المسيحيون في زوبعة التغيّرات العربية: قلق لا يمحوه إلا ميثاق التعايش مع "الآخر"
مادونا سمعان
عمد كهنة الرعايا إلى حملة تمنع بيع الأراضي في المناطق المسيحية لغير المسيحيين، من نحو سنة. فكانت أصواتهم خلف المذابح تصدح بأهمية المحافظة على الأرض. لم يقصدوا في ذاك اليوم الأجانب تحديداً، بل كل آخر لا يرسم شارة الصليب على وجهه. يومها أرادت الكنيسة التشدّد في الحفاظ على ممتلكات المسيحيين من أراض وعقارات في خطوة تعتبرها أساسية لبقائهم في لبنان، وبالتالي محصّنة لوجودهم. ويومها كانت الديموغرافيا السبب الرئيس خلف تلك الحملة، أو الخوف من تمدّد يحاصرهم كأقليات. خفت الصوت مع انطلاقة "الربيع العربي"، خصوصاً حين صيغ الحديث عنه بمصطلحات الديموقراطية والحرية والتعددية... وهي مصطلحات "ذات وجه غربي" على ما قيل يومها، والنمط الغربي لطالما أعجب المسيحيين.
في الوقت نفسه، اعتبرت شريحة منهم أن انقسام الشارع المسيحي وتحالف أقطابه مع أطراف النزاع الرئيسيين على الساحة اللبنانية (سنة وشيعة، 8 و14 آذار)، جنّبا المسيحيين عموماً من التعامل معهم كأقليات، بل كشريحة تلعب دوراً مرجحاً في الصراع الدائر بين الفئتين المتخاصمتين، ولا سيّما بعد انكفاء دور الرئاسة الأولى لمصلحة الرئاسة الثالثة بعد الطائف. ذلك في الظاهر، لكن داخل المنازل والبيوت المسيحية خوف أبعد من السياسة والجولات الانتخابية الموسمية، فالقلق يسبق أرباب العائلات إلى فراشهم، ويبيت في قلوب الأمهات. فهم يخافون مصيرا يشبه مصير "إخوتهم في المسيح" من الأقباط أو مسيحيي العراق، أو حتى أخيراً مسيحيي سوريا. وهم ينظرون إلى "الربيع العربي" كـ "خريف مسيحي" ينبئ بنهاية المسيحية في مهدها.
وإذا كان ما سبق نظرة تشاؤمية يتبناها عدد من المسيحيين، فإن بعضهم الآخر ما زال ينظر إلى نفسه بمرآة "الجمهورية الأولى". ويميّز وضعه كمسيحي شرقي عن وضع أي مسيحي آخر. وتلك رؤية يتشاركها مارك العوني، وطوني القواتي، اللذان يعتبران أن مسيحيي لبنان ما زال لديهم قادة يتكلمون باسمهم. وهم فاعلون على الساحة السياسية و"يحسب لهم الحساب". وبالتالي فإن معركتهم تنحصر بالديموغرافيا، أي بحسن مخاطبة المسيحيين للتشبث بأرضهم والبقاء في لبنان. كما يشتركان في مديح "ذكاء" كل من النائب ميشال عون، وقائد "القوات" سمير جعجع، لحسن اختيارهما الحليف المسلم. فمارك يرى في "حزب الله" الأقوى على الساحة الاقليمية، والحزب الذي "يخيف" الغرب، بينما يلفت طوني إلى أن "الحكيم صاحب رؤية سياسية جعلته يضع يده بيد السني، الأكثر امتداداً سياسياً وعدداً في المنطقة". وهو لا يهاب سلفية بدأت تمسك بزمام الأمور في بعض الدول القريبة "لأنها إن أخطأت فسيكون الغرب لها بالمرصاد"، وبالتالي ما التحالف مع السنة بالنسبة له إلا تعايش يفرضه السياق التاريخي.
اللافت أن مارك وطوني لا يعترفان بقلق يخالج صدور المسلمين في لبنان. ويتساءلان ما الذي يمكن أن يقلق الشيعي؟ وما الذي يمكن أن يخيف السني؟ يقول مارك ان التفّوق الديموغرافي يحمي الأول، بينما يعتبر طوني أن السنّة المجاورين لا بدّ من أن يساندوا سنة لبنان كلما واجهوا ضيقة، فهم أصحاب السلطة اليوم. وبالتالي ما الخطر إلا على المسيحي. قد لا يختصر رأي مارك وطوني آراء كل المحازبين المسيحيين، من عونيين وقواتيين، لكنهما حتماً لا يترجمان خوف كل مسيحي على مصيره في هذا الشرق.
تقول جورجينا، وهي أم لطفلين لم يتجاوز كبيرهما الثانية عشرة من العمر، إنها لا ترى إلا الهجرة أفقاً لولديها، "فهناك احترام أكبر للإنسان والهموم تنحصر بكيفية عمل الفرد على تطوير نفسه. هناك لا هموم كهرباء ولا أقساط مدارس... وهناك فرص عمل أكثر، وما من "آخر" يتهددها وعائلتها لأنه يخاف قانوناً رادعاً يحمي الحريات والمعتقدات. قد تعترف بأن مخاوفها ليست مخاوف "مسيحية" بحتة، بل هو قلق ربما تشعر به أي أم إلى أي دين أو طائفة انتمت. لكن جورجينا تلحظ فارقاً لدى المسيحيين هو تبعية قادتهم لقادة المسلمين، في ما خصّ السياسة. وهي تحمّل الكنيسة جزءاً من الإحباط المسيحي الذي يعمّ لبنان من شماله إلى جنوبه "لأنها لا راعية ولا حامية. فأراضيها وممتلكاتها شاسعة لكن ما زال هناك شباب لا يستطيعون تأمين مسكن. وهي تملك، أي الكنيسة، المدارس والمستشفيات وهناك كثيرون خارج المدارس أو لا يحصلون على الخدمة الطبية كما يجب".
ليست جورجينا وحدها من يحمّل الكنيسة مسؤولية قلق الرعية. لكن بين مسيحيي الشمال من يرى أن الكنيسة، الكاثوليكية أو الأورثوذكسية، باتت أعجز من أن تحمي أبناءها. هكذا يرى وسام أن لا حلّ لديه سوى التأقلم مع واقع السلفية الجديدة في لبنان، "وهو واقع تعجز الكنيسة عن إيجاد حلّ له. لأن السلفي لا يعترف بالآخر" كما يقول. وإذا كان غيره يتحدث عن إحباط من مصير مجهول للمسيحيين، فوسام بدأ يتلمس الخطر، كلما حوصر في بلدته القبيات بسبب تحرّك سلفي.
لعلّه يبرهن، كما إبراهيم من البقاع، على أن حال مسيحيي الأطراف بدأت ترسم تمايزاً عن حالة مسيحيي بيروت أو جبل لبنان. فـ "الآخر" في تلك المناطق أكثر نفوذاً، كما يلفت إبراهيم، الذي يروي أن التنسيق مع "حزب الله" في منطقة بعلبك الهرمل أمر مستحسن وضروري.
قلق من الداخل والخارج
لا يرى المسيحيون المستصرحون أن الأنظمة والأحزاب التي حلّت بديلاً عن الأنظمة العسكرية والديكتاتورية التي حكمت المنطقة، وهي في معظمها دينية، يمكن أن تُرسي أسس وقواعد الديموقراطية والمحافظة على الحريات والاعتراف بأبناء الأرض الآخرين. وإذا لم تمسّهم الانتخابات المصرية الأخيرة التي تربّع فيها "الإخوان المسلمون" على عرش مصر مباشرة، كما لم يتأثروا بوضع العراق بعد الحرب الطويلة عليه، فإن ما وصلت إليه الأوضاع السورية أخيراً نبههم إلى التغيير السريع الذي بدأ يتظهّر في المنطقة، والذي لا بدّ من أن يطالهم وإن بشكل غير مباشر. هكذا لا يرى طوني أن النظام العلوي في سوريا كان يطمئنه على مصيره كأقلية، فهو يعوّل على "الغرب" في حماية مسيحيي لبنان من النظام العلوي ومن أي أكثرية سوف تحكم سوريا. في حين يصرّ مارك على أن النظام العلوي أكثر احتراماً للتنوع الطائفي في المنطقة، وبالتالي سيبقى الأقل خطراً على المسيحيين فيها. وهو رأي لا يخجل من المجاهرة به وسام صاحب البطاقة الكتائبية، متخوفاً من نظام سوري جديد "قد يكون أظلم".
فعلياً، لا يتجرأ كثير من المسيحيين على المجاهرة برأيهم تجاه الأحداث الأخيرة في سوريا وتبعاتها عليهم، أو حتى تجاه نظام الأسد نفسه. فهم لا يرون فيه إلا أقلية، لا يمكن أن تعتدي على أقليات أخرى فتعزز دور الطوائف الأكثرية. لكنهم أيضاً لا يملكون رؤية واضحة تجاه من عادوه لفترات أو ناصروه لفترات أخرى (مع تبدّل الموقف في حقبات سياسية مختلفة)، خصوصاً أنهم عاجزون عن وصف أخصام هذا النظام السوريين ووضعهم في خانة معينة، سواء الدينية السلفية، أو المدنية المنادية بالديموقراطية. لكن بعضهم، كإبراهيم، بدأ يتلمس خطراً على مصير المسيحيين السوريين الذين لا يشكلون حالة سياسية خاصة، بل تابعة إما للنظام أو لأخصامه. وبالتالي، برأيه "سيكونون كبش محرقة كجيرانهم العراقيين في حرب الأقلية والأكثرية".
مع التمايزات التي يظهرها المسيحيون على اختلاف مناطقهم وميولهم السياسية، يشتركون في القلق على الوجود، ويعتبرونه "حالة خاصة" لا يشترك معهم فيها أي مسلم آخر، "على الأقل حتى الساعة" كما يلحظ إبراهيم، الذي يعتبر أنه في ظلّ السلفية لا بدّ من أن القلق على الوجود سيشمل الشيعة.
التعايش
يفهم رئيس "حزب الكتائب" السابق كريم بقرادوني قلق المسيحيين على مصيرهم. ويعتبر أن قلقهم هذا استقوه من الأحداث العربية الأخيرة في المنطقة. فالثورة العراقية انتهت كما يقول، بطرد جزء كبير من المسيحيين، "علماً بأنها دارت بين السنة والشيعة والأكراد برعاية أميركية. لكن المسيحيين هم من دفعوا الثمن فيها". تماماً كما يستقون قلقهم من الأوضاع السورية الأخيرة "لأن التجربة مع النظام السوري برهنت عن أنه نظام يحافظ على الخصوصيات، وقد حكم في لبنان مدة ثلاثين سنة من دون أن يبدل في النظام اللبناني، ولا في تركيبته لجهة الحصص الطائفية"، وفق بقرادوني، الذي يضيف "وبالتالي لا يمكن أن يرى المسيحي بديلاً عن هذا النظام الا نظاماً على طريقة الإخوان المسلمين".
ويشير إلى أن الأنظمة العربية الديكتاتورية السابقة، لم تؤمن الحريات للمسيحيين بل الأمن فقط، مستدركاً أنه حتى في عهد الرئيس المصري السابق حسني مبارك قُتل المسيحيون ومُنعوا حتى من ترميم كنائسهم. أمام أرباب الأنظمة الجديدة، أي الإسلاميون، فهم أنفسهم من نكّل بهم في السابق.
لكنّه يعتبر أن المسيحيين اللبنانيين لم يستنفدوا قواهم أو إمكاناتهم بعد، فما يفرّقهم عن غيرهم من المجتمعات المسيحية العربية، وجود كنيسة فعّالة، ورئاسة أولى محجوزة باسمهم، وأحزاب يتوزعون عليها.
مع هذا يلتمس بقرادوني شعور القلق والخوف على لبنان من ألا يبقى محيّداً عن الصراعات العربية الدائرة من حوله. ويعتبر أن سقوط النظام السوري الحالي يؤدي حكماً إلى صعود أسهم الإسلاميين في لبنان، الأمر الذي يشكل خطراً أو يخيف المسيحيين. وهو لا يعتبر أن في توزّع الأفرقاء بين 8 و14 آذار قوّة، لأن هذه التحالفات لن تخدم لأكثر من انتخابات العام 2013. ويلاحظ الوزير السابق أن "مشكلة لبنان كانت دائماً في توجهات السنة، إذ كانوا في السابق حتى العام 2005 عروبيين، وباتوا ينادون باسم لبنان بعد اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري. لكن هذا التوجّه لم يخدم حتى لعقد واحد من الزمن إذ تحول السنة إلى حركة إسلامية. فكانت ردّة لبنانية مفخخة، ساعدت على الانتقال من سنّة عروبيين إلى سنّة إسلاميين، علماً بأن هذا الموضوع غير مطروح لا على المستوى الشيعي ولا على المستوى الدرزي".
يتوافق بقرادوني مع الأب المفكّر ميشال السبع في دعوة المسيحيين إلى عقد ميثاق بين المسيحيين والمسلمين يضمن التعايش في ما بينهم، "لأنه خلاص الطوائف اللبنانية مجتمعة"، كما يقولان. لكن السبع لا يعتبر أن القلق المسيحي يختلف أو يتميز عن قلق أي طائفة أخرى في هذا الشرق. والمسيحيون بالتالي أمام ثلاثة خيارات: إما الهجرة، أو التعايش مع الآخر عبر إطلاق مجموعات سياسية علمانية تعمل لدولة مدنية مع بعض المسلمين المتنورين. ويبقى خيار أخير أمامهم هو الرضوخ للتيارات الدينية التي ظهرت أخيراً، والتي تبدو جارفة بسبب قمعها من قبل الأنظمة العسكرية السابقة.
نقلاً عن صحيفة "السفير" اللبنانية