دار للمسنات في بغداد تضم مسيحيات ومسلمات وحدهن الألم وجسدن التعايش
انزوت دار "عنيا" لرعاية المرضى شديدي العوق والمسنين، التي تشرف عليها احدى كنائس بغداد باحد الازقة الضيقة في منطقة الكرادة، محاطة بمخازن ضخمة للبضائع واكوام من الاوساخ، الا ان بابا صغيراً محاطا ببضع حراس كان يقود الى حياة اخرى .
حيث تقضي نحو 50 امراة مسنة ماتبقى من حياتهن في دار متهالكة شيدت منذ اكثر من نصف قرن في المنطقة التي شهدت قبل نحو عامين هجوما داميا طال كنيسة سيدة النجاة واوقع مئات القتلى والجرحى، هذه الدار احتضنت بين اركانها حكايات مؤلمة وحدت الالم وجسدت قصة التعايش بين المسيحيين والمسلمين.
وينتصب وسط باحة الدار تمثال للسيدة مريم العذراء(ع) فاتحة ذراعيها ترحيبا وكأنها تتأمل وجوه القادمين او النزلاء وازدحمت واجهة المكان بصور ضحايا مجزرة سيدة النجاة ورجال دين مسيحيين بارزين بعضهم من الراحلين واخرون ممن هم على قيد الحياة في حين اضفت المزامير والصور والتذكارات جوا من الاطمئنان الروحي والنفسي.
نزيلات الدار انشغلن كل بحسب رغباتها ، فبعضهن اختار القراءة لتمضية الوقت الطويل واخريات جلسن بانتظام على مائدة الطعام لتناول وجبة الغداء فيما اختارت اخريات الاستلقاء على اسرة رتبت بتنسيق محكم .
وتشي قصصهن بحجم المأساة التي مرت عليهن، اذ تقول ماجدولين توفيق 70 عاما بصوت مرتجف بعد ان رددت كلمات ترحيب بالفرنسية التي تتقنها جيدا: "جئت من كركوك حيث كنت اسكن بعد ان تملكني الخوف بسبب اعمال القتل التي طالت الجميع في المدينة مسلمين ومسيحيين، لكني اثرت الرحيل بعدما وجدت نفسي عقب وفاة زوجي بمفردي في مواجهة اعباء الحياة والرعب".
واضافت بنبرة مازالت تحمل اثرا من ايام العنف الذي طال مسيحيي العراق قبل سنوات، "وجدت الاطمئنان في هذه الدار وتركت الخوف ورائي ..واعيش على امل وحيد .. عودة ولدي المقيم في خارج العراق منذ 30 عاما".
وتؤكد ان "ما جرى ويجري في خارج الدار من احداث لا يؤثر فينا فنحن نعيش كعائلة واحدة لا فرق بيننا ووجدنا العلاقة الانسانية اسمى من الفرقة والانقسامات" .
وفي ذات المكان جلست احدى نزيلات الدار من المسلمات ، بسعاد محمد رايح 65 عاما على سريرها منحنية الظهر بأمل عودة عائلتها التي فقدتها منذ 9 سنوات حيث حملت على كاهلها معاناة وآلام السنين وهي تتأمل في وجوه الزائرين عسى ان يكون من بين القادمين اولادها .
تقول بسعاد السمراء الداكنة التي بدت متعبة فيما غطى رأسها الشيب،"خرجت من الموصل بعد ان توفي زوجي الى بغداد، وجئت عند احد اقربائنا، لكني شعرت اني ضيف ثقيل واخترت المجيء الى هذه الدار التي وجدت فيها رعاية نفسية وخدمات جيدة وتعاملا حسنا جدا".
وتضيف وسط الدموع المنهمرة من عينيها الصغيرتين " لا اعلم اين عائلتي الان كنا نسكن في منطقة باب الطوب في الموصل، لكن بعد وفاة زوجي لاعلم لي الى اين رحلوا، لدي 4 اولاد و3 بنات سكنوا لدى عمتهم ،الا انها انتقلت الى مكان اخر ولم يسألوا عني منذ ذلك الوقت.. حتى هذه الساعة لا اعلم عنهم شيئا" .
وتبدي بسعاد المسلمة ارتياحا كبيرا لوجودها في هذه الدار التي تحمل صبغة مسيحية بحتة "كأني في بيتي وعلاقتي جيدة مع الجميع وهن كأخواتي، لم يدخرن جهدا في سبيل اسعادي" وبرغم الالم فان روح الفكاهة لم تغب حيث تبتسم قائلة: "جدي اسمه رايح ...لكني احيا بأمل ان يرجع اولادي في يوم ما".
تتسم"دار عنيا" رغم قدمها بالحياة والحركة النشيطة وتتكون من طبقتين لسكن المسنات كما تحتوي على مطعم صغير مرتب على طراز حديث يتناول فيه المقيمون وجباتهم الثلاث ولا تقتصر الدار على المسنين فقط، وانما تضم نساء من ذوي الاحتياجات الخاصة حيث تتوفر لهم الرعاية الصحية بشكل تام من خلال تبرعات وهبات تمنح للدار.
وتقول المرأة الستينية باسمة طه المسلمة المقيمة في الدار منذ سنة " جئت الى هنا عن طريق احد معارفنا بعدما كنت اعيش مع ابني و زوجته الموظفة ..لم تتمكن من اعالتي او مساعدتي ولهذا قررت السكن في الدار برغبتي وبدون علم اولادي في بادئ الامر" .
وترى باسمة طه التي تعاني من عدم قدرتها على الحركة بعد عملية جراحية اجريت لها انها وجدت راحة نفسية تامة كما انها ما تزال تزاول القراءة ،هوايتها المفضلة، لكنها تقول "اشتقت لاولادي كثيرا ".
ووسط عشرات النساء المسنات تحلم غادة الياس ذات القوام المتناسق والبشرة البرونزية والعينين الزرقاوين بعد ان شارفت على الاربعين من عمرها بتحقيق "الاستقرار وان يكون لها بيت خاص".
وقالت: "هذا المكان حقق لي الامن بعدما فقدت امي وابي وجئت بقناعتي رغم ان لدي 3 اخوة يعلمون أني هنا ووافقوا على تواجدي".
وتابعت: "علاقتنا مع المقيمات في الدار جيدة، ونشترك بمعاناة واحدة، وهمنا الانساني واحد"، مشيرة الى ان "ما جرى من احداث لم يؤثر في علاقتنا داخل الدار".
وتملك مديرة الدار الحان سميث ومساعدتها انوار ناظم كاريزما جعلت اغلب المقيمات يتعلقن بهما لما تقدمانه من خدمات حيث تعملان كفريق واحد لخدمتهن تطوعا من اجل تحقيق جزء بسيط من التكافل الاجتماعي.
تقول كل من الحان وانوار : "نحن عائلة واحدة تضم 50 فردا من مختلف المكونات العراقية ولا ننظر الى من نقدم له الخدمات عن خلفيته الدينية او العرقية او الطائفية فقد كنا نستضيف في مدة مواطنين عرباً من فلسطين ومصر".
وتضيف الحان سميث "نعمل منذ العام 2000 وسط ظروف صعبة تخلو من توفر ابسط الحاجات الاساسية"، مشيرة الى ان "الاجراءات الروتينية عرقلت انتقالنا الى المبنى الجديد الذي خصصه لنا رئيس الوزراء نوري المالكي، حيث مازلنا في نفس الدار".
وتضيف الحان وتوافقها انوار على رأيها "نحن متطوعات لعمل الخير فالانسان يحتاج الى حياة كريمة بعد هذا العمر الطويل وقد تطوعنا في سبيل الله ولعمل الخير"، مبينة ان "الاحداث التي جرت لم تؤثر في المقيمين في الدار ابدا لاننا نعيش سوية ونواجه الحياة معا وخارج المكان يكون الخلاف امرا طبيعيا لم نسجل اطلاقا اي حالة حتى عندما حصلت حادثة كنيسة سيدة النجاة فان جميع المسلمات المقيمات في الدار حزن كثيرا"، مؤكدة ان "فان جميع من يعمل بالدار يسعى لخدمة المقيمات وتعويض النقص الذي يعانين منه ولتوفير احتياجاتهن قدر المستطاع".
المصدر : جريدة الصباح