الخيانة السياسية والاجتماعية

تحدث التاريخ بتفصيل عن طبيعة المسلمين وطليعتهم، وعن نهضتهم ويقظتهم وما كان بينهم من قوة الارتباط، وشدة الاتصال، والتزام الأخلاق والآداب، مما أدى بالدولة الإسلامية في أوائل تاريخها إلى قطع أشواط بعيدة المدى في خدمة الحضارة الإسلامية، ونشر أصولها في الأقطار البعيدة النائية، وإلى الإسهام في سعادة الإنسان، ورفع مستواه، بما ظهر لهم من الاستنباطات والاختراعات التي قد يظن أنها من مواليد العهد القائم، مع أنها من جملة نشاطهم، وصميم إنتاجهم بشهادة المؤرخين الأجانب الذين فارقهم الحقد والحسد.
ولعل السبب فيما وأتاهم من الحظ أنهم لم تكن قد تفرقت بهم الطرق وتمكنت منهم الأهواء فتبعوا الشهوات، وتركوا الصلوات، بل كانوا يتحمسون لمزايا مدينهم، ويتشددون في الاعتزاز بدينهم، ويجمعون شرائعه في قلوبهم، ويحرصون على الأمانة في اجتماعهم ومقاومتهم وسياستهم، متصلين بتعاليم الله في حياتهم المدنية والعسكرية، وفي أنظمتهم الداخلية والخارجية، لا يبغون عنها حولا، ولا يسيرون بها عوجا، حتى أصبحت قوتهم في الأرض واعية، ولغتهم في الخلق نامية، ترجع سائر اللغات إلى لغتهم العربية، فتسود في ظاهر الحياة وباطنها، وتجول في كبير الأمور وصغيرها، عاقدين الصلة بين الدين والدولة، وبين الدنيا والآخرة، ومستيقنين أن كمال الحقيقة لا يأتي إلا بضبط المفاهيم الإسلامية، وممارسة الأحكام ومراعاة المقاصد، فلا شأن للأقوال المجردة الفارغة، ولا أثر للأعمال الجافة الباطلة، ولإقرار للجزئيات بدون اعتبار الكليات.
هكذا كان الأجداد رحمهم الله يستوون على صهوة العز والمجادة، ويعتلون منصة الحكم والسيادة بما حفظوا من أمر الله ودينه، وبما كسبوا من الحمد والثناء، ومن حفظ أمر الله حفظه الله، ومن ضيع أمر الله تعرض للمكاره والأحداث.
وإنه لحتم على الأحفاد الذين يعيشون في عالم تتحكم فيه المادة الزائغة وتسوقه إلى شيطانها، وتكرهه على طاعتها، أن يلتفتوا وراءهم، ويستنقذوا تاريخهم، بما يحول دون الوقوع فيما تئول إليه الشعوب التي لا تقدر السير إلى مصيرها، ولا تلاحظ الأخطار في المساعي التي تأتيها فتتعرى من حيث لا تشعر من أوضاع مجدها، وأسباب عزها، وأن يلتمسوا طريق الخلاص من سيطرة الأهواء حتى يتاح لهم أن يقوم مجتمعهم ودستورهم على صراط الإسلام الذي يرضاه الله لجميع الناس، والذي لا يقاس بوضعه أي وضع من أوضاع الناس، والذي لا يقاس بوضعه أي وضع من أوضاع الناس، ذلك الوضع الذي رفع الإنسان بسلطان العقل، وقسطاس العدل، وكفل سلامه بما بث من وسائل الود والإخاء، وربط مجتمعه بما حث عليه من البذل والسخاء فضلا عما أوجب على الدولة، وأرباب النعمة من حقوق البؤساء، حتى لا يسكن الحقد في الصدور، ويعظم داء الشرور، وأرشد إلى التعارف والتفاهم بين سائر الأجناس من دون علو ولا استعلاء، وعلى الأخص الذين جمعوا روابط الملة والدين، وحملوا مشعل الهداية والنور، وحرسوا بإيمانهم راية الوحدة والشرف، وأقاموا صرح المدينة الفاضلة على دعائم التربية الصالحة، وتوجهوا إلى حياة التعاون والترافق، وقصدوا إلى علاج المشاكل والمعاضل.
فمن السداد أن نعد العدة ونجمع الإخوة في صعيد واحد لا فرق بين من أساء وتاب، وبين من أحسن وطاب، حتى لا نكلف النفس شططا، ولا نهدم الوحدة غلطا ولا نكون شتاتا وشعاعا، ومن الحكمة أن نتغاضى عن العيب لنتوفي شر السياسة، ولنصلح فساد الأسرة، فقد دأبت جماعة من المنافقين تسيء إلى الإسلام وأهله، وتستهزئ برسول الله في قوله وفعله، وترجف في المدينة، وتهيج الناس، فتغاضى عنهم الإسلام وقابلهم بالحسنى، حتى لعنهم الله بما كذبوا، وأر كسهم بما كسبوا، ويقال : اللبيب العاقل، هو : الفطن المتغافل، وفي قوله عز وجل « عرف بعضه وأعرض عن بعض » ما يومئ إلى ذلك المعنى.
على أن الإنسان خلقه الله ضعيفا في نفسه ضعيفا في وجوده ـ ضعيفا في عزمه ـ  ضعيفا في صبره، ولا يقوى على مفارقة الشهوة، ولا يشتد على مقاومة الأزمة، إلا من أخذ الله بيده، وربط على قلبه، ولذلك عذره الله الذي علمه كذلك، وخلقه كذلك، وندب إلى العفو والصفح عنه كذلك، فجعل له من جهة ضعفه رفقا يستند إليه في حياته، وكان من الرفق به أن جعل له مجالا في رفع الحرج عند صدماته، ولاسيما إذا انهارت قوة الضمائر، وترحلت غيرة البصائر فإنه لا تبقى حينذاك للنفس عفة، ولا للقلب فوة، وفوة الإنسان في قلبه، وعزته في جهاد نفسه.
وهذه صور من التاريخ علها تنبتك عن طريق الحكم، وتريك باطن الأمر وأول هذه الصور قضية حاطب بن أبي بلتعة اللخمي الذي أخبر المشركين بما عزم عليه المسلمون من غزو مكة، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما في الصحيح : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد، فقال: انطلقوا حتو تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها، فذهبنا تعادي بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا أخرجي الكتاب، فقالت ما معي من الكتاب، فقلنا لتخرجن الكتاب، أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين ممن بمكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا حاطب؟ قال : لا تعجل علي يا رسول الله، إني كنت امرؤا ملصقا في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون أهليهم، وأموالهم، فأحببت إذا فاتني ذلك من النسب أن اتخذ عندهم يدا يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : إما أنه قد صدقكم، فقال عمر : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال : أنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرا، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، فأنزل الله « يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء الآية »، ويقول في آية أخرى إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظهروا على إخراجكم إن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ».
وظاهر أن مثل هذا العمل يعد من التجسس لصالح الأجنبي، ومن الخيانة للوطن الإسلامي، ومع ذلك فقد صدقه عليه السلام في العذر، وبرأه من النفاق، بما يمنع القياس، ويوجب الاختصاص.
وثانيها قصة عبد الله بن أبي سرح الذي ارتد والتحق بالكفار وافترى على الإسلام وأهدر صلى الله عليه وسلم دمه يوم فتح مكة ثم أنه عليه السلام سامحه بشفاعة عثمان بن عفان رضي الله عنه وقد قال الله سبحانه : « من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها، ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها » وقد جاء في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام : كان إذا جاءه طالب حاجة يقول : اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان رسوله ما أحب.
قال الجاحظ : من كرم العفو، ورجاحة الحلم، ومن أكمل الكمال أنه عليه الصلاة والسلام دخل مكة عنوة، وقد قتلوا أعمامه، وبني أعمامه، وأولياءه وقادة أنصاره بعد أن حصروه في الشعاب، وعذبوا أصحابه بأنواع العذاب، وجرحوه في بدنه، وآذوه في نفسه، وسفهوا عليه، وأجمعوا على كيده، فلما دخلها بغير حمدهم، وظهر عليهم على ضغن منهم، قام فيهم خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أقول كما قال أخي يوسف : « لا تتريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين » انتهى.
وثالثها ما وقع من تخلف عدد من المسلمين عن جيش العسرة في غزوة تبوك كراهية أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، ولما رجع عليه السلام من الغزاة، وتدانى من المدينة تلقاه المخلفون، فمنهم من أبدى معاذيره الكاذبة، فقبل عليه الصلاة والسلام عذرهم ووكل أمرهم إلى مولاهم، ثم جاء الوحي يفضحهم ويشنع عليهم، ومنهم من ربط نفسه بسواري المسجد بعد الفضيحة، إلى أن أنزل الله قوله : « وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم » ومنهم من صدق الله ورسوله من أول وهلة، وهم : الثلاثة، كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة ابن الربيع، فترتب عن ذلك أن هجرهم المسلمون ما يقرب من شهرين، حتى أنزل الله توبته عليهم فاستبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستنار وجهه الشريف وبشرهم بما كان من أمر الله فيهم، فانشرحت صدورهم بعد أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وشكروا فضل الله عليهم، وعدوا ذلك من نتائج صدقهم، والصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، والكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار.
وترجمة الكلام أن هؤلاء القاعدين خانوا إخوانهم المجاهدين بأموالهم وأنفسهم، فأنزل الله فيهم قرآنا يتلى، وهجرهم المسلمون مدة معينة.
ورابعها مسألة أبي لبابة حينما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة في النزول على حكمه، فقالوا يا أبا لبابة ما هذا الأمر؟ فأشار إلى حلقه بأنه الذبح قال أبو لبابة : ما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله، فأنزل الله : « يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ».
وأما المكره فإنه خارج عن حكم التكليف، وغير ملوم على ما صدر منه حالة الإكراه ولذلك استثناه الله من حكم المرتد في قوله : « إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان » كقضية سيدنا عمارل بن ياسر رضي الله عنه فإنه لما ثقل عليه العذاب، واشتد به الإكراه، نطق بكلمة الفكر، فقال المسلمون كفر عمار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن عمارا ملئ إيمانا من فرقة إلى قدمه.
وهذا ما ثبت في أصول التشريع من أن الفعل إذا تعلق به القصد، تعلق به الحكم وإذا عرى عن القصد لم يتعلق به شيء كحال النائم، والغافل، والمكره.
وأما من خالف وضعا من أوضاع الإسلام، أو عارض مصلحة من مصالحه، أو ولى أمرا من أمور المسلمين فلم ينصح فيه، أو حكم قصدا بغير ما حكم الله فيه، فهو خائن لدينه ووطنه، وخائن لله ورسوله ومن خان الله ورسوله في أمر أفسده الله عليه في كل وقت « يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أمانتكم وأنتم تعلمون »، وعن ابن عمر يطبع المؤمن على كل خلق ليس الخيانة والكذب.
ذلك وأسوأ خيانة كانت قبل الإسلام خيانة أبي رغال المشهور بدلالته لابرهة الحبشي على البيت الحرام، عندما ما مر هذا بالطائف وثقيف.
وأسوأ خيانة بعد الإسلام، خيانة ابن العلقمي وزير المعتصم الذي غدر وأطمع التتار في أخذ بغداد، حتى آل الأمر إلى طغيان التسلط، وفساد الأمر، ولعله يكون في هذا القدر كفاية لمن اكتفى، ومغفرة لمن زل وهفا، ثم استمر وصفا « يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنباٍء فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوت على ما فعلتم نادمين ».

المصدر: http://www.habous.net/daouat-alhaq/item/1224

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك