إصلاح الإسلام : بدراسته وتدريسه بعلوم الأديان

حديث مع العفيف الأخضر أجراه : ناصر بن رجب و لحسن وريغ

المقدّمة الثانية تجيب على سؤالين:

 

لماذا هذه الطبعة الرقمية الثانية؟ ولماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؛ عن الأول، لأن الحلقات الـ6 المنشورة في 2009 كانت ناقصة، في انتظار إتمامها مع محاورين آخرين. وهو ما لم يحدث؛ وعن الثاني، لأن المسلمين لم يعوا ضرورة إصلاح الإسلام أو لم يعرفوا كيفية إصلاحه. وللتخفيف عليهم، لم تكن الظروف الموضوعية لا في القرن الـ 19 ولا في بداية القرن الـ 20 تسمح بذلك.

1ـ الحلقة الأولى: مبررات إصلاح الإسلام:

إصلاح الإسلام، كان دائماً ضرورياً، ولكنه لم يكن دائماً ممكناً. أما اليوم فهو ضروري وممكن. بدأ إصلاحه في تركيا منذ 1924، بإلغاء الدولة الدينية وتعويضها بالدولة العلمانية، وبدأ إصلاحه في تونس منذ 1957، بإلغاء الأساسي من الأحوال الشخصيّة الشرعيّة، وتعويضها تدريجياً بأحوال شخصيّة تجمع بين الحداثة والاستنارة الدينية. المطلوب اليوم هو فقط قرار سياسي وفكري شجاع يقرر دراسة وتدريس الإسلام بعلوم الأديان.

2ـالحلقة الثانية : إعادة تعريف إصلاح الإسلام بعلوم الأديان:

علوم الدين الإسلامية القديمة تجاوزها التقدم العلمي. وحدها علوم الأديان الحديثة قادرة على إصلاح الإسلام. وهي مثلاً لا حصراً: تاريخ الأديان المقارن، سوسيولوجيا الأديان، علم نفس الأديان… إلخ. مبادئ هذه العلوم كونية، إذ أنها أصلحت الأديان الأخرى، كل ما تحتاجه في الإسلام هو تطبيق خلاق لمفاهيمها ومناهجها على دراسة الإسلام وشخصياته وتاريخه.

3ـ الحلقة الثالثة: الجنة رمز رحم الأم:

تقدم إضاءة نفسية لفهم بعض الرموز الدينية؛ الجنة مثلاً هي، كما قال فرويد، رمز لرحم الأم، الذي أقام فيه الجنين يأتيه رزقه رغداً، والنار هي ذكرى الصدمات التي كابدها الطفل، منذ صدمة الولادة إلى صدمة الختان مروراً بالباقي. والشعائر، كالوضوء للصلاة، يمكن تفسيرها باضطرابات الوساوس القهرية، التي ترغم المصاب بها على غسل يديه أكثر من 100 مرة في اليوم. من وظائف علوم الأديان، جعلُ العلاقة بين الدين والإنسان شفافة بلا ألغاز تستعصي على التفسير العقلاني والعلمي.

4ـ الحلقة الرابعة: كيف لفق ابن إسحاق حد الرجم:

تستعرض نمازج من اللامعقول الديني، المطلوب تخليص الأجيال الطالعة منه، كـ"تفخيذ الرضيعة" أي تدليك الراشد لفرجها بقضيبه، لأنه تزوجها" على سنة الله ورسوله"، فقط حتى يصبح مسموحاً له شرعاً رؤية أمها بلا حجاب! كيف ستتخلص هذه الأجيال من هذا اللامعقول الديني المرعب؟ بالعقلانية الدينية المتناغمة مع جميع مكاسب الحداثة العلمية والتكنولوجية ومع قيم حقوق الإنسان وحقائق عصرنا.

5ـ الحلقة الخامسة: خطر تذويب الفرد في الأمة:

أحد الرهانات الكبرى لإصلاح الإسلام، هي توفير الشروط، خاصة الدينية، لميلاد الفرد المستقل، الذي يختار قيمه ونمط يحياته وتدينه بنفسه، على أنقاض العضو الذائب في الأمة، قيمه، نمط حياته وتدينه نسخة طبق الأصل من مثيلاتها السائدة في الأمة. هذا العضو المذوّب في الأمة هو الذي تحتاجه منظمات الإرهاب الإسلامي، لتحوله إلى صاروخ موجّه، لهز استقرار بلدانها أو لهز استقرار العالم.

6ـ الحلقة السادسة: الانحطاط هزيمة العقل:

الانحطاط كان هزيمة العقل في اليونان أمام الأسطورة، التي احتل بها المنشدون "لاجورا [=الساحات العامة]"، على أنقاض الجوارات الفلسفية التي كانت تدور فيها؛ والانحطاط في الإسلام، هو هزيمة العقل الإعتزالي والفلسفي أمام هجمة اللامعقول الديني، الذي مثله المحدّثون، الذين كان شعارهم قول الترمذي، تلميذ البخاري: "من أصاب في القرآن بالرأي [= العقل] فقد أخطأ ومن فسر القرآن بالرأي فقد كفر". لماذا؟ لأن عليه أن يفسر القرآن ليس بالمعقول بل بالمأثور: الحديث. منذ منتصف القرن 11 م، وخاصة منذ بداية القرن 12 م، ُطردت" العلوم الدخيلة"، أي العلوم اليونانية كالمنطق والفلسفة والرياضيات والموسيقى، واحتلت مكانها العلوم الشرعية!

7ـ الحلقة السابعة: من أجل انتصار دين العقل:

فاعلوا دين العقل هم 3 : التعليم، الخطاب الديني المستنير والتعليم العقلاني، الذي يقطع مع عبادة الأسلاف التي تحكم على عقل المسلم بالشلل وتصيبه بالُفصام: يعيش في القرن الـ 21 بذهنية وتقاليد و"علوم" القرن الـ 7 !، الخطاب الديني المستنير هو الذي يقطع مع ركام المرويات الخرافية، التي تحول رأس المسلم إلى مزبلة للامعقول الديني؛ والإعلام المكتوب والسمعي البصري، الذي يقدم وقائع تاريخ الإسلام كما وقعت فعلاً أو ترجيحاً. هذه العوامل جميعاً تتضافر لإنتاج العقلانية الدينية المنفتحة على مؤسسات، علوم، قيم وحقائق العالم الذي نعيش فيه.

8ـ الحلقة الثامنة: رهانات الانتقال من التربية الجنسية التقليدية والدينية إلى التربية الجنسية العلمية:

1ـ تحرير ضمير الأجيال الطالعة الأخلاقي، من الشعور بالعار والشعور بالذنب من ممارسة الحرية الجنسية، أي الجنس بين الراشدين الراضين.

2ـ تفكيك مشروعية التربية الجنسية الدينية، بالعلم، هو المدخل للتحرير من مشاعر العار والذنب.

3ـ التأكيد على أن الحرية الجنسية حق طبيعي من حقوق الإنسان لا تفريط فيه.

4ـتوضيح الفرق بين غاية الجنس الحيواني وغاية الجنس البشري: الأول غايته الإنجاب حصراً؛ والثاني غايته المتعة الجنسية والإنجاب نتيجة طبيعية له للحفاظ على النسل وليس غايته الحصرية.

5ـ الصراحة الجنسية هي وسيلة التربية الجنسية العقلانية، لتنوير الطفل والمراهق بحقائق الجنس العضوية والنفسية، لوقايته من السقوط ضحية القيل والقال الجنسي. ومن بعض ضحاياها من المشاهير: من العرب، الإمام الشافعي، المعري وخليل جبران؛ ومن الأوربيين، سبنيوزا، كانط، نابليون وبودلير؛ أما ضحاياها من عامة الناس، خاصة في أرض الإسلام، فيعدون بعشرات الملايين!

ربما، لأول مرة كُسر المسكوت عنه الجنسي. لكنه، لا يزال في حاجة إلى مزيد التكسير، بالتحيل العلمي، وبممارسة الحب بين الراشدين الراضين. شرط أن تكون واثقة من نفسها: أي لا تقرأ حساباً لقال الدهماء وقيلهم. الدهماء، هم جميع أولئك الذين يدافعون عن المحرمات الجنسية، الدينية والتقليدية، اللامعقولة؛ ويحرمون اقتحام بوابة الممنوعات المضادة لغرائز الحياة، مهما كانت ألقابهم الدينية أو الجامعية. وهم كثيرون نظراً للغياب المزدوج: غياب إصلاح الإسلام وغياب إصلاح التعليم.

هل لك أن تلخص للقراء في كلمات معدودة الخطوط الكبرى للإصلاح الديني؟

 للقرّاء ولصنّاع القرار، أقول في بداية القرن العشرين كان الخيار: إصلاح أم ثورة. وفي بداية القرن الحادي والعشرين غدا الخيار إصلاح أم فوضى دامية على الطريقة الصومالية مثلا. اختارت أوروبا الغربية الإصلاح فقطعت الطريق على الثورة. فهل سيختار العالم العربي والإسلامي الإصلاح لقطع الطريق على الفوضى؟

الفوضى اليوم تعني أن يصبح العالم، وكل بلد فيه، غير قابل للحكم. فاختاروا إذن الإصلاح الديني، كمدخل للإصلاح الشامل السياسي، والاقتصادي، والعلمي، واللغوي والتربوي. الإصلاح الديني هو اليوم المدخل لقطع الطريق على هجوم الجنون في التاريخ، على تحويل المؤسسات التعليمية والإعلامية إلى منابر للتكفير والفتاوى، المضحكة حينا والمبكية حينا، وعلى تحويل المستشفيات إلى مسالخ لقطع الأيدي، وتحويل الساحات العامة إلى أمكنة يتبارى فيها المصابون بالطاعون العاطفي على رجم المحبين، وشنق المفكرين الأحرار، وتحويل عواصم أرض الإسلام إلى أكثر من طهران، يصطاد فيها "حراس الثورة" الشباب الجامعي كما يصطادون الأرانب.

سأطرح سؤالين الأول: لماذا هذه الطبعة الثانية المنقّحة والمزيّدة؟ كنت أتوقع أني سأتمكن، في حوارات لاحقة من مواصلة هذا الحوار، لتحليل المسكوت عنه في الدين والجنس؛ في الدين، حولت المسكوت عنه إلى مُتحدّث فيه بما فيه الكفاية؛ أما في الجنس لم أحول المسكوت عنه إلى متحدث فيه إلا بتعريف الحد الأدنى. كان لابد من حلقة خاصة بالتربية الجنسية العلمية، لتصفية حساب التربية الجنسية الدينية والتربية الجنسية البرية، اللتين تنتهكان مبادئ التربية الجنسية العلمية بفظاظة. وهكذا تلحقان أذى فادحا بحياة أجيال الغد الجنسية. وقد أضفت هذه الحلقة في هذه الطبعة. مواصلة الحوار لم تتم لعدة أسباب، أحدها وأهمها، تقديم الصحفيين، اللذين اتصلا بي، اعذاراً واهيا لعدم إعادة الحوار إليّ بعد تسجيله، لمراجعته وتنقيحه قبل نشره؛ فالاستشهادات من الذاكرة تحتاج إلى تصحيح، وبعض المفاهيم تحتاج إلى تدقيق؛ا لحوار الشفوي غير كاف لذلك. تجربة الحوارات أفقدتني الثقة فيها؛ الصحفيون الذين حاوروني، باستثناءات قليلة، راقبوا خطابي، وشوهوه وقوّلوني حماقات لم أقلها وما كان من الممكن أن أقولها! الصحفيان أقسما لي بجميع آلهتهم، بأنهما لم يفعلا مثل الآخرين. لكن "الآخرين" أقسموا أيضاً، لكنهم سرعان ما حنثوا بقسمهم وخانوا فكري. ليس طبعاً عن كراهية، بل عن حب مفرط "ومن الحب ما قتل"؛ مثلاً، سيد محمود، في الأسبوعية "الأهرام العربي"، صّدر الحلقة الأولى من حديثي ـ حديثه هو بالأحرى، الذي قال فيه على لساني ما ضاق به صدره وتلجج به لسانه: "أما الماركسية، لأنها يهودية لم أقترب منها"! بل ألف نقطة تعجب واستغراب. أرسلت "1000 كلمة" تصحيحاً لتقوّلات الحلقتين، لكن كالعادة لم تنشر! أما حسن بن عثمان، ودائماً عن حسن نية "وحب واحترام لشخصي"، كما أكدت على لسانه د.رجاء بن سلامة، وهي صادقة وهو أيضاً صادق. لكن دوافعه اللاشعورية، التي أسقطها عليّ، لم تكن في صالحي: تحدث عن أمه هو على أنقاض حديثي عن أمي، ترجم فصحى الحياة المسجوعة التي تتكلم بها أمي، إلى رطانة الفقهاء قوّلني مراراً حماقات مضحكة حيناً ومبكية حيناً. المضحكة مثلاً: "خصصوا[=حكام جنوب اليمن] سيارة فاخرة" لتنقلاتي. أولاً، أكره السيارات الفاخرة، المسؤولة الأولى عن تلويث البيئة، وثانياً لا أحب الفاخر من أي شيء، خاصة الثياب والطعام؛ والحال أن ما قلته حقاً "سيارة أندروفر"، فأسقط حسن حاله على حالي، معتبراً ذلك إهانة لابن بلده لا يستحقها، فصححها بكذبة بيضاء! السيارة المذكورة كانت لزيارة القبائل ومساحلة البحر في أوقات الجزر، ويبدو أن السيارات الفاخرة لا تستطيع ذلك. ومبكية حقاً مثلاً:

جنوب اليمن، في 1969 تاريخ رحلتي، يرأسه رئيسان جمهورية في وقت واحد: عبد الفتاح إسماعيل، وفي الصفحة نفسها سالم ربيع! من خواص الذهنية البدائية، أنها تقبل تعايش النقيضين: والحال أن الثالث المرفوع، أي استحالة التعايش بين النقيضين، مبدأ مؤسس في المنطق والعالم المعاصر معاً. رئيس جمهورية اليمن، في 1969 لا يمكن أن يكون إلا أحد اثنين: إما سالم ربيع وإما عبد الفتاح إسماعيل؛ أما أن يكون لجمهورية واحدة رئيسين في وقت واحد، فهذا محال. تصوروا أن الحديث المنسوب إلىّ نشر بعد موتي: كان سيكون موتاً ثانياً! وهذا غيض من فيض!

من حسن الحظ أني اطلعت على حديثه قبل نشره فوضعته جانياً ونشرت حديثي، ملخصاً ومركزاً، تحت عنوان: "مفتاح شخصيتي النفسية هو علاقتي بأمي"، بالمناسبة هذه الجملة التي قلتها في الحديث، بنية أن أجعل منها عنواناً له، أسقطها حسن من حديثي، كما أسقط جملاً وفقرات بكاملها مهمة [هذا الحديث وحديث ثاني منشور في إيلاف يمثلان لوحتين مهمتين من سيرتي الذاتية].

السؤال الثاني ـ وطبعاً الأهم ـ هو الإجابة عن سؤال شكيب أرسلان: "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم".

لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ لأنهم لم يعرفوا أو لم يستطيعوا إصلاح الإسلام!

"لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم"؟ هو السؤال، بألف ولام التعريف، الذي طرحه على النخب المسلمة شكيب أرسلان ومازال مطروحاً! عصره لم يكن يساعده على الإجابة السديدة. فقد هوّم وحوّم وقال الشيء ونقيضه… مقدماً لهذا السؤال الوجيه إجابات قلما كانت وجيهة! وفي المقابل عصرنا، عصر ثورة الاتصالات وتسارع التاريخ، أي التقدم العلمي والتكنولوجي وتبلور علوم الأديان، وانتصار حقوق الإنسان، كما حددتها المواثيق الدولية، على رواسب الهمجية سواء في القوانين الشرعية أو غير الشرعية، عصر الانتقال شبه النهائي من الحاكمية الإلهية إلى حاكمية العقل البشري غير الكاملة لكنها قابلة للكمال، يساعدنا على تقديم إجابة عن إمكانية واقعية لإصلاح الإسلام: "بدراسته وتدريسه بعلوم الأديان" ضمن ديناميك مشروع إصلاحي شامل لكل قطاعات الحياة السياسية، والاقتصادية، والديموغرافية، واللغوية، والثقافية والدينية وفي مقدمتها جميعاً إصلاح صناعة القرار.

علوم الأديان تساعدنا على جعل مظاهر وشعائر وعقائد وبواعث الدين شفافة، بتقديمها فرضيات وحقائق نستنير بها لفهم ظاهرة الله، والنبوة، والإيمان والتعلق الوسواسي بالشعائر، والرغبة النرجسية في الخلود في حياة أخرى بعد الموت، كمسكن لقلق الموت.

وبهذه المناسبة، أزفّ بشرى لضحايا القلق الديني والمخدر، الديني والدنيوي، كالشعائر الوسواسية والمخدرات والكحول: "حبة السعادة"، هي دواء جديد، قيد التجربة، مضاد للقلق والاكتئاب، منشط ومفرح. حسبُ المكتئب تناول حبة كل صباح ليشعر فوراً بالارتياح والسعادة. ليس لحبة السعادة أعراض جانبية، ولا تسبب الإدمان عليها أو التبعية لها. لا شك أنها ستساعد على شفاء الكثيرين من المدمنين على الكحول والمخدرات، أو الشعائر الوسواسية، أو الرغبة السادية في التلصص والتجسس على حياة الآخرين لـ"نهيهم عن المنكر". حبة الساعدة كفيلة بتحريركم من سعادتكم الوهمية وشقائكم الحقيقي. إنها برهان، لمن مازال في حاجة إلى برهان، على أن العلم والتكنولوجيا عوضا الدين في توجيه حياة الإنسان المعاصر إلى سواء السبيل.

الجديد يسبح ضد التيار خاصة في الدين؛ الإنسان التقليدي يرهب الجديد، يخشى الأسئلة المزعجة لأنها تزعزع قناعاته الراسخة والمطمئنة.

عدت من المدرسة ذات يوم والتقيت بخالي "رزق" الأمي. سألني: واش اتعلمت اليوم؟ أن الشمس لا تغرب ولا تشرق. هذا مجرد خطأ شائع وخدعة بصرية كما قال الأستاذ. الصحيح هو أن الأرض دارت حول نفسها في 24 ساعة. قطب حاجبيه ايش بيك، ضربوك الجنون؟ وقام وتركني في المقهى ولم يدفع ثمن كأس الحليب وهو يعرف أنه ليس في جيبي فلس!

من تغويهم السباحة ضد التيار، هم الذين تعلقوا منذ الطفولة بالرغبة في اكتشاف المستور: اكتشاف أعضاء الأبوين الجنسية، الرغبة الجامحة في التلصص عليهما من ثقب باب الحمام عاريين. وهذا ما يسميه علم النفس فوايوريزم. هذا هو المحرك النفسي الخفي للبحث الفكري والعلمي والثقافي الذي طالما أورد "المصابين" به موارد الهلاك، خاصة في عصور محاكم التفتيش الكاثوليكية أو في عصر الفتاوى، التي يفبركها اليوم بغزارة الهذيان الديني الإسلامي.

الهذيان الديني هو اليوم، عند فقهاء أقصى اليمين الإسلامي التقليدي والسياسي، رد فعل مجنون عن تكذيب الاكتشافات العلمية المتسارعة، ليقينياتهم العمياء؛ عمياء لأنها استعصمت بالقراءة الحرفية للنص، وبظاهر النص، مما يجعل من يمارسونها في صدام عنيف مع علوم ومؤسسات وقيم العالم الذي يعيشون فيه.

خصوم المجددين هم المحافظون. وهم مثلهم مولعون بالتفرج على لذة المتناكحين. لكن التربية العائلية، الفظة والجاهلة بمبادئ تربية الطفل، كبتت فيهم هذه الرغبة كبتا عنيفاً، فتحولت إلى عكسها ونقيضها: غض البصر: الحياء، والحياء في العربية هو "الحشمة والتوبة وانقباض النفس من الشيء وتركه خوفاً من اللوم "(المنجد). خصوم التجديد والإصلاح" خوفاً من اللوم "هم المحافظون الذين يريدون بقاء دار لقمان على حالها. شعارهم: "الباب اللي يجيك منو الريح سدو واستريح".

التاريخ يصنعه من ينتمون إلى المتلصصين من ثقب الباب، الذين لولاهم لبقيت البشرية عاجزة عن العمل والتفكير: عن اختراع الآلة واختراع الأفكار، اللذين تطور بهما القرد إلى إنسان.

من الصعب التخلص من الشلل النفسي لمن أصيبوا به. لكن يمكن بالتعليم، والإعلام، والخطاب الديني المستنير مساعدة الأجيال الطالعة، على الانتقال من الإيمان الأعمى إلى الإيمان كرهان. الذي يبدو أنه يمتلك زمام المستقبل. فالتعصب الديني والتعصب العنصري هما في موقف دفاع، أمام دفق المعلومات والقيم التي تحملها الشبكة العنكبوتية بسرعة الصوت والضوء.

في الواقع تخلت غالبية المؤمنين، في الديانات التوحيدية التي أنجزت إصلاحها، عن اليقين الديني الأعمى، منتقلة إلى الإيمان كرهان. مجرد رهان، محاكاة للرهان البسكالي الشهير: "لنزن الربح والخسارة في الإيمان بوجود الله. لنقدر ثمن هاتين الحالتين: إذا كسبت [=في رهانك على وجود الله] فقد كسبت كل شيء؛ وإن خسرت لن تخسر شيئاً. فلنراهن إذن على أنه موجود بلا تردد."

الإيمان كرهان، ملحوظ اليوم حتى لدى بعض الكهنة والحاخامات، فضلاً عن المؤمنين بالديانات الوثنية الكبرى. بدوري، أراهن على أن إصلاح الإسلام، بدراسته وتدريسه بعلوم الأديان، سيُسرع ويُعمم الإيمان كرهان في الإسلام أيضاً، على أنقاض إيمان العجائز.

الهدف من إصلاح الإسلام هو جعل الإسلام المعاصر يتبنى العقلانية الدينية الإسلامية. لأنه بها سيقف على قدم المساواة مع جميع الديانات الكبرى الأخرى، التوحيدية والوثنية، التي تبنت العقلانية الدينية قاطعة مع إيمان العجائز المطلق والساذج.

ما المقصود بالعقلانية الدينية؟ قبول مؤسسات وعلوم وقيم العالم الذي نعيش فيه. وخاصة اعتناق الدين العلماني العالمي، دين حقوق الإنسان، المناسب لجميع الديانات، شرط أن تحترم هي قيمه الكونية، التي يسلم بها كل عقل سليم أينما كان: مثلاً حرية التعبير، حرية التدين، حرية الضمير، المساواة الكاملة في الحقوق والكرامة بين الرجل والمرأة، والمسلم وغير المسلم، والعربي وغير العربي، والمؤمن وغير المؤمن وبين المؤمنين مهما اختلفت انتماءاتهم الدينية أو الطائفية. هذه الحقوق غدت اليوم مسلمات، في جميع الديانات الكبرى، لا تجادل فيها إلا فرق متعصبة محدودة العدد والتأثير. إلا في الإسلام فمازال قطاع واسع يقف منها في أحسن الحالات موقف المتحفظ وفي أسوأها موقف الرافض والمحارب لها. الموقفان يلحقان بالإسلام والمسلمين ضرراً بليغاً، داخلياً وخارجياً: داخلياً ببقاء الدولة في أرض الإسلام نصف همجية، خارجياً بتغذية الإسلاموفوبيا. وهكذا يلطخ الموقفان صورتنا في مرآة الرأي العام العالمي، وما من شعب يستطيع تجاهل حالة صورته في مرآة الرأي العام العالمي. مما جعل اليوم تقديرنا لأنفسنا، واعتزازنا بها مازال في الدرجة صفر. لأننا مازلنا عاجزين عن أن نكون معاصرين لعصرنا دينيا، سياسياً، اقتصادياً وأخلاقياً. والحال أن المطلوب هو أن نكون معاصرين لمعاصرينا في جميع الميادين.

بالإصلاح، نريد التخلص من الشلل النفسي الملازم لعبادة الأسلاف وطريقة تدينهم التي لم تعد من هذا العالم: عالم حقوق الإنسان والمواطن. نريد التخلص من إسلام القرون الوسطى المتقادم، الذي يعبر عنه مشروع أقصى اليمين الإسلامي غير القابل للتحقيق اليوم: إسلام الإجماع، إسلام الجماعة المفروض على الفرد بقوة التقاليد أو بالقوة، إسلام تذويب العقل في النقل وتذويب الفرد في الأمة. مشروع دستور جماعة الإخوان المسلمين المصرية في سنة 2011 هو عينة تعبر بكثافة عن هذا الإسلام الفصامي، الذي أناخ بكلكليه على عقول المسلمين، منذ كفروا العقل وتسمروا ذهانياً في النقل والنرجسية الدينية الملازمة له.

 

 السيادة للشرع لا للشعب، المادة(20): "يقوم نظام الحكم على 4 قواعد هي السيادة للشرع لا للشعب. السلطان للأمة، تنصيب رئيس الدولة فرض على المسلمين، لرئيس الدولة وحده حق تبني الأحكام الشرعية، فهو الذي يسن الدستور وسائر القوانين؛

المسلم وحده ينتخب رئيس الدولة، المادة (31): "لكل مسلم بالغ عاقل رجلاً كان أو امرأة الحق في انتخاب رئيس الدولة وفي بيعته ولا حق لغير المسلمين في ذلك"؛

مبايعة رئيس الدولة مدى الحياة، المادة(43):"ليس لرئاسة الدولة مدة محدودة، فمادام رئيس الدولة محافظاً على الشرع منفذا لأحكامه قادراً على القيام بشؤون الدولة، يبقى رئيسا للدولة ما لم يتغير حاله تغيراً يخرجه عن رئاسة الدولة"؛

رئاسة التنفيذ للمسلم فقط، المادة(55):"يشترط فيمن يتولى إدارة التنفيذ أن يكون مسلماً…؛

تولي القضاء للمسلم فقط، المادة(71):"يشترط فيمن يتولى القضاء أن يكون مسلماً حراً، بالغاً، عاقلاً، عدلاً، فقيهاً مدركاً لتنزيل الأحكام على الواقع"؛

القضاء درجة واحدة، المادة(87):"لا توجد محاكم استئناف، ولا محاكم تمييز، فالقضاء من حيث البت في القضية درجة واحدة. فإذا نطق القاضي بالحكم، فحكمه نافذ ولا ينقضه حكم قاض آخر مطلقاً"؛

الاستعداد للجهاد، المادة(90): "الجهاد فرض على المسلمين والتدريب على الجندية إجباري، فكل رجل مسلم يبلغ الخامسة عشرة من عمرة فرض عليه أن يتدرب على الجندية استعدادا للجهاد"؛

المرأة أم وربة بيت وعرض لا غير، (المادة 100): "الأصل في المرأة أنها أم وربة بيت وهي عرض يجب أن يصان"؛

المرأة مقصاة من الولاية العامة، المادة (104): "لا يجوز أن تتولى المرأة الحكم، فلا تكون رئيس دولة ولا قاضياً في محكمة المظالم ولا والياً ولا عاملاً [=محافظ]"؛

الزكاة من المسلمين، المادة (131): "تجبى الزكاة من المسلمين …"؛

 الجزية من أهل الذمة، المادة (132): "تجبى الجزية من الذميين"؛

المصرف الوحيد هو بيت المال، المادة (156): "يمنع فتح المصارف منعاً باتاً، ولا يكون إلا مصرف الدولة، ولا يتعامل بالربا ويكون دائرة من دوائر بيت المال"؛

هدف التعليم تكوين العقلية الإسلامية، المادة (159): "سياسة التعليم هي تكوين العقلية الإسلامية والنفسية الإسلامية فتوضع جميع مواد الدراسة التي يراد تدريسها على أساس هذه السياسة"؛

الإسلام هو محور السياسة الخارجية، المادة (177): "الإسلام هو المحور الذي تدور حوله السياسة الخارجية، وعلى أساسه تبنى علاقة الدولة بجميع الدول"؛

رعايا الدول المحاربة تستباح أموالهم ودماؤهم، المادة (178): "علاقة الدولة بغيرها من الدول القائمة في العالم تقوم على اعتبارات أربعة (…) الدول التي بيننا وبينها معاهدات اقتصادية أو معاهدات حسن جوار (…) تكون العلاقات معها محدودة ومما لا يؤدي إلى تقويتها (…) الدول التي ليس بيننا وبينها معاهدات والدول الاستعمارية فعلاً كإنجلترا وأمريكا وفرنسا والدول التي تطمع في بلادنا كروسيا تعتبر دولاً محاربة حكماً (…) ولا يصح أن تنشأ معها علاقات دبلوماسية (…) الدول المحاربة فعلاً كإسرائيل مثلاً يجب أن تتخذ معها حالة الحرب أساساً لكافة التصرفات، ويمنع جميع رعاياها من دخول البلاد، وتستباح دماء وأموال غير المسلمين منهم"؛

الانسحاب من المنظمات الدولية، المادة (182): "المنظمات التي تقوم على غير أساس الإسلام، أو تطبق أحكاماً غير أحكام الإسلام، لا يجوز للدولة أن تشترك فيها، وذلك كالمنظمات الدولية، مثل هيئة الأمم، ومحكمة العدل الدولية، وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي".

هذه عينة من إسلام أقصى اليمين الإسلامي التقليدي والسياسي لا في مصر وحسب، بل وأيضا في بلدان إسلامية عدة: إسلام الولاء والبراء، أي الولاء للمسلمين والبراء من الكافرين ومعبوداتهم، ومؤسساتهم، وعلومهم، وقيمهم والجهاد فيهم باق إلى قيام الساعة! وهو إسلام يجيب جواباً بليغاً عن سؤال شكيب أرسلان، لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم!

هذا هو الإسلام الذي علينا أن نضعه في أرشيفات التاريخ، وليس على جدول الأعمال اليومي. هذا هو الإسلام، الذي يجب أن تختار النخب والجمهور المستنير بينه وبين إسلام العقلانية الإسلامية المنفتح على العالم الذي نعيش فيه.

مفتاح التجديد هو التفكيك وإعادة البناء. الهدف من إصلاح الإسلام هو تفكيك الإسلام العتيق، الذي قادنا إلى المهالك، واقتراح طريق سياسي جديد للإنقاذ العام؛ والتبشير بالأمل والتفكير في إعادة صنع عالم إسلامي حديث مندمج في العالم كما هو.

ملاحظة: رفض نبي الإسلام تجنيد الأطفال،15عاماً، لكن تحت إلحاح صحابته الشديد تراجع كعادته أمامهم وجند الأطفال في أحد، بعد أن كان رفض تجنيدهم في بدر. بعد أكثر من 14 قرناً، يريد أقصى اليمين الإسلامي انتزاع الأطفال من مقاعد المدرسة، لـ: "تدريبهم على الجندية استعدادا للجهاد، جهاد الدفع وجهاد الطلب!

محمد عُد من قبرك فأتباعك اليوم ُجنّوا.

قرأنا مقال العفيف الأخضر "لماذا إصلاح الإسلام" الذي نشر في الأوان قبل شهور وتوقعنا أن يكون الأول من سلسلة مقالات مخصصة لإصلاح الإسلام كما أوحت لنا بذلك نبرة المقال. انتظرنا بفارغ الصبر شهورا لكن بلا جدوى. بعد رحيل الفيلسوف المغربي الكبير د. محمد عابد الجابري فجأة فكرنا فورا في العفيف الأخضر، أطال الله عمره، ومشروعه لإصلاح الإسلام. اتصلنا به واستوضحناه عن توقفه عن مواصلة مقالات إصلاح الإسلام، فاتضح أن المانع صحي يتعلق بيده اليمنى التي يكتب بها. وليس له من يملي عليه. طلبنا منه حديثا مطولا، يلخص أفكاره الأساسية عن إصلاح الإسلام، فرحب بحماس وتمنى لو أن الأحاديث معه في هذا الموضوع تتواصل ليأسه من إنجازه بطريقة أخرى، بعد أن يئس من توظيف سكريتير حتى بنصف وقت. فكان هذا الحديث المنشور هنا على ست حلقات، نقدمها لعامة القراء وللباحثين المهتمين بموضوع إصلاح الإسلام الخطير. وشكرا للأستاذ العفيف الأخضر شفاه الله على هذا الحديث المفيد. ونطالب وزراء التعليم في الوطن العربي دراسة مقترحاته وإدراجها في برامج التعليم الديني، لتحقيق الانتقال مما يسميه مدرسة اللامعقول الديني إلى مدرسة العقلانية الدينية الإسلامية، اللائقة بديننا الحنيف في القرن الواحد والعشرين.

1ـ مبرّرات إصلاح الإسلام

الفكرة الشائعة أن الإسلام لا يقبل الإصلاح فعلى ماذا تراهن؟

ـ قدم الإسلام في تركيا منذ 1924 حتى الآن، وفي تونس منذ 1956 حتى اليوم، البرهان على قدرته على إصلاح نفسه نسبياً على الأقل. فما الذي يمنعه من تقديم البرهان على هذه القدرة في باقي البلدان، وعلى نحو أشمل وأعمق؟ إصلاح الإسلام اليوم ضروري وممكن. ما ينقص هو الشجاعة السياسية والشجاعة الفكرية. صحيح أن عتاقة النخب الدينية، في أقصى اليمين الإسلامي السياسي والتقليدي، لا تسهل التكيف الضروري مع العالم الذي نعيش فيه. لكن الشجاعة مطلوبة لمثل هذه الحالات. شجاعة النخب، التي تملك رؤية واضحة للمستقبل الذي تقود إليه شعوبها برؤية واضحة، بلورتها صناعة قرار واقعي. حسب ابن قتيبه، الإجماع، إجماع نخب الأمة وسلطاتها التشريعية بالمفهوم المعاصر، "أهم من الحديث في التشريع". إذن إصلاح الإسلام لا يحتاج إلى نص ديني، بل إلى إجماع صناع القرار على أنه ضرورة ومصلحة. وكما يقول الشاطبي: وحيث المصلحة فثمة شرع الله.

هناك من يقول أن إصلاح الإسلام ليس أولوّية في عالم عربي مليء بالمشاكل والتحدّيات. فما هو رأيك أنت الذي تعتبره أولوّية الأولويّات؟

 إصلاح الإسلام هو أولويّة الأولويّات. لأنّ على الشروع في إصلاحه يتوقّف نجاح الورشات الأخرى التي تبدو في الظاهر لا علاقة لها به، كورشة الإصلاح الاقتصادي مثلا. ورشة إصلاح الإسلام لا تتنافى مع فتح الورشات الأخرى بل تتكامل معها وتقتضيها. ورشات الإصلاح جميعا يأخذ بعضها برقاب بعض. فورشات الإصلاح السياسي والاجتماعي والتربوي والديمغرافي واللغوي… جزء لا يتجزّأ من ورشة إصلاح الإسلام. القاسم المشترك بينها، أنّها جميعا تتطلّب كأولويّة مطلقة إصلاح صناعة القرار. سبب الأسباب لتخلّفنا، أو بما هو أدقّ، لتخبّطنا الطويل في أزمة الحداثة، التي نجتازها وعدم خروجنا منها سالمين حتّى الآن، هو سوء صناعة القرار، الذي مازال في تسعة على عشرة على الأقل من البلدان العربية، لا تصنعه المؤسَّسات صناعةً علمية يكون الكمبيوتر أوّل صانع له، بل تصنعه نزوات وهذيانات الحاكم الفرد. واحد من بين عشرات الأمثلة، صدّام حسين الذي افتخر بأنّ القرار، الكارثي عليه وعلى العراق وربّما على الشرق الأوسط كلّه، قرار ضمّ الكويت، اتّخذه بناء على حلم رآه في المنام؛ مُضيفا: اعتمادا على حديث محمّدي، بأن الحلم الصادق جزء من أربعين جزء من النبوّة. لكن الملاك الذي أوحى إليه بالحلم، نسي أن يوصيه بطرح السؤال المركزي، الذي توجبه صناعة القرار: "وماذا في صباح اليوم التالي؟" وهو السؤال الذي لم يطرحه قبله جمال عبد الناصر، عندما طرد القوات الدولية المرابطة على الحدود المصرية الإسرائيلية في مايو 1967، والذي كان سبب حرب الستة أيام؛ ولم يطرحه بعده السيد حسن نصر الله، عندما خطف الجنود الإسرائيليين الثلاثة، فتسبب في حرب 2006 ؛ ولم تطرحه حماس عندما رفضت تجديد الهدنة مع إسرائيل، فتذرعت بها حكومتها لشن حرب غزة سنة 2008. في الحقيقة طريق هزائم العرب والمسلمين، منذ اصطدامهم بالاستعمار، كان غالبا مفروشا بالقرارات الانفعالية التي يصنعها الفكر السحري، الذي يطلب من أضغاث الأحلام أن تتحول إلى رؤى صادقة، ومن التخييلات أن تتحول إلى حقائق. جميع منجزات الحداثة، منذ خمسة قرون إلى الآن، صنعتها قرارات سياسيّة شجاعة وذكيّة، مازالت بالنسبة للنخب العربية برسم الاكتشاف.

ماذا تعني بشجاعة وذكية؟

 أعني واقعية، تستلهم واقع عصرها. عكس القرارات المتهورة والغبية، التي تُرتجل تحت ضغط الأحداث والتي طالما اكتوينا بنارها، لأنها تستلهم عادة مخاوف صانع القرار اللامعقولة أو ردود فعله الهاذية، خاصة والبارانويا هي أعدل الأشياء قسمة بين حكام أرض العروبة والإسلام. العالم الذي نعيش فيه معقد وغير قابل للتّوقع، ومقاربته بالقرارات المرتجلة واللامعقولة تساوي الانتحار بشقّ البطن. أن تكون شجاعا وذكيّا، هو أن تعترف بأن الواقع والرغبة قلما يجتمعان. أي أن مبدأ اللذة ومبدأ الواقع نقيضان. وهذا ما لم يدركه بعد الإسلاميين والقوميين، الذين مازالوا يتفاوضون مع أنفسهم ويغالطونها في حقائق العصر الذي يعيشون فيه.

هلا وضحت أكثر علاقة الإصلاح الديني بصناعة القرار؟

هي علاقة وثيقة. صناعة القرار العربية، قلما احترمت المبدأ الأول لهذه الصناعة، الذي هو التعريف الدقيق، دقة المعادلات الرياضية، للمصلحة القومية، والحساب الدقيق للتكاليف والمكاسب، أي للخسارة والربح في كل قرار. وتجاهلت المجالات الاستراتيجية الأربعة: إصلاح الإسلام، والبحث العلمي، والتجديد التكنلوجي والتعليم الجيد بالمعايير الدولية. صنع قرار الإصلاح الديني اليوم يفترض التفكير في مخاطر النهاية المأساوية لأي مشكلة تطرح نفسها علينا، من أجل تغيير الاتجاه في الوقت المناسب. بقاء الإسلام من دون إصلاح، أي من دون فصل الدين عن الدولة، لتفادي مخاطر الحروب الطائفية والدينية، خاصة الحرب السنيّة ـ الشيعيّة، التي قد تتحول في إحدى مراحلها إلى حرب ذرية؛ ومن دون فصل الشريعة، خاصة في الأحوال الشرعية والقصاص، عن القانون الوضعي، ليغدو الوحيد المُطبَّق، سيسقط العالم الإسلامي في همجيّة تطبيق العقوبات البدنية التي ينطبق عليها وصف فرويد للمارسات النازيّة بأنّها "همجية ما قبل التاريخ"؛ ومن دون فصل البحث العلمي والإبداع الأدبي والفني عن الرقابة الدينية، سيبقى "الاشتباك بين القرآن والعلم"، كما أسماه د. عبد الصبور شاهين، دائما؛ ومن دون الفصل بين المؤمن والمواطن، سيبقى المسلمون ماثلين أكثر فأكثر في قفص اتهام المجتمع المدني العالمي لهم بالانتهاك المتكرر لحقوق الإنسان والمواطن، وبمعاملتهم المرأة كحشرة مُؤذية، وأقلّياتهم كأهل ذمّة، والعالم كدار حرب موعودة بالجهاد، الذي أخذ منذ الآن اسم الإرهاب الإسلامي العالمي؛ والذي تنعكس صورته سلبا على الإسلام نفسه في نظر الرأي العام العالمي وفي نظر قطاع من المسلمين أنفسهم!

يستمد الإصلاح الديني مشروعيّته، من إمكانية قطعه للطريق على مخاطر هذه النهايات المأساوية، ومن تكييف الإسلام مع عصره، الذي يتّجه في السيناريو المتفائل، إلى حضارة بشرية واحدة تتعرّف على هويتها في القيم الإنسانية الكونية المشتركة، وفي الضوابط الأساسية للعيش معًا، في عالم مُعَولَم تشابكت فيه مصائر البشرية، في السرّاء والضراء، إلى درجة أن سؤال الحكومة الإقليمية والحكومة العالمية أو "الكونفدرالية العالمية"، كما يسميها الفيلسوف والأنتروبولوغ ادغار موران، أصبح سؤالا مشروعا لمواجهة تحديات يتوقف على رفعها بقاء الحضارة، بل وربما بقاء النوع البشري نفسه.

ما هي نقاط الضعف في الحالة الإسلامية التي يمكن علاجها بالإصلاح الديني؟

 ما زال الإسلام لم يرفع حتى الآن تحدّي عوائقه الثلاثة، التي شخّصها رينان في القرن التاسع عشر: احتقار العلم الوضعي، ورفض البحث العقلاني في نصوصه بما هي كلام الله المُنزّه عن المساءلة العلمية، وفي رموزه بما هم فوق البحث والمساءلة، والخلط بين الروحي والزمني.

 وهذه هي عوائق دينية، وذهنية ونفسية تحالفت على كبت الإبداع الديني والسياسي والاقتصادي والعلمي والأدبي والفني؛ مثلا الرسم والنحت والموسيقى مازالت محرّمة في الإسلام. اليهودية، التي أخذنا عنها هذه المحرمات، تناستها لحسن حظ اليهود. ونحن مازلنا متسمرين فيها. تناست أيضا حد الرجم الدموي الذي أخذناه عنها. بالرغم من عدم وجوده في القرآن وتهافت الروايات عن رجم النبي لزناة… إيران، والسعودية، والسودان و"شباب الشريعة" في الصومال مازالوا يرجمون. الأمير خالد بن سلطان، وزير الدفاع السعودي، منعني سنة 2001 من الكتابة في "الحياة"، التي كانت مصدر عيشي الوحيد. لماذا؟ لأنني طالبت "في الجزيرة" بتدخل دولي لمنع الرجم في إيران، محتجا بأن السعودية هي أيضا ترجم، فتكون إذن مشمولة بمطلب التدخل الدولي. رئيس "النهضة"، راشد الغنوشي، اعتبر، في مقال وقعه، أن العقوبات البدنية الإسلامية، كالجلد، أرحم من السجون الأوروبية. فلماذا لا يعتبر الرجم أيضا أرحم من السجون الأوروبية، علماً بأن عقوبة الزنا نسخت من القوانين الأوربية منذ زمان طويل؟

عالم الإسلام مازال يمشي على رأسه، ونريد، "بإصلاح الإسلام"، أن نجعله يتعود المشي على قدميه.

لكن جمال الدين الأفغاني ردّ على رينان بأن جميع الأديان، معادية للعلم، وليس الإسلام وحده هو المعادي للعلم؟

 صحيح أن جميع الأديان، التوحيدية على الأقل، تنطبق عليها تهمة رينان، لكن اليهودية والمسيحية قبلتا أخيرا، طوعا أو كرها وبالأحرى كرها، رفع تحدّيات رينان الثلاثة. مثلا كشف علم الأركيولوجيا في إسرائيل على أن ما كان يُظَنّ وقائع تاريخية، في أسفار العهد القديم، لم يكن إلاّ أساطير؛ مثل الخروج من مصر، وشقّ البحر الأحمر بعصا موسى؛ وهيكل سليمان الذي اتّضح أنّه شخصيّة أسطورية، والملك داوود الذي كان يُعتبر شخصية تاريخية، اتّضح أنه شخصية نصف أسطورية. لا بأس بهذا الصدد من ترجمة كتاب (الكتاب المقدس وقد تَعرّى) تأليف الاركيولوجيان الإسرائيليّان نأ.سيلبيرمان وجفينكيلستين. احتجّ المتعصّبون من رجال الدين اليهودي، لكن العلماء الإسرائيليين لم يُقدّموا للمحاكمة، كما حوكم د. نصر حامد أبو زيد في مصر، ولا صدرت ضدّهم فتاوى بالقتل، كما يفعل رجال الدين الإسلامي، ولا بالطبع اغتيل أيّ عالم منهم، كما اغتيل فرج فودة وأيّد اغتياله بتهمة الردّة محمد الغزالي، أحد نجوم الإسلام السياسي. مؤخرا طالب مجلس البحوث بالأزهر بمحاكمة سيد القمني وحسن حنفي من أجل أفكارهما. مازلنا نعيد صلب الحلاج، وسلخ السهروردي، ونطارد التصوف والفلسفة والعلوم الحديثة وخاصة منها الإنسانية.

لماذا عجز إسلام الفقهاء عن رفع هذه التحديات؟

 بسبب افتقاده للقدرة على التكيف مع العالم الحديث. ديناميته الأولى، الجهادية، تحولت إلى عائق وعجز عن اكتساب دينامية جديدة تتطلبها الحقبة التاريخية. هي دينامية التكيف مع جديد التاريخ. عندما يفتقد الدين القدرة على التكيف والدينامية يسقط في الجمود الديني، الأب الشرعي لكل الانحرافات الدينية وفي مقدمتها عبادة الأسلاف.

ما المقصود بالجمود الديني؟

 هو تحريم السؤال، وفرض الأجوبة الجاهزة، الصالحة للجميع ولجميع الأزمنة وجميع الأمكنة، هو اليقين الجامد، وإيمان العجائز المطلق والساذج. إيمان العجائز يصلح للعجائز ولكنه لا يصلح للباحثين. هو العجز عن التطور وإنتاج الأفكار المجددة. وهو في الوقت نفسه محاربة القلة المجددة التي تظهر من حين لآخر، مثل الشيخ نجم الدين الطوفي الحنبلي الذي سُجن وأُتلفت كتبه، والفلاسفة والمتصوفة الذين راموا إصلاح الإسلام في عصرهم، وكلفهم ذلك أحيانا حياتهم مثل السهروردي والحلاج. مفتي مصر ورائد إصلاح الإسلام، محمد عبده، الذي رفض الأزهر لنصف يوم صلاة الجنازة عليه، لحسم النقاش الديني عمّا إذا كان مرتداً أم لا، ورائد تحرير المرأة التونسية من رق فقه العصور الوسطى، الطاهر الحداد، شيع جنازته بضعة أصدقاء…

وأنت ماذا تتوقع بعد عمر طويل؟

 تبرعت بأعضائي وأنسجتي لمن يحتاجون إليها لزرعها. ووهبت جثتي للعلم. لكلية الطب في أي بلد أموت فيه. عندما سلمت وصيتي لرئيسة الممرضات، في أحد المشافي الباريسية، قالت لي هذا إذا قبلتها كلية الطب، التي كثيرا ما ترفض لكثرة المتبرعين. قارن هذا مع تحريم فقهاء الجمود الديني تشريح الجثث. في 1973، كانت كليات الطب السورية تستورد من الصين الجثة بألف دولار. هذا التسمر في أحكام فقهية معادية للعلم، هو أحد أعراض عبادة الأموات الفرعونية، التي هي بدورها راسب من عبادة الأموات منذ العصر الحجري الحديث التي ترافقت مع شعائر الدفن، – كما يعلمنا ذلك تاريخ الأديان المقارن – التي جعلت فقهاء الإسلام يحتقرون الجسد حيا ويقدسونه ميتا. هذه الواقعة وحدها حافز على ضرورة التعجيل بإصلاح الإسلام.

قلتَ في مقال يتيم عن إصلاح الإسلام أنّ إصلاحه يمرّ بالانتقال من مدرسة اللامعقول الديني إلى مدرسة المعقول الديني. فماذا تقصد بذلك؟

كل إصلاح حقيقي هو إعادة تأسيس، هو ابتكار لنموذج جديد من العقلانية الدينية، التي لا تعترف من الدين خاصة، في المعاملات، إلا بما يقبله العقل الذي جسدته وثائق حقوق الإنسان. كل إصلاح ديني يمر بقتلٍ رمزي للأب؛ في موضوعنا، يمر بالقطيعة مع لامعقول التراث، وبحلّ مشكلة تنفيذ الجديد بالأدوات القديمة. العمليتان تتطلّبان إصلاح التعليم والإعلام والخطاب الديني جُملةً. لا، بل إن إصلاح الإسلام لن يتحقّق إلاّ بالانتقال من مدرسة اللامعقول الديني، المُستمرّة منذ قرون في اجترار أجوبة غدت متقادمة، إلى مدرسة المعقول الديني المنشودة الوحيدة المؤهّلة لعقلنة التعليم، والخطاب الديني بما فيه الخطاب الديني الإعلامي. الانتقال من مدرسة اللامعقول الديني إلى مدرسة المعقول الديني، يعني الانتقال من القراءة الحَرفيّة للقرآن خاصة المدني، السائدة إلى اليوم تقريبا في كل مكان من أرض الإسلام، إلى القراءات الأخرى المنافسة لها والتي همّشتها أو كفّرتها كالقراءة التأويليّة، والمقاصديّة، والرمزيّة والتاريخيّة التي مارسها القرآن نفسه بالناسخ والمنسوخ، أي نسخ الآيات التي لم تعد متكيّفة مع مستجدّات التاريخ. واصل الخلفاء الراشدون وبعض الفقهاء هذه القراءة الناسخة للأحكام التي لم تعد تستجيب للواقع المعيش. هذه القراءة الأولى للنّص المُؤسِّس، التي مارسها الراشدون، ضرورية لنا جدّا اليوم. وعلى مدرسة المعقول الديني أن تستعيدها. وهذا ما دشّنه اليوم كلٌّ من جمال البنا، وحسن الترابي، ومحمد الطالبي، وغالب بن الشيخ وأنا نفسي. للتاريخ، أوّل من طالب بالعودة إلى القراءة التاريخية لنسخ أحكام الآيات المتقادمة هو المأسوف على فقده، محمد عابد الجابري سنة 1988، وعندما استخدمت مصطلحه سنة 2002 بعد توسيعه وتعميقه نوهت بذلك.

قد يقول قائل هذه القراءات التي تحدّثت عنها تكفّلت بها علوم الدين الإسلامية، فلماذا اللجوء إلى علوم الأديان المعاصرة التي دُرست بها الأديان الأخرى، فلماذا لا نكتفي بإصلاح الإسلام من الداخل كما يقول الأستاذ الجابري رحمه الله؟

 كان ينبغي أن تُضيف الأديان الأخرى بما فيها الإسلام، وخاصّة الظاهرة القرآنية التي درسها بعض المستشرقين، وحتّى المسلمون أنفسهم، مثل محمد أركون في كتابه "قراءة القرآن"، ومحمد علي أمير معزي الذي أشرف على إصدار معجم القرآن بالفرنسية الصادر سنة 2007 . تُرجم إلى عدد من اللغات إلاّ لغة القرآن. هذه الواقعة وحدها إدانة لعدم إصلاح الإسلام حتى الآن، لذلك مازال يخشى، خشية الموت، دراسته بعلوم الأديان!

 القراءات الأخرى المقصودة يجب أن تستضيء بعلوم الأديان المعاصرة، لأن علوم الدين الإسلامية تجاوزها التطوّر العلمي، فلم تعد قادرة على التجاوب مع المتطلبات الحديثة لدراسة النّصين الإسلاميين المُؤسِّسين، القرآن والحديث، ولا على دراسة مُجمل التراث الإسلامي، الذي مازال بمنأى عن التحليل والنقد العلميّيْن، اللذين طُبّقا على تراث الأديان الأخرى، وخاصة اليهودية والمسيحية.

 

"التحديث من الداخل" غير منتج، وبصدد إصلاح الإسلام مثلا هو استحالة إيبستيمولوجية. علوم الأديان الحديثة تكونت في مناخ الثورات العلمية والفلسفية والصناعية الحديثة. وليس لها أشباه ونظائر، في تاريخ العلوم، لا عندنا ولا عند غيرنا من أمم الجنوب. وهذه العلوم ليست نبتة أو حيوانا يمكن تدجينه بتكييفه مع البيئة الجديدة. هي مفاهيم ونظريات وقوانين علمية دقيقة غالبا، تدجينها مرادف لإجهاضها. إذن هي غير قابلة للتدجين. المطلوب هو دراسة تراثنا بها بطريقة إبداعية؛ درس المستشرقون بعض تراثنا بالطريقة الفيلولوجيه، التي دُرس بها الكتاب المقدس، وترجم بها بلاشير القرآن ترجمة ساعدت كثيراً على كشف تناقضاته الداخلية، التي كثيراً ما تخفيها الترجمات الأخرى بما هي تأويل أي إعادة إنتاج للنص. قرأت 3 ترجمات إسلامية: ترجمة حميد الله، الصادق مازيغ وصلاح كشريد: لا أحد منهم لاحظ تناقضاً أي تشابهاً يجعل المعنى غامضاً؛ في المقابل، فإن بلاشير، وكذلك نولدكه، وضع مراراً علامة استفهام أمام الآيات والكلمات المتشابهات أي الملتبسات.

 

الخلفية الأيديولوجية، لشعار التحديث أو التجديد من الداخل، غير مقبولة علميا أيضا. فهي في الواقع تعبير عن "الخصوصية" العربية الإسلامية الشهيرة: نحن أمة استثنائية لا يصلح لها ما يصلح لغيرها من الأمم التي لم يكرمها الله بالإسلام… الله كلمنا لآخر مرة في التاريخ، فأعطانا الدين الحق، ولغتنا هي لغة أهل الجنة، وهما لا يقبلان الإصلاح إلا إذا كان من الداخل، وفي قول آخر أكثر انتشاراً، هما لا يحتاجان لأي إصلاح أصلاً: ألم يقل الله، "اليوم أكملت لكم دينكم"؟

 

نحن هنا أمام منطق عبادة الأسلاف النرجسي الإقصائي، السائد لدى الشعوب البدائية أو ذات الذهنية البدائية، والذي آن لنا أن نخرج منه إلى منطق الشعوب الحديثة، أو ذات الذهنيات الحديثة، التي لا ترى مانعا من استعارة العلوم الحديثة، دونما تشويه لمنطقها الخاص وصرامتها العلمية برغبات عصابية. شعار التحديث من الداخل، هو أحد أعراض عقاب الذات المتواصل منذ قرنين بتكرار التجارب الفاشلة. لا توجد أمة في العالم حدثت نفسها من الداخل. اليابان، منذ حكومة الميجي في القرن التاسع عشر، دشنت دخولها للحداثة باستعارة الحداثة الأوروبية، فتبنت دستور بلجيكا وقوانينها الوضعية، وأدخل إمبراطورها الشوكة للأكل بدل العيدان اليابانية التقليدية، وأدخل الموسيقى الكلاسيكية بدل الموسيقى المحلية. لماذا فعلت اليابان ما عجزنا عنه؟ لأنها يتيمة حضارياً: بلا تراث أسلاف يردعها – مثلنا – عن تقليد الآخر "الكافر". لكن فكر بعض نخبنا السحري يفترض أن التحديث من الداخل ممكن بالنسبة إلينا بفضل معجزة مّا؛ جاهلا أو متجاهلا أن الحداثة، كما تتطلب سوسيولوجيا المعرفة، هي كل لا يتجزأ. إما أن تأخذه أو تتركه. وقد تركناه لسوء حظنا طويلا. فلماذا لا نحاول، ولو لمرة واحدة، أخذه عسى ولعل يساعدنا على الخروج من كابوس التأخر التاريخي، الذي أسقطنا في الهذيان شعوبا ونخبا، وجعل جرحنا النرجسي، أي شعورنا بالخصاء والإذلال والدونية، بعرض وعمق النيل والسين معا. وكلما تعمق الجرح، تعمق عجزنا عن الشفاء منه، باسترداد الثقة بالنفس وتقدير الذات بفضل العمل اليومي من أجل التنمية الإقتصادية، والعلمية والثقافية، للحاق بقاطرة الحداثة.

2 ـ إعادة تعريف الإسلام بعلوم الأديان

هل نجح تدريس علوم الأديان، في الدّيانات الأخرى، في تخليصها من الجمود والعنف الدّينيين اللذين تعتبرهما مرضين من أمراض الإسلام المعاصر؟

 إلى حدّ كبير. كلّ دين تقريباً، -خاصّة الدّين التّوحيدي-، مسكون بالتعصّب، الذي هو الابن الشّرعي للنرجسيّة الدينيّة، التي يبثّها في شعارات هُذاء العظمة. مثل نحن شعب الله المختار، ونحن خير أمّة أخرجت للنّاس، أي نحن الفرقة النّاجية. في التّسعينات تعرّفت على فرقة مسيحيّة من 120 شخصا، ينتشرون في ستّة بلدان، تسمّي نفسها مملكة النّور، وتسمّي باقي سكّان المعمورة مملكة الظلام، التي تقول عنها أنّها ستلقى مصير صودوم، مدينة لوط، قريبا. لأنّ نهاية العالم اقتربت.

وبالمناسبة هذيان نهاية العالم هو نواة الهذيان الديني، وهو عرض من أعراض الفصام. الدّيانات، التي أعيد تعريفها بعلوم الأديان، دَجّنت إلى حدّ كبير الميل إلى النرجسيّة الدّينية والتّعصب، بما هو رهاب المختلف، أي هستيريا الخوف من الآخر. إعادة تعريف الإسلام بهذه العلوم قد يعطينا نتائج مشابهة. يتنافس اليوم أقصى اليمين الإسلامي السياسي والنُخب، شبه الحديثة الحاكمة، على حيازة مشروعية الذاكرة الجمعية الإسلامية. المنافسة في الواقع محسومة لصالح أقصى اليمين الإسلامي. لأن الخطاب الديني، الذي تحشو به مدرسة اللامعقول الديني الذاكرة الجَمْعية السلفية، التي شعارها لا تصدِّقوا "إلاّ قال الله وقال الرسول"، أي حاربوا العقل والعلم بكلّ ما أوتيتم من قوة، يحمل الحَبّ إلى طاحونة الإسلام السياسي الذي هو اليوم أقصى يمين الإسلام.

 

بدلا من خوض هذه المنافسة البائسة على امتلاك ذاكرة جمعية متقادمة، كان على النخب الحاكمة، لو كانت تعرف كيف تصنع قرارها، تبنّي مشروع إعادة تأسيس هذه الذاكرة الجمعية، بتدريسها بعلوم الأديان في مدرسة المعقول الديني. استطاعت الجمهورية الفرنسية الثالثة تجاوز الصراع الطائفي بين، الكاثوليك والبروتستانت، بتدريس تاريخ ما قبل المسيحية لخلق هويّة جماعية يتعرف فيها جميع الفرنسيين على أنفسهم، تتعالى على الهوية الدينية، دون أن تنفيها، لكل من الكاثوليك والبروتستانت: القومية واللغة الفرنسية. بإمكان الدول العربية والإسلامية أن تستفيد من هذه التجربة، لتكوين هوية جماعية مشتركة أقوى من الهويات الدينية. وذلك بتدريس جميع مراحل تاريخها، بدلا من الاقتصار على آخر مراحلة، التي هي المرحلة، الإسلامية، جاعلة منها أَلِف تاريخها وياءه. بإمكان مصر مثلا أن تدرّس الفترة الفرعونية والفترة القبطية… إلخ، إلى أن تصل إلى الفترة الإسلامية. في تونس يبدأ التاريخ من اللحظة القرطاجنيّة المُؤسِّسة مرورا بالفترة الرومانية، التي أثّرت في الإسلام التونسي ثم المغاربي؛ فقد أخذ فقهاء المالكية بعض أحكام القانون الروماني الذي أصبح عند السكان عرفا وعادة. وأخيرا الحقبة الإسلامية التي كانت أكثر اللحظات الثلاث تأثيرا واستمرارية. وتونس جديرة بالاستلهام، ويليق بالنخب الإصلاحية في أرض الإسلام استلهام تجربتها الإصلاحية الطويلة والثرية والناجحة، خاصة في تحرير المرأة من رق الأحوال الشخصية الشرعيّة.

ماهي علوم الأديان القادرة على إصلاح الإسلام؟

علوم الأديان المطلوب تدريسها هي تاريخ الأديان المقارن، والسوسيولوجيا الدينيّة، والأنثروبولوجيا الدينيّة، وعلم نفس الأديان، والانجويستيك [=اللسانيات]، والفيلولوجيا (علم اللغة) والهرمينوطيقا (علم التأويل)… وأُضيفُ إليها علما آخر، لم يكن في الأصل من علوم الأديان ولكنّه غدا اليوم منها، أعني به علوم الأعصاب. كما أضيف الفلسفة، التي ليست علما إلا أنّها ينبوع الفكر النّقدي الضروري للمقاربة التاريخيّة – النقدية للظاهرة الدينية، ولتحصين عقول الأجيال الجديدة ضد التعصب الديني؛ لكن هناك علوم قد لا يمكن تدريسها كعلوم أديان؛ لكنها أساسية لتفكيك الأساطير البابلية، التي ترجمها الأحبار خاصة في سفر التكوين، ومنه انتقلت إلى القرآن. هذه العلوم هي نظرية التطور، التي تفكك أسطورة خلق آدم وحواء من صلصال، بالرواية العلمية لميلاد الحياة، منذ 3,7 مليار سنة، من البكتيريا وحيدة الخلية في المحيط البدائي، والفلك الفيزيائي الذي يفكك أسطورة الكوسموليوجيا الدينية: خلق العالم في 7 أيام في سفر التكوين، وفي اليوم 7 استراح؛ وفي 6 أيام في آية وفي 8 أيام في أخرى في القرآن! وعلم الأركيولوجيا الذي عرّى الرواية الأسطورية التوراتية بخصوص تاريخ إسرائيل الديني: مثلاً داود شخصية شبه تاريخية؛ أما سليمان فشخصية أسطورية ابتدعها الخيال الشعبي العبري.

الإسلام ليس دينا فقط، بل هو أيضا مشروع سياسي – عسكري، قوامه الجهاد إلى قيام الساعة من أجل هدفين: إدخال البشرية فيه وقتل آخر يهودي، كما يقول حديث لا شك موضوع رواه البخاري. إصلاحه يتطلب تدريسه ودراسته بعلوم الأديان، لنزع القداسة عن السياسي والعسكري فيه، تسهيلا لفصلهما عن الدين، المقدس الوحيد، وإلا كان الإصلاح مجرد لمسات تجميلية غير مجدية.

بماذا تردّ على من يقول أن تدريس الدين بعلوم الأديان ينزع القداسة من الدين نفسه، عندما يجعل نصوصه موضوعا للبحث مثل أي نص أدبي أو أسطوري؟ وهذا من شأنه تكوين مسلمين لا مبالين بالدين، كما في أوروبا وبقية البلدان التي يُدرَس فيها الدين بعلوم الأديان؟

 عدم تدريس الإسلام بعلوم الأديان، كما تُدرس به الأديان الأخرى في العالم، يعني أن نَدَعَ الناس في جهلهم يعمهون ليبقوا متديّنين. هذا خيار تجهيلي، أن يكون عندنا شعب من الجهلة المتديّنين، بدلا من شعب من المتعلّمين والعلماء والمواطنين اللامبالين بالطقوس الدينية. قال ميخائيل نعيمة سنة 1951: "الدّين الذي يخشى من الشيوعية، الشيوعية خير منه". وبدوري أقول: الدّين الذي يخشى العلم،العلم خير منه. بعيدا عن السجال لننظر للواقع. دراسة الدين بعلوم الأديان وتدريسها في المدارس والجامعات بدأت في أوروبا منذ قرون. فماذا كانت النتيجة؟ أغلبية من المؤمنين الوَديعين والمتسامحين، مع الآخر والدين الآخر. 25 في المائة من اللامبالين، منهم 6 في المائة فقط من الملحدين المُقتَنعين. أما في الجمهورية الإسلامية الإيرانية حيث كل شيء دين، في المسجد، والمدرسة، والجامعة، والإعلام، والشارع والبيت منذ الثورة، فماذا كانت النتيجة؟ 30 عاما من الهذيان الديني، أعطت 30 في المائة من الملحدين. لماذا؟ لأنّ الإكثار من الدين يقتل الدين. الإفراط في الدعاية الدينية، كالإفراط في الدعاية السياسية، لا يوقظ تعاطف المتلقى، أي الجمهور، بل بالأحرى عداءه. الجمهور لا يتعاطف إلا مع من يوجد في موقع الضحية، لا مع من هو في موقع الجلاد: مثل حكام أقصى اليمين الإسلامي.

من دون هذه المقاربة العلمية، لن ننتقل من المقاربة التقريظية إلى المقاربة النقدية، ولا من التكفير إلى التفكير وإعادة التفكير فيما يطرحه علينا الدين والحياة من إشكالات. الخوف من ضياع الإيمان هو، في حد ذاته، عَرَض لشكّ الخائفين المكبوت في صحة إيمانهم. القرار التربوي الشجاع والذكي لا يبنى على المخاوف اللامعقولة، بل على المصلحة العامة المعرّفة تعريفا دقيقا والتي تجعل من الإصلاح الديني فريضة عقلانية.

لكن بماذا تجيب القائلين بعدم إمكانية تطبيق علوم نشأت في بيئة غربيّة يهودية-مسيحية على النصوص الإسلامية، ألا يكون ذلك تعسّفا بحق هذه العلوم وبحق الإسلام نفسه؟

 ذلك ممكن تماما. هذه العلوم، كجميع العلوم، أنتجها العقل البشري الكوني. كما أن علوم الطبيعة صالحة لكلّ مكان، فكذلك علوم الأديان، التي يَدْرس بها الهندوس الهندوسيّة والبوذيون البوذية. فلماذا لا يُدرس ولا يُدرَّس بها الإسلام، المنحدر من تلاقح ثقافي عميق مع الديانتين اليهودية والمسيحية؟ معظم قصص الأنبياء في القرآن مأخوذة من العهد القديم. سورة يوسف مثلا تلخيص مركّز لقصة يوسف في العهد القديم، وبالمثل في القرآن – تحت اسم الزبر والزابور - نجد آيات مقتبسة من نشيد الإنشاد، الذي بعض آياته مترجمة حرفيّا من آيات "النشيد الأعظم" للفرعون أخناتون، الذي يؤكّد بعض الدارسين، خاصة كتاب "أسرار سفر الخروج" (الصادر سنة 2000 بالفرنسية وتُرجم في أكثر من 40 بلدا إلاّ مصر المعنيّة به أوّلا)، أنّه إبراهيم التوراتي. يثرب أسّسها الفراعنة، في الألف الثانية قبل الميلاد، لحراسة طريق استيراد الأحجار الكريمة من ظُفار. فلماذا لا يكون إبراهيم المصري هو الذي وضع أسُس الكعبة أيضا؟ يفترض، مؤلِّفا الكتاب أيضا أن يوسف التوراتي هو رئيس الكهنة الأب "آي"، الذي قاد الانقلاب على التوحيد ونبيه اخناتون للعودة إلى وثنية آمون، ـ وآمين التوراتية والقرآنية مشتقة من آمون كما يعلمنا تاريخ الأديان المقارن ـ؛ والذي سيصبح فيما بعد فرعون، وأن موسى التوراتي هو رمسيس الثالث، الذي اصطحب، آلافاً من كهنة اخناتون الموحدين، إلى حدود فلسطين، التي كانت آنذاك محمية مصرية، لأن الكهنة في مصر لا يُقتلون فكان لابد من إبعادهم إلى فلسطين. ربما كانت هذه هي القصة التاريخية لـ"الخروج" التخييلي التوراتي! عموما للأساطير خلفية تاريخية. ترجمة هذا الكتاب، ووضعه على الأنترنت، كفيل بإيثار نقاش علمي خصب، كم نحن في أشد الحاجة اليه، للخروج من النقاشات الزائفة وسجن المسكوت عنه الديني، الذي هو بمساحة خارطة أرض الإسلام.

 

أُلحّ إلحاحا خاصّا على ضرورة تدريس تاريخ الأديان المقارن، ابتداء من الإعدادي إلى العالي، طبعًا بمناهج يُعدّها الأخصّائيون فيه، تكون ملائمة لكل مرحلة من مراحل التعليم. تاريخ الأديان المقارن قائم على مسلّمة قائلة: لا يمكن فهم عقائدَ وشعائر ورموز وأساطير الأديان الحيّة، مثل اليهودية والمسيحية والإسلام، إلاّ بمقارنتها بعقائد وشعائر ورموز وأساطير الأديان الميّتة التي تطوّرت منها، وخاصة الديانتين البابليّة والمصرية. تاريخ الأديان المقارن، بتنزيله الظاهرة الدينية في التاريخ، يجعلها قابلة للفهم تاريخيّا وعلميّا، أي بلا أسرار ولا ألغاز يقف أمامها العقل البشري عاجزا عن السؤال والفهم. لا شيء كتاريخ الأديان المقارن وعلوم الأديان لتحرير المؤمنين من الرق النفسي لتراث الأسلاف، الذي جعل من كثير من فقهائنا موميات تراثية متحركة.

 

تقريباً، كل أمة لها أصول خرافية، جديرة بالاحترام بما هي أساطير ورموز مؤسسة لا ُتقرأ قراءة حرفية. أما القبائل البدائية فهي الوحيدة التي تقرأ أساطيرها المؤسسة حرفياً. وهكذا تصبح ملكاً لتراثها، بدلاً من أن يكون تراثها ملكاً لها: تدرسه، تحلله وتنقده لتجعل علاقتها به شفافة. في المقابل، الأمم الحية تجعل دائماً مسافة بينها وبين أساطيرها المؤسسة؛ رومولوس، مؤسس روما وأول ملك أسطوري لها. لكن لا يوجد في روما المعاصرة من يعتبر أسطورته حقيقة تاريخية؛ في 1973، سألت بايع الصحف الفرنسية في باليرمو كان اسمه رومولوس: هل سميك هو مؤسس روما حقاً؟ أجاب، لا هو أسطورة؛ في 2007 كنت، مع عبد المجيد الشرفي وهنرييت عبود، وجورج طرابيشي، ونصر حامد أبو زيد ومحمد أركون، في زيارة لضريح أخ بولس الرسول. سألت المرشدة السياحية، وكانت مسيحية مؤمنة، هل هذا فعلاً ضريحه؟ قالت لا، شهداء المسيحية كانوا يُدفنون في مقابر جماعية أو يتركون للوحوش.

 

قطاع واسع من المؤمنين اليهود والمسيحيين لا يصدق المعجزات، التي نسبتها رغبات وتخييلات المؤمنين القدامى لأنبياء ديانتيهما؛ بل ولا يصدقون المعجزة بما هي انتهاك لقوانين الطبيعة الصارمة. نبي الإسلام لم تكن له، باعترافه هو نفسه في القرآن، معجزة واحدة سوى القرآن، ومع ذلك نسب له خيال كتاب السيرة والمحدثين معجزات أنبياء إسرائيل. وغالبية المؤمنين تصدق ذلك إلى اليوم. لماذا؟ أسأل عن الجهل والتعليم والإعلام الدينيين التجهيليين!

هل بإمكان العقل أن يفكك كل الألغاز الدينية بعلوم الأديان؟

 لماذا لا؟ وربما لا. وفي الحالين يجب إعطاؤه الحق في السؤال، السؤال محرّم في الإسلام التقليدي. استطاعت علوم الأديان، حتى الآن، تفكيك معظم رموز وأساطير العهد القديم. ومازالت الاكتشافات الأركيولوجية تقدم لها باستمرار المزيد، كما أنجزت ذلك الأركيولوجيا في إسرائيل وفلسطين وسيناء خلال الأربعين عاما الماضية.

تمكين العقل البشري من فهم الظاهرة الدينية تاريخياً يجعلها نسبيّة. لأن كل ما هو تاريخي نسبي، يتطوّر ويتكيّف مع متطلّبات الحياة في كل حقبة وكل بلد. اكتشاف أمريكا كان المنطلق الحقيقي للإصلاح الديني في أوروبا. ذلك أن وجود عقائد وشعائر دينية عند سكّانها الأصليين، الذين لم تبلغهم الدعوة لا اليهودية ولا المسيحية، شكّل صدمة صِحيّة للوعي المسيحي، فاكتشف، ما تسمّيه الفينومينولوجيا وحدة الظاهرة الدينية، التي تتجلّى في الاعتقاد في وجود عالم الغيب، عالم متعالٍ ومقدّس ومسكون بالأرواح والآلهة. بالرغم من اختلاف المظاهر التاريخية التي تجلّت فيها هذه الوحدة الجوهريّة للظاهرة الدينية…

عندما يتعلم التلميذ أو الطالب أن الرموز الدينية واحدة، في الأديان الوثنية والتوحيدية؛ وأنّها انتقلت من الديانتين الوثنيّتين ، البابلية والمصرية، إلى الأديان التوحيدية، فإنه يتعلم التسامح الديني وضرورة حوار الأديان، وينمو فيه الفضول المعرفي وحب البحث ولذة الاكتشاف. الأساطير البابلية انتقلت عن طريق إقامة اليهود في بابل، خلال السبي البابلي في القرن السادس قبل الميلاد، بترجمتهم للأساطير البابلية، في سفر التكوين، عن أصل الكون الذي خلقه سبعة آلهة في سبعة أيّام. من هنا أسطورة قداسة الرقم 7 في الديانة البابلية ثم في التوحيدية: سبع سماوات وسبع أرَضين؛ كما أن أسطورة "الزوجين الأوّلين، آدم وحوّاء"، انتقلت إلى سفر التكوين من الأساطير السوميريّة، التي كانت تُسمّي آدم "أَدَبَا" أي الرجل المخلوق من صلصال، وآدم العبرية تعني "أديم الأرض" كما في العربية أيضا… علما بأنّ حزيقال، مترجم هذه الأساطير، تُخبرنا التوراة أنّه كان يأكل برازه، وهذا عَرَض من أعراض الفصام؛ أيضا أسطورة طوفان نوح اقتبسها سفر التكوين من ملحمة جيلغامش التي تقول مثلا: "يا أتو بشتيم (الذي تُرجم إلى نوح) ابني سفينة واحمِل فيها اثنين من كل ذي حياة،" لمواصلة تناسل الأحياء بعد الطوفان؛ وكذلك مدينة لوط، هي أيضاً أسطورة بابلية. بالمثل تبنّت اليهودية كثيرا من أساطير الديانة المصرية ومنها انتقلت إلى المسيحية والإسلام.

 

وهكذا، يعلم تاريخ الأديان المقارن أجيالنا الطالعة بأن الظاهرة الدينية تطوّرت، بتطور المعارف البشرية، من الإحيائية بما هي أول ديانة وثنية، إلى الأسطورة فإلى الدين. وأن الرغبة في الخلود، باختراع حياة أخرى بعد الموت، منذ بدأ الإنسان في العصر الحجري وربما أبعد، يدفن موتاه، تحضيراً لهم للعيش في عالم آخر. وهكذا، فالدفاع ضد قلق الموت، طمعاً في الخلود، كان وراء اختراع الخلود، كما يعمنا ذلك علم نفس الأعماق.

 

 بإمكان مدرسة المعقول الديني المنشودة، تنوير الأجيال الطالعة بحقيقة أن هذه الرغبة يمكن أن يلبّيها اليوم العلم تدريجيا، بجعل العلاقة بين الإنسان، وظواهر الطبيعة، والمجتمع، والنفس البشرية أكثر فأكثر شفّافة. أما الرغبة في الخلود، فيمكن تلبيتها عقلانيا بالتقدم الطبي بالقضاء شيئا فشيئا على الألم والمرض والموت المبكر وتأخير الشيخوخة. الإنسان مبرمج جينيّا ليعيش 120 عاما. لكنه نادرا ما يصل إلى هذه السن بسبب عقابه لذاته بنمط حياته السيئ. بإمكان الطب اليوم أن يجعل مَن ولدوا في هذا القرن يعمّرون مائة عام وبصحّة جيّدة. كما أن إشباع غرائز الحياة بالقضاء على الحرمان، الذي فرضته تقاليد ميّتة ومميتة، يُلطّف الرغبة الهاذية في الخلود. بإمكان التحليل النفسي اليوم مساعد الإنسان، الذي يتوهّم نفسه خالدا على قبول فكرة موته بضمير مطمئنّ. وهكذا يمكن التخلص التدريجي من قلق الموت، محرّك الرغبة في الخلود. ويمكن إذن تقليص مساحة الهذيان الديني. عندئذ لن يرى المؤمن في موته اغتيالا، كما كان يعتقد لوفيناس، بل نهاية ضرورية لترك المكان لمن ولدوا بعده، لتواصل ملحمة الحياة مسارها. شخصيا فكرة خلودي لا تفرحني بل تثير قشعريرتي. في وضع بائس، أو في أرذل العمر عندما تفقد الحياة معناها، يكون الموت أو الانتحار خلاصا.

 

سأقدم هنا عينات عن الأهمية الاستثنائية لتدريس تاريخ الأديان المقارن، الذي يجعل الظاهرة الدينية شفافة، عبر تفكيكها والإضاءات، التي يلقيها على تطور الدين، ورموزه، وشعائره، وعقائده عبر صيرورته التاريخية منذ العصر الحجري الحديث. إليكم هذه الأمثلة من كتاب مرسيا إياد: "تاريخ المعتقدات والأفكار الدينية"، [علمت الآن وأنا أملي هذه الصفحة أن هذا الكتاب الضروري مترجم إلى العربية، وفضلاً عن ذلك، منشور على الشبكة العنكبوتية وكنت قد شجعت على ترجمته، فشكراً لمترجمه عبد الهادي عباس وناشره على الشبكة]: "الاعتقاد السحري، الذي مازال شائعاً في أرض الإسلام، القائل بأن الله غضب على اليهود فمسخهم قروداً وخنازير: "وجعل منهم القردة والخنازير"(المائدة 60)، هو خرافة منحدرة من "عصر الصيادين البدائيين، الذين كانوا يعتقدون بأن الإنسان يمكن أن يتحول إلى حيوان والعكس صحيح "المصدر المذكور صفحة 18 بالفرنسية"؛ المسلمون يدفنون الميت جاعلين رأسه متجهاً إلى الشرق، كما كان يفعل البدائيون منذ ليل التاريخ: "من أجل ربط الميت بمجرى الشمس أملاً في ولادة ثانية بعد الموت أي في البعث. "(صفحة 22)؛ القبائل البدائية في أمريكا تكفن موتاها في "أكفان بيض" (نفس الصفحة)، رمز الطهارة كما يفعل المسلمون اليوم؛ منذ أكثر من 20 ألف عام، قدس البدائي المكان: "الرسوم توجد بعيداً بما فيه الكفاية عن مدخل الغار.

 

استنتج الباحثون من ذلك أن الغار نوع من الأماكن المقدسة(…). في العصر الحجري الحديث، عرف الشرق الأوسط الأماكن المقدسة"؛ الفصل بين الجنسين، الذي جعل منه أقصى اليمين الإسلامي قضية شرعية غير قابلة للتفاوض، هو تقليد همجي يعود إلى العصر الحجري. فقد عثرت الحفريات: "على قرية في مالطة واستراليا كانت ديارها مقسمة إلى نصفين، الأيمن للرجال به أدوات خاصة بهم، والأيسر مخصص للنساء به تماثيل صغيرة لهن "(صفحة 31)، منذ أكثر من 4 ألاف عام اعتبر البابليون أن قصور ملوكهم مشيدة في مركز الأرض. وكذلك كان البدائيون يعتبرون: "مركز العالم هو المكان المخصص للشعائر والصلوات" (صفحة 54). المغزى: ليست مكة وحدها هي المبنية، تخييلاً طبعاً، في مركز الأرض، وفي رواية في مركز الكون؛أسطورة السلف الصالح والجنة راجت منذ العصر الحجري المتوسط: "فكرة السلف الأسطوري وعبادة الأسلاف سيطرت منذ العصر الحجري المتوسط الأوربي. فمن المرجح أن هذا الاعتقاد الديني تفسره ذكرى الحقبة الجليدية عندما كان الأسلاف الأباعد يعيشون في: "جنة الصيادين" (صفحة 43).

 

سأقدم أيضا مثلاً آخر عن خصوبة دراسة وتدريس الدين بتاريخ الأديان المقارن: كشف الأستاذ بالكوليج دي فرنس، توماس رومير، في كتابيه: "موسى الذي عرفه يهوا وجهاً لوجه" و"موسى ذو القرنين"، بأن موسى، مؤسس اليهودية، الذي جاء ذكره في القرآن 106 مرة، شخصية رمزية. كتب رومير: "قصة ميلاد موسى تشبه عن قرب قصة ميلاد الملك الأسطوري الآشوري، سارجون. الاثنان لا يعرفان أبيهما؛ أمهاتهما أخفتهما أول الأمر ثم ألقتهما في نهر. الاثنان وضعا في صندوق طُلي بالقار.كلاهما عثر عليهما وتبناهما فاعلا خير.هذا التبني شرعن ملكية سارجون وأدخل موسى إلى بلاط فرعون(…) قصة سارجون كتبت على أكثر تقدير في القرن 8 ق.م. تاريخ موسى الأول لا يمكن إذن أن يكون متقدماً عن هذه الحقبة. كتبة مملكة يهودا بنوا صورة موسى على صورة المؤسس الأسطوري للأسرة الآشورية. للمطالبة بتفوق الإله الذي يخدمه موسى. في ختام القصة نجح يهواه وموسى في قهر مصر، وهو ما لم ينجح فيه الآشوريون رغم المحاولات المتكررة (…)".

 

كما استلهم الأحبار أسطورة جيلغامش في سفر التكوين، واستلهموا المعاهدات التي عقدوها مع الآشوريين في سفر التثنية، معوضين شرط انتقام الملك الآشوري منهم، إذا أخلّوا بشرط الطاعة له، بانتقام يهواه منهم إذا أخلوا باحترام وصاياه في سفر التثنية، استلهموا أيضاً أسطورة سارجون لينسبوها لموسى بما هو أسطورتهم المؤسسة؛ كما يؤكد ذلك أستاذ الأديان المقارنة في الكوليج دو فرانس، توما رومير،في كتابيه:"موسى ذو القرنين"، و"موسى الذي تعرّف عليه الله وجهاً لوجه". [دار جاليمار،باريس 2002].

 

حقائق تاريخ الأديان هذه، تساعد التلاميذ والطلبة على فهم تكوّن الظاهرة الدينية تاريخيّا. وبذلك تقطع الطريق على اليقين الديني الأعمى، الذي هو الأب الشرعي للنرجسية الدينية والعنف الديني. وهذا يساعد على التّديّن المعتدل والإيمان المستنير، الذي هو جسر لحوار الأديان والثقافات. قلّما لا يعترف من درس تاريخ الأديان المقارن بجميع الأديان على قدم المساواة، لأنّ بُنيتها واحدة وأصلها واحد. فقد تطورت عن بعضها بعضا عن طريق التلاقح الثقافي. القاعدة الذهبية للسلام مع النفس هي: اعرف نفسك واعترف بها، كما يوصينا بذلك علم نفس الأعماق؛ والقاعدة الذهبية للسلام مع الآخر هي: اعرفه واعترف به كما هو، كما يوصينا بذلك تاريخ الأديان المقارن، التي يتوقف عليها السلام العالمي. ولا شيء كتاريخ الأديان المقارن لتحقيق هذه المهمة.

 

 السوسيولوجيا الدينية تعلّم الأجيال الجديدة أن الدين ظاهرة اجتماعية، وككل ظاهرة اجتماعية، هو موضوع للبحث والتحليل؛ العلميين. وأن التطور الإجتماعي هو الذي يفرض على الدين التكيّف معه وليس العكس. أي أن المستجدّات التاريخية تعدّل أو تنسخ أحكام النصوص الدينية. وعندما يرفض الفاعلون الإجتماعيون تكييفه مع المستجدّات التاريخية، فإنهم بذلك يُحوّلون الدين إلى جمود ديني، يعيق التطور التاريخي للجماعة المؤمنة. وهذا ما حدث للإسلام منذ أكثر من 9 قرون. كما تُعلّم المؤمن أن يلعب دوْرين، دور المؤمن ودور الباحث. من حقه كمؤمن عندما يصلّي أن يتماهى مع النص، وعليه كباحث أن لا يتماهى مع النص بل أن يقف منه موقف الحياد العلمي، حتى يجعل البحث الموضوعي فيه ممكنا. وهو ما نجده مثلا عند الفيلسوف الفرنسي المؤمن بول ريكور، أو عند الفلكيين الفيزيائيين المؤمنين، الذين يعترفون بأن إيمانهم لا تدعمه حقائق العلم، بل هو مجرد قناعة ذاتية ورهان. سألت بيولوجيست فرنسي مرّة، كيف وفَّقتَ بين علمك وإيمانك؟ أجاب : عندما أدخل الكنيسة، أترك علمي في غرفة الملابس، وعندما أدخل المختبر، أترك إيماني في غرفة الملابس. وهذا هو نموذج المسلم المؤمن الذي يمكن أن تنتجه دراسة الإسلام بعلوم الأديان. في اليهودية والمسيحية، يوجد تمييز بين دين الإيمان، كمجال خاص لممارسة الشعائر، وبين دين التاريخ، كمجال عام للسؤال والبحث العلمي. يمكن بالإصلاح الديني أن نصل إلى هذا التمييز في الإسلام أيضا. وهي محطة ضرورية لعقلنة الإسلام، وتبعا لذلك لإشاعة العقلانية في المجتمعات الإسلامية الغارقة في الهذيان، حتى بات بإمكاننا التأكيد بأننا أمة تهذي. النواة المركزية للهذيان الديني الفُصامي هو هذيان نهاية العالم. في استطلاع لمسلمي افريقيا جنوب الصحراء قال 52%من المسلمين المستطلعين أن الخلافة ستقام بعد فترة قصيرة وخلال حياتهم!:كان القديس بولس، يعتقد أن المسيح سيعود في حياته، وكان نبي الإسلام، يعتقد بأن الساعة ستقوم في حياته ولذلك لم يوصي [للتذكير، لم أجزم بلم لأن الأبجدية العربية فقيرة في الصوتيات والجزم بلم يزيدها فقراً على فقر]بمن يخلفه! لقد جاء، كأسلافه أنبياء إسرائيل: "لينذر عشيرته الأقربين" باقتراب نهاية العالم: "اقتربت الساعة "، [1،القمر]: "وما يدريك لعل الساعة تكون قريبة "[63،الأحزاب]"، ويحذر نبي الإسلام مشركي قريش من أن: "الساعة ستأتيهم بغتة" [55، الحج].

التحذير من"نهاية العالم"هو النواة المركزية لهذيان "نهاية العالم" الديني الُفصامي، كما يؤكد الطب النفسي؛ وهذيان نهاية العالم ملازم لجميع الأنبياء القدماء والمعاصرين، مثل أنبياء ساحل العاج في السنوات 1960.

ما سبب هذا الهذيان اليوم؟

 ربما كان السبب الأول هو صدمة الحداثة، التي عجزت الشخصية النفسية الجمعية الإسلامية عن امتصاصها. الصدمة العنيفة تجعل المصدوم ينقلب من العُصاب إلى الذّهان. المحلل النفساني فتحي بن سلامة، يرد هذا الهذيان الجماعي إلى ما اسماه د.عبد الصبور شاهين "التناقض بين القرآن والعلم". هذا الهذيان مرشح للتفاقم. في هذا الشهر استطاع باحث أمريكي صنع الحياة مخبريا. أي صنع بكتيريا حية حاملة لآلاف الجينات، تتوالد وحدها انطلاقا من مواد كيميائية. صانعها الوحيد هو الكمبيوتر. وهكذا غدا صنع كائنات حية نباتية وحيوانية مطروحا على جدول الأعمال… إذا كان الاستنساخ قد أدخل فقهاءنا وجمهورهم في البارانويا الجماعية، فكيف سيفعل بهم صنع الحياة مخبريا؟

من هنا، ضرورة الفصل بين الدين والعلم. الحقيقة الدينية ذاتية، لا تفرض نفسها إلا على المؤمن بها، لذلك فهي خاصة به. أما الحقيقة العلمية، فهي موضوعية تفرض نفسها على كل ذي عقل سليم، وتسندها المعطيات الموضوعية وتشهد على صحتها التجربة العلمية.

ما العمل؟

 تحليل نفسي جماعي يتكفل به إصلاح ديني شجاع: يفصل بين القرآن والعلم. وهذا ما اقترحه الشيخ، متولي الشعراوي، في كتابه "معجزة القرآن" قائلا: "إنّ الذين يقولون أن القرآن لم يأتي ككتاب علم صادقون. ذلك أنه كتاب أتى ليعلمني الأحكام ولم يأتي ليعلمني الجغرافيا أو الكيمياء أو الطبيعة". هذه الكلمات جديرة بأن تكتب بماء الذهب، ويدرسها أبناؤنا منذ الابتدائي.

 

السوسيولوجيا الدينية، تعلّم التلامذة والطلبة كيف يحلّلون التعاليم والنصوص الدينية في علاقتها بسلوك المتديّنين، ومدى تأثيرها فيهم إيجابا أو سلبا، وما هي الحاجات الفعلية أو التخييلية التي تلبيها لهم، وكيفية توظّيف الفاعلين الاجتماعيين للدين، ولأيّة أهداف وفي أي مكان وزمان. مثل هذا الفهم، للنصوص في سياقاتها التاريخية، يساعد على تطوير السلوك الديني وتوجيهه للمجال الخاص، أي العائلة والجمعية والمسجد، ليبقى المجال العام مفتوحا لممارسة القيم المشتركة بين المواطنين جميعا على اختلاف طوائفهم وأديانهم. القيم المشتركة هي قيم حقوق الإنسان الكونية، التي أنتجها العقل البشري للعقل البشري؛

 

وتعلمهم أنّ النص الديني لا ينطق بنفسه، بل ينطق به الفاعلون الاجتماعيون، مدفوعين بمصالحهم المادّية والسياسية أو أيضاً بهذياناتهم، فبين الدين والهذيان علاقة وثيقة، كما رأينا في هذيان نهاية العالم عند الأنبياء. وهكذا نجد الآية الواحدة، أو الحديث الواحد، فسّرتهما كل فرقة بما يتناسب مع معتقداتها السياسية أو الدينية؛ كما تعلّمهم أن الدين، أي المتدينين، محافظ يرفض التجديد. وهذا ما جعله في صراع دائم مع التجديد الديني، والفكري، والعلمي، والأدبي والفنّي، حسبنا تَذكُّر حديث "كل جديد بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار"؛ كما تعلمهم أن العلمانية هي المخرج الوحيد الممكن من هذا المأزق: بجعل الدين لله والوطن للجميع كما قال سعد زغلول، حتى لا يسقطوا في حروب طائفية ودينية مدمرة.

 

الأنثروبولوجيا الدينية تعلم تلامذتنا وطلبتنا أن النصوص الدينية هي بنت المناخ الثقافي الذي ظهرت فيه. فهي إذن نسبية، وتتغيّر بتغير أسلوب حياة الناس وعقلياتهم، فتغدو متقادمة أي تجاوزها الزمن. وهكذا تصبح النصوص، خاصة المتعلقة بالمعاملات والشريعة والعلم والتاريخ… إلخ، موضوعاً للدراسة العلمية ليس إلا. وهذا ينطبق على الفقه الإسلامي، الذي غدت أحواله الشخصية وعقوباته الشرعية فضيحة، بل وجريمة في عصر ثقافة حقوق الإنسان، التي صانت كرامة الإنسان، وفرضت حُرمة جسده، واعترفت له بقائمة من الحقوق غير المسبوقة في تاريخ البشرية، كحرية الاعتقاد أي تغيير الدين، وحرية الضمير أي عدم الأخذ بأي دين، وحرية التعبير والتفكير بعيدا عن كل رقابة دينية أو دنيوية. مثلا كيف تُطبّق إيران أو السعودية أو السودان عقوبة الرجم، والحال أن البلدان المتحضّرة نسخت حتى عقوبة السجن في الزنا بما فيها حكومة تركيا الإسلامية؟

 

أليست فضيحة، وجريمة في وقت واحد، رفض المحكمة الشرعية العليا في السعودية، سنة 2008 فسخ زواج كهل (58 عاما) مع طفلة في الثامنة، بحجّة أن النبيّ تزوّج عائشة في التاسعة؟ وأمّ الفضائح والجرائم، في حق حقوق الإنسان، هي بقاء السعودية وباقي الدول العربية ، باستثناء تونس والمغرب، حتى الآن من دون قانون أحوال شخصيّة حديث يمنع زواج – اغتصاب الأطفال، وتعدّد الزوجات، والطلاق الانفرادي، والتفاوت في الشهادة والإرث؛ كما يمنع الإرث بالتعصيب محاكاة لتونس، الرائدة في رفع المظالم عن المرأة.

كيف ألغى الحبيب بورقيبة الإرث بالتعصيب؟

 كان ذلك، إن صدقتني الذاكرة سنة 1967، عندما توفي أب تاركا كوارث ابنة واحدة. بحثت المحكمة أسابيع عن قريب لإعطائه نصف التركة. وأخيرا عثرت عن قريب بعيد له، لم يلتقي به قط ولم يسمع حتى بموته، فأعطته نصف التركة. أعلم وزير العدل بورقيبة بالواقعة، فأصدر قانونا يلغي الإرث بالتعصيب،جاعلاً البنت ترث كل التركة. إذا كان الإسلام اليوم معزولا، وفي صدام مع العالم، ومع قطاع متزايد باستمرار من المسلمين أنفسهم، فذلك لأنه مازال لم يكيف نفسه باغجيور نامانتو مع حقائق العالم الذي يعيش فيه.

المظالم الشرعية التي سلّطها الفقهاء، المعادون للمرأة، على المرأة منذ قرون، لم يعد لها اليوم أي مبرر أنثروبولوجي في العالم الذي نعيش فيه: عالم ثقافة حقوق الإنسان التي اكتسبت في الوعي الجمعي للبشرية، وفي وعي قطاع متزايد من المسلمين، شرعية وقداسة الدين.

 

أمراض الإسلام اليوم كثيرة، منها عداء المرأة، وغير المسلم، والفن، والبحث العلمي. مثلاً التعصب الوهابي في السعودية دمر معظم الآثار الإسلامية، ومازال يحظر التنقيب الأركيولوجي في مكة والمدينة المحظورتين، على الباحثين الأجانب، لغايات علمية يتطلبها كشف الآثار الباقية من تاريخ ما قبل الإسلام وما بعد الإسلام، ومازال هذا التعصب عائقاً أمام وضع حد لتدمير الآثار الإسلامية منذ 1933، وآخرها مطالبة شيوخ الوهابية، في 2005 ، بتحويل بيت خديجة إلى مرحاض عمومي… فهذه الآثار جزء من ذاكرة البشرية وتقدم للعلم والتاريخ خدمات ثمينة. إهمالها وبالأحرى إتلافها جريمة في حق هذه الذاكرة، وفي حق العلم وفي حق تاريخ الإسلام الذي، مازال التنقيب الأثري لم يقدم إليه إسهامه الضروري لغربلة الروايات الشفوية، التي تختلط فيها الحقيقة بنصف الحقيقة وبعكس الحقيقة متحدية الباحثين بأن يميزوا بينها.

3ـ الجنّة رمز لرحم الأمّ

 

  يقدّم تدريس علم نفس الأديان للتّلميذ والطالب إضاءة أخرى ثمينة، تساعده على فهم الجذور النفسيّة للظاهرة الدينيّة. مثلا ماذا يقول علم نفس الأديان عن الظاهرة الدينية؟ إنّها إسقاط نفسيّ: فقد اكتشف الإنسان الاعتقاد في كائنات ما فوق طبيعيّة، آلهة ثم إله، منذ ليل التاريخ، عبر إسقاط صورة أبيه، رمز الحماية والحبّ، على أب آخر في السّماء يقف إلى جانبه في أيّام البأس واليأس، ويقدّم له العزاء والسلوى في الشدائد والمحن.

وليس مصادفة أن القبائل البدائيّة تسمّي الله "الأب الذي في السّماء" وكذلك يسمّيه المسيحيون. كما يعطيه الطريقة لتأويل الرّموز الدينيّة والأسطوريّة، كخلق حواء من ضلع آدم، حسب أسطورة سفر التكوين، التي تأوّلها فرويد بما هي تخييل استمنائي، وكالجنّة، التي أوّلها فرويد بالحنين اللاشعوري لإقامة الجنين في رحم أمّه: وصف النّفساني، جروند بيرجر، مشاعر الجنين المطرود من الرحم بالولادة، يذكرنا بأسطورة طرد آدم من الجنة قائلاً: "يحتفظ الجنين للعالم الآخر، الذي طرد منه، بالحنين؛ احتجاجه على طرده منه يعبر عن الحنين إلى الكمال والنعيم والبراءة". أمّا النّار فيمكن تأويلها، في نظري، بأنّها ذكرى مؤلمة لصدمة الولادة، وصدمة قطع حبل الصرة، وصدمة الفطام وأخيراً، بالنسبة إلى المسلمين واليهود، صدمة الختان. وكلها مفاجآت غير سارة سببت للطفل، منذ الولادة، اضطرابات بيولوجية ونفسية دائمة. كما يكشف لنا علم نفس الأعماق التشابه العميق بين اضطرابات الوسواس القهري، والشعائر الدينية كالصلاة والطهارة: مثلاً الاغتسال الكامل للتطهر من النجاسة بعد النكاح، أو الاحتلام؛ والوضوء، بعد التغوط والتبول أو الفساء والضراط، أو حتّى مجرّد لمس القضيب سهوا، تشبه، بل ربما تماثل أعراض اضطرابات العصاب الوسواسي القهري، الذي يتجلى في وسواس النظافة، مثل غسل المريض يديه أكثر من 100 مرة في اليوم لتنظيفها من الأوساخ أو الميكروبات… إلخ!

من الزاوية السيكولوجية، العصاب الوسواسي القهري هو دفاع ضد الجنون؛ من الزاوية البيولوجية، هو عرض لاختلال بعض وظائف الدماغ، ممّا يجعل علاجه بالأدوية ممكناً، مخلّصاً هكذا المؤمن من التكرار اليومي أو الدوري لشعائر سقيمة ومؤذية، كترك الطالب دروسه، والعامل عمله للصلاة، أو انهيار الإنتاج والصحة في شهر رمضان، أو متاعب وتكاليف ومخاطر العدوى بالأمراض بالحج…

 

شيوخ الإسلام المستنير، لا يرون غضاضة في تبني التفسير النفسي لظواهر الدين؛ مثلا الشيخ خالد محمد خالد، تبني في كتابه "من هنا نبدأ" (1950)، تفسير علم نفس الأعماق للشيطان: بأنه رمز اللاشعور حيث ترقد الغرائز العدوانية، والرغبات الجنسية المكبوتة، وفي مقدمتها الرغبة في الاغتصاب الراسخة في نفسية الذكور.

اللّسانيات: كما يعلمنا علم نفس الأعماق، بأن الواقعة الخام غير موجودة، لأن الواقعة تترافق عادة بإسقاطاتنا اللاشعورية عليها؛ بالمثل تعلمنا اللسانيات أن كل نصّ هو تقريبا تناص، أي تلاقح نصوص عدة على مر التاريخ، وهو مجاز، لا يجوز أن يُقرأ قراءة حرفية، وأنّه، كما قال ابن عربي في فتوحاته: "ما في الكون كلام لا يُتَأوَّل". النص، والكلام عامة، الوحيد الدلالة لا يكاد يوجد. خاصة في الدّين حيث يتفشى الفصام بين فاعليه، سواء أكانوا أنبياء أو رجال ونساء دين. وهذا ما جعل النصوص الدينية غالباً فضفاضة أي مزدوجة الدلالة: تحتمل الشيء ونقيضة، بل هي أحيانا هذيان مغلق عن الفهم، مثل الآيات المتشابهات وحتى النصوص الدنيوية المبهمة كبعض كتابات، ألان بو، أو بعض أشعار وكتابات المعري. من الواضح أن اللغة، منذ البداية، كانت فصامية، تكثر فيها أسماء الأضداد لأن الإنسان البدائي، وامتداده الإنسان التقليدي، اللذين تكلماها، كانا مسكونين بالفكر السحري والالتباس اللغوي، حيث الكلمة لها معنى أول ومعنى ثان.

لهذا السبب نجد أن المصطلحات العلمية والتكنولوجية، خالية من رواسب لغة ما قبل العلم، التي تنقصها الدقة. تخلّف دراسة العلوم في الفضاء العربي، عائد، في المقام الأول، إلى غياب المصطلحات العلمية في العربية. فمازال متكلموها يرفضون إعطاء الجنسية اللغوية للمصطلحات العلمية والتكنولوجية الحديثة، لمجرد أنها "دخيلة"، إذ أن الذهنية العتيقة لا ترضى عن الأصيل بديلاً!

القراءة الحرفية السّائدة تعاملت مع لغة النّصين المؤسسين، القرآن والحديث، كما لو كانت مصطلحات علمية وتكنولوجية لا تحتمل إلا معنى واحداً وحيداً، والحال أنها متعددة المعاني والإيحاءات المتناقضة كثيراً وغالباً. لذلك هي في حاجة ماسة إلى التأويل بمفهومه اللساني والهرمينوطيقي، الذي هو قبر القراءة الحرفية للنص، والتي هي أحد أمراض الإسلام المزمنة.

 

الفيلولوجيا موضوعها هو الفهم الموضوعي للحضارات القديمة، من خلال التحقيق والتحليل النقديين لنصوصها الأسطورية والأدبية والدينية، للتحقق من صحة النص. بها استطاع المستشرقون تحليل وتحقيق وترجمة نصوص الإسلام، كنولدكه وبلاشير مثلا.

التحليل الفيلولوجي للكلمات، لا يساعد على تدقيق معانيها في سياقاتها التاريخية وحسب، بل يلقي أيضاً أضواء عن حقائق تاريخية، وانثروبولجية وسسيولوجية ثاوية فيها. مثلاً كلمة بوليموس الإغريقية، تعني الحرب؛ وهي مشتقة من بوليس أي المدينةـ الدولة. استنتج الباحثون من ذلك أن الحرب، في اليونان على الأقل، ارتبطت بظهور المدينة ـ الدولة.

ما المقصود بالهرمينوطيقا؟

 هي تأويل النصوص، والرموز، والأساطير الدينية والدنيوية. فهي تعلمنا أن النصوص والرموز خاصة، الأسطورية والدينية، فضفاضة ومتشابهة تحتمل معانِ عدّة، متناقضة غالباً، مصداقا لقول الإمام علي "القرآن حمّال أوجه"، إذن يسمح بأكثر من قراءة واحدة. وتساعد تلامذتنا وطلبتنا وباحثينا على استخراج المعاني الأسطورية والرمزيّة الكامنة في النص، بنقله من الإبهام إلى الوضوح لجعله مفهوما. التأويل، عكس التفسير العلمي، ليس منتجا لمعرفة علمية موضوعية، تفرض نفسها على الجميع. بل هو تأمّل فلسفي أو صوفي. النص الديني برموزه يفتح آفاق تأويل لا حدود لها للقارئ، الذي يحيّنه حسب عالمه المعيش، ليعيد امتلاكه بإعطائه المعنى الذي يلائمه. وهذا ما نراه، في التفاسير التي هي تآويل للنصّ القرآني. فيها يلتقي عالَم الآية والعالم المعيش لكل مُفسر وقارئ. مصداقا لقول ابن عربي "ما في الكون كلام لا يُتأول ". فعلا لأن التأويل هو مفتاح قراءة ما يقال أو يكتب تحت إملاء اللاشعور؛ حتى النوطات الموسيقية تحتاج إلى تأويل. مثلا باخ، كما يقول مؤرخو الموسيقى، كتب في مخطوطاته الروابط بين النوطات، بسرعة كبيرة، حتى غدا من المستحيل أحيانا معرفة مكانها الحقيقي، فيضطر عازفوه – يسمون باللغات الأوروبية مؤولوه ـ إلى الاجتهاد في تنزيل الرّوابط. حالة باخ هي حالة الفنانين، والأدباء، والشعراء، والمتصوفة والأنبياء، الذين تتزاحم في رؤوسهم الأفكار والصور والإلهامات والرموز والمجازات، على نحو يجعلهم يتحكمون بالكاد في تنظيمها. من هنا ضرورة الهرمينوطيقا، أي التأويل، لدخول عالمهم الغني بشتى المدلولات والهذيانات المبهمة، والمتشابهة أي المتعارضة. يقول بعض الباحثين أن 94 في المائة من آيات القرآن متشابهات إذن في حاجة إلى علوم التأويل الحديثة لتفكيكها لجعلها قابلة للفهم.

القراءة الهرمينوطيقية تمر بثلاث درجات: تبدأ بالمعنى الحرفي، لتبرهن على أنه غير مقنع غالبا، منتقلة إلى روح النص، أي إلى معانيه المفهومة وأخيرا إلى الدرجة الثالثة القراءة المجازية للنص، حيث يتجاور عالم مؤلف النص مع عالم قارئ النص، في حوار قوامه الإيحاء والاحتمال والترجيح. القراءة الهرمينوطيقية مارسها في الإسلام المتصوّفة. تفسير ابن عربي هو أحد نماذجها الأكثر نضجا؛ تأويله هو في الواقع إعادة إنتاج للنص القرآني، كما برهن على ذلك في تفسيره الصغير، الذي لا يُدرس على حدّ علمي في أي كليّة دينية إسلامية!

 

 أضيف إلى علوم الأديان، علوم الأعصاب، التي تَدرُس تركيب الدماغ ووظائف وآليات اشتغاله. اكتشافاتها في هذا المجال غيّرت راديكاليا المفاهيم الدينيّة القديمة. مثلا ظلّت البشرية، منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام، تعتقد أنها تفكر وتؤمن بالقلب، إلى أن كشفت البيولوجيا العصبيّة أن الإنسان لا يفكر بقلبه بل بدماغه، وتحديدا بقشرة الدّماغ، أي الخلايا العصبية: النورونات المُنتجة للتصوّرات الذهنية من مشاعر، وأحاسيس، وانفعالات وأفكار… كل خلية، من المائة مليار خلية عصبيّة في دماغنا، تقوم بوظيفة محدّدة.

مثلا خلايا القشرة الجبهيّة، وهي متطورة جدا عند الإنسان، قياسا على ابن عمّنا الشامبنزي، متخصّصة في الفكر العقلاني؛ خلايا الفصّ الصّدغي الأيمن متخصصة في إنتاج الظواهر الدينية، كالإيمان والتأمل الروحي، والوحي والنبوة والوجد الصوفي: إذا كان الطب النفسي، يفسر ظواهر الوحي عند الأنبياء بالهذيان الديني، الذي نواته، هذيان نهاية العالم زائد الهلاوس السمعية أو السمعية البصرية، كرؤية جبريل مثلاً، فإن علوم الأعصاب تفسر الوجد الصوفي، أي الحضرة، بما هو حالة دماغية تمنع مراكز المخ، التي تُجري في الأوقات العادية فصلاً بين الأنا والعالم، عن القيام بوظيفتها؛ الوجد قادر على تخفيف نشاط مراكز المخ، التي تعيدنا إلى فرديتنا، إلى أنانيتنا. بالمثل؛ يفسر ظاهرة الدراويش، الذين يمشون حفاة على الجمر، بأن الهستيريا تمنع العصب الناقل للألم من الاشتغال، تماماً كالبنج. وهكذا فعلوم الأعصاب واعدة بمقاربة بيولوجية ناجعة "للأسرار الرّوحيّة"، تساعد العقل على فهم كيفية اشتغال المشاعر والانفعالات وتالياً التحكم فيها.

اكتشافات علوم الأعصاب تاريخية وجديرة بأن يتعلمها تلامذة وطلبة التّعليم الدّيني، لتنويرهم وإنقاذهم من التجهيل المنظم، الذي تحشو به التربية الدينية التقليدية، في مدرسة اللامعقول الديني، أدمغتهم لإبقائهم رهينة لأساطير ما قبل تاريخ العلم. تعليم ديني يَستنير بالعلم هو الكفيل بتخليصنا من مدرسة اللامعقول الهاذي وشياطينها: من التعصب إلى الإرهاب المعولم، مثل فتاوى إهدار الدماء المحرضة على تفجير الأحزمة الناسفة في المُصلّين الشيعة في العراق، وفي المراهقين الإسرائيليين المُسطفّين لدخول المرقص!

تدريس علوم الأديان، ودراسة الإسلام بها، سيُعلم الأجيال الجديدة – عكس الأجيال التي كانت ضحية القراءة الحرفية – مُقاربة النصوص باعتدال ومعقولية. فلا تعود تردّد كالببغاء مع ابن حزم: "إن نصوص القرآن والحديث تُطاعُ لذاتها لا لِعِللها"، بل سيضعون مكان كلمة "تُطاع" كلمة "تُفهم لِعللها لا لذاتها". وهكذا يصبح المطلوب فهم النص، وليس الاستسلام للنّص صُمًّا وعميانًا، الذي هدم كل أساس معقول للحياة الاجتماعية والدينية، إلى درجة السقوط في الهلاوس، والتخييلات، والهذيانات الفردية والجماعية التي نعيشها اليوم. علوم الأديان مُجتمعة تقدم لنا معرفة موضوعية عن الدين، تساعدنا على فهمه وتفسيره للتعامل معه بعقلانية، أي بفكر يتساءل ويفحص بعيدا عن الرقابة الدينية المفروضة أو الذاتية. وباختصار، فكل علم من علوم الأديان يلقي أضواء كاشفة على الظاهرة الدينية؛ في الواقع، علوم الأديان مثل أشعة الليزر، بما هي شعاع ضوء قوي، تجعل الذرات شفافة؛ بالمثل، علوم الأديان تجعل الدين بما هو إنتاج ثقافي شفافا.

علوم الأديان هي الوحيدة الكفيلة اليوم بجعل الإسلام متحضراً، أي متصالحاً مع حاجات ومتطلبات عصره مثل حوار الأديان. ولا شيء كحوار الأديان، لتجاوز الولاء والبراء المنغلق على نفسه والذي يعتبر حوار الديانات الأخرى كفرا. ولا معنى لهذا الحوار إذا لم يشارك فيه أكثر من نصف البشرية:56 %من معاصرينا الوثنيين. وهذا ما بدأ يعيه فرقاء هذا الحوار. فقد أَشركوا، في مؤتمر حوار الديانات التوحيدية، ممثلي الديانة البوذية، التي هي اليوم من أكثر الديانات أتباعا وتسامحا. إذ تسمح للمؤمنين بها باعتناق أي دين آخر شاؤوا مع بقائهم بوذيين.

هذه الروح البوذية المتسامحة والمسكونية (أي العالمية) كانت قوام الإسلام الأول، ونصت عليها كثير من الآيات الكريمة، مثل "والذين يؤمنون بما أُنزل إليك وما ُأُنزل من قبلك". وبهذا المعنى فالمسلم هو في الوقت ذاته يهودي ومسيحي وصابئ، لأن هذه الديانات جميعا طريق للخلاص الروحي للمؤمنين بها، مصداقا للآية 69 من سورة المائدة: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابؤون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون". فهذا الوعد القرآني يعتبر الأديان المعروفة آنذاك طريقا للخلاص الروحي. لكن هذه الآية، كالآيات الأخرى التي تتعارض مع التوسع الإمبراطوري، على حساب الديانات الأخرى، نسخها فقهاء النرجسية الدينية، فقد نسخوا 75 آية، اعترفت بالحرية الدينية وحرية الضمير والتسامح الديني وحوار الأديان، بآية واحدة وحيدة قرؤوها كعادتهم قراءة حرفية هي "إنما الدين عند الله الإسلام".

وهذه جرأة فقهية ترقى إلى مرتبة الفضيحة: آية سجاليّة تنسخ عشرات الآيات التي أسست للتسامح الديني الضروري، خاصة لعصرنا: عصر حروب الأديان المعلنة أو الكامنة! وعلى مدرسة المعقول الديني اليوم أن تنسخ النسخ، وترد الاعتبار لآيات الحرية الدينية المتطابقة مع العقلانية الدينية وحقوق الإنسان. وهو إنجاز حققه الإسلام الصوفي بنسخه النسخ. سجل ذلك المتصوفة في شعر جميل، مثل عبد الكريم الجيلي القائل، منذ حوالي 6 قرون:

"فطوراً تراني في المساجد راكعاً / وطوراً تراني في الكنائس راتعاً

إن كنت في حكم الشريعة عاصياً / سأكون في حكم الحقيقة طائعاً"

الجيلي، لا يبالي بحكم الشريعة النرجسية الملتفة على نفسها كعمامة. الحكم الوحيد الذي يرتضيه، هو حكم الحقيقة الصوفية، الحقيقة الروحية التي نلتقي بها في كل الديانات، بما فيها الوثنية، وفي كل أنساق التفكير بما فيها الإلحادية. كما يقول ابن عربي أيضاً:

 

 

"لقد كنت قبل اليوم أُنكر صاحبي / إذا لم يكن ديني إلى دينه داني

وقد صار قلبي قابلا كل ملة / فمرعى لغزلان ودير لرهبان

ومعبد أوثان وكعبة طائف / وألواح توراة ومصحف قرآن

أدين بدين الحب أَنّى توجّهت ركائبه / فالحب ديني وإيماني"…

ابن عربي نادر في تاريخ الإسلام. إنّه حقا معاصر لنا، إذ اعترف بالدّيانات الوثنيّة وساواها بالتوحيديّة منذ ثمانية قرون. ومازال فقهاء الظاهر، لا يعترفون حتى باليهودية والمسيحيّة، زاعمين أنّهما مجرّد شريعتين نُسختا بالشريعة الإسلاميّة… لا بأس بتدريس هذه الأبيات، في جميع المدارس وجميع البلدان، في مادة حوار الأديان المطلوب استحداثها. ولتبدأ بذلك المملكة العربية السعودية، التي بدأت تنفتح على حوار الأديان العالمي. ولا بأس بكتابتها، بجميع اللغات، على واجهة أبواب مؤتمرات حوار الأديان، ردا على فقهاء التعصّب الذين مازالوا يكرّرون "لا معنى لحوار الأديان مع البابا إلا بدعوته إلى دخول الإسلام". قارن هذا التعصب بواقعة وفد نصارى نجران، برئاسة أسقفهم، إلى المدينة للحوار مع نبي الإسلام. كان اليوم يوم أحد، ولما حان وقت إقامة القداس، سأله الأسقف: أين سنصلي يا محمد؟ أجابه: في مسجدي. فلماذا لا يتبادل اليوم المؤمنون بجميع الأديان، الصلاة يوما كل سنة على الأقل، في معابد بعضهم بعضا، إحياء لهذه السنّة النبويّة الحميدة؟ ولعل شيخ الأزهر، المنحدر من الإسلام الصوفي، وريث الإسلام المكي الرّوحي المسالم، سيكون أوّل المبادرين لذلك بدعوة المسلمين للصلاة في الكنائس في عيد الميلاد، ودعوة البابا للمسيحيين للصلاة في المساجد في عيد المولد النبوي.

دراسة الإسلام بعلوم الأديان، هدفها تعليم أدمغة الناشئة التمرن على الصرامة المنهجية، والانضباط المعرفي، والفكر النقدي، وهي العدة الضروريّة لفهم النص وتفكيكه والنقاش فيه بلا محرمات مستبطنة، مازالت حتّى الآن تشكل عوائق تعتقل عقل المسلم فلا يعود قادرا على فهم موضوعه.

أضفتَ أيضا الفلسفة لعلوم الأديان. فكيف تساهم الفلسفة في فهم الدّين؟

 الفلسفة ضروريّة لفهم الدّين والحياة. لإنتاج الحكمة فيهما. العالم الذي نعيش فيه لا يحتاج إلى القوّة بل إلى الحكمة. الفلسفة تدرّب أدمغة التلامذة والطلبة على استخدام الفكر النّقدي، الذي يستدعي جميع الادعاءات الدينيّة والدنيويّة للمثول أمام محكمة العقل، لتحاول تبرير معقوليتها. كما تدرب الأدمغة على استخدام قوة الحجة، بدلا من حجة القوة، التي توشك أن تجعل العالم غير قابل للحكم وربّما أيضا غير قابل للحياة. تعلمهم لذّة الاكتشاف، والفضول المعرفي، أي ثقافة السّؤال التي حرّمها الفقهاء. كما تحصنهم ضدّ ثقافة الاستشهاد، وهذيانها عن الشّهيد الذي لا يموت، وعن القصر و 72 حورية اللواتي ينتظرن أمامه قدوم القاتل القتيل لافتضاضهن بعدما نفذ جريمته في الأبرياء، تعلم أبناءنا أن يهتموا بمستقبلهم الآن وهنا، تشفيهم من مرض الحنين إلى الماضي، الذي هو حنين إلى فترة الطفولة، فترة الإعفاء من المسؤولية؛ ومن البحث عن مفاتيح حاضرنا ومستقبلنا في ماضينا الذي فات ومات. الإصلاح الديني الشجاع يساعد على طي صفحة ثقافة الاستشهاد بتعويضها بثقافة احترام الحياة، حياتنا وحياة غيرنا. الفلسفة، المفككة للأساطير، تساعد على ذلك.

4 ـ كيف لفّق ابن إسحاق حدّ الرّجم؟

  ناصر بن رجب: يقول الخميني في "تحرير الوسيلة" ج 2، كتاب النّكاح، مسألة 12، ص 221: "لا يجوز وطء الزّوجة قبل إكمال تسع سنين، دواما كان النّكاح أو مُنقطعا، وأمّا سائر الاستمتاعات كاللمس بشهوة والضمّ والتفخيذ فلا بأس بها حتى في الرضيعة، ولو وطأها قبل التسع ولم يفضّها لم يترتب عليه شيء غير الإثم على الأقوى…" فكيف تقرأ هذه الفتوى؟

 للتّاريخ، فتوى الخميني هذه هي حديث متّفق عليه.

ما معنى متّفق عليه؟

 أي اتّفق على روايته الشّيخان البخاري ومسلم. وعندئذ يصبح لا جدال فيه. فتوى الخميني بهذا الحديث، في القرن العشرين، هي في حدّ ذاتها شاهد إدانة على تأخّر إصلاح الإسلام بحقوق الإنسان، وعلوم الأديان، والفكر الفلسفي النّقدي، وبكلّ مكاسب الحداثة. تأخّر الإصلاح يُنتج الأهوال، وفي مقدّمتها طغيان اللامعقول الدّيني على نحو هاذ [هنا أيضاً لم أحذف الحرف الصوتي لحاجة الأبجدية العربية للصوتيات]، الاستمتاع الجنسي "حتى في الرّضيعة" تعبير عن رغبة جامحة في اغتصاب الأطفال، الشّائع اليوم في أرض الإسلام، التي مازالت دولها لم تحدّد بعد سنّ الزّواج بثمانية عشر عاما كما فعلت تونس والمغرب مثلا. القوانين في العالم الذي نعيش فيه، الوضعية العقلانية، تعتبر نكاح الأطفال قبل ستة عشر عاما اغتصابا، إذن جريمة مستوجبة للعقاب. أمّا في كثير من البلدان الإسلاميّة فالشريعة تعتبره زواجا "على سنة الله ورسوله"، وكأحد المؤشّرات على بداية نُضج إصلاح الإسلام في وعي النخب الإسلامية، فرضُ السعودية مؤخرا ضرورة كتابة سنّ الزوجة في عقد النكاح ربّما – في السيناريو المتفائل - كتمهيد لوضع حدّ لاغتصاب الأطفال فيها. والجدير بالملاحظة أن باحثا مصريّا أثبت بالعودة إلى وقائع التاريخ، أن سنّ أم المؤمنين عائشة كان ثمانية عشر عاما، لمّا بنى بها النبي وليس تسعة أعوام كما يذكر البخاري. وهذا ينسف "سنّة الله ورسوله" التي برّر بها المحدّثون الرّغبة في اغتصاب الأطفال أي البيدوفيليا، الراسخة في النفسيّة، خاصّة لمن كانوا في طفولتهم ضحيتها.

لا ينبغي أن ننسى أنّ في إيران اليوم نخبة إصلاحيّة عقلانيّة ذات جماهيرية جارفة لا تعتبر الخميني مرجعيّة لها. ومطلبها المركزي فصل الدين عن الدولة، والقطع النهائي مع تطبيق الشريعة، وخاصة إيقاف جريمة الرجم التي تطبقها الآن إيران، التي عاد حكامها للقرون الوسطى، لكن نخبها وشعبها يعيشون بفكرهم، في قلب القرن الحادي والعشرين، ويدفعون ثمن ذلك من حريتهم وحياتهم. حداثتهم الدينية جديرة بأن تكون قدوة حسنة لكل المسلمين في العالم حيث مازال تيّار الجمود الديني، بالرغم من أنه في موقع دفاعي، هو الأعلى صوتا والأشد أذى للإسلام والمسلمين وباقي البشرية.

 

ناصر بن رجب: ترجمتُ بحثا مهمّا للمستشرق الفرنسي دي بريمار سأنشره قريبا جدّا عنوانه: "نبوّة وزنا" فكّك فيه كيف فبرك المحدّثون والفقهاء حدّ الزّنا في الإسلام. اتّضح لي من ذلك أنّ ابن إسحاق، الذي قال عنه مالك بن أنس أنّه دهريّ متّهما إيّاه بالكذب، لفّق سيناريو امتحان اليهود للنّبي في حدّ الزّنا وذلك لهدفين:

 

- الأول إثبات أنّ نبوّة محمد جاءت في التّوراة ولكن اليهود كتموها.

 - الثاني نقل حدّ الرّجم من الشريعة اليهوديّة إلى الشريعة الإسلاميّة، زاعما أن أحبار اليهود تآمروا في المدرسة التوراتية لاختبار نبوّة محمد فقالوا: "لنبعث بهذا الزّاني والزّانية إلى محمّد، ونسأله عن الحكم الشرعي فيهما، فإن قضى بالجلد فهو ملِك فاتّبعوه، وإن قضى بالرجم فهو نبيّ فاحذروه" ويجعله ابن إسحاق طبعا يقضي بالرجم لإثبات نبوّته وإضفاء الشرعية الإسلامية على حد الرجم التوراتي…

 

 استنتاجك صحيح تماما. فقصد ابن إسحاق هو إثبات أن اليهود تأكّدوا من نبوّة محمد فكتموها وناصبوه العداء، ممّا يبرّر حروبه عليهم. وسواس تآمر اليهود على النبي نلتقي به في كل منعطف. مثلا زعم ابن إسحاق أنه لما مر أبو طالب، مرفوقا بالفتى محمد بقافلته، على الراهب بحيراء أنبأه هذا الأخير بأن ابن أخيه سيكون نبيا وحذره من اغتيال اليهود له. ذات الهاجس نجده في فبركة سبب نزول آية تغيير الاتجاه من القدس إلى الكعبة. فقد زعم واضعو أسباب النزول أن اليهود قالوا: لماذا يشاركنا محمّد في الاتّجاه في صلاته إلى القدس بينما التوراة تقول أن «نبيّ آخر الزّمان» يستقبل في صلاته القبلة… طبعا هذا النص لم يوجد وما كان بإمكانه أن يوجد، لأن النرجسيّة الدينية في اليهوديّة، التي حصرت النبوّة في ذرّية إسحاق، ينافيها. وبالمناسبة يقول المستشرق ميشيل كويبرس في كتابه "القرآن" أنّه عُثر على تسعمائة آية من مصحف يُرجِّح الباحث المعروف في القرآنيات، أمير معزّي، أنه إمّا أنها تعود إلى مصحف ابن مسعود أو إلى مصحف أُبي بن كعب، ويلاحظ المستشرق، الذي اطّلع على هذا الجزء من المصحف، أن الحديث والقرآن مازالا لم ينفصلا عن بعضهما البعض، ضارباً مثلا باحتوائه لحديث-آية الرجم. وهذا يشير إلى أن الآيات تعود على الأرجح إلى مصحف أُبيّ؛ فالسجستاني يُخبرنا بأن آية الرجم موجودة فيه. ولكن نفورًا من هذا الحدّ الفظيع، فإن لجنة جمع القرآن، التي كان فيها أبيّ، أبت إدراج حديث-آية الرجم في مصحف عثمان مما يدل على سوء سمعة الحدود الشرعية عند عثمان وباقي أعضاء اللجنة.

 

هل كانت سمعة الحدود سيّئة إلى هذه الدّرجة؟

 نعم، شريعة العقوبات البدنية لم تكن لها سمعة حسنة في تاريخ الإسلام. مؤسّس الإسلام كان يوصي أصحابه في المدينة بالتصالح فيما بينهم، تفاديا لتطبيق الحدود عليهم قائلا: "تعافَوْا الحدود فيما بينكم، فما بلغني منها نفّذته". وحتى ما يبلغه منها فإنه بحث له عن مخرج لعدم تنفيذه قائلا: "ادرؤوا الحدود بالشبهات"، أي أنّ على القاضي أن يبحث عن شبهة براءة ليتجنب بها تطبيق الحد. وعُمر أوقف حدّ السرقة عام الرمادة أي المجاعة. وعثمان، رفض إقامة الحد الشرعي على سالم بن عمر بن الخطاب لقتله قاتل أبيه "لؤلؤة" وابنته، رغم مطالبة علي بن أبي طالب بإقامة حد القصاص عليه. وكان رد عثمان براغماتي: "لن أفعل؛ بالأمس يُقتل عمر واليوم يُقتل ابنه!" ودفع من مال بيت المسلمين دية القتيلين. وقبل ذلك، رفض أبو بكر القصاص من خالد بن الوليد لقتله مالك بن نويرة، بالرغم من إلحاح عمر على ضرورة الاقتصاص منه. حتى حماس التي جعلت من تطبيق الحدود الشرعية سبب وجودها بدأت، تحت ضغط مبدأ الواقع، تبتعد عنها؛ فاتهمتها السلفية الجهادية "بالتخاذل في تطبيق الشريعة الإسلامية، لصالح علاقات مع دول غربية كافرة"، في مقدمتها أمريكا كما تقول السلفية الجهادية. حتى لو أخذت السلفية الجهادية مكان حماس، فإنها هي نفسها قد "تتخاذل في تطبيق الشريعة الإسلامية…" لأن ثقافة حقوق الإنسان نزعت عنها كلّ شرعية.

 

قيم الحداثة الإنسانيّة تتقدّم حتى الآن بخطى ثابتة، على حساب القيم التقليدية التي لا تقيم وزناً لحقوق الإنسان.

ناصر بن رجب : يقول ابن إسحاق، في مختصر ابن هشام، إنّ عمر خطب في النّاس مذكّرا لهم بأن آية الرّجم غير منسوخة، وهدّد بإقحامها في المصحف مُستدركا : "لولا أن يقول النّاس أنّ عمر زاد آية لزدت آية الرّجم"…

 

  نحن دائما في مسرحيّة تلفيق الأحاديث، وإدخالُ عمر في لعبة إثبات أنّ حدّ الرّجم من الإسلام هو، في نظري، ردّ ضمني على اتّهام الشيعة له بنسخ آية الرجم من ألواح حفصة قائلين: "لقد وضع إبهامه على لسانه ثم فسخ آية الرجم بلعابه"، فكان رد ابن إسحاق، وفي الحقيقة الخليفة المنصور عَبْره الذي كلفه بكتابة تاريخ البشرية من آدم إلى المنصور نفسه، هو الإلحاح على تمسّك عمر بحدّ الرجم، والتأكيد بأنه غير منسوخ كما قال في الخطبة المنسوبة إليه. وقال الفقهاء، الذين لا ينقصهم التناقض، أن آية الرجم نُسخت لفظًا وبقيت حكمًا. أي أنه لم تعد لها قداسة القرآن، ولا يمكن الصلاة بها، ويمكن مسّها دون طهارة… إلخ، لكنها مع ذلك تظلّ صالحة لقتل الزاني والزانية رجمًا. وحدهم المعتزلة ادركوا عبثية نسخ التلاوة وبقاء الحكم، كما يقول السنة.

 

  ناصر بن رجب : من أين أخَذَت الشّريعة اليهوديّة حدّ الرّجم الوحشي؟

 لا أعلم. كراهيّة المرأة كانت - وفي أرض الإسلام مازالت - قاسما مشتركا بين غالبيّة الرّجال. قد تكون ترجمة للحقد الدّفين على المرأة، الكامن في الشخصية النفسية للذّكور. شريعة حمورابي قضت بقتل الزانية غرقا في دجلة والفرات. وقد أحيت هذه السنّة الحمورابية الجماعة الإسلامية في كردستان العراق في التسعينات، عندما قتلت فتاة اتهمتها بالزنا بإغراقها في أحد الأودية. أما الهندوس فيرمون الزانية للكلاب المُجوَّعة لتنهشها…

ولماذا هذه القسوة اللامتناهية ضدّ المرأة الزّانية؟

 من وجهة نظر نفسانيّة قد يعود ذلك إلى فانتازم الأم المفترسة الذي كوّنه الرّضيع عن الأم التي لا تقدّم له ثديها في الوقت المناسب. علما بأن جوع وعطش الرّضيع لمدّة ربع ساعة يعادل جوع وعطش الرّاشد لمدة ثلاثة أيام. ويُعيده بعض المحلّلين النفسانيين إلى قلق الخصاء حيث يرقد في لاشعور الذّكر الخوف من ابتلاع فرج المرأة العضو الذكري. أمّا السيكولوجي الألماني، كنول، فيفسره بالخوف من المقارنة مع رجل آخر، الذي يعود في نهاية التحليل إلى قلق الخصاء. وهي في نظري فرضيّة وجيهة تدعمها شواهد انتروبولوجية عديدة لا مجال لذكرها هنا.

 

من هنا أهمية تدريس التربية الجنسية العلمية، لتبديد هذه المخاوف اللاّمعقولة كما بدّدتها في أوروبا التي مرت هي أيضا في عصور ظلامها بهذا العداء الدفين للمرأة. مثلا أحرقت الكنيسة الكاثوليكية مائة ألف "ساحرة" يهودية!

في هذا المناخ تبدو الحكومات التي تُطبق العقوبات البدنية المتقادمة، وكأنها قد نامت نومة أهل الكهف، وتتعامل بعُمْلتهم التي لم تعد قابلة للتداول. بالمناسبة، أسطورة أهل الكهف، يُعلّمنا تاريخ الأديان المقارَن أنها مأخوذة من أسطورة "السبعة النيام" في إفسُس؛ وهم مسيحيون فرّوا من اضطهاد الإمبراطور ديسيوس (حكم من 249 إلى 251) ولم يستيقظوا إلا في عهد الإمبراطور ثيودوس الثاني (حكم من 408 إلى عام 450).

مصداقا لهذه الحقيقة الأنتروبولوجية، أي تقادم الشريعة؛ الشريعة، كما صرّح مفتي مصر، لم تُطبَّق في مصر منذ ألف عام، بسبب زوال الظروف والذهنيات التي ظهرت فيها. ونفس هذه الحالة الأنتروبولوجية تنطبق على آيات الإسلام المدني السّجالية ضد اليهود والنصارى والمشركين. والمشركون هم الوثنيون، أي مثلا الصين والهند واليابان؛ وقد تساءل رشيد رضا مستغربا التّمسك بجهاد الطلب لإدخال البشرية كافة في الإسلام: هل علينا أن نجرّد جيشا لإدخال اليابان في الإسلام؟ تساؤله يكشف عبثيّة التمسك بنصوص زالت مُبرّراتها الأنتروبولوجية. نفس الحقيقة الأنتروبولوجية تنطبق على إسلام الولاء والبراء، الذي جعل منه أقصى اليمين الإسلامي السياسي كلَّ الإسلام. والحال أن الولاء والبراء لم يكن إلا قانونا عرفيّا؛ ربما كان صالحا لزمن حروب النبيّ مع المشركين. وما إن وضعت الحرب أوزارها لا يعود ساري المفعول، تماما كما تفعل الحكومات المعاصرة. لكن أقصى اليمين الإسلامي المريض بالأوطيزم، أي الانطواء على الذات، جعل الولاء والبراء عابرا للتاريخ. الإخوان المسلمون في مصر وسوريا يطالبون بإلغاء قانون الطوارئ الذي عمره 30 عاما. لكنهم، يا للمفارقة، متمسكون بقانون طوارئ الولاء والبراء الذي عمره 14 قرنا. إنه الجمود الديني اللامبالي بحقائق الزمان والمكان، والذي افترس كل نواة معقولية في رؤوس ضحاياه.

ومن مؤشرات نضج الانتقال من الفقه القديم إلى فقه جديد متصالح مع عصره، انعقاد مؤتمر إسلامي، في مارس الماضي، بمدينة ماردين (تركيا)، حضره علماء، من عدة بلدان إسلامية، أكدوا تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار حرب، وتكفير المسلمين باسم عقيدة الولاء والبراء قد تجاوزه الزمن، فلم يعد صالحا لعصرنا. وهو ما كنت أتمناه بكل جوارحي. وأَقترحُ على شيخ الأزهر أن يعقد مؤتمرا موسّعا، تحت إشرافه، لتأييد هذه الفتوى الشجاعة، وتوسيعها؛ بل وأقترح على كل بلد مسلم عقد مثل هذه المؤتمرات للتعجيل بميلاد فقه إسلامي جديد متصالح مع عصره، دشن الصديق جمال البنا بسملاته الأولى.

المصدر: http://www.alawan.org/%D9%85%D9%82%D8%A7%D9%84-%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF%D8%A5%D8%B5%D9%84%D8%A7%D8%AD.html

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك