روجيه غارودي من الدوغمائية الشيوعية الى الإسلام
خالد غزال
رحل المفكر الفرنسي روجيه غارودي عن ثمانية وتسعين عاما، بعد حياة سياسية وفكرية مليئة بالمتناقضات و"الغرائب" احياناً، هو الذي اثار جدالا واسعا في الاوساط الثقافية والسياسية في فرنسا والعالم، ونال العالم العربي قسطا غير قليل من تأثيرات افكاره وتحولاته.
يمكن التوقف امام مسيرته في محطات ثلاث، تتناول الاولى الفترة التي عاشها منتميا الى الحزب الشيوعي الفرنسي، وكان يطلق عليه خلالها اسم "الفيلسوف الرسمي للحزب الشيوعي الفرنسي". كان غارودي منظّرا ومقارعا في الدفاع عن الماركسية بشكل يرفض النقد لأيٍّ من مقولاتها. كان كتابه "النظرية المادية في المعرفة" الذي التزم فيه الماركسية حرفياً، احد الكتب المركزية في التثقيف النظري لأجيال من معتنقي الشيوعية في تلك المرحلة. كان غارودي "ستالينيا" بامتياز، من حيث ملاحقة كل مجتهد في الفكر الماركسي داخل حزبه الشيوعي ومعاقبته، كما كان متصلبا في تأييد السياسات السوفياتية ومواقف ستالين من دون تحفظ. كان الابن البار للدوغمائية الشيوعية لعقود من الزمن، على الصعيدين السياسي والنظري. بعد وفاة ستالين والانشقاقات عن الستالينية، بدأ غارودي يتمرد على مواقف الحزب الشيوعي الفرنسي ويوجه انتقادات الى السياسة السوفياتية، وهي فترة لم يكن الحزب الشيوعي مهيأ فيها لتقبل هذا الخروج على المسلمات السائدة، مما تسبب في طرد غارودي من الحزب في العام 1970، لتبدأ مرحلة جديدة في مسيرته.
انتقل غارودي منذ السبعينات الى الاهتمام بالدين الاسلامي، ليصل به الامر لاحقا الى اعلان التزام الاسلام واتخاذه اسم الحج محمد رجا غارودي". اثار هذا التحول استغرابا لدى كثيرين، كما نال تأييدا حماسيا خصوصا في العالمين العربي والاسلامي. لم ينتقل غارودي الى الاسلام بعد مراجعة نقدية لتجربته ولموقعه في الفكر الماركسي وداخل الحزب الشيوعي الفرنسي، مما يطرح علامة استفهام حول طبيعة هذا الانتقال. فاذا كان قد ارتد عن التزام الفكر الشيوعي، واراد العودة الى الدين والايمان الديني، فما الداعي الى ان يذهب الى الاسلام، ولماذا لا يعود الى مسيحيته، حيث لا تختلف القيم الدينية بعضها عن البعض، سواء في الاسلام والمسيحية؟ لم ينج غارودي من الاتهام بالانتهازية في تحوله هذا، وسعيه الى ضجيج اعلامي في عالم عربي واسع، لا يمكن ان يحظى بمثله في العالم الغربي في حال عودته الى مسيحيته. التهليل لغارودي والحفاوة به، كانا واضحين في العالم العربي عندما كان يزوره، بحيث بدا انتقاله الاسلامي مدرجا في المعارك الدينية بين الاسلام والمسيحية. نال غارودي في العالم العربي شهرة واسعة، بعضها لا يدعو الى الافتخار، خصوصا عندما يأتي من قادة سياسيين عرب، على غرار العقيد الليبي معمر القذافي الذي وصفه بأنه "اعظم فيلسوف اوروبي منذ افلاطون وارسطو". على رغم سلبيات تلك الفترة، لا يمكن اغفال مساهمة غارودي في نقده الاصوليات الدينية في كتابه "الاصوليات المعاصرة: اسبابها ومظاهرها"، حيث تناول بالنقد الدقيق والصحيح مجمل الاصوليات اليهودية والمسيحية والاسلامية.
تتصل المحطة الثالثة في مسيرته، بمواقفه من المحرقة اليهودية، ومن قراءته للحركة الصهيونية ونقده لها. تشكيك غارودي في حصول المحرقة، كان غريبا، بل ومريبا، إذ يحمل في طياته تبرئة للعالم الاوروبي من التنكيل باليهود ونقل المشكلة من اوروبا الى العالم العربي، عبر قيام دولة اسرائيل. لكن ما بدا صحيحا هو ما يتصل بتفكيك الفكر الصهيوني واللاهوت اليهودي الذي استخدم لتبرير قيام اسرائيل وطرد العرب، خصوصا في كتابه "الاساطير المؤسسة للسياسة اليهودية" وما تبعها من نقد مارسه بقوة ضد السياسة الاسرائيلية التي كانت ولا تزال تستخدم المحرقة اليهودية للوقوف في وجه كل منتقد لسياسة اسرائيل العدوانية، ورمي صاحبها بالعداء للسامية. اثار غارودي عليه حملة اوروبية واسرائيلية لنفيه المحرقة ولنقده الحركة الصهيوينة، فخضع لمحاكمات في فرنسا وادانة على مواقفه هذه.
عاش غارودي حياة سياسية وفكرية فيها من الاقتناعات الثابتة التي لم يستطع الخروج منها وخصوصا فترة التزامه الشيوعية، بحيث ظلت هذه الصفة لصيقة به، في التقييم الايجابي او السلبي الذي كان يطاله. كما لم تختف الشكوك والاهداف التي نجمت عن تحولاته الفكرية والسياسية، وظلت المقاصد التي هدف اليها موضع تساؤل. لكن، مهما يكن، فسيظل غارودي واحدا من اعلام الفكر الفرنسي، وستظل حياته الصاخبة والمتناقضة موضع دراسة وتأمل. /انتهى/
نقلاً عن صحيفة "النهار" اللبنانية