الإصلاح والفكر الفلسفي

محمد عز الدين الصندوق
لم يعرف العرب الفكر الفلسفيّ المنظّم قبل ظهور الإسلام، ولم يعرفوه بعده، إلا أنّ الاختلاط بالشّعوب الأخرى، نتيجة التوسّع الجغرافيّ وظهور الدولة العربيّة، قاد إلى نوع من الامتزاج الحضاريّ. وكان من نتائج هذا الامتزاج أن عَرف العرب الفكر الفلسفيّ. وهكذا ظهرت بواكير بسيطة من الفكر العربي الإسلاميّ متأثّرة بالامتزاج الحضاريّ.

وظهر مفكّرون (فلاسفة) عرب واتّجاهات فكريّة حاولت البناء على أسس إسلاميّة. ومن أبرز تلك الاتّجاهات "المعتزلة". لقد بُنيت الدولة العربيّة على أساس إيديولوجيّ إسلاميّ؛ أي لا دولة من دون هذه الأيديولوجيا. ولكن في الفترة الأمويّة كان هناك انفصال، وإلى حدّ ما بين سلطة الدولة متمثّلة بالخليفة والسّلطة الدينيّة عدا فترة خلافة عمر بن عبد العزيز. إلا أنّ الدولة والسلطة الدينيّة تعملان بتناغم كبير، وكان الفكر الديني بخدمة الدولة في تعزيز سلطة الخليفة الأمويّ. في هذه الفترة، ظهر الاعتزال وليداً بسيطاً في البصرة. إنّ ظهور نمط فكريّ جديد في المجتمع العربيّ وقتذاك يعني أنّه بناء سطحيّ، بلا مؤسّسات عريقة عميقة الجذور في مجتمعه. لا شكّ في أنّ تيّار الاعتزال الجديد لا يُمكن مقارنته بالتيّارات الفكريّة في الفلسفة الإغريقيّة أو أيّ اتّجاه فلسفيّ في تلك الحضارة، من حيث عمق الجذور المؤسساتيّة العريقة. كما أنّه لا يملك نفس قوّة جذور الإبداع الشعريّ العربيّ المتجذّر في المجتمع العربيّ وقتذاك.

في فترة ظهور هذا التيّار الفكريّ كان الإسلام ليس مجرّد دين بسيط بل مؤسّسة كبيرة وقوية تتنازعها اتّجاهات فكريّة مختلفة ومصالح يسيل الدم في سبيلها؛ لذا، فإنّ ظهور تيّار فكريّ إسلاميّ ليس بالشيء البسيط. إنّه قد يُعزّز مواقع سياسيّة معيّنة وقد يهدّد مصالح سياسيّة أخرى؛ أي إنّه ليس ترفاً فكريّاً مُسالماً. لقد كان ظهور الاعتزال ناتج تطوّر طبيعيّ نتيجة الامتزاج الحضاريّ، كما قُلنا، إضافة إلى النشاط الفكريّ القويّ الذي ظهر في تلك الفترة الخصبة للحضارة الوليدة. إنّه لم يظهر كتيّار إصلاحيّ مُقوٍم.

لقد بقيت الدولة مفصولة عن السلطة الدينيّة إلى حدّ ما في الفترة العباسيّة كذلك. ومع ظهور الدولة العباسيّة قاد هذا الفكر نهضة علميّة حضاريّة كبيرة ومتميّزة ارتبطت بوجوده وزالت بزواله خلال العهد ذاته. لقد تعزّز فكر الاعتزال نتيجة تبنّيه من قبل السلطة السياسيّة (المأمون) وانتهى عندما حاربته السلطة السياسيّة (المتوكّل). إنّ ما قاد للنهضة عاملان هما حريّة الفكر وانفصال الدولة الجزئيّ عن السلطة الدينيّة. إلا أنّ الجذور الفلسفيّة الاجتماعيّة السطحيّة للاعتزال هي السبب في الزوال السريع لهذا الفكر الذي لم تعرفه المجتمعات العربيّة وقتذاك.

لم يستطع الفكر الحرّ الصمود أمام السلطة السياسيّة التي تبنّت فكراً مغايراً. أمّا ما ساد بعد ذاك فكان فكراً نَقليّاً قمعيّاً حَرَم الفلسفة وحارب الفلاسفة والمفكّرين. ولكن لماذا ساد هذا النمط الفكريّ المُغلق برغم عدم وجود جذور فكريّة فلسفيّة له؟

لقد تكوّنت منذ الأيّام الأولى للدولة العربيّة سلطتان متعاونتان هما سلطة الدولة وسلطة الدين، إحداهما تُحابي الأخرى، وكلاهما تسيطران على المجتمع. لذا، فإنّ أيّ فكر يستطيع خطب ودّ الدولة سيكتب له الازدهار والبقاء. إنّ الفكر المنغلق استند على طبيعة الفكر القَبَلي وتأكيدهُ على احترام الخضوع للسلطة السياسيّة والقبول بها وبالقدر الذي خطّه الله على يدها. وهكذا، تمّ احتضان الفكر القمعيّ المنغلق من قبل كافّة أنماط السّلطات التي مرّت عبر التاريخ المظلم، منذ عهد المتوكّل وحتّى سقوط الدولة العثمانيّة.

لقد قاد هذا الوضع المأساويّ إلى أن ينتهي النشاط الفلسفيّ العربيّ والإسلاميّ تدريجيّاً حاله حال النّشاط العلميّ. وهكذا دخل العرب والمسلمون القرن العشرين من دون أيّة مؤسّسة فكريّة فلسفيّة. وكمجتمعات خاملة لا تعرف سوى السلطتين الدينيّة والسياسيّة المتحالفتين.

في الحضارة الغربية ذات الجذور الفلسفيّة العميقة كانت النزاعات الفكريّة تُنجب أنماطاً جديدةً وتؤثر في المجتمع. لذا قاد الصراع إلى فصل الكنيسة عن الدولة وفصل الفكر الدينيّ عن الأنماط الفكرية الأخرى. وبهذا الفصل احتفظ كلّ طرف بحقه في التطوّر والنمو، ولم تكن السلطة الغربيّة بحاجة للسلطة الدينيّة للسيطرة على المجتمع لأنّ السلطة السياسيّة كانت أساساً موجودة قبل تكون الفكر المسيحيّ الأوروبيّ على العكس من الدولة العربيّة التي تكوّنت على أساس دينيّ وبقي الفكر الدينيّ وسيلة سيطرة لا يَستغني عنها السُلطان. لقد تطور الفكر الدينيّ في الغرب وتطوّر الفكر العلميّ وتطوّر الفكر السياسيّ والإنسانيّ. إنّها تجربة غنيّة قادت إلى النجاح في بناء مجتمعات دائمة التطور.

عاد الفكر الفلسفي خلال القرن العشرين إلى المجتمعات العربيّة كترفٍ بلا جذور. وأخذت الفلسفة موقعاً أكاديميّاً من دون وجود اجتماعيّ فعليّ لها. إنّ النشاط الفكريّ الفلسفيّ العربيّ لا يعدو أن يكون نشاطاً نخبويّاً أكاديميّاً. أنتجت الأكاديميّات العربيّة خلال القرن العشرين أجيالاً من المفكّرين وطمح البعض من هؤلاء الفلاسفة والمفكّرين إلى تأسيس خطابات فلسفيّة تحديثيّة أو إصلاحيّة نتيجة انفتاحهم على الفكر الغربيّ. إنّ اعتماد النمط الفكريّ الإسلاميّ السائد لا يقود إلى نمط تحديثيّ إلا أنّه لا يعتمد العقل والتحليل أساساً. على أيّة حال جاءت طروحات التحديث الفكريّة للنخبة وليس للمجتمع لأنّ المجتمع لا يسمع ولا يعرف ما يقولون. وهناك فصل كبير بين المفكّر النخبويّ والسياسيّ.

إنّ خطابات التحديث العربيّة التي تُطرح تحارب مارد جبّار نما خلال عشرة قرون من دون مُنازع وسيطر على الفكر الاجتماعيّ بقبضة حديديّة مطلقة وبمعونة السلطة السياسيّة. إنّ خطابات من هذا النوع لا تعدو عن كونها بيان قادم من نبيّ مُحدث يُخاطب ناس بسطاء لا يُعيرونه اهتماماً إن لم يكن أسلوباً دونكيشوتيّاً (DonQuixote) يُحارب طواحين الهواء. لذا اندحرت كافّة خطابات ومشاريع التحديث الفكريّة العربيّة منذ محاولات جمال الدين الأفغانيّ ومحمد عبده مروراً بالجابريّ وأركون. إنّ النمط الفكريّ الفلسفيّ والتحليليّ فكر غريب جداً عن المجتمعات العربيّة التي تعلّمت التلقين والحفظ عن ظهر قلب من دون نقاش وتمحيص. وهنا يكمن السرّ في الإصلاح.

عمق الهوة الفكريّة بين المجتمعات العربيّة وبين المجتمعات المتطوّرة كبير جداً ويُقاس بزمن التوقّف الفكريّ والخمول الحضاريّ. إنّ محاولات تحديث فكر تَجمّدَ خلال قرون مُهِمّة تقترب من الاستحالة. كما أنّ محاولة فصل الدولة عن الدين ليست بجديدة على المجتمعات العربيّة والإسلاميّة، وهذا الفصل كان موجوداً بصورة شكليّة، لكنّ المهمّ هو فصل الهيمنة الفكريّة الدينيّة عن السلطة والمجتمع. تجسير (Bridging) هذه الهوة المُعَقدة يعتمد بصورة كبيرة على إعادة بناء الإنسان؛ بمعنى آخر إعادة النّظر في نمط التعليم الأساسيّ للمجتمع وبناء نمط فكريّ تحليليّ. إنّ مشكلة الإصلاح هي مشكلة تربية اجتماعيّة وليست مؤسساتيّة، إذ إنّ تغيّر وتبديل أو تعديل المؤسّسات لا يعني شيئاً.

المصدر: منبر الحريّة.

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك