أثر الإسلام في الحضارة الإنسانية
من أروع مظاهر الإسلام أنه وضع الأسس والمبادئ العامة التي تمجد المثل العليا والآداب الرفيعة، وتنظم المعاملات بين أفراد الجماعة الإسلامية، كما عني بالأسرة، وقرر مبدأ حقوق الإنسان، فوضع أساس الحرية والإخاء والمساواة والتسامح الديني، وخلف للإنسانية الحديثة هذا التراث المجيد من فلسفة وأدب وفن، ونظم كان لها تأثير عظيم على أوربا منذ عصر النهضة الأوربية الحديثة.
على أنه مما يدعو إلى الأسف أن أكثر الشعوب غير الإسلامية لا تكاد تعرف عن الإسلام وعن مبادئه وآدابه شيئا ولو أن معتنقي الأديان الأخرى حاولوا أن يحرروا أنفسهم من المؤثرات التي تحيط بهم، واعتبر كل منهم هذه الأرض الفسيحة هي دنيا، وسكانها هم إخوانه في الإنسانية لما فضل بلد أو ميز شعبا على شعب، بل اعتبر نفسه أحد ورثة التراث البشري والحضارة الإنسانية.
نعم لو أن هذا الإنسان المتحرر من التقاليد والعادات التي تتأثر بالبيئة المحلية، نظر إلى أخيه الإنسان بصرف النظر عن لونه أو ثقافته أو جنسه أو دينه، على أنه رفيق له في الإنسانية، يعمل لخيره- لو انه تحرر من هذا التراث المضلل، الذي يفسد عليه توجيهه في الحياة، وحكمه على الأمور، لاستطاع أن يكون رسول سلام ومحبة، داعيا إلى السلام العالمي، والاخوة الإنسانية، والتعاون بين الشعوب، ولعرف حقيقة الإسلام ومثله وآدابه، معرفة تساعده على إدراك أهمية التراث الإسلامي الذي كان له أثره البعيد في الحضارة الحديثة.
ومع ذلك فقد أشاد بعض المستشرقين في أوربا وأمريكا الذين تحرروا من مؤثرات التعصب الديني ودرسوا الإسلام دراسة عميقة، بما كان لهذا الدين من تأثير على الفكر الأوربي، وعلى ما وصل إليه الغرب من تقدم ورقي.
نظم القرآن الكريم المعاملات، وشرع للمسلمين العبادات، كالصلاة والزكاة والحج، لتوجيههم نحو الخير، ولتكون صلة بين العبد وربه.
والقرآن يعترف بالأديان السماوية الأخرى، وبالأنبياء كموسى وعيسى، كما يعترف بالكتب السماوية كالتوراة والإنجيل، ويسمى اليهود والنصارى أهل الكتاب، وينظر إليهم نظرة إخاء ومودة ومحبة، فقد قال الله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: «قل آمنا بالله وما أنزل علينا، وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم، ونحن له مسلمون».
وترجع علاقات المسلمين الطيبة بغيرهم من معتنقي الأديان السماوية إلى ما جاء في القرآن والحديث من حث المسلمين، على نشر السلام والمحبة بين الناس جميعا، وقد قرر الله سبحانه معنى السلام فسمى نفسه السلام، فقد قال في سورة الحشر:«هو الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، سبحان الله عما يشركون» وقال في سورة مريم :«جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم بكرة وعشيا.
والتحية بلفظ السلام، لا يقولها المسلم عند تأديته الصلوات الخمس فحسب وإنما يقولها إذا لقي شخصا آخر مسلما كان أو غير مسلم فيقول: السلام عليكم، لأن السلام هو التحية، التي يلقى بها المؤمنون ربهم يوم القيامة، فقد قال الله سبحانه وتعالى في سورة الأحزاب :(تحيتهم يوم يلقونه سلام واعد لهم أجرا كريما» وقال في سورة إبراهيم :«وادخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم، تحيتهم فيها سلام.
وقد وصف الرسول الكريم المسلم فقال «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده» وهذا يعتبر أساسا للأخوة العالمية والحضارة الإنسانية حيث يشعر كل شخص بالسلام والمحبة، وهذه الأخوة تجذب إليها غير المسلمين، إذ يجدون أنفسهم في مأمن من لسان المسلم ويده، وقد أكد الرسول الكريم معنى الإخاء في الحديث الشريف :«المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» وقال :«لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».
وقد ميز الرسول بين الإيمان والإسلام فقال : إن الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته ورسله وبالبعث، أما الإسلام، فهو أن تعبد الله ولا تشرك به أحدا، وأن تقيم الصلاة وتؤدي الزكاة، وتصوم رمضان، فالإيمان هو الناحية النظرية، والإسلام هو الناحية العملية من الدين.
وإن تفشي الوثنية وانحراف اليهود والنصارى عن المبادئ التي وردت في التوراة والإنجيل، قد مهدا السبيل لعموم الرسالة المحمدية، ذلك أن المسيحية كانت في عصر النبوة مذهبا معتقدا، تعددت فيه الفرق واختلفت، ولم يكن اليهود، مزودين بمعلومات كافية في التوحيد، وإن كانوا قد عرفوا من التوراة شيئا عن البعث والثواب والعقاب.
وكان إلى جانب الوثنية واليهودية والمسيحية، ديانات أخرى، كالصائبة التي يعبد أتباعها النجوم والكواكب، وقد انتشرت في بلاد اليمن، وحران وبلاد العراق، والزرادشتية (نسبة إلى زرادشت نبي الفرس القدماء)، ويقول أتباعها بوجود قوتين : هما الخير والشر، ويرمزون لإله الخير بالنور، ولإله الشر بالظلمة، وكانت هذه الديانة سائدة في فارس، وفي شرقي بلاد العرب، وخاصة في جهة البحرين.
ويؤيد عموم الرسالة المحمدية، كتب الرسول إلى الملوك والأمراء، يدعوهم فيها إلى الإسلام، فقد بعث رسله إلى إمبراطور الروم، وإلى كسرى فارس، وإلى نجاشي الحبشة، وإلى المقوقس عامل مصر من قبل إمبراطور الروم، وإلى بلاد اليمامة، وإلى أمير غسان بأطراف الشام وإلى صاحب البحرين وغيرهم.
وتدل هذه الكتب دلالة واضحة على ما تردد ذكره في القرآن من مطالبة الناس جميعا بقبول الإسلام فقد قال الله سبحانه وتعالى في سورة (ص) :«إن هو إلا ذكر للعالمين ولتعلمن نبأه بعد حين»، وقال في سورة الفرقان : «تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا » وفي سورة سبأ : «وما أرسلناك ألا بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون» وفي سورة آل عمران «ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين».
ويؤيد عموم الرسالة المحمدية للجنس البشري قول محمد عليه الصلاة والسلام، متنبئا، أن بلالا «أول ثمار الحبشة» وأن صهيبا «أول ثمار الروم» وأن سليمان «أول ثمار الفرس» ثم ألم يقل الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز في سورة النحل «ونزلنا عليك الكتاب تبينا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين؟» وفي سورة الأنعام : «ما فرطنا في الكتاب من شيء؟» وقد ثبت من القرآن الكريم أن الإسلام صالح للناس جميعا، وان القرآن تكفل بتبيان كل شيء.
وليس أدل على أثر الإسلام في الحضارة الإنسانية مما جاء في القرآن الكريم من الاعتراف بالأديان السماوية وتقرير مبدأ التسامح الديني، الذي بحث على مساواة المسلمين بغير من أهل الذمة، ومعاملتهم معاملة قوامها العطف والرعاية، حتى أنهم تسنوا أرقى المناصب وبلغوا مرتبة الوزارة ودخل بعضهم في الإسلام عن اقتناع ورضى.
وان الأحاديث النبوية لتدل واضحة على حسن معاملة الإسلام لأهل الذمة، فقد روي عن الرسول الكريم انه قال : «من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه»، كما أوصى الرسول بأهل مصر خيرا فقال : «أن الله سيفتح عليكم بعدي مصر فاستوصوا بقبطها خيرا فإن لهم فيكم صهرا وذمة، يشير بهذا إلى مارية القبطية التي أهداه إياها المقوقس حاكم مصر من قبل إمبراطور الروم، فولدت له ابنه إبراهيم، وقد روى أن آخر ما تكلم به الرسول أنه قال : «أحفظوني في ذمتي».
وقد روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه مر على باب قوم عليه شيخ ضرير يسائل،فقال له:من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال : يهودي. قال فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال : أسأل الجزية والحاجة والسن، فاخذ عمر بيده وذهب إلى منزله وأعطاه شيئا منه، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال : انظر إلى هذا وأشباهه فوالله ما أنصفناه إذ أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم، إنما الصدقات للفقراء والمساكين، وهذا من مساكين أهل الكتاب، ورفع أمير المؤمنين الجزية عنه وعن أشبـاهــه. وهذا أبو يوسف قاضي هارون الرشيد ومؤلف كتاب الخراج، يكتب إليه والدولة العباسية في أوج عزها، فيقول :«قد ينبغي يا أمير المؤمنين أيدك الله أن تتقدم بالرفق بأهل ذمة نبيك وابن عمك محمد (ص) والتفقد لهم حتى لا يظلموا ولا يؤذوا ولا يكلفوا فوق طاقتهم، ولا يؤخذ شيء من أموالهم، إلا بحق يجب عليهم.
من هذه الكلمة تتبين أثر الإسلام في الحضارة الإنسانية، من حيث تشريع العبادات، والاعتقاد بوحدانية الله سبحانه وتعالى، ومن حيث اعتراف الإسلام بالأديان والأنبياء، والكتب السماوية الأخرى،ومن حيث نظرة المسلمين لأهل الكتاب نظرة إخاء ومودة ومحبة، وإذا كان الإسلام قد اعتبر أهل الأديان الأخرى أهل كتاب، واعترف بالأديان والأنبياء والكتب السماوية، ونظر لأهل الكتاب نظرة إخاء ومودة ومحبة، فلماذا أمر الإسلام بقتال أهل الكتاب برغم ما عرف به هذا الدين الحنيف من مثل عليا وأدب رفيعة ومبادئ سمحة؟.
على أننا نرى قبل الإجابة على هذا السؤال أن نسأل: هل نرى أهل الأديان الأخرى يقابلون هذا النبل الإسلامي وهذا التسامح الديني، فيعترفون بالإسلام ونبي الإسلام، ومبادئ الإسلام السمحة، وحضارة الإنسانية الرفيعة؟.
الواقع أن اليهود ينكرون كلا من المسيحية والإسلام، وان المسيحية الحديثة تضع المسلمين في مرتبة واحدة مع الوثنيين، وهم يجهلون أن الإسلام دين توحيد، بل أنهم يزعمون أن المسلمين، أو المحمديين كما يسمونهم، يعبدون محمدا. وبينما ينظرون المسلمون إلى الكنيسة أو العبد على أنه بيت الله، ينظر اليهود والمسيحيون إلى المسجد على أنه معبد وثني، ولعل هذا الزعم يرجع إلى نشاط المبشرين، ولا سيما في المناطق المسيحية والوثنية في إفريقيا، الذين يحاولون إدخال المسلمين والوثنيين في حظيرة المسيحية، وهذه النظرة المغرضة إلى الإسلام لا تساعد على دراسة المبادئ الإسلامية دراسة بريئة خالية من الغرض.
ولقد زعم بعض هؤلاء المغرضين أن الرسول الكريم أكره الناس على قبول الإسلام، ولكن هذا الزعم لا يتفق مع صريح قوله تعالى في سورة البقرة: «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي».
وقد أذن للمسلمين للجهاد، أو القتال في سبيل الله، في آيات بعضها نزل بمكة وبعضها نزل بالمدينة، وقد أذن الله بالقتال لأمور منها :
1) الدفاع عن النفس. وقد أمر الله سبحانه وتعالى المسلمين أن لا يعتدوا على غيرهم، وإنما يقاتلون من يعتدي عليهم، كما أمرهم أن يكفوا عن قتال عدوهم إذا طلب الصلح فقد جاء في سورة البقرة : «وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلوكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين..» «فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم».
وقال الله سبحانه وتعالى في سورة الحج : «أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلوا وأن الله على نصرهم لقدير» «الذين اخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولون ربنا الله». وجاء في سورة الأنفال «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، ترهبون به عدو الله وعدوكم آخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم، وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون، وأن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم».
2) وكذلك أذن للمسلمين بالقتال لتأمين الدعوة الإسلامية والدفاع عنها أمام من يقف في سبيلها فقد جاء في سورة التوبة : «فليقاتل في سبيل الله الذين يشترون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فليقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما».
وقد يسأل بعض: إذا كان الإسلام قد اعترف باليهودية والمسيحية واعتبر أتباعهما أهل كتاب فلماذا أمر القرآن بقتالهم؟.
والجواب على هذا، أن الإسلام أنما أمر بقتال اليهود والمسحيين في ذلك العصر، لأنهم غيروا وبدلوا في التوراة والإنجيل واتخذوا أربابا من دون الله، لذلك أرسل الرسول الكريم الكتب إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى قبول الإسلام، الذي يقوم على وحدانية الله سبحانه وتعالى، وأمر الله بقتال هؤلاء المنحرفين، لأنه عدهم كفار مشركين، كما يتضح ذلك مما جاء في سورة التوبة : «قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد (أي عن قدرة) وهم صاغرون (أي قابلون أن تجري عليهم أحكام الإسلام)، وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الدين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يوفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا، لا إله إلا هو سبحانه ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون».
أما وقد ذكرنا الجزية التي أشار إليها القرآن الكريم يحسن بنا أن نقول، أنها وضعت على الرؤوس وأنها تسقط بالإسلام وقد وجبت على أهل الكتاب كما وجبت الزكاة على المسلمين حتى يتكافأ الفريقان وهم رعية لدولة واحدة في المسؤولية، كما تكافآ في التمتع بالحقوق، وتساويا في الانتفاع بالمرافق العامة للدولة، أي انه ليس في مواشي أهل الذمة الإبل والغنم زكاة.
والشرع لم يفرض الجزية إلا على الأشخاص الذين يجب عليهم الجهاد، لو كانوا مسلمين، وذلك مقابل حماية أهل الذمة، والمحافظة على أموالهم، وتجب الجزية على الرجال العقلاء الأصحاء، القادرين على الدفع، ويعفى منها النساء والأطفال والرهبان إذا كانوا غير قادرين على الدفع، أما مقدار الجزية فقد قسمها الإمام أبو حنيفة ثلاثة أقسام :
1) أغنياء ويؤخذ منهم ثمانية وأربعون درهما في السنة، وكان الدينار يساوي أثنى عشر درهما أي نصف جنيه إسترليني ونصف شلن تقريبا.
2) متوسطون ويؤخذ منهم أربعة وعشرون درهما في السنة.
3) وفقراء يكسبون ويؤخذ منهم أثنا عشر درهما.
وتتجلى الحضارة الإنسانية الرفيعة في وصية أمير المؤمنين أبى بكر الصديق، والتي شرع فيها آداب الحرب، حين سير أسامة بن زيد لغزو بلاد الشام، فأوصى المسلمين بالضعفاء خيرا، وحثهم على أن يؤمنوا الناس على أرواحهم وأموالهم، ولا يعرضوا لشعائرهم الدينية فقال :
لا تخونوا، ولا تغدروا، ولا تغدوا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلا، ولا شيخا كبيرا، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا وتحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعير، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له».
ولننظر الآن في شيء من الإيجاز إلى ما خلفه الإسلام من أدب إنساني رفيع، ومن ديمقراطية تقضي على الطبقات، فلا تجعل أي اعتبار للجنس أو اللون، ومن مبادئ الإسلام تنظم المعاملات بين أفراد الجماعة الإنسانية.
حرم الإسلام سفك الدماء، ومنع صاحب الثأر أن يأخذ ثأره بنفسه، بل جعل ذلك من حق إمام الجماعة الإسلامية، ومع ذلك فقد حث هذا الدين على العفو، وجعل الدية لولي المقتول خطأ، كذلك نهى الإسلام عن الربا حتى لا تضيع المروءة بين الناس ويفرق الشره والتكالب على المادة كلمتهم.
كان العربي في الجاهلية ينصر أخاه وابن عمه، سواء كان ظالما أو مظلوما، اخطأ أو أصاب، عدل أو ظلم، بمعنى أن الرجل كان يلحقه العار إذا قعد عن نصرة أخيه أو ابن عمه، حتى قالوا : انصر أخاك ظالما أو مظلوما، وكانوا في الإسلام يعتبرون النصرة نصيحة الظالم لرده عن ظلمه، ولذا قال الرسول الكريم : «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» كما قال : الدين النصيحة، قالوا : لمن يا رسول الله؟ قال : لله ولرسوله وللمؤمنين.
وقد حث الإسلام على الزهد والتقشف والقناعة، ولم يتقلل الرسول وخلفاؤه من بعده في أطعمتهم وملبوسهم فقرا ولا عجزا عن أطيب لباس وأشهى مطعم، ولكنهم كانوا يفعلون ذلك مساواة لفقراء الرعية، ومن آداب الإسلام البساطة والاعتدال، والعفو والشفقة والرحمة والجود، والكرم والوفاء بالعهد، وصلة ذوي القربى وغيرها من الآداب العالية، كالاستئذان إذا دخل شخص بيتا غير بيته، فلا يدخله إلا سلم على أهله أذن له، فإذا لم يجد فيه أحدا، فإنه لا يجوز له أن يدخله حتى يؤذن له أيضا.
كما أمر الإسلام برد التحية بمثلها أو بأحسن منها، وأمر الرجال والنساء بغض الطرف، والنساء بالا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن، أو أبائهن أو أباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن، أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الأربة(أي الحاجة) من الرجال أو الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن.
كذلك حرم الإسلام الخمر والميسر والزنا وغيرها من الرذائل، فأين هذا من بعض نواحي الغرب الاجتماعية التي تبعد عن تقاليد الإسلام الصالحة وعن مقومات حياتنا الاجتماعية كما رسمها الإسلام وبنى عليها فلسفة صالحة في الحياة، لقد بدأنا نحن معشر المسلمين نقطن إلى سوء تأثير الحضارة الغربية التي استهوتنا منذ القرن التاسع عشر وأفسدت علينا كثيرا من تقاليدنا الصالحة، وأثارت في نظامنا الاجتماعي فأخذنا نخلع عن أنفسنا بعض مظاهر هذه الحضارة التي لا تتفق وتقاليدنا وما يحث عليه الدين الإسلامي الحنيف.
والآن انتقل إلى الكلام عن الأسرة، وعن نظام الرقيق الذي يمدنا بمثل رائع من أمثلة الديمقراطية الإسلامية والحرية والعدالة والإخاء التي ينعم بها المسلمون.
عنى الإسلام بالأسرة وشرع الزواج والطلاق وفرض النفقة للزوجة على زوجها وللابن على أبيه، وللأب على ابنه وسمى عقد الزواج ميثاق غليظا ووصفه بأنه علاقة مودة ورحمة، وجعل للزوجة على زوجها المهر والنفقة، ونهى عن الزواج بالمشركات، وحرم التزوج بالأم والأخت ومن يشبههما.
وأباح الإسلام التزويج بأكثر من واحدة إلى أربع، ولكنه أشرط العدل بينهن كما جاء من سورة النساء :«وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة» كما بين الإسلام أن العدل بين النساء من أصعب الأمور، فقال الله سبحانه وتعالى في سورة النساء :«ولن تستطيعوا أن تعدلوا ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل».
وقد لج غير المسلمين في إباحة الإسلام تعدد الزواج، وفاتهم أن هذا خير طريق للإكثار من النسل، وخاصة في زمن الحرب، أو في البيئات التي تحتاج على كثرة الأيدي العاملة كالبلاد الزراعية، وكان الرسول الكريم يعلم أن المسلمين في عهده، مكلفون بالجهاد في سبيل الدعوة، فزواج بعض العرب بأكثر من واحدة كفيل بأن يعوض على المسلمين، ما يفقدونه في جهادهم ويعوض الكثير من النساء عن أزواجهن الذين فقدوا في الحرب، وهو سبيل لتلافي زيادة عدد البنات اللاتي بلغن سن الزواج ولم يتزوجن.
أضف على ذلك أن المرأة قد تكون عاقرا أو مصابة بمرض، ولكن مصلحتها تقتضي بقاءها مع زوجها، على أن الإسلام، وان كان قد أجاز التزويج بأكثر من واحدة قد أجازه بشرط ليس من اليسير تحقيقه على أكمل وجه، وهو العدل بين الزوجات، ومع ذلك فإننا نرى من النادر أن يتزوج المسلم بأكثر من واحدة، ولاسيما في هذا العصر الذي ينوء فيه الزوج بأعباء أسرته.
وقد اتفق فقهاء المسلمين على النهي عن الطلاق، عند استقامة الزوجين، ونهى الرسول عن الطلاق في قوله : «لا ضرر ولا ضرار» وفي الحديث الشريف :«إن ابغض الحلال عند الله الطلاق» أما إذا تباينت الأخلاق وتفاقمت البغضاء جاز الطلاق، وقد نصح الإسلام أن يعرض الرجل ما بينه وبين زوجه من خلاف، على حكمين من أهله وأهلها رجاء التوفيق، كما جاء في سورة النساء : «وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما».
من ابرز مظاهر الإسلام، انه آخى بين المسلمين على اختلاف طبقاتهم واحل الوحدة الدينية، محل الوحدة القومية، فأصبحوا متساوين جميعا، وغدوا كالبنيان يشد بعضه بعضا، وأصبح المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عضو تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمى، وليس أدل على هذه المساواة، وتلك الديمقراطية التي شرعها الإسلام من قوله تعالى مخاطبا نبيه الكريم في سورة الأنفال: «هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم» وقوله عليه الصلاة والسلام :«ليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى».
ويمدنا نظام الرقيق في الإسلام، بمثل رائع من أمثلة الديمقراطية الإسلامية والحرية والعدالة والإخاء، التي ينعم بها المسلمون جميعا، والمساواة التي تتمثل وهم في المسجد يؤدون فريضة الصلاة أو في مكة المكرمة، وهم يحجون بيت الله، فقد جعل الإسلام المؤمنين إخوة، لا تفاوت بينهم إلا بقدر ما يتفاضلون به من الحق، يتبين ذلك من قول الرسول الكريم في خطبة الوداع :«أيها الناس إنما المؤمنون إخوة، إن ربكم واحد، وأن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى».
وتتجلى هذه الديمقراطية الإسلامية، مما روي، من أن احد الموالي، خطب إحدى بنات رجل من الأحرار، فقال أهلها: يا رسول الله : أنزوج بناتنا موالينا؟ فنزل قوله تعالى في سورة الحجرات قاضيا على التفرقة في الطبقات، التي لا تميز بين سيد ومسود : «يا أيها الناس إن خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم».
إن الإسلام، وان كان قد أباح الرقيق أول الأمر، حاول أن يلغي ذلك النظام، ويحول دون بقائه فوضع أسسا، يلزم فيها السيد بإعتاق مولاه، بل لقد ذهب الرسول إلى القول بأن العتق من اجل العبادات، وانه كفارة لبعض الخطايا والحنث في الإيمان.
بل إن الإسلام، اعتبر الرق عارضا، وشرع وسائل مساعدة الأرقاء، على استرداد حريتهم واستقلالهم وذلك عن طريق المكاتبة والتدبير، فقد أذن للعبد، أن يحترف التجارة، ليحصل على ما يدفعه لسيده من نجوم (أي اقساط) الكتابة، وألزم سيده أن يتركه ليشتغل، حتى يؤدي ما عليه من المال، المتفق عليه لتحريره، كما سن الإسلام طريقة التدبير، وهي أن يوصي السيد بان يكون عبده حرا بعد موته.
وقد رأى بعض فقهاء المسلمين، أن اقل وعد من السيد، أو أقل احتمال للوعد بالتحرير يجعل التحرير ضروريا، كما رغب الإسلام في إعتاق الرقيق بدون مقابل ابتغاء مرضاة الله وحسن ثوابه، قال تعالى في سورة البلد :«ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة».
وجعل الشارع من مصارف الزكاة، عتق الرقاب بأن يعطي الحاكم للرقيق المكاتب، ما يستعين به على تحريره، أو أن يشتري الحاكم العبيد بمال الصدقة ويعتقهم.
ومع ذلك فقد سوى الإسلام بين الرقيق ومولاه، في الطعام والشراب واللباس، وفي التعليم والتهذيب، كما حث على حسن معاملتهم، ورغب المسلمين في تحرير الأرقاء، وكان المسلمون يعاملون الرقيق معاملة تتجلى فيها روح الديمقراطية الإسلامية، وتتمثل فيها الحضارة تمثيلا رائعا، فقد ظفر الموالي باسمى الرتب وتسنموا أعلى المناصب، ومن أحسن الأمثلة زيد بن حارثة مولى الرسول، وكان رابع أربعة دخلوا في الإسلام، بل لقد ذهبت السيدة عائشة إلى أن زيدا لو عاش لاستخلفه الرسول من بعده.
وليس أبلغ في الدلالة، على ديمقراطية الإسلام، من أن الرسول كان لا يحب أن يسمع أحدا يقول : عبدي أو أمتي، وقد أمر المسلمين أن يكفوا عن أن يقولوا : فتاي وفتاتي، رأى الرسول رجلا على دابة وغلامه يجري خلفه، فقال للرجل : ياعبد الله، احمله خلفك فإنما هو أخوك، روحه مثل روحك، فحمله الرجل، وكان لهذه الرحمة وهذه الديمقراطية أثر بعيد في تحرير الأرقاء، ونشر المساواة بين المسلمين كافة، ولم تكن عناية الإسلام بالرقيق، مقصورة على القرآن وعلى الرسول، بل لقد شملت عامة المسلمين. فهذا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يقول: أني لاستحيي أن استعبد إنسانا، يقول : ربي الله.
وان معاملة الإسلام للرقيق، لتدل على ديمقراطية هذا الدين، وتناقض كل المناقضة هذه الأساليب التي تتخذها شعوب تدعى أنها تسير في طليعة الحضارة.
نعم،إن الإسلام، لم يلغ الرقيق، الذي كان شائعا في العالم، لكنه عمل كثيرا على إصلاح حاله وأمر بالرفق بالأسرى وأوصى بهم الرسول خيرا حتى كان المسلمون يخصون الأسير بالخبز ويأكلون التمر لوصية الرسول إياهم به.
قضى الإسلام على العنصرية، فسوى بين الناس على اختلاف أجناسهم، كما سوى اليهود والنصارى بالمسلمين ما داموا في سلم معهم، ولم يقصر الإسلام أسمى مناصب الدولة، وهي الخلافة على أسرة أو قبيلة أو شعب بعينه، لأنه لا تفاضل بين مسلم ومسلم إلا بالتقوى بل لقد أثر عن الرسول الكريم أنه قال:(اسمعوا وأطيعوا وان ولى عليكم عبد حبشي).
وليس أدل على ديمقراطية الإسلام وأثره في الحضارة الإنسانية من قول الرسول الكريم : ثلاثة لهم أجران : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد، والعبد المملوك إذا أدى حق الله تعالى وحق مولاه، ورجل كانت عنده أمة (بفتح الألف والميم) فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها.
وهذا بلال الذي ذاعت شهرته باعتباره أول مؤذن نادى بالصلاة في الإسلام ومن أعظم الفقهاء والمحدثين، كان عبدا حبشيا وصفه الرسول الكريم بأنه أول ثمار الحبشية.
وان المثل العليا التي جاء بها الإسلام لتتجلى في سورة البقرة :« ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخرة والملائكة والكتاب والنبيين، وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، والسائلين وفي الرقاب، وأقام الصلاة وآتى الزكاة، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا، والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون).