياً لحكم هؤلاء الخلفاء بشرع الله بين الناس وإقامة العدل واحترام الأديان وحقوق الأقليات.
ثانياً: التمييز بين الدولة المدنية والدولة الدينية:
* يختلف مفهوم الدولة المدنية عن مفهوم الدولة الدينية كما تعارف عليه الغرب، ففي مقابلة ما يسمى بالدولة المدنية كان مفهوم الدولة الدينية الثيوقراطية، والتي يقوم نظام الحكم فيها على أن الله هو السلطة العليا، وأن القوانين الإلهية هي القوانين واجبة التطبيق، وأن رجال الدين (الكنيسة) باعتبارهم الخبراء بتلك القوانين تتمثل فيهم سلطة الله فيحكمون بتلك القوانين بمقتضى التفويض الإلهي – المزعوم- مما يضفي عليهم صفات القداسة والتنزيه والعصمة من الخطأ، ويجعل مسئوليتهم ومحاسبتهم أمام الله فقط وليس أمام الشعب، وقد كان الحكم بهذا المفهوم هو السائد في القرون الوسطى في أوروبا، حيث امتدت سيطرة الكنيسة ورجالها إلى كافة نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المجتمعات الأوروبية، وحاربت العلم وصادرت الحريات، ممّا أدى إلى إحداث ردِّ فعل عنيف تجاه هذا الحكم الديني الاستبدادي، وترتب على ذلك بروز الحركات العلمانية التي قابلت التطرف بالتطرف فدعت إلى الفصل التام بين الدين والسياسة وحصر الدين في دور العبادة، ثم جاءت الثورة الفرنسية لتكتب نهاية الدولة الدينية الثيوقراطية.
* تلك الدول الدينيةُ المستبدة لا مثيل لها في عالمنا الإسلامي الذي لم يعرف هذا النمط من الحكم، فنظام الحكم في الإسلام يختلف كليّاّ عن جميع أنظمة الحكم الأخرى، والحاكم في دولة الإسلام يستمد سلطته من الناس بموجب الرضا والقبول والبيعة، ويُحَاسَبُ أمام الناس، والأمة في الإسلام هي التي تختار حاكمها، وهي صاحبة المشورة، وهي التي تنصح له وتعينه، وتحاسبه وتعزله إذا انحرف أو جار، والحكم في الإسلام يكون بمقتضى شرع الله المستمدُّ من كتابه وسنة رسوله، ودولة الإسلام تحترم الأديان، وتكفل حقوق الإنسان، وتصون الحريّات في إطار ضوابط الشرع، وتشجّع العلم وتحفظ القيم والأخلاق.
* وإن تعجب فعجبٌ أن يمارس كاتبُ المقالِ النقلَ والإسقاط، فيخرجُ من سردِه التاريخي إلى نتيجةٍ لا علاقة لها بما زعم من مساوئ الحكّام قائلاً " انقلب المفهوم الديمقراطى الذى يمثل جوهر الإسلام إلى حكم بالحق الإلهى يعتبر المعترضين عليه كفاراً مرتدين عن الدين يجب قتلهم "، وهذا النقل الحرفي لمساوئ وعيوب الدولة الدينية الغربية والإسقاطُ المتعمّد على الحكم الإسلامي ما هو إلا ترغيبٌ في العلمانية وترهيبٌ من الدولة الإسلامية.
* امّا الدولة المدنية التي نادى إليها كاتب المقال فقد اختلفت وتعددت المفاهيم التي ارتبطت بها، حتى بلغت طرفي نقيض، فالبعض يعرّفُها من منظورٍ علمانيّ –وفق ما يريده الكاتب- بأنها "استقلال الإنسان بوضع التشريعات التي تحكم أمور الحياة، وقصرالدين على الشعائر التعبدية بالمعنى الضيق المحدود"، بينما يُقرِّب آخرون بين المفهوم الغربي للدولة المدنية وبين الإسلام فيرون أن الدولة في الإسلام مدنية، وهي بهذا المفهوم دولة المؤسسات التي تحكم من خلالها، لا تسمح للحاكم بالاستبداد، وتتيح انتقال السلطة، دستورها من القرآن والسنة، وتقبل من النُّظُم البشرية كل ما لا يتعارض مع الإسلام، إذ ما يكون لنا أن نُشرِّع بمحض إرادتنا دون التفات إلى موافقة الشريعة أو مخالفتها، وهذا التناول الذي يوائم بين الأفكار المعاصرة وبين ما هو مستقر في الشريعة قد دعى بعض القوى الإسلامية لقبول التطبيق الحالي له في مجتمعنا.
ثالثاً: تطبيق الشرع..والتحديات المعاصرة:
* تلك المقولة التي كان يرددها البعض "لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين" أصبحت شيئاً من الماضي لا يُلتفتُ إليه، فالإسلام دينٌ ودولةٌ، والدين والدولة متلازمان لا ينفصلان، الدين هو منهاج الدولة الذي يصلح لكل زمان ومكان، والدولة تمثل هذا الدين، فإذا أقيم الدين استقامت الدولة، ولقد أثبتت التجارب التي عاصرناها فشل الفصل بين الدين والدولة ، أو بين الشرع والحُكم ، فهذا الفصل في حقيقته ما هو إلا تضييعٌ للشرع وإضعافٌ للحُكم.
* والمتابع للإعلام المصري في أعقاب الثورة لا يحتاجُ إلى فِطنةٍ ليلحظ تلك الحملة المنظَّمة التي تهدف إلى تشويهِ معنى تطبيق الشريعة، وإظهارها بمظهر مقزِّز مرعب ينحصر في تقطيع الأيدي والأرجل وتطبيق العقوبات، وانتقاص كرامة المرأة وهضم حقوق الأقليات، وما أكذب تلك الإدعاءات!
ولنا أن نتساءل...ما يضيرُكم أن تُطبَّق الشريعة؟
* إن ما شرعه الخالقُ لعباده هو الأصلح لإدارة حياتهم وشئون معيشتهم، لا يحقق مصالحَ فئةٍ دون الجميع، ولا تشوبه عيوبُ التشريع، ولا تقودُه الثغراتُ إلى الترقيع.
* وتطبيقُ الشريعةِ من خلال دولة المؤسسات المنبثقة عن إرادة حرة تلتزم بالشورى وتكفل الحرية للجميع -على اختلاف انتماءاتهم الدينية والعِرْقية وتنوُّعِ طوائفهم ومللهم- هو السبيل للقضاء على الفساد الذي طالما عانينا تحت وطأته.
* وإنَّ تطبيقَ الشريعةِ ليدفعُ أبناءَ المجتمعِ دفعاً إلى إحياء الحضارة الإسلامية، وإلى الاهتمام بالعلم ، وإلى العمل والإنتاج، بل وإلى تشجيع الإبداع في مجالات الأدب والفن على نحوٍ ينسجم مع تعاليم الدين وينضبط بضوابطه، وفي هذا الإطار تكون الأحكام الجنائية التي شرعها الإسلام لَبِنَةً في هذا البنيان، تحمي المجتمع من الجرائم والعدوان، وتكون إلى وقاية المجتمع أقرب منها إلى عقابِ الأبدان.
* ورغم أن كاتب المقال ينتهي إلى أن الديموقراطية هي الحل، فإننا نجد من العلمانيين اليوم من يؤثر الديكتاتورية صراحةً على الديموقراطية إن هي أتت بقوى إسلامية، وذلك انحراف خطيرٌ عن قواعد اللعبة الديموقراطية، يدل على أن العداوة للاتجاهات الإسلامية مقدّمةٌ عندهم على تطبيق الديموقراطية، تلك التي يريدونها إذاً هي ديموقراطيةٌ تفصيل، لا وجود لمثلها في التاريخ ولا تأصيل!
* إنّنا اليوم في ميدانٍ للتنافس، سمح بالتعددية واعتمد الديموقراطية، فلنقبل بالأحزاب السياسية على اختلاف تنوعاتها الفكرية، ولننبذ جانباً إدعاءات التلاعب بالعواطف الدينية وعبارات التخوين، فتلك حُجَّةُ الضعيف المسكين ، وليبادر كلُّ حزبٍ بإعداد برنامجه وطرحه للناخبين، فتلك سبيل الديموقراطية إن كنتم حقاً راغبين.
* نستشعر اليوم أن حب الإسلام وقبوله كناظمٍ حاكمٍ للدين والدنيا يجري في عروق الأغلبية المسلمة من المصريين ويمتزج بدمائها، إنه طاعةٌ لرب العباد وانصياع، إنه حبٌ بالفطرة توشك أن تترجمه صناديق الاقتراع، يلقى عندهم القبول، مهما دق الإعلام في معاداته الطبول، وما نتائج الاستفتاء على التعديلات الدستورية منكم ببعيد، أليس من حينها ينافحُ أكثرُهم لتأجيل المواعيد؟ .... تلك هي المعطيات على أرض الواقع، والتي تهَبُ للأحزاب ذات المرجعية الاسلامية السند والدافع.
* لقد تكشَّفت كثيرٌ من الحقائق مُؤَّخراً للعيان، لتثبت أن مجتمعنا لن يقطن في عمارة يعقوبيان!
لا حرب اليوم مع طواحين الهواء! فتلك الطواحين قد تبسّمت للاسلاميين، وأصبحت مصدراً يمنحهم الطاقة المستمرة، لبناء مصر جديدة مستقرّة.
المصدر: http://saaid.net/arabic/459.htm