العرب في عصر العولمة

سعد الدين الخرفان

1ـ مقدمة:
نعيش اليوم في عالم مضطرب يتغير باستمرار، ونتعايش يومياً مع الأحداث التي تعصف به من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب. لقد أدت حادثة واحدة جرت في الولايات المتحدة عام 2001 إلى ويلات وغزو لدولة عربية كبيرة. وما يجري الآن على الساحة العالمية أمر مقلق للغاية. فالدول الغربية بتحريض من الكيان الصهيوني والصهيونية العالمية تحاول أن تنقض على الجمهورية الإسلامية في إيران لتوقف ما أنجزته من تقدم في كافة المجالات. وكما حرضت في الماضي على ضرب أي مشروع نهضوي في المنطقة فإنها تستهدف إيران اليوم بحجة محاولتها امتلاك السلاح النووي.
الحقيقة هي أننا لسنا لوحدنا في العالم. ولا نستطيع أن نتقوقع على أنفسنا ولو شئنا ذلك. فنفطنا يحرك اقتصاد العالم بأسره وتوفيره بالسعر المناسب وفي الزمان والمكان المناسبين أمر حيوي جداً لنا ولهم. وموقعنا الجغرافي بين القارات الثلاث يجعلنا في مركز العالم. وزرع الكيان الصهيوني في وسطنا وضعنا في تماس مباشر مع العالم الغربي الذي يتعاطف معها ويقف وراءها.
لقد أثرت أزمة الرهن العقاري التي حدثت في أمريكا في نهاية العام الماضي على الجميع وإن كان البعض أنكر ذلك أو تجاهله. إلا أن الزلزال الذي حدث هناك كانت له ارتدادات وموجات أثرت على العالم كله. لقد قيل في ستينات القرن الماضي إنه إذا عطست أمريكا أصيبت انكلترا بالإنفلونزا. لقد توسع هذا المفهوم الآن ليشمل ليس انكلترا وأوروبا فقط بل العالم أجمع عدا بقع معزولة في أفريقيا وآسيا لا تزال تعيش على هامش الجغرافيا والتاريخ.
ومنذ خمسين سنة فقط كان الإنسان يولد ويعيش طيلة حياته القصيرة ويموت في قريته أو مدينته ولا يرى أو يعلم ما في خارجها. أما اليوم فقد أصبحت الأسرة تعيش في مكان وكل فرد منها في مكان آخر وهم جميعاً في حالة انتقال دائم. ومنذ أن سافر الإنسان إلى الفضاء ونظر إلى كوكب الأرض من الأعلى رأى هذه الكرة الزرقاء تسبح في الكون الفسيح وأدرك أن العالم أصبح قرية واحدة ونقطة صغيرة في فضاء لا متناه، لقد ربطت ثورة الاتصالات عبر الأقمار الصناعية وشبكة الانترنت العالم كله بحزام معلوماتي واحد. وهناك أكثر من خمسمئة قمر صناعي تدور حول الأرض مرسلة إشارات لاسلكية للحداثة التي صارت تنعم بها معظم الشعوب. لقد اقتلعت أطباق استقبال التلفزيون والمحركات التي تعمل بالطاقة الشمسية ملايين البشر من حياتهم القروية البسيطة رامية بهم في خضم أبعاد فلكية. ولم يحدث من قبل في التاريخ أن سمع عدد هائل من سكان المعمورة عما يجري في باقي أنحاء العالم من أحداث كما هو اليوم. ولأول مرة في التاريخ أصبحت البشرية وحدة واحدة في تخيلها للوجود
هل نحن معزولون عن العولمة ؟ إن العولمة جارية على قدم وساق وإن كان البعض لا يحبها أو يدير ظهره لها. وكما قال أحدهم فالعولمة قطار يسير وعلينا أن نختار إما أن نكون من ركاب الدرجة الأولى فيه أو أن نحمل في عربات الشحن. هل نحن محصنون ضدها ؟ هنا يكمن السؤال في إمكانية أن نختار ما ينفعنا منها أو أن نتأقلم معها بحيث نخفف ما أمكن من أضرارها. وأن نأخذ منها الجانب العلمي والتقني وحتى الاقتصادي. وأن نختار ما ينفعنا من الناحية الاجتماعية والثقافية وأن نستخدم العولمة لإبراز قضايانا والتعريف بحضارتنا .
2ـ تعريف العولمة:
عرف قاموس وبسترز « Websters» العولمة Globalization على أنها (إكساب الشيء طابع العالمية وبخاصة جعل نطاق الشيء أو تطبيقه عالمياً)( ). ويعرفها قاموس وبسترز ميريام بأنها (تطوير اقتصاد عالمي يتكامل باستمرار، خاصة عن طريق التجارة الحرة والتدفق الحر لرأس المال واستثمار أسواق العمل الرخيصة )( ). وأشار قاموس أكسفورد إلى الكلمة الإنجليزية الجديدة Globalization للمرة الأولى عام 1991 ووصفها بأنها من الكلمات الجديدة التي ظهرت خلال عقد التسعينات.
أما موسوعة ويكيبيديا فعرفت العولمة بأنها (العملية الجارية حالياً والتي تتكامل بواسطتها الاقتصادات والمجتمعات والثقافات المحلية من خلال شبكة من الاتصالات والإجراءات التي تشمل العالم بأسره )( ). وقد عرفها Joshi على أنها (التكامل الاقتصادي المتزايد والاعتماد المتبادل للاقتصاديات الوطنية عبر العالم من خلال زيادة سريعة في الحركة عبر الحدود للبضائع والخدمات والتقانة ورأس المال )( ). وعرف توماس فريدمان العولمة على أنها (التكامل المستمر للأسواق والدول القومية والتقانات إلى درجة لم تشهد من قبل بطريقة تمكّن الأفراد والشركات والدول القومية أن تتصل بالعالم إلى أبعد وأسرع وأعمق وأرخص من أي وقت مضى )( )
وكان تشارلز راسل Charles Russel أول من صاغ مصطلح الشركات العملاقة متعدية الجنسيات (corporate giants) عام 1897. وشاع استخدام هذا المصطلح من قبل علماء الاقتصاد والاجتماع في ستينات القرن الماضي التي شهدت النمو المتعاظم للشركات العملاقة متعددة الجنسيات. ثم شاع استخدامه من قبل وسائل الإعلام في النصف الثاني من عقد الثمانينات. ويخلط البعض بين العولمة والعالمية. فالعولمة تعني نشر الشيء بالقوة أو بالنفوذ، والعالمية تعني انتشاره على نطاق واسع بالاقتداء والاقتناع.
أما التعريف الوظيفى للعولمة فيركّز على وصف تجليات العولمة ومظاهرها وإنجازاتها مثل التقدم التكنولوجي غير المسبوق، وثورة المعلومات والاتصالات، وقوة الشركات العابرة للقوميات وحركتها، والتحولات اللازمة لإيجاد سوق عالمية واحدة تضمن فيها حرية الحركة لرأس المال، والسلع والخدمات، وقوى العمل البشرية. ويتجلى الخطاب الثقافي الإيديولوجي لهذا التعريف في اعتبار العولمة تعبيراً عن انتصار الحضارة الغربية الرأسمالية، ومن ثم فهي نهاية التاريخ كما يقول فوكوياما. وهى ظاهرة لا مفر منها من شأنها تحويل العالم إلى قرية كونية واحدة. وعلى المجتمعات التي تود الاستمرار في الحياة في هذا العالم أن تعيد هيكلة واقعها لتتكيف مع متطلبات الاندماج في السوق العالمية وهو الهدف الاستراتيجي للعولمة .
و ينظر التعريف البنيوي إلى العولمة على أنها (عملية تاريخية جدلية تمثل مرحلة متقدمة من مراحل تطور التاريخ الإنساني، من حيث تراكم المعرفة العلمية والتكنولوجية ). ولذلك فالعولمة فى إطار هذا التعريف ليست نهاية التاريخ. كما يؤكد هذا التعريف على أن العولمة تمثل أيضاً مرحلة متقدمة في نمو الرأسمالية تتخطى الحدود القومية من خلال الفاعل الرئيس في هذه المرحلة وهو الشركات متعدية الجنسية. ولذلك فإن العولمة تقوم بطبيعتها وبنيتها الرأسمالية على أساس التمايز وعدم التكافؤ في مستويات تطور المجتمعات على المستوى الدولي ونموها، وفى تطور القوى الاجتماعية داخل المجتمع الوطني الواحد ونموها. وفى هذا الإطار تنشىء العولمة تقسيماً عالمياً جديداً للعمل يتسم بعلاقات قوى غير متكافئة اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً. ويؤكد أصحاب هذا التوجه على أن العولمة بهذا المعنى ذات أثر استقطابي يتمثل في حدوث عمليتي إدماج واستبعاد في الوقت نفسه على المستويين المحلي والعالمي، وأن منطق التوسع الرأسمالي لابد وأن يزيد من عدم المساواة بين أعضاء هذا النظام بشكل مستمر. ولذلك لا يمكن للبلدان النامية في هذا العالم اللحاق بالدول المسيطرة على آليات العولمة إلا بفك الارتباط من إسار التبعية للقوى المسيطرة. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بإخضاع علاقات الدول النامية بالسوق العالمية لمتطلبات التنمية الوطنية النابعة من مجتمعاتها لا لسياسات مفروضة عليها من الخارج.
3ـ تاريخ العولمة:
يعتبر البعض العولمة ظاهرة قديمة بينما يؤكد آخرون أنها حديثة. يقول الاقتصادي اندري فرانك Andre Frank صاحب نظرية الاعتماد Dependence theory إن نوعاً من العولمة بدأ منذ أن تبادلت سومر البضائع مع الهند منذ 3000 عام ق.م( ) ويرد منتقدوه بأن هذا تعريف فضفاض جداً للعولمة. وفي العصر الهيليني أسس اليونان مستعمرات لهم في البحر الأبيض المتوسط وعلى طول شواطئه. وتوسعت تجارتهم عبر المتوسط إلى فارس والهند. ومن المعلوم أن مشروع الاسكندر المقدوني كان مزج الحضارة اليونانية بالحضارة الشرقية وبناء حضارة عالمية موحدة. وقد نجم عن هذا نوع من الحضارة التي عرفت بالحضارة الهلنستية. ومن اليونانية أتت الكلمة كوزموبوليس Cosmopolis وتعني المدينة الكونية بمعنى أنها تضم سكاناً وتجاراً وبضائع من أنحاء شتى من العالم. وفعل الرومان الأمر نفسه حين بنوا امبراطورية واسعة تمركزت حول البحر الأبيض المتوسط الذي أصبح بحيرة رومانية. ودخلت في هذه الامبراطورية شعوب وأمم مختلفة اصطبغت جميعها بالصبغة الرومانية المميزة وأصبحت روما المدينة الكونية.
في العصور الوسطى تسارعت العولمة تحت أفياء الحضارة الإسلامية. كانت رسالة الإسلام بطبيعتها عالمية وكان من الواجب على المسلمين تبليغها إلى كافة البشر تحقيقاً لحديث النبي «كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة ». وامتد طريق الحرير من الصين إلى فارس فسورية فأوروبا. ومع طريق الحرير وبطرق أخرى عديدة غيره انتقل المسلمون حاملين البضائع والعلوم والتقانة والفنون والثقافة إلى كافة أنحاء العالم القديم آنذاك. ومن المعروف أن كتاب الأغاني الذي طبع في الشرق ظهرت نسخ منه بعد عام فقط في الأندلس. وقد ترجم الكثير من هذه المعارف والكتب من اللغة العربية إلى اللغة اللاتينية وغيرها من اللغات. ويقال الشيء نفسه عن انتقال صناعة الورق وزراعة القطن والسكر وصناعاتهما واستخدام المطبعة والبارود والبوصلة وانتقالها بواسطة التجار المسلمين من الصين إلى أوروبا. وأصبحت اللغة العربية لغة العولمة كما أصبحت مكة بفضل الحج إليها المدينة الكوسموبوليتية أو الكونية. لقد بدأ ابن بطوطة رحلته من المغرب في طريقه إلى مكة للحج كما كان معتاداً آنذاك لكنه جال في معظم أرجاء العالم القديم حتى وصل إلى الهند وجزيرة سيلان وسجل ما رآه بل إنه عمل هناك قاضياً. وتعرف هذه المرحلة من العولمة بالعولمة القديمة archaic globalization .
مع سقوط العرب في الأندلس في القرن الخامس عشر بدأت مرحلة نشطة من العولمة بدأت مع اكتشاف أمريكا من قبل كولومبوس والدوران حول رأس الرجاء الصالح من قبل البرتغاليين وعلى رأسهم فاسكو داغاما. وبذلك فقد اكتشف العالم الجديد وارتبط مع العالم القديم بحركة نشطة. أصبحت السفن تبخر عباب المحيطات من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب. ودخل العالم في مرحلة سميت بالعصر الميركانتالي أو التجاري. وتدفقت الثروات من الذهب والمواد الخام والتوابل والخشب إلى أوروبا كما انتقل البشر على شكل مهاجرين بيض وعبيد من العالم القديم إلى الجديد وحتى الأوبئة انتقلت من مكان لآخر. وتأسست الشركات العملاقة الكبرى لأول مرة مثل شركة الهند الشرقية البريطانية في عام 1600 وشركة الهند الشرقية الهولندية 1602 وغيرها. وبذا دخل العالم في عصر الإمبراطوريات البحرية الاسبانية والبرتغالية ثم البريطانية والهولاندية. وتعرف هذه الفترة بالعولمة الأولية proto – globalization.
و شهد القرن التاسع عشر عولمة شبيهة بالعولمة الحديثة التي نشهدها اليوم. تأثرت العولمة بالثورة الصناعية وإنتاجها الرخيص للسلع. كما أدى تزايد السكان المتسارع إلى خلق طلب قوي عليها. تأثرت العولمة بعصر الاستعمار الذي اشتد في ذلك الوقت. وبعد حرب الأفيون في الصين واستعمار الهند خضع عدد كبير من سكان العالم للطلب على منتجات الصناعة الأوروبية. وأيضاً دخلت في تلك المرحلة أفريقيا جنوب الصحراء وكذلك جزر المحيط الهادي لهيمنة الدول الأوروبية. خلق الاستعمار تبادلاً تجارياً تمثل في استغلال المواد الخام والبشر من الدول المستعمرة. وقد أدت الاختراعات التكنولوجية الجديدة مثل استخدام البخار في السفن والقطارات إلى زيادة السرعة واختصار المسافات وضغط الزمان والمكان وهذا أحد أهم مميزات العولمة.
بدأت المرحلة الأولى من العولمة الحديثة مع الحرب العالمية الأولى في بداية القرن العشرين وانتهت بالكساد الكبير في الثلاثينات. وفي منتصف القرن العشرين تسارعت وتيرة العولمة بشكل كبير عن طريق الشركات متعدية الجنسيات من الولايات المتحدة وأوروبا. كان معظم الاختراعات يأتي من الغرب ومعها انتقلت أيضاً الأفلام والموسيقى والراديو وغيرها. وبعد الحرب العالمية الثانية انتقلت العولمة إلى أفق جديد. وقعت اتفاقيات لتحرير التجارة العالمية وكسر الحدود مثل مؤتمر برايتون وودز. وأنشئت مؤسسات مالية دولية مثل البنك الدولي World Bank وصندوق النقد الدولي IMF Fund International Monetary ومنظمة التجارة الحرة (General Agreement on Tariffs and Trade(GATT. وقد ساهمت هذه المؤسسات والاتفاقات في خفض الجمارك واإنشاء مناطق تجارة حرة. كما اتبعت سياسات عدة لتوسيع العولمة مثل إنقاص كلفة النقل بالحاويات وإلغاء التحكم بانتقال رأس المال وإنقاص الدعم الحكومي ودعم مؤسسات العولمة والشركات متعدية الجنسيات وحماية حقوق المؤلف أو المخترع. وأجريت مفاوضات أورغواي من 1986-1994 لخلق منظمة تجارة عالمية World Trade Organization WTO لحل النزاعات. كما ساهمت معاهدة ماسترخت في أوروبا ومنظمة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية NAFTA في خفض الجمارك وتحرير التجارة. ونتيجة لذلك كله فقد ارتفع التصدير من 8.5% من الإنتاج العالمي الكلي عام 1970 إلى 16.2% عام 2001.( )
4ـ أشكال العولمة:
4ـ1 العولمة الاقتصادية:
هناك أشكال عدة للعولمة وربما كان أهمها وأكثرها وضوحاً هي العولمة الاقتصادية. لقد عرفت الويكيبيديا العولمة الاقتصادية على أنها (تكامل الاقتصاديات الوطنية في الاقتصاد العالمي من خلال التجارة والاستثمار الأجنبي المباشر وتدفق رؤوس الأموال والهجرة )( ). تقاس العولمة التجارية بنسبة الواردات والصادرات إلى الناتج القومي الإجمالي GDP. وقد نمت هذه النسبة بمعدل 5 أمثال منذ عام 1980 ( ). تسارعت العولمة في التسعينات نتيجة انهيار الاتحاد السوفييتي ودخول روسيا ودول أوروبا الشرقية الاقتصاد العالمي. كما تسارعت بدخول دول جنوب وشرق آسيا. كانت التجارة محرك العولمة فقد ازدادت 100 مرة (من 95 بليون دولار إلى 12 تريليون دولار) في 50 عاماً منذ عام 1955. وهذا أسرع بكثير من نمو الاقتصاد العالمي. وكان أهم الإجراءات إلغاء التعرفة الجمركية أو تخفيضها على الصادرات إلى الدول الغنية. وشهدت الدول التي قامت بتصدير منتجاتها إلى الدول الغنية مثل اليابان وكوريا في الخمسينات والستينات والصين في التسعينات نمواً سريعاً. ولعبت الشركات الكبرى متعدية الجنسية دوراً متزايدا في إنتاج العالم بعد الحرب العالمية الثانية. وقد وزعت هذه الشركات مصانعها في الخارج للاستفادة من رخص اليد العاملة أو للاقتراب من الأسواق. وبالفعل فقد مثل التعامل ضمن هذه الشركات لوحده ثلث التجارة الخارجية بين الدول. فتويوتا تصنع قطع السيارات في اليابان وترسلها إلى أمريكا لتجميعها. وتعد الهند أكبر مصدري العالم في تقانة المعلومات IT حيث يتضاعف حجم هذه الصناعة مرة كل ثلاثة أعوام. لقد غيرت تقانة المعلومات اقتصاد الهند الذي ينمو الآن بمعدل 9% ويعادل نمو الصين
أما العولمة المالية فتقاس بنسبة تدفق الأموال الأجنبية (( Foreign Direct Investment FDIعبر الحدود إلى النتاج الإجمالي المحلي GDP 9. وقد تضاعفت هذه النسبة من 58% عام 1990 إلى 131% عام 2004. لقد جلبت العولمة أرباحاً هائلة للمستثمرين من الدول الغنية وخاصة الولايات المتحدة. لقد قطف هؤلاء مزايا اليد العاملة الرخيصة في الدول النامية وضاعفوا بذلك أرباحهم. إلا أن انتقال الكثير من الأعمال والمصانع إلى الدول النامية أثار القلق في الدول المتقدمة من تأثير العولمة على الوظائف. وبالفعل فقد شهدت هذه الدول زيادة في البطالة.
4-2 العولمة السياسية
تتجلى العولمة السياسية في تدخل الدول العظمى في شؤون الدول الأخرى وفرض هيمنتها عليها. لقد بدأ هذا مع نظام الاستعمار بحجة تحضير الدول وفرض الوصاية عليها. وبدا بشكل واضح بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وانتهاء عصر الحرب الباردة بين القوتين العظميين حيث رفع الرئيس بوش الأب شعار النظام العالمي الجديد بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية. توج هذا بقيادة تحالف دولي كبير أدى إلى حرب الخليج الثانية وإجبار العراق على الخروج من الكويت. ثم تبلورت الفكرة بشكل أكبر على يد منظرين مثل فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ والذي يقول بأن العالم يتجه نحو نظام عالمي جديد هو النظام الليبرالي الحر على النموذج الأمريكي. وقاد المحافظون الجدد الذي برزوا في عصر بوش الابن الفكرة إلى آفاق أوسع عن طريق سياسة التدخل في شؤون الدول وإعادة رسم خارطة الدول والأقاليم بحجة فرض هذا النظام بالقوة في دول العالم. ويؤدي هذا كله إلى نوع من النمطية بافتراض أن النظام الغربي الأوروبي هو الأفضل وان النماذج الأخرى كلها سيئة أو فاسدة ويجب تغييرها. لقد أدت هذه السياسة إلى اجتياح العراق وأفغانستان وإسقاط حكومتيهما وفرض أنظمة أخرى بديلة.
وينظر جيمس ميتلمان بروفيسور العلاقات الدولية في الجامعة الأميركية في واشنطن إلى العولمة كمصفوفة من العمليات المتداخلة والمرتبطة بعضها بعضاً وليس كعملية أحادية تدور بشكل مركزي حول الاقتصاد المعولم، وانتقال تطبيقات السوق الحر إلى مرحلة غير مسبوقة جغرافياً وعملياتياً ويرى أن البعد السياسي في العولمة لا يقل شأناً بحال عن البعد الاقتصادي. بل إن عملية إطلاق «السوق الحر» في الكثير من البلدان التي قضت عقوداً وهي تسير اقتصاداتها وفق نظرية التخطيط المركزي للعملية الاقتصادية لم تتم إلا بتدخل قوي من الدولة لم يخل من فجاجة وقسر في عدد من الأحيان وهذا ينطوي على مغزى كبير ومفارق. فالأبجدية الأولية وراء فكرة السوق الحر تقول بضرورة انسحاب الدولة إلى خارج الفضاء الاقتصادي، وترك الحرية لقوى السوق بالعمل على تشكيل أنماط التبادلات الاقتصادية.
إن تدخل الدولة بقوة لفرض السوق الحر ـ في مجتمعات لا تملك قطاعاً خاصاً، أو شركات، أو بنى تحتية متدرجة النموـ تكون استجابتها لبيئة السوق الحر موضوعية، وغير مسيرة بعوامل خارجة عن المنطق الاقتصادي ـ يؤدي إلى اختلالات وتشوهات تكون هي النتيجة البديلة عن الاختلالات والتشوهات التي أنتجتها العقود الطويلة من الاعتماد على سياسات التخطيط المركزي للاقتصاد. ويظهر المكون السياسي في العولمة بشكل أبرز عند تحليل علاقة العولمة بتشكل المجتمع المدني. هنا ينقض ميتلمان إحدى أكبر المسلمات الملازمة لنظريات السوق الحر، وانتشارها في مناطق العالم, ألا وهي تلازم نشوء مجتمع مدني فاعل، بل وتسارع في الـ «دمقرطة» مع تبلور السوق الحر وترسخه. وكما يلاحظ ميتلمان فإن هذا الربط قسري وغير صحيح. فمن ناحية نظرية يفترض أنصار السوق الحر أن من أهم وظائف المجتمع المدني الوليد في المجتمعات التي تعبر مراحل انتقالية من التخطيط الشمولي إلى الرأسمالية هي ضمان حدوث هذا الانتقال و«الدفاع» عن أفكار السوق الحر، حتى تصبح الواقع الاقتصادي والسياسي الجديد. لكن واقع الانتقال الذي شهدته عدة اقتصادات ومجتمعات في العالم يشير إلى أن منظمات المجتمع المدني التي نشأت في أعقاب اختفاء الحكومات الشمولية تبنت مواقف عدائية تجاه السوق الحر، نظرا للانعكاسات المباشرة لعمليات التسريع في التطبيق على الشرائح الاجتماعية متوسطة الدخل والفقيرة.. والنماذج الأبرز في هذا السياق هي روسيا واندونيسيا وبولندا وعدد من دول أوروبا الشرقية. ويستطيع المرء أن يشير أيضا إلى عدائية كثير من منظمات المجتمع المدني الغربية وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية للعولمة، وخاصة المنظمات العمالية التي تراقب أثر عولمة الاقتصاد على معدلات أجور العمال، ونسبة البطالة في الغرب.
ومن زاوية نظر عربية يلاحظ أن المجتمعات العربية تخلو من المنظمات المدنية المهمومة بالتطورات التي تحدثها العولمة، أو الآثار الناتجة عن عولمة الاقتصادات العربية على الطبقات الفقيرة، أو العمال، أو الصناعة المحلية, مما يتيح للنخب الحاكمة أو المستفيدة من التعولم الاعتباطي الحادث الآن أن تمرر الكثير من السياسات الانتقالية، وفرضها دون مراقبة مدنية لصيقة تضمن مصالح شرائح المجتمع المتعددة وحقوقها. فالأجندة المسيّسة في العالم العربي للمثقفين والمتابعين وللأحزاب السياسية تأخذ موقفاً أيديولوجياً معادياً للعولمة بشكل عام، لكن هذا الموقف غير مدني ولا ينعكس على المجتمع بشكل منظمات اجتماعية غير مسيسة ومهتمة بالتطبيقات العملية غير الأيديولوجية.
وتظهر إحدى أهم تجليات المقاومة في نمط انتشار الإقليمية أو الأقلمة الذي برز خلال العقدين الأخيرين، سواء في آسيا حيث تجمع آسيان الاقتصادي، أم في أميركا اللاتينية حيث تجمع ميركسور, أم في أميركا الشمالية حيث تجمع (النافتا), وطبعاً مع وجود المثال الأبرز والأنجع على الأقلمة وهو مثال الاتحاد الأوروبي. وعلى الجانب المتطرف فإن مظاهر المقاومة ضد العولمة الاقتصادية سيطرت على نشرات الأخبار الرئيسية مرّات عدّة خلال السنوات الماضية، بدءاً من سياتل عام 1998 حيث اجتماعات الألفية لمنظمة التجارة العالمية, ومروراً بواشنطن عام 1999 حيث اجتماعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي, ثم مرة أخرى في براغ في العام المنصرم، حيث عقد الاجتماع السنوي لمنظمة التجارة العالمية.
4-3 العولمة العلمية
العلم عالمي بطبيعته ولا يعترف بالحدود بين الدول. وهو تراكمي أيضاً بمعنى أنه يزداد ويغتني بالتواصل والحوار. ومنذ القدم كان العلماء يسافرون من بلد لآخر طلباً للعلم أو لملاقاة الأساتذة والأخذ عنهم. وفي الحديث الشريف (اطلبوا العلم ولو في الصين ). وأيضاً (الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها التقطها ). واليوم يتصل العلماء بعضهم بعضاً من شتى أنحاء الأرض عبر المؤتمرات والندوات وورشات العمل والنشر العلمي وحتى الانترنت والمؤتمرات الفيديوية بشكل لم يسبق له مثيل. ولابد لأي باحث قبل أن يجري بحثاً من أن يطلع بشكل كامل على معظم ما قام به سابقوه في المجال نفسه.
وربما الأهم في العولمة العلمية هو أن المعلومات والمعرفة تنتشر وأن بإمكان المخترعين – سواء في الحكومة أو القطاع الخاص ـ أن يستمدوا الأفكار التي نفذت بنجاح في مكان ما وأن تعدل لتناسب أوضاعهم وأن يتجنبوا الأفكار التي ثبت فشلها. يقول جوزيف شتيغلتز Joseph Stiglitz حامل جائزة نوبل « إن العولمة أنقصت الشعور بالعزلة التي كان يحس بها معظم الدول النامية، وسمحت للعديد من الناس في هذه الدول بالوصول إلى المعرفة التي لم يكن أكبر الأغنياء يتمتع بها في أي بلد منذ قرن من الزمان».
ومن تجليات العولمة العلمية هجرة العقول من مكان لآخر وخاصة من الدول النامية إلى الدول المتقدمة. ويؤدي هذا إلى إفقار تلك الدول بالكوادر النادرة التي تحتاج إليها في عملية التنمية كما أنه يسبب لها خسائر كبيرة أنفقت على إعداد هؤلاء وتعليمهم. ولذا نرى أن جانباً كبيراً من العلماء في أوروبا والولايات المتحدة الذين حققوا تميزاً كبيراً وحصل العديد منهم على جوائز علمية عالمية قد أتوا من الدول النامية.
ومن تجليات العولمة العلمية حاجة العلماء للتواصل عبر النشر العلمي والمؤتمرات وغيرها بلغة واحدة، وقد أصبحت اللغة الانكليزية هي لغة العلم والمجتمع العلمي في العصر الحديث. ويقدر أن 90% مما ينشر من البحوث العلمية في المجلات العلمية يتم باللغة الانكليزية.
4-4 العولمة البيئية
تأثر العالم بقضايا عدة وحدت بين شعوبه ومنظماته. كان من أبرز هذه القضايا الآثار المدمرة التي تركها استخدام القنبلة النووية في الحرب العالمية الثانية. ولذا رأينا انبعاث حركات احتجاج عالمية ضد السلاح النووي وانتشاره في العالم. ومع التقدم الصناعي والاقتصادي الهائل وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية ظهرت مشاكل البيئة. التي أثارت اهتمام العلماء والسياسيين والجماهير بشكل عام. لكن مشاكل البيئة في بداياتها كانت محلية أو إقليمية تتمثل في تلوث الهواء والمياه والتربة في منطقة أو بلد ما إلى أن ظهرت على السطح قضية تغير المناخ في التسعينات من القرن الماضي. لقد أظهرت هذه القضية أن الكرة الأرضية بأسرها تتأثر بهذه الظاهرة وأن التأثير ليس محصوراً في منطقة أو بلد بل إنه يعبر الحدود ويتجاوز الكيانات الإقليمية. وهناك دول كالدول المتقدمة والغنية تؤثر فيه بشكل أكبر عن طريق إصدار أكبر كمية من غازات الاحتباس الحراري. ولا تؤثر هذه الغازات عليها فقط بل إنها تؤثر على الكرة الأرضية ككل بما في ذلك الدول الأخرى النامية. وبالتالي على العالم أجمع أن يعالج هذه المشكلة ككل حيث من غير الممكن لدولة أو عدة دول أن تعالجها لوحدها. ومن هنا نرى انبثاق المنظمة الحكومية لتغير المناخ IPCC التي تعمل على المستوى الدولي تحت مظلة الأمم المتحدة UNFCCC. كما شاهدنا انعقاد مؤتمرات عالمية مثل مؤتمر قمة الأرض في البرازيل وقمة كيوتو في اليابان وكوبنهاغن في الدانمارك. لقد أظهرت هذه المشكلة أننا جميعاً في قارب واحد وعلينا أن نتصرف فيه بمنهج واحد .
4-5 العولمة الثقافية
تعرف الثقافة بأنها أنماط النشاط الإنساني والرموز التي تعطي هذه الأنشطة أهمية. فالثقافة هي ما يأكل الناس وما يلبسون والمعتقدات التي يعتنقونها والأنشطة التي يمارسونها. وعندما تتلقى الثقافة تأثيرا من الخارج فإنها تهمل البعض وتتبنى البعض الآخر ثم تقوم فوراً بتحويله إلى منتج محلي. وهناك أنواع الطعام التي انتشرت في العالم. فشركة ماكدونالد لها 31000 موقع في العالم وكذلك بالنسبة لشركة كوكاكولا. وتقوم شركة كوكاكولا بتقديم مشروباتها الغازية بحيث تختلف نسبة السكر فيها باختلاف الأذواق الوطنية والإقليمية. واستخدام الوشم عادة صينية تنتشر الآن في الغرب بينما لم تعد تستخدم في الصين. ويؤثر اتصال الناس بعضهم بعضاً بعاداتهم وثقافاتهم. وكما ذكر ابن خلدون فإن من عادات المغلوب أن يتأثر بالغالب في عاداته ومأكله وملبسه ومشربه. وبالتالي فقد وجدت العادات الآتية من الغرب رواجاً كبيراً من حيث انتشار الجينز ووجبات الأكل السريعة والمشروبات الغازية على النمط الأمريكي في أرجاء واسعة من العالم. ويعتقد البعض أن العولمة الثقافية هي الهدف النهائي والخفي للعولمة. وما العولمة الاقتصادية والسياسية إلا وسيلة للوصول إلى العولمة الثقافية وإعادة تشكيل العالم على نمط واحد هو النمط الغربي والأمريكي بوجه خاص. لقد أنشئت منظمة (اليونسكو) ذاتها كما يقول جوليان هكسلي أول مدير عام لها (لكي تُساعد في خلق ثقافة عالمية موحدة تنطوي على تصور فلسفي خاص وخلفية معينة من الأفكار وخطط طموحة، فهي تهدف إلى بلورة أيدلوجية عالمية)( ) وتقوم هذه الفلسفة على عدد من الأفكار والمبادئ أهمها:
1-    مركزية الغرب التي تضع الحضارة الغربية في المركز والحضارات الأخرى على الأطراف. فهي تبدأ دوما بالحضارة اليونانية ثم الرومانية وتقفز فجأة الى عصر النهضة والعصر الحديث. وهي لا تعطي الحضارات الأخرى وعلى الأخص الحضارة العربية الإسلامية التي استفادت منها في العصور الوسطى إلا دورا هامشيا يتمثل في النقل والترجمة .
2-    عدم الاعتراف بالتمايز الثقافي والتنوع الحضاري، وسعي الغرب بعد انهيار الاتحاد السوفييتي الى الدعوة للعولمة الاقتصادية والثقافية على النموذج الأمريكي كما بشر بذلك فوكوياما في كتابه (نهاية التاريخ) وكما نرى تنفيذ ذلك اليوم في سياسات المحافظين الجدد في الولايات المتحدة وتبشيرهم بالديمقراطية والليبرالية الجديدة .
يعطي ميتلمان( ) حيزاً كافياً في كتابه عن العولمة للجانب الثقافي مشيراً إلى تأثير وطأة العولمة على الهويات المحلية وبالتالي ردود الفعل عليها. ليس هذا فحسب بل إن تعقيد إشكالية الهوية يأخذ أبعاداً حادة عند معالجة أثر العولمة على تفعيل الهجرات العمالية من الجنوب إلى الشمال، وتكون الجاليات في أوروبا. فمثلاً يلاحظ ميتلمان كيف كانت ردود وانعكاسات اليمين الفرنسي على صعود نجم لاعب الكرة زين الدين زيدان الجزائري الأصل, ضمن الفريق الوطني الفرنسي، وهي ردود سلبية حيث اعتبر اليمين أن الفريق الفرنسي ضم في تشكيلته عدداً أكبر مما يجب من الفرنسيين «غير مكتملي الفرنسية ». وفي الوقت نفسه كان الجزائريون سواء في فرنسا أم الجزائر يضجون بالفرح والتأييد لزيدان باعتباره بطلاً جزائرياً رغم أنه فرنسي المولد والإقامة.
و يشير هذا المثال إلى معضلة أعمق متعلقة بالوجود الإسلامي في القارة الأوروبية - الذي يبلغ حوالي خمسة عشر مليوناً, منهم خمسة ملايين في فرنسا وحدها. وهنا تتعقد إشكالات الهوية في ظل العولمة؛ فمن جهة تتزايد موجات العنصرية ضد الجاليات المسلمة، ومن جهة تتزايد نزعات التطرف الديني في أوساط هذه الجاليات كردود فعل من ناحية، وكإعادة اكتشاف للدين على أنه مصدر لهوية مهددة. ويلاحظ المؤلف أن الإسلام يمثل واحداً من القوى المقاومة لموجة العولمة المرتبطة بالسياسة الغربية وخاصة السياسة الخارجية للولايات المتحدة. ويتفق المؤلف مع كثيرين في أن العولمة تنطوي على إمكانات الإضرار بالأديان وإفادتها في الوقت نفسه. فمن ناحية تقوم العولمة ـ خاصة في جانبها الإعلامي، والثقافي، وترويج الأنماط الاستهلاكية، والتحلل من القيم ـ بتحدي المنظومات الدينية والأخلاقية، وإضعاف إقبال الأجيال الجديدة عليها. لكن ومن ناحية ثانية فإن هذه المنظومات الدينية نفسها تعتبر من أكبر المنتفعين من العولمة، لا سيما من جهة استثمار وسائل الاتصال الحديثة، وتوظيفها لترويج رسالتها الدينية التبشيرية. والملاحظ أنه رغم كل تأثيرات الإعلام الغربي والأميركي ـ خاصة في نشر وتكريس نمط الثقافة الأميركية في العالم عبر الفضائيات، والانترنت، والأفلام، والمجلات، وغير ذلك ـ فإن الأديان والدعوات الأخلاقية المضادة للثقافة الاستهلاكية ما تزال تكسب أنصاراً جدداً في غير مكان في العالم، وفي الولايات المتحدة في المقام الأول. وهذا يؤكد مرة أخرى على( تلازم التحولات العولمية مع ازدياد تحولات الممانعة والمقاومة لها).
وقد تبرز إحدى تجليات العولمة كالعولمة الاقتصادية مثلاً بشكل أكبر من الأشكال الأخرى. لكنها في معظم الأحيان تترافق مع بعضها بعضاً وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة. فمع التجارة والهجرة وانتقال البشر تأتي الأفكار والعادات وتتشكل أنماط الحياة، وفي دول كثيرة مثل الصين اعتمدت العولمة الاقتصادية بشكل قوي من خلال الانفتاح على الخارج وزيادة حجم التبادل التجاري وخاصة مع الدول الغنية والمتقدمة وأخذت بسياسة السوق الحرة وتسهيل فرص الاستثمار الأجنبية بينما حافظت على نظامها السياسي ونسيجها الاجتماعي على الرغم من التأثير غير المباشر لهذه التغيرات الاقتصادية عليهما. وفي دول أخرى عدة نجد العولمة الثقافية تنتشر في حين لا تحدث العولمة الاقتصادية أي تأثير على الاقتصاد والعمالة ورفع مستوى المعيشة. وهناك بعض الحالات كدبي مثلاً حيث تتجلى أنواع العولمة الشاملة كلها الاقتصادية والثقافية والسياسية. فالأموال الأجنبية تتدفق للاستثمار من كل صوب وحدب دون قيود. والتجارة حرة وبالحد الأدنى من الرسوم والضرائب. ويقوم العمال الوافدون من معظم دول العالم والذين يشكلون غالبية السكان بمعظم الوظائف من الأسفل نحو الأعلى. وأنماط الحياة هناك تتنوع من النمط الأمريكي إلى الأوروبي وإلى الأنماط العربية التقليدية.
5- فوائد العولمة وأضرارها
5-1 الفوائد
تتضمن العولمة فوائد كثيرة بالنسبة للدول النامية، وتشمل هذه الفوائد الاستثمار الأجنبي المباشر FDI ونقل التقانة وبناء مؤسسات قوية وإجراء سياسات اقتصادية سليمة وتعليم العمالة المحلية وتدريبها وبناء اقتصاد السوق. وأكثر من ذلك فالقاسم المشترك الذي يربط بين الدول التي نمت بشكل سريع هو مساهمتها في الاقتصاد العالمي وتكاملها معه. وتشير الدلائل إلى أن الدول النامية التي حققت معدلات عالية من النمو كالصين والهند وماليزيا فعلت ذلك بسبب دخولها الاقتصاد العالمي وتصديرها لمنتوجاتها وبخاصة إلى الدول الغنية المتقدمة.
وهناك دليل قوي على أن دخول دول مختلفة الحجم والموقع «العولمة» أفاد مواطنيها على شكل إتاحة تشكيلة أوسع من المنتجات والخدمات وتخفيض الأسعار والحصول على وظائف أفضل وأعلى مردوداً وتحسن المستوى الصحي وارتفاع مستوى المعيشة بشكل عام. وليس من قبيل الصدفة أنه في أثناء العشرين عاماً الماضية مع انفتاح عدد أكبر من الدول على الاقتصاد العالمي فإن نسبة السكان في الدول النامية دون خط الفقر المحدد بأقل من دولار واحد للشخص في اليوم قد انخفض إلى النصف.
لقد شجع نمو الأسواق العالمية الكفاءة في الإنتاج والخدمات عن طريق التنافس وتقسيم العمل. ويؤدي التنافس الحر إلى رفع النوعية وخفض الأسعار. ويفعل تقسيم العمل الشيء نفسه عن طريق جعل الدولة تكرس جهودها في إنتاج السلع التي لها ميزة تنافسية. لقد انقضى زمن فلسفة (الاكتفاء الذاتي) التي سادت في عقود الستينات والسبعينات والتي جعلت بعض الدول تفضل سياسة (إحلال الواردات) وبالتالي تبني صناعات ثبت بعدئذ فشلها. لقد طبقت دول جنوب وشرق آسيا هذه الفلسفة لتنجح بشكل كبير. وبالفعل فقد ازدهر وادي السيليكون في بانغالور في الهند بشكل كبير ليحول الاقتصاد الهندي بكامله. ويمكن للعولمة عن طريق التجارة أن تقود إلى تحديد أكثر كفاءة للموارد مما يؤدي إلى خفض الأسعار وعمالة أكثر وإنتاجية أعلى ومستوى معيشة أفضل للدول النامية. ويعتقد البعض أن الديمقراطية والليبرالية تقودان إلى العولمة الاقتصادية وازدهار الدول النامية. وتتطور هذه بدورها إلى العولمة السياسية وإلى نوع من الحكومة العالمية. وليس هناك تناقض بين الحكومة الوطنية والعالمية فهما تكملان بعضهما بعضا ولكل منهما مجالها ومهماتها. لقد أثبتت الدراسات أن دخل الشرائح جميعها يزداد في العولمة ولكنه يزداد بمقدار أكبر للعمالة المدربة والمتعلمة وبالتالي تتسع الهوة بين طبقات المجتمع. ويحدث الشيء نفسه نتيجة الاستثمار الأجنبي المباشر FDI وانتشار التقانة في الدول النامية .
5-2 أضرار العولمة:
كما للعولمة فوائد فإن لها بالمقابل مساوئ عدة بالنسبة للدول النامية والمتقدمة. لقد أدى ارتفاع الأجور في الدول المتقدمة إلى هجرة رأس المال وتدفق الاستثمارات على الدول النامية. وهذا ما سمي ب (حصاد السوق) حيث تحقق هذه الاستثمارات الأرباح الضخمة عن طريق استخدام اليد العاملة الرخيصة والمدربة في الدول النامية وتقوم بتصدير منتجاتها إلى الدول المتقدمة. وقد أدى هذا إلى انتقال قطاعات صناعية واسعة من الدول المتقدمة إلى الدول النامية. لقد أثرت العولمة على عمال صناعة السيارات في ديترويت وسببت انتشار البطالة بينهم. كما أن صناعة الثياب الصينية أدت إلى تقليص 3.2 مليون وظيفة. ويقدر أن وظيفة واحدة من بين ست وظائف في الولايات المتحدة قد ضاعت نتيجة العولمة عام 2000. وهذا يفسر عداء نقابات العمال في الدول المتقدمة للعولمة والتي تعبر عنها في المسيرات والمظاهرات الضخمة التي تحشدها في الاجتماعات والمؤتمرات العالمية مثل دافوس ومنظمة التجارة العالمية وغيرها.
لقد أدت العولمة وما رافقها من نمو سريع في الصناعة والخدمات إلى تدفق المهاجرين من الريف إلى المدن. وقد أدى هذا إلى تضخم مدن الدول النامية مثل شنغهاي ومكسيكو وسان باولو وغيرها بشكل كبير. وأصبحت هذه المدن وما تحويه من مناطق سكن عشوائي مصدراً للتلوث البيئي وانتشار الجريمة وتفشي الفقر والبطالة والانحطاط الخلقي. كما ان مدن الصفيح هذه زادت العبء على الدولة لتأمين الخدمات والمرافق الصحية وغيرها. كما أن هجرة الأعداد الكبيرة من الريف إلى المدينة أضرت بالزراعة وتسببت في تخلف الريف.
 وأدت العولمة أيضا إلى هجرة واسعة للسكان من الدول النامية إلى الدول المتقدمة. وكثيراً ما حصلت هذه الهجرة بطرق غير شرعية. وتغير النسيج السكاني في كثير من دول أوروبا الغربية ليضم شرائح واسعة من المهاجرين من دول مختلفة وثقافات مغايرة. ويعيش في أوروبا اليوم أكثر من 15 مليون مسلم منهم حوالي 5 مليون مسلم في فرنسا. ويسبب تزايد هؤلاء السكان السريع نظراً للنمو وأيضاً القلق خاصة وأن عدداً كبيراً منهم يصر على الاحتفاظ بهويته. وبالتالي بدأت هذه الدول تعاني من مشاكل الهوية الوطنية والتنوع الثقافي والعرقي. وظهرت في الآونة الأخيرة ردات فعل مناوئة للمهاجرين من الدول النامية وخاصة من العالم الإسلامي وحركات يمينية متطرفة تنادي بعودة هؤلاء إلى بلادهم. وفي كثير من الأحيان تقدم الدول المتقدمة المغريات إلى الكوادر العليا في الدول النامية نظراً لحاجتها إلى اليد العاملة المتعلمة والمدربة. وتهاجر أعداد كبيرة من الطلبة من الهند إلى استراليا والولايات المتحدة لنيل الشهادات العليا والبحث العلمي ومن ثم الحصول على عمل والاستقرار هناك مع ما يسببه هذا من خسارة مالية وعلمية كبيرة. لقد كلفت هجرة العقول من الدول النامية أفريقيا أكثر من 4 بليون دولار في العام.
ومن مساوئ العولمة التأثير الذي سببه النمو السريع في كثير من الدول النامية على البيئة. لقد أصبحت الصين المصدر الأول في العالم لغازات CO2 التي تسبب الاحترار العالمي. كما أن البيئة المحلية قد تضررت كثيراً بدخان المصانع ومحطات الطاقة التي تحرق الفحم الحجري. لقد تضاعف استهلاك الصين والهند من النفط من عام 1996- 2006 بنسبة 8% في العام. ويقدر أن تختفي الغابات في أندونيسيا خلال عشر سنوات كما تتعرض الغابات الاستوائية في البرازيل وأفريقيا وأمريكا اللاتينية إلى التدهور. ومع العولمة وزيادة انتقال الناس من بلد لآخر تنتقل الأمراض المعدية والأوبئة بسرعة كبيرة. لقد حصل هذا بالنسبة لمرض انفلونزا الطيور ثم تبعه بفترة قصيرة انفلونزا الخنازير وغيرها وما تسببه هذه الأمراض من كوارث بيئية وهلاك الملايين من البشر وخاصة في الدول النامية التي تفتقر إلى الوقاية.
ومن الأمور المثيرة للجدل حول مساوئ العولمة ما يقال عن اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء في الدول المتقدمة وفي الدول النامية بشكل خاص. فثمار العولمة لا تتوزع على الجميع بالتساوي فقد ثبت أن عدم المساواة اتسعت في الصين وفي الهند والبرازيل. لقد تبين أن أغنى 1% من البشر يملكون 40% من الأصول العالمية عام 2000 ويملك أغنى ثلاثة في العالم أكثر من 10% من سكان العالم. لقد اتسعت الهوة بين الفقراء والأغنياء في معظم الدول خلال العشرين عاماً السابقة (IMF ). وثبت أن العولمة والتقانة تزيدان العائد على رأس المال البشري كما ثبت أن للتقانة تأثيراً أكبر من تأثير العولمة مما يبرز أهمية التعليم والتدريب. لقد تبين أيضاً أن العولمة التجارية تقلل من عدم المساواة، بينما تؤدي العولمة المالية وتدفق الأموال الأجنبية FDIJإلى الزيادة من عدم المساواة.
6- تجربة ماليزيا مع العولمة:( )
أصبحت ماليزيا أحد أنجح الاقتصاديات في جنوب آسيا والعالم الإسلامي. فقد تحولت ماليزيا من دولة زراعية تعتمد على إنتاج المواد الأولية وتصديرها، خاصة القصدير والمطاط والنفط، إلى دولة صناعية متقدمة يساهم قطاعاً الصناعة والخدمات فيها بنحو 90% من الناتج المحلي الإجمالي، وتبلغ نسبة صادرات السلع المصنعة 85% من إجمالي الصادرات، وتنتج 80% من السيارات التي تسير في الشوارع الماليزية. وكانت النتيجة الطبيعية لهذا التطور أن انخفضت نسبة السكان تحت خط الفقر من 52% من إجمالي السكان في عام 1970 الى 5% فقط في عام 2002. وارتفع متوسط دخل المواطن الماليزي من 1247 دولارا في عام 1970 إلى 8862 دولاراً في عام 2002. أي أن دخل المواطن زاد لأكثر من سبعة أمثال ما كان عليه منذ ثلاثين عاما، وانخفضت نسبة البطالة إلى 3%.
لقد انفتحت ماليزيا على العالم لكنها احتفظت بهامش كبير من السياسة الاقتصادية الوطنية. ويضع تقرير التنمية البشرية لعام 2001 ماليزيا في المرتبة التاسعة كمصدرة للتقنية العالية متقدمة على إيطاليا والسويد والصين. لقد قامت سياسة مهاتير محمد التي اعتنقها منذ 22 عاما على النظر الى الشرق، بمعنى اعتناق قيم العمل السائدة في اليابان وكوريا التي تقوم أساسا على الانضباط الشديد والإخلاص التام لجهة العمل، والحرص على اختيار المديرين ليكونوا قدوة لموظفيهم. وقد ذكر مهاتير مرة (أنه عندما يصلي يولي وجهه نحو مكة وعندما يعمل يتجه شرقاً إلى اليابان ). وقد يبدو هذا مخالفاً لمفهوم البحث عن قيم التطور في الغرب عموما والولايات المتحدة بشكل خاص. لكن مهاتير رأى دائما ان ثقافة العمل في اليابان بشكل خاص هي الأنسب لثقافة وتكوين بلاده.
ولم تتبع ماليزيا تعرفة البنك الدولي أثناء الأزمة المالية في جنوب شرق آسيا عام 1997 وخرجت منها أسرع من باقي الدول. وفي عام 2001، وبعد أربعة أعوام على الأزمة الاقتصادية الآسيوية، كان لدى مهاتير محمد ما يقوله في السخرية من العولمة، فقد كان مهاتير يتحدث في ندوة عن «تأثير العولمة على العالم الإسلامي» عندما انتقد بحدة ما وصفه بــــــ«الدمار الأخلاقي» في العالم الغربي، وجدد تحذيراته من مخاطر العولمة غير المنظمة، وقال إن هذه المخاطر تهدد الثقافات المحلية، وضرب أمثلة على ذلك بتشجيع الشذوذ الجنسي في بعض المجتمعات الغربية، وسن القوانين المنظمة له، وقال «إن الغرب بدأ يبيح كل شيء تحت مظلة حقوق الإنسان، ولم يعد يحترم العلاقات الزوجية والروابط الأسرية، وفي الوقت نفسه يسعى لتوحيد الثقافات كلها وفقا لمفهومه، في حين أن الله سبحانه وتعالى خلق الناس شعوباً وقبائل ليتعارفوا، وجعل لكل ثقافته ومفاهيمه» وتساءل: «ما معنى الديمقراطية إذا كانت تقدم خياراً واحدا ؟».
لقد توفرت ظروف عدة بالنسبة لماليزيا ضمنت لها النجاح. ومن أهم هذه الشروط الاستقرار السياسي وعدم تسلم العسكر لسدة الحكم مما أعطى فرصة كبيرة للحكومات المدنية بأن تنفذ برامجها الإصلاحية. كما أن ماليزيا آمنت بعملية التنمية البشرية وأعطتها الأهمية القصوى. وفعلاً فإن ما أنجز من بناء للجامعات والمعاهد ومراكز البحث وما أنفق على التعليم العالي والبحث العلمي والتأهيل والتدريب يعتبر من أعلى المعدلات في العالم. واعتمدت ماليزيا سياسة التفاوض والإقناع الديموقراطي في طرح سياساتها وذلك لتعدد أعراقها وطوائفها ولم تعتمد سياسة الفرض والإكراه بالقوة. وبذلك أمنت لسياساتها الرضا والقبول الذي ساعد على نجاحها. وفتحت ماليزيا أسواقها للاستثمار الأجنبي لكن ذلك كان ضمن سياستها وتوجهاتها وضمن شروط وضعتها هي. ولم تتقيد بسياسات البنك الدولي أو منظمة التجارة الحرة كما فعل كثير من الدول الأخرى في أثناء الأزمة الاقتصادية التي ألمت بجنوب شرق آسيا. بل اعتمدت على ذاتها وعلى خبراتها في الخروج من هذه الأزمة وقد أفلحت في ذلك وخرجت منها أسرع وأقوى من باقي الدول.
7- العرب والعولمة:
انخفضت حصة الدول العربية من تدفق الأموال للاستثمار FDI عام 2007 عدا مصر والسعودية والامارات. وارتفعت حصتها من التجارة العالمية من 4.25 % عام 2006 إلى 4.3 % عام 2007 لكن ذلك كان راجعاً إلى الارتفاع الكبير في أسعار النفط. ولولا هذا الارتفاع الكبير لكانت حصتها ضئيلة. وارتفعت حصة الدول العربية من الناتج القومي الإجمالي العالمي GDP من 2.7 % إلى 2.9 % من عام 2006 إلى عام 2007. ومازالت هذه الحصة أقل من حصتهم في التجارة أو الاستثمار أو السياحة العالمية. وانخفضت حصة العرب من تجارة النفط من 28.4% عام 2006 إلى 26.1% عام 2007 ومن الغاز من 13.1 % إلى 10.5 % بسبب ظهور دول نفطية جديدة واكتشافات خارج الأوابك، وتعتبر هذه الأرقام مؤشرات على ضعف اندماج الدول العربية في العولمة الاقتصادية وأن النفط هو العامل الرئيس بامتياز لأنه يربط الدول العربية بدول العالم ويدخلها في مجال العولمة.
و من ناحية المعلوماتية ICT التي تعدّ إحدى أهم وسائط العولمة الحديثة فقد تجاوزت قطر والإمارات والبحرين فقط وهي دول قليلة السكان المتوسط العالمي وهو 19.2 خط هاتف لكل 100 شخص. وتجاوزت 11 دولة عربية خطوط الهاتف الخليوي العالمي وهي 49.2 لكل 100 شخص. وتجاوزت 4 دول وهي لبنان وقطر والامارات واليحرين في الاشتراك بخدمة الانترنت المتوسط العالمي وهو 8.2 لكل 100 شخص. ويبلغ الصرف على المعلوماتية في الجزائر 2.4% من ال GDP و6.1% الهند و8.2% تركيا بينما يبلغ المتوسط العالمي 6.7 %. وقد تجاوزت الأردن فقط المتوسط العالمي بمعدل 8%. وتشير هذه الأرقام كلها إلى أن العالم العربي يتحرك نحو الاق

المصدر: http://omerbasha.syriaprof.com/show.php?p=article&id=120

الأكثر مشاركة في الفيس بوك