يهود أمريكا ومعضلة سلام الشرق الأوسط
لم يكن اليهود الأمريكيون بأي حال بمعزل عن تطورات الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، بالنظر إلى اعتبار عدد كبير منهم أن أمن إسرائيل يُعد أحد مقومات هويتهم وامتداد لتميزهم عن بقية قطاعات المجتمع الأمريكي، وهو ما جعل موقفهم من التطورات الراهنة ذا أهمية محورية خاصةً بعد ما أسفرت عنه نتائج الانتخابات الإسرائيلية من تولي حكومة إسرائيلية متشددة للسلطة في إسرائيل، واستمرار حركة حماس في السيطرة على قطاع غزة عقب الحرب الإسرائيلية على لبنان صيف عام 2006. وفي هذا الإطار أعد جيم جيرشتين Jim Gerstein دراسة إحصائية حول مواقف اليهود الأمريكيين من الصراع في منطقة الشرق الأوسط في ضوء التطورات سالفة الذكر، نشرتها منظمة جي ستريت الأمريكيةJ Street، وهي إحدى المنظمات اليهودية الأمريكية المعتدلة. وتضمنت الدراسة عدة نتائج مهمة فيما يتعلق بتوجهات يهود الولايات المتحدة حيال عملية التسوية بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وأسباب استمرار الصراع وتصاعده في صورته الراهنة. فضلاً عن حيوية الجهود الأمريكية في دفع عملية التسوية قدمًا.
يتمتع الرئيس أوباما "حتى اعداد الدراسة" بتأييد منقطع النظير من غالبية اليهود الأمريكيين، وفق نتائج استطلاعات الرأي التي اعتمدت عليها دراسة جيرشتين التي أشارت لتأييد حوالي 73% للسياسات التي يطرحها أوباما فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، بحيث اتضح أنه يحظى لدى يهود الولايات المتحدة بتأييد يفوق رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نيتنياهو الذي حاز على تأييد حوالي 58% من المبحوثين. ويعتقد حوالي 76% من اليهود الأمريكيين أن الرئيس أوباما يدعم إسرائيل بقوة وأن لديه رؤية جيدة للمضي قدمًا بعملية السلام دون مساس بأمن إسرائيل أو ممارسة ضغوط عليها.
وفي السياق ذاته يَدعم حوالي 87% من اليهود الأمريكيين مقولة مفادها أن الدور الأمريكي في الوساطة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي يعتبر محور عملية السلام في منطقة الشرق الأوسط. وأشار حوالي 69% إلى تأييدهم لدور أمريكي نشط في عملية السلام حتى لو لجأت الإدارة الأمريكية لانتقاد سياسات الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي علنًا طالما لم يمس ذلك بالمصالح المحورية المرتبطة بأمن إسرائيل. ولكن إذا ما تطلب الدور الأمريكي معارضة سياسات إسرائيل فإن ذلك التأييد يتراجع إلى 52% ممن شملهم الاستطلاع سالف الذكر.
يهود أمريكا ما بين خيارات الأمن والسلام
يعتقد غالبية اليهود الأمريكيين أن التوصل لتسوية للصراع بمنطقة الشرق الأوسط مصلحة أمريكية أساسية على حد تعبير حوالي 53% من المبحوثين، وفي هذا الصدد أكد حوالي 49% من اليهود الأمريكيين على أن الغاية الأولى للسياسة الشرق أوسطية لإدارة الرئيس أوباما يجب أن تكون دعم التوصل لتسوية للصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل في مقابل إشارة حوالي 36% إلى أن الحفاظ على تفوق إسرائيل عسكريًّا في منطقة الشرق الأوسط يجب أن يكون الهدف المحوري لسياسة أوباما في منطقة الشرق الأوسط.
وفي هذا الصدد أبدى حوالي 69% من يهود الولايات المتحدة تأييدهم للتوصل لاتفاق سلام نهائي للصراع بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي وفق حل الدولتين الذي طالما روجت له إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش ودعمته إدارة الرئيس أوباما منذ توليها للسلطة.
هل يؤيد يهود أمريكا سياسات اليمين المتشدد في إسرائيل ؟
إن تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة برئاسة بنيامين نيتنياهو زعيم حزب الليكود اليميني ومشاركة أفيجدور ليبرمان زعيم حزب إسرائيل بيتنا اليميني المتطرف لم يلق استحسانًا من جانب يهود الولايات المتحدة، حيث أكد حوالي 69% من اليهود الأمريكيين معارضتهم لأطروحات ليبرمان حول ترحيل عرب إسرائيل، وأشار حوالي 32% منهم إلى أن تعيين ليبرمان كوزير للخارجية قد يؤدي لإضعاف ارتباطهم الشخصي بإسرائيل؛ لأن توجهات ليبرمان تتعارض مع قيمهم الأساسية. وترتفع هذه النسبة إلى 42% بين فئة الشباب من يهود الولايات المتحدة ما دون الثلاثين عامًا.
وفي السياق ذاته يعارض حوالي 64% من اليهود الأمريكيين التوسع في بناء مستوطنات جديدة بالضفة الغربية لاعتقادهم بأن تلك السياسات تؤدي إلى تعقيد الأوضاع وإعاقة تقدم مفاوضات التسوية، وفي هذا الصدد أشار جيم جيرشتين إلى أن حوالي 74% من اليهود الذين يسهمون ماليًّا في الحملات الانتخابية يعارضون التوسع في بناء المستوطنات في الضفة الغربية، وهذه الفئة من اليهود من ممولي الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة تتسم بإعلائها من أهمية قيم الديمقراطية والسلام والانفتاح على الآخر وحيوية التفاوض مع الأطراف الفلسطينية لمستقبل الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط في مقابل اليهود المتدينين الداعمين لاستخدام القوة ولأولوية أمن دولة إسرائيل على تحقيق السلام مع الفلسطينيين ناهيك عن رفض التسوية السياسية التي لا تحفظ لإسرائيل تفوقًا واضحًا وقدرة على السيطرة على الأوضاع في الأراضي الفلسطينية ذاتها.
وعلى نقيض ما يراه المسئولون في تل أبيب فإن حوالي 61% ممن شملتهم الدراسة الاستطلاعية يؤيدون التفاوض مع حكومة فلسطينية موحدة تضم حركتي فتح وحماس شريطة اعتراف حماس بإسرائيل، وهو ما تواكب مع ما كشف عنه استطلاع للرأي أجراه معهد ترومان بالجامعة العبرية في تل أبيب Truman Institute at Hebrew University في اذار/مارس 2009 من أن حوالي 69% من الإسرائيليين يؤيدون تفاوض الحكومة الإسرائيلية مع حكومة فلسطينية موحدة بعد اعتراف حماس بإسرائيل ونبذ العنف والتوقف عن إطلاق الصواريخ.
معضلة إسرائيل الأمنية ودور واشنطن
وعلى صعيد موقف يهود الولايات المتحدة من ردود الفعل الإسرائيلية على إطلاق الصواريخ من قطاع غزة على مستوطنات جنوب إسرائيل، فلقد اتضح أنه عندما يتعلق الأمر بأمن إسرائيل وبقائها فإن كافة قطاعات المجتمع اليهودي في الولايات المتحدة تبدي تأييدًا غير مشروط لإسرائيل، حيث أكد حوالي 75% من اليهود الأمريكيين تأييدهم للعملية العسكرية الإسرائيلية الأخيرة في قطاع غزة كرد فعل على إطلاق حركة حماس للصواريخ على المستوطنات الإسرائيلية، بينما رأى حوالي 59% أن هذه العملية العسكرية لم تحقق الأمن لإسرائيل ولم تنجح في تحييد تهديد الصواريخ الفلسطينية للمجتمع الإسرائيلي، في حين أبدى حوالي 54% ممن شملتهم الدراسة الاستطلاعية مخاوفهم من أن استهداف الجيش الإسرائيلي للمدنيين في الحرب على غزة قد يؤدي تصاعد وتيرة الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط.
وفيما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني لم تتوافق توجهات اليهود الأمريكيين حول ما ينبغي على الولايات المتحدة القيام به لمنع تحول إيران إلى قوة نووية تهدد أمن إسرائيل، فبينما رأى 41% ممن شملهم الاستطلاع لجوء الولايات المتحدة للخيار العسكري لمنع إيران من امتلاك السلاح النووي فإن حوالي 40% قد عارضوا استخدام القوة العسكرية مجددًا في منطقة الشرق الأوسط الولايات المتحدة خشية التداعيات السلبية على الاستقرار في محيط إسرائيل الإقليمي.
ومن ثم يمكن القول: إن غالبية يهود الولايات المتحدة يؤيدون قيام الولايات المتحدة بدور نشط لدفع عملية السلام قدمًا، ويؤيدون استمرار التفاوض لحين التوصل لتسوية نهائية، ولكن إذا ما تعلق الأمر بأمن إسرائيل فإنهم يؤيدون بقوة النهج الذي تتعامل به إسرائيل مع التهديدات الأمنية على الرغم من اعتراضهم على توجهات بعض الساسة الإسرائيليين المتطرفين مثل ليبرمان.