من قضايانا العولمية المعاصرة: العلم الحديث ومستقبل التطور الحضاري

إلى أي حد يذهب العلم في ارتباطه بالحياة الإنسانية الحاضرة؟ ما نتائج ذلك؟ ما هي طبيعة الظروف العالمية التي تسيطر الآن على مناهج البحث العلمي ومنجزاته؟ هل من المعقول أن تستمر هذه الظروف؟ ما صلة ذلك بالنظرة إلى « خيرية » العلم أو« شريته »؟ هل يمكن حدوث تطور جذري في هذا المجال؟.

منذ بضع سنوات، دارت مناقشة هامة بين عدة علماء من جنسيات مختلفة ضمن الدورة العاشرة لمؤتمر اليونسكو التابع لهيئة الأمم المتحدة، وكان محط النقاش موضوع العلم، وصلته بالحياة الإنسانية سواء بالنسبة للحاضر أو المستقبل، والموضوع هذا لم يزل يشغل من اهتمامات الناس وعنايتهم حيزا كبيرا على اختلاف درجات الاهتمام، ومستوى عمقه وقيمة نتائجه، خاصة بعد أن أصبح للمنجزات العلمية التطبيقية تأثير راديكالي متزايد على حياة الأفراد والجماعات، واتجاه إلى تحويل صور الحياة الإنسانية سواء على سطح القارات أو المحيطات أو الجزر، وإذا كانت قضية العلم وعلاقته بالمصير الإنساني قد أصبحت على هذا المستوى من الأهمية بالنسبة لحياة الإنسان المعاصر، وإذا كانت لذلك تعتبر ذات قوة على اجتذاب انتباه الناس، والاستئثار بأفكارهم ومصادر تعقلهم، فإنها ـ فوق ذلك ـ تحدث قسطا من التأثير أكبر على ضمير العلماء والمختصين في مختلف فروع المعرفة المادية والنظرية، أولئك الذين تؤهلهم مستوياتهم العقلية والتجريبية للنظر إلى صميم القضية من زاوية خاصة أكثر موضوعية وواقعية، وأبعد أفقا واستشرافا، ومن خلال النقاش الذي استدار بين العلماء في مؤتمر اليونيسكو سنة (1959) أعرب البعض منهم ـ ومن بينهم هامات بارزة في ميادين الاستكشاف النظري والتطبيق التقنولوجي ـ أعربوا عن آراء متفائلة فيما يتصل بمركز العلم في الحياة، وعلاقته بالمصير الإنساني على وجه عام، بل أن من بينهم من ذهب إلى حد التشديد على خيرية العلم المطلقة، وتناقضه في الجوهر مع الحقائق الحياتية الشريرة التي يعج بها عالم اليوم، والتي يعتقد أنها منبثقة عن التقدم العلمي بشكل أو بآخر، وقد قال أحد العلماء في هذا الصدد : « إن إمام الإنسان في هذا العصر ثقة بالمستقبل، لأن الاكتشافات العلمية تقوي ثقة الإنسان بنفسه.. » على أنه من جانب آخر فإن الحقائق الرهيبة أحيانا .. تلك التي أصبح يفضي إليها التطبيق التقنولوجي للعلم، وخاصة في ميدان الحراريات على اختلاف أنواعها، وكذا في ميادين الدفع والإطلاق الموجه آليا ـ إن هذه الحقائق لا تفتا تثر الأفكار السلبية والخواطر المشائمة عند العديد من العلماء المفكرين، بالإضافة إلى ما تثيره من مشاعر القلق البسيط لدى الناس العاديين في مختلف أنحاء العالم، فالعلم من وجهة النظر المتشائمة هذه قد لا يجوز أن يعتبر عاملا خيرا في جميع الحالات وبصورة مطلقة، بل إن إليه ـ على العكس ـ يعود الكثير من الجوانب المأساوية في حياة الإنسان المعاصر، هذه الجوانب التي لا تنحصر حقا في نطاق موضوعي معين، وإنما تمتد بصورة لا متناهية إلى مختلف الآفاق التي تتصل بالأحوال العالمية الراهنة على وجه عام، والواقع أننا إذا ما فحصنا الموضوع من جميع مناحيه، وبشكل شامل، فإنه لابد أن نلاحظ في مطاويه الكثير جدا من عناصر التشعب والتعقيد الذي يصل أحيانا إلى درجة بعيدة حقا، ومنشأ التشعب هذا يؤول إلى نقطة أساسية لها قدر من الأهمية في هذا المقام، وهي هذا الارتباط المتين الدقيق بين تطورات العلم من جهة، وتطورات الحياة العالمية من جهة أخرى، ذلك أن الملاحظ أساسا، أن هناك نوعا من التفاعل الشامل الدائم يوجد بين حياتنا الواقعية من جهة، وبين الحياة العلمية الاستكشافية من ـ جانب آخر، فيقدر ما يزداد التطور العلمي سرعة وتلاحقا، بقدر ما ينعكس ذلك على صعيد الحياة الفردية والجماعية التي نعيش في ظلالها سواء في هذا الجزء أو ذاك من أجزاء العالم ـ وإن كان ذلك يتم بصورة متفاوتة بحسب نصيب كل قطر من التطور العلمي أو استعداده للتأثر بنتائج الاكتشاف العلمي، وما ينبثق عنه من منجزات تقنية عملية ـ وعلى العكس من الصورة الأولى فإنه بمقدار ما نزداد تطورا وارتقاء من الناحية الاجتماعية والحياتية بوجه عام، بقدر ما يؤثر ذلك على واقع التطور العلمي العملي، ويمد العلماء بالحوافز النفسية اللازمة للعمل على مضاعفة هذا التطور، وتوسيع دائرته، وتمديد نطاقه على أضخم وجه ممكن، فالتفكير في استكشاف الفضاء مثلا كان ـ في مبدئه ـ حلما دائما من أحلام الإنسان وأمانيه، وقد بذلت من قبل وحتى قبل هذا القرن بكثير محاولات فردية وجماعية في ميادين الصواريخ الموجهة مما يمكن من الاعتقاد بأن الأمر في هذا المجال كانت تتحكم فيه جملة من الأهداف العلمية الأصيلة، إلا أن الأمر في عصرنا الحاضر قد تداخلت في مطاويه كثير من العوامل السياسية الدولية الطارئة حيث أصبح لها تأثير وأي تأثير على سير العمليات الاستكشافية الحالية سواء باعتبار المراحل السريعة التي ما فتئت تقطعها، أو بالنسبة للأهداف العديدة المتوخاة منها، والعوامل السياسية الدولية هذه ـ بما أصبح لها من تأثير على توجيه البحث العلمي سواء في ميدان غزو الفضاء، أو التوسع الذري بجميع فروعه السليمة والحربية ـ هذه العوامل تتصل ـ هي بدورها كذلك ـ بمركب متشعب من المؤتمرات الاجتماعية والنفسانية والفكرية والاقتصادية المرتبطة شديد الارتباط بمعطيات الصراع العالمي بين الشيوعية الأممية من جهة، وبين القوى الرأسمالية والقومية من جهة أخرى، والملاحظ ـ بهذا الصدد من أروع مظاهر التقدم العلمي الإنساني كالمحركات الذرية مثلا (ومن نماذجها : الغواصة الأمريكية « النوتيلوس » المتحركة ذريا، والتي استطاعت أن تضرب رقما قياسيا في اختراق القطب الشمالي، وتقريب مسافة السير بين القارات الشمالية الأرضية) إن من أروع مظاهر هذا التقدم ما أصبح بالقوة أو بالفعل، مندمجا في إطار المشاكل المتصلة بهذا الصراع، بل وموجها في بعض الأحيان لكي يصبح عاملا أساسيا من عوامل الحرب الباردة أو الساخنة، وأداة من أدواتها الفاعلية الرئيسية.
وفي الكثير من الحالات فإن الخطوات الأولى للتقدم في مجال من مجالات العلم أو فرع من فروعه، هذه الخطوات كانت تتم غالبا بصورة فردية، وكنتيجة للمجهودات الخاصة لبعض الرواد العباقرة الذين تحدوهم إلى ذلك بعض الأغراض العملية السليمة، أو تحفزهم ـ بهذا الصدد ـ على الأقل ـ مجرد أهداف استكشافية بريئة يثيرها حب المعرفة والاستطلاع، على أن هناك حقيقة بعضا من هؤلاء الرواد الذين لابد أنه كانت تتحكم فيهم نوازع انتفاعية تدفعهم إلى إجراء تجاربهم وأبحاثهم لكي ينفذوا من ذلك إلى الحصول على مكاسب مادية أو معنوية، فتلك « لازمة » نفسانية من الطبيعي أن تكون ذات تأثير على اتجاه هذا الفريق أو ذاك من العلماء القدامى ـ وأن كان هذا التأثير يختلف قوة وضعفا، ويصل أحيانا ـ كما هو الشأن في عصرنا الحاضر ـ إلى درجة ما من الانتهازية الاستغلالية الرخيصة.
إن القضية التي تثيرها هذه الظواهر من حيث الأساس تتخلص في أنه من اللازم أن نضع حدودا بين الاتجاهات العلمية الأولى التي لم يكن الحافز عليها ـ كثيرا ـ إلا مجرد الحرص على الاستطلاع، أو الانتفاع أو شيء من هذا القبيل، وبين الاتجاهات الحالية التي يستغل أصحابها جملة الحقائق العلمية المكتشفة منذ قديم، ويبنون عليها للتوصل إلى حقائق جديدة من شأنها أن تؤدي ـ في بعض الحالات ـ إلى تخريب الحضارة والعمران على وجه هذا الكوكب الأرضي، أو تحطيم البعض من مظاهرهما على أقل تقدير. وإذا كان من الممكن أن نوجه « تهما » تتعلق بنوايا هذا العالم أو ذاك من بين العلماء  القدامى الذين قد يكونون قد سخروا مواهبهم الاستكشافية لخدمة أغراض غير إنسانية ومتعمدة ـ إذا كان لنا أن نوجه « تهما » من هذا القبيل ـ فإننا لا نستطيع بهذا الصدد أن نأتي بأمثلة معينة تبلغ من سعة الخطورة وبعد الأثر ـ ما هو ماثل فعلا في عالمنا الحاضر هذا، وليس مرد ذلك فقط إلى حسن نوايا العلماء والباحثين الذين عرفتهم دنيا الاكتشاف والابتداع في عصور النهضة وما قبل ذلك، وإنما تعود بعض الأسباب الرئيسية في الأمر، إلى الوضعية العامة التي كانت تسيطر على حياة العلم والعلماء والتي كان البحث العلمي خلالها يتم في ظروف مادية متواضعة وبإشراف فردي أو جماعي محدود وبعيدا عن سيطرة الشركات والتروستات كما هو الأمر في الغرب الأوربي والأمريكي، أو المنظمات والمندوبيات الرسمية كما هي الحالة في الاتحاد السوفياتي مثلا، وإذا كانت وضعية البحث والاستكشاف العلمي قد أصبحت على غير ما كانت عليه من قبل، وإذا نشأ عن ذلك أن المقدرات العلمية والتقنية الحديثة قد غدت وهي تكاد تكون ـ في مجموعها ـ موجهة توجيها معينا، ولأهداف غير مقبولة أحيانا، وإذا كانت النتيجة الحتمية لذلك هي استسلام الجانب الخلقي في العلم، وارتباطه كثيرا باعتبارات السياسة والمجتمع، وما ينطوي عليه كل ذلك من قضايا منحرفة في بعض الحالات، ثم خضوع  المقدرات الفكرية العلمية، وتبلورها ـ بالتالي ـ في منجزات وعمليات إنسانية، إذا كانت الأحول الماثلة أمامنا هي من هذا القبيل فذلك ليس إلا مجرد ظاهرة فقط، من سلسلة الظاهر الكثيرة المعقدة التي تتكاثر في عصرنا الحاضر، والتي تضفي ـ حقا ـ على هذا العصر صبغته المميزة الخاصة، فقد أصبحت مختلف الجوانب في حياة الإنسان متلاحمة متشابكة، تبلغ في تلاحمها وتشابكها أقصى الحدود الممكنة، وبقدر ما اتسعت أفاق العلم وتنوعت فروعه وتشعباته في ظلال التقدم الفكري والاستكشافي المعاصر بقدر ما تتفاوت الحظوظ بين هؤلاء وأولئك في مضمار التقدم العلمي، والإنجاز التقني مع كل ما يتيحه ذلك من إمكانيات، وما يفتحه من آفاق ومجالات، فمن المؤكد بالبداهة أن أسس التقدم العلمي ـ مادية وفكرية وتنظيمية ـ تكاد تكون ـ في العصر الحاضر حكرا خاصا لدول الغرب الأوربي والأمريكي، والاتحاد السوفياتي وإن ما يدعى بـ « العالم الثالث » بما فيه دول إفريقيا وآسيا (باستثناء  اليابان) وأمريكا اللاتينية بالإضافة إلى بعض أقطار البلقان أيضاـ هذا العلم لا يكاد تتوافر لديه مقومات هذا التقدم إلا بنسب ضئيلة جدا، وفي كثير من الأحيان لا يتوافر له شيء مطلقا، هذه الحالة من التفاوت الهائل في ممكنات التقدم العلمي والإنجاز التقني تقوم ـ في بعض الاعتبارات ـ كعامل حقيقي يساعد على استمرار التفاوت أيضا في مجالات الإنتاج الصناعي والتوسع الاقتصادي بين دول الغرب والسوفياتيين من جهة، وبين شعوب « العالم الثالث » من جهة أخرى.
وهناك تبتدئ صورة المشكلة القائمة في عالم اليوم .. المشكلة الماثلة أساسا في هذا التفاوت .. التفاوت الضخم الشاسع بين شعوب وشعوب.. بين كتل دولية معينة، وبين كتل أخرى تختلف عن الأولى مقاصد وأهدافا، وتقل عنها إمكانيات واستعدادا.
هذا التفاوت لو لم تكن له نتائج ذات مدلول خطير جدا على المستوى العالمي، لما كان لنا أن نعتبره إلا مجرد مشكلة عابرة قد تحل على وجه أو آخر بمرور الزمن، وباتساع فرص التعاون الدولي الحر، ـ على العكس من ذلك ـ مدلول بعيد الخطورة وعميق الأثر إلى أقصى الحدود، ومن نتائجه الحتمية : الإبقاء على حالة « الصغر » عند هذه الدول التي نصطلح على تسميتها بالدول الصغيرة، والحفاظ على مقومات « الكبر » لدى مجموعات الدول التي يتواضع على دعوتها بالدول الكبرى أي الدول التي تنعم بحق الفيتو، والعضوية الدائمة في مجلس الأمن والقدرة الفعلية على إقرار الحرب أو السلام في ربوع العالم.
إلى أين تتجه الأوضاع العالمية في ظلال ظروف مثيرة من هذا النوع؟ سؤال من البساطة كذلك النفوذ منه إلى من استشراف الآفاق الشاسعة التي يفتحها، وعلى كل فإن هناك من بين الحقائق التي تتبادر للذهن في هذا المقام، هناك حقيقة أساسية بارزة، وهي أن توافر القدرة العلمية والتقنية عند كتل دولية معينة تسنحثها ظروفها ومصالحها ومذهبيتها لخوض غمرات صراع دائم، وعلى نطاق عالمي شامل ـ أن توافر هذه الممكنات الاستكشافية والإنتاجية ذات الصبغة العلمية عند خاصة هذه الدول المتكتلة دون غيرها ـ ليس من شأنه ـ أبدأ ـ أن يساعد على حل مشكلة العلم، وما يرتبط به ـ كثيرا ـ من أهداف سلبية وشريرة، وما يلتحق بمنجزاته المادية أحيانا من حقائق لا إنسانية ولا أخلاقية، فهذه المنجزات لا يجوز ـ بحق ـ أن تنفصل عن ذاتية العلم ومظهر وجوده وفاعليته وهي ـ من جانب ٍآخر ـ لا يمكن أن تنفصل أيضا عن جملة المقاصد والأهداف السياسية والدولية التي تتحكم في توجيه الأجهزة الحكومية المسيرة. وتسيطر ـ بالتالي ـ على وجهة نشاط العلماء والتقنيين الذين يعملون تحت إشراف هذه الأجهزة، وبوحي من تخطيطاتها وتوجيهاتها. ولابد أن تبقى المشكلة قائمة على هذا الأساس، يستمر وجودها باستمرار الأوضاع العالمية الحاضرة، والظروف التي تسيطر على هذه الأوضاع، وإذا ما تبين الأمر على هذا النحو فهل سيكون من الضروري حقا أن نشدد النكير على مساوئ المنجزات التدميرية التي تنبثق عن حقائق العلم واكتشافاته وتطبيقاته؟ وإذا كان لنا أن نوغل في توجيه عبارات النقد بهذا الصدد، فهل من الحكمة ـ حقا ـ أن نقصر انتقاداتنا هذه على العلم، ونركزها حوله بالذات بحيث ننظر إلى التطبيقات ذات الأهداف الشريرة التي تتولد عنه باعتبارها جزءا لا يتجزأ من كيانه؟ أو هل سيكون علينا ـ على النقيض من ذلك ـ أن نضع خطا فاصلا من الناحية النظرية بين العلم كمجموعة من الحقائق، أو ما يفترض أنه حقائق، وبين المنجزات المنبثقة عنه، والتي توجهها أحيانا أهداف صراعية مزمنة لا تمت إلى العلم بأية صلة، إننا إذا وضعنا انفلاق الذرة أمامنا كمثال فإنه سيكون علينا حينذاك أن نتساءل : هل كان من الخير للإنسانية لو لم تتطور الأبحاث حول موضوع الانشطار النووي بوجه عام، لنفضي في النهاية إلى ما أفضت إليه يوم يناير سنة 1939 عندما تم للعالمين الألمانيين « هان » و « شتراسمان » تجزئة ذرة الأورانيوم بصورة ناجحة؟
لكن هناك ما يدعو للتساؤل من جانب آخر : هل كان حتميا ولازما أن تستغل نتائج الانفلاق الذري على نحو ما هو واقع الآن، وتوجه وجهتها الحاضرة التي تتمثل في مجموعات الأجهزة الحرارية الإشعاعية المدمرة التي تتوافر بغزارة الآن سواء عند هؤلاء أو أولئك؟ لقد كان من الضروري بالطبع أن تتطور الأبحاث المتصلة أو حتى المتخيلة، فالبحث العلمي يشكل ـ عادة ـ نوعا من التسلسل في النتائج التي لابد أن يفضي بعضها إلى البعض الآخر، وذلك باعتبار أن هذه النتائج هي ـ في حقيقة أمرها ـ مجرد انعكاس لجملة الحقائق الكونية والحياتية المترابط بعضها ببعض، والمتداخلة ـ هكذا ـ فيما بينها تداخلا دقيقا ليس لمتانة وشائجه من حدود، لكنه لم يكن من الضروري ولا من المعقول أبدا أن يوجه النشاط العلمي في ميدان الذرة ـ بعد أن تمت تجزئتها بصورة عملية ـ أن يوجه هذا النشاط في المجالات السلبية التي يكاد يكون مقصورا عليها الآن بصورة واسعة، فالطاقة الهائلة التي تحتويها الذرة هي ظاهرة طبيعية عادية مثل جميع الظواهر الطبيعية الأخرى التي يزخر بها هذا الكون العظيم، وتقوم عليها قوانينه ونواميسه، وكما أمكن تسخير مصادر القوة الطبيعية الكثيرة، والاستفادة منها فيما يعين على تطور الحياة الإنسانية في مختلف الميادين، فكذلك كان من المفهوم عقليا ومنطقيا أن يكون للطاقة دورها القوي في خدمة أهداف التوسع الإنساني الإيجابي، وذلك بما يتناسب مع فخامة إمكانياتها الثروة الشاسعة، وما يتفق وواقع الحاجيات الإنسانية المتزايدة في محيط هذا العالم الحديث، وقد كان من الطبيعي كذلك أن تبقى علوم الجراثيم ـ كما كانت من قبل ـ كعامل إيجابي في حياة الإنسان وظروف ازدهاره الصحي والاجتماعي والديموغرافي وغير ذلك، إلا أن الواقع أن هذه العلوم بالذات قد أصبحت ـ هي الأخرى ـ شديدة التأثر بمقتضيات الصراع العالمي القائم، وقد انقضى وقت طويل جدا منذ أن غدت ـ بالنتيجة لذلك ـ أداة أخرى من أخطر أدوات الحرب الجماعية الشاملة، وتعتبر الآن ـ بالفعل ـ أكثر استعدادا من الطاقة النووية للإعفاء على مظاهر الحياة والعمران في أية حرب عالمية مقبلة، وهناك أمثلة عديدة أخرى من هذا القبيل، سواء في ميدان التحليل الكيماوي أو التركيب الآلي أو التخطيط الهندسي أو غير هذا وذاك من صور التطبيق العلمي في مختلف فروعه وأصنافه .. هذا التطبيق الذي ما تزال نتائجه تتأرجح دائما بين مجالات الشر والخير تبعا لما يتحكم فيه من مقاصد وأغراض، وطبقا لما يتفق مع سياسة الدول المشرقة عليه وينسجم مع حقائق اتجاهاتها نحو الحرب أو السلام.
وإذا كانت كثير من منجزات العلم الحديثة تتأثر في توجيهها ـ وإلى هذا الحد ـ بنفسية الصراع والتناحر التي تسيطر على مختلف الدول والكتل الدولية التي تملك سبل هذه المنجزات فإنه من اليسير جدا أن نستبيح لأنفسنا بعض الانتقاد لهذا التطور السلبي اللا إنساني الذي يسجله تقدم العلم في الميدان الذري والبكتيريولوجي، والذي توجه مقدراته خاصة لخدمة أهداف صراعية ولا أخلاقية في بعض الأحيان، بيد أنه إذا كان لنا أن نوجه اعتراضا ما بالنظر لهذه الاعتبارات، فإن العلم والآفاق التطبيقية الواسعة التي يتيحها في مختلف الميادين لا يجوز أن يكون مطلقا موضوع هذا الاعتراض، أو مجالا له بأية صورة من الصور، أما العنصر الأساسي الذي يجب أن نركز النظر حوله في مثل هذه القضايا فهو بالذات العنصر الإنساني باعتبار ما يلعبه من دور حيوي في هذا المضمار، إن الإنسان سواء أكان يضطلع بمهمات البحث والتجربة والاستنتاج والتركيب في مجالات العلم المادية. أو كان يتولى مسؤولية التوجيه والتخطيط في المضمار السياسي والاقتصادي والاجتماعي وغيره، هذا الإنسان يجب أن يعتبر دائما العقدة الرئيسية الكبرى في موضوع العلم وما يتصل به من مشكلات نفسانية وسياسية وحضارية وغيرها، فالعلماء الذين تتوافر لهم إمكانيات الاستطلاع والتحليل والتوليد، والذين يعدون ـ بالبداهة ـ العمود الأساسي في كل مراحل الإنجاز العلمي ووقائعه، هؤلاء العلماء ـ قد أصبحوا ـ كما رأينا ـ أقل استقلالا في مجالات نشاطهم الإنتاجي، وذلك ما لا يمكن أن يتيح لهم قدرا كافيا من القدرة على تحديد وجهة أعمالهم العلمية، أو الحكم في تصريف ثمرات هذه الأعمال، وسواء في ظلال الاشتراكية الحديثة أو الرأسمالية بشكلها القوي الواسع سواء داخل هذا النظام أو ذاك، فإن الحالة لا تختلف كثيرا من حيث الصلة التي تربط بين الإنتاج العلمي وسياسة الدولة، وباعتبار ما يؤدي إليه ذلك كثيرا من مثل ما نلاحظه في طبيعة الحياة الدولية الحاضرة، والتداخل هكذا بين منجزات العلم، وأهداف الصراع العالمي سيبقى حقيقة قائمة وبارزة، طالما إن الأوضاع العالمية بصورتها الراهنة لم تتطور بشكل جدري وبعيد المدى، ومادام أن هذه الأوضاع القائمة على أساس الكتل الدولية المتنابذة لا تزداد إلا تركزا ورسوخا.
ومن اليسر أن نتصور في هذا المجال إمكانيات محتملة للوصول إلى حالة تعايش سلمي دائم، أو على الأقل للقدرة على نزع عام وشامل للسلام، لكنه ليس من المعقول ـ بحق ـ أن نعتبر ذلك كافيا لإقرار سياسة عالمية إيجابية في ميادين العلوم التيقنولوجيا وما هو منبثق عنهما بصورة أو بأخرى، إذ أن الاتجاهات الدولية الخاصة، وعامل التقلب الدائم في معطيات الحياة الإنسانية الحديثة، لا يمكن بحق ـ أن يبيح قسطا وفيرا من الثقة في هذا المضمار، هذا إلى أن التفاوت في الإمكانيات العلمية والتقنية بين الدول ـ بهذه الصورة الهائلة التي يتراءى فيها الآن ـ من شأنه أن يؤدي حتميا ـ كما رأينا ـ إلى استبقاء الكثير من عوامل التناقض في الأوضاع الإنتاجية والاقتصادية العالمية، وهذا وحده يمكن أن يعتبر كافيا لاستشارة المزيد من التطورات السيئة في المحيط الدولي الواسع.
إن الأمر في مثل هذه المجالات المعقدة لا يستطاع له حل بمجرد العثور على بعض التصورات النظرية المفترضة، ولم يعد هناك ـ نتيجة لذلك ـ مجال واسع للتأثير على ضمير الماديين المتحللين من كل النوازع الروحانية أو القواعد الخلقية العادية واستدراجهم إلى تقدير الجانب الإنساني في مخططاتهم الصراعية، وإقامة الاعتبار لهذا الجانب بأية صورة من الصور، والتطورات المتسلسلة التي تدرج في محيطها تاريخ الحضارة الحديثة، سواء من الناحية المادية أو الروحية، والنظريات والمذاهب والأوضاع التي ما زالت تسفر عنها هذه الحضارة ـ بما في ذلك هذه الشيوعية والرأسمالية ـ وما يرتبط بهما من شؤون وشجون .. كل ذلك لا يمكن أن يدل على أن هنالك إمكانيات حقيقية وواسعة لتجريد المنجزات العلمية مما يعلق بها من نوازع وغايات شريرة وما يتحكم في توجيهها من أهداف صراعية تؤثر أحيانا على قضية السلم والاستقرار بالعالم، وتلك قضية هي من أكثر القضايا القائمة في عالم اليوم أهمية وخطورة، وذلك باعتبار ما لها من صلة بواقع الحياة الدولية على وجه العموم، وما لها من ارتباط كذلك بمشاكل التقدم العلمي المعاصر، وعلاقته بالمصير الإنساني في الأمد القريب أو البعيد.
على أنه سيكون من المؤكد جدا أن يعتري كل هذه الأحوال تطور جذري أساسي، وذلك إذا ما أمكن للشعوب المتخلفة والمستقلة حديثا أن تستدرك ـ بالفعل ـ عوامل التطور الحضاري اللازم، وتحقق قدرا من فرص النهوض والتقدم، بما يكفي لبعث مكامن عبقريتها الخلاقة ويؤهلها للإسهام بنصيب حقيقي في معركة البحث والإنجاز العلمي الحديث.
إن من أخطر بواعث الاضطراب العالمي الحاضر، هو استمرار هذا التخلف بالذات، وتعقد مظاهره ومضاعفاته بصورة واسعة، وتأثيره على مصاير شعوب عظيمة في أفريقيا وآسيا، الأمر الذي يجعلها دائما منار نزاع وتنافس بين الكتل التوسعية الكبرى في العالم، كما يبقى من جهة أخرى على مظهر الاختلال في موازين القوى السياسية والاقتصادية بين مجموع الشعوب والأمم والمفهوم الذي يجب أن نستخلصه من إمكانية ارتفاع وطأة هذا التخلف ـ ولو بصورة نسبية ـ وانفتاح المجال أمام القوى الدولية الناشئة، لكي تستكمل شروط نموها وتقدمها الإيجابي الخلاق ـ إن المفهوم الذي يجب أن نستخلصه من ذلك هو على درجة من الأهمية البالغة، والأثر البعيد في مجرى تاريخ الإنسان  والعالم، إذ أن ما يعنيه ـ بكل تأكيد ـ هو إمكانية تلقيح الحضارة الراهنة بعناصر إيجابية جديدة، وتوجيهها توجيها نوريا يستدرك فيه العلم صفته الإنسانية الكاملة، ويستجمع مظاهر خيريته بصورة أكثر شمولا وأبعد أفقا.
ومن المشكوك فيه أن يتمكن العلم من التخلص من نوازع الشر التي تستبد به أحيانا، إذا لم يشهد العالم الحديث تطورا انقلابيا من هذا النوع، حيث يجب أن تتوافر الفرص اللازمة لتصفية الاحتكار العلمي كالاحتكار الاقتصادي، وتتهيأ السبل بذلك أمام مختلف الأقطار، لنساهم في بناء صرح علمي جديد، أكثر انطباقا على الرغبة الإنسانية العامة في التقدم والسلام والازدهار، وإذا كانت الوجهة الشريرة التي تتخذها منجزات العلم أحيانا ـ إذا كانت هذه الوجهة غالبا ما تكون مفروضة على العلم، وليست جزءا من  جوهره أو طبيعته، فإن الأمر حينئذ ـ كما رأينا ـ سيبقى منوطا بتقويم انحرافية العلم أو زيغه بل تقويم الاتجاهات الإنسانية الخاطئة، التي تقود العلم والعلماء كثيرا إلى منعرجات الزيغ والانحراف كما نستطيع أن نؤكده مجددا، فإن سبيل هذا التقويم ليس هو في الواقع إلا سبيل النهوض أمام الدول المتخلفة، وتعزيز مقومات تطورها، الأمر الذي من شأنه أن يقضي على فرص الاحتكار المتهيئة للدول الكبرى، ويحدد من عنف سيطرتها على مناهج البحث والإنجاز العلمي، بكل ما يتفرع عنه من إمكانيات في مجال الصناعة وغير ذلك.
وإذا ما كان لكل ذلك أن يصبح حقيقة مائلة، فإنه إنما يعني ـ ولا شك نهاية السياسات الدولية المنفردة في عالم الاكتشاف والاختراع، وبالتالي تخليص العلم مما يتحكم فيه من نوازع خاصة، وما يسيطر على توجيهه ـ في كثير من الأحيان ـ من مقاصد وأهداف شريرة ولا أنسانية.

المصدر: http://www.habous.net/daouat-alhaq/item/1226

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك