من نتاج الاستشراق الألبانيّ الجديد: ما الذي تغيّـر في الألبان بعد إسلامهم؟
ويعبّر كراسنيتشي بصراحة عن ذلك في كتابه هذا (ص 152) حيث يعتبر أنّ «الاستشراق الألبانيّ جانب داعم للدراسات الألبانيّة». وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ كراسنيتشي من الجيل الأوّل الذي تخرج في قسم الاستشراق في جامعة بريشتينا، وقد سمح له عمله في قسم المخطوطات الشرقيّة في المكتبة الوطنية في بريشتينا وإتقانه اللغات الأساسيّة (العربيّة والعثمانيّة بالإضافة إلى الألبانيّة والإنكليزيّة) بالوصول إلى مصادر مهمّة بالعربيّة والعثمانيّة أتاحت له أن يقدم صورة مختلفة عن ثقافة الألبان بعد اعتناق غالبيتهم للإسلام خلال الحكم العثمانيّ الذي استمرّ حوالى خمسة قرون.
ومع إعلان الباحث في المقدمة أنّ الكتاب يتناول «الثقافة الألبانيّة ذات الروح الإسلامية»، يقرّ بوجود تحديات أمام من يعملون في هذا المجال نتيجة للتصوّرات السلبيّة المسبقة حول الحكم الإسلاميّ وانتشار الإسلام التي لا تزال مؤثرة في المؤسّسات العلميّة، سواء في كوسوفا أم في ألبانيا. ومن هنا فقد خصّص الدراسة الأولى «انتشار الإسلام واندراج الألبان في الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة للامبراطوريّة العثمانية» لمناقشة انتشار الإسلام؛ نظراً إلى وجود صورتين متناقضتين عن ذلك. فالصورة الأولى التي لا تزال متوارثة من الحكم الشيوعيّ تركّز على أسلمة الألبان بالقوّة، وعلى النتائج السلبيّة لذلك، بينما يركّز كراسنيتشي وغيره على الأسباب التي ساعدت على الانتشار التدريجيّ للإسلام بعد الفتح العثماني، حتّى أنّه بعد حوالى قرن من الحكم العثماني وصلت نسبة المسلمين إلى 50 في المئة، ولم تصل هذه النسبة إلى الغالبية إلا بعد قرن آخر (القرن السّابع عشر).
ونتيجة لهذا الانعطاف الكبير في حياة الألبان، برزوا في الدولة العثمانيّة، ووصلوا إلى رأس المؤسّسات الإداريّة (الصدارة العظمى) والعسكريّة (قيادة الجيش والأسطول) والدينيّة (مشيخة الإسلام) إلخ. ومن هنا جاءت الدراسة الثانية «مؤسّسة شيخ الإسلام عند العثمانيين وشيوخ الإسلام الألبان» التي تبيّن أنّ هذه المؤسّسات لم تكن مقتصرة على الأتراك، بل برز فيها أيضاً الألبان الذين كان منهم ثلاثة شيوخ للإسلام: علي أفندي زنبيلي (1503-1526) وإبراهيم أفندي عيواظ باشازاده (1774-1775) وعبد الرحمن نسيب أفندي (15 كانون الثاني/ يناير -16 تموز/ يوليو 1912).
ومن مظاهر هذا التحوّل الثقافيّ عند الألبان، يتوقّف المؤلف في الدراسة الثالثة عند سلسلتين لخلفاء الطريقة السعديّة في المناطق الألبانيّة التي انتشرت في هذه المنطقة على يد الشيخ سليمان عاجز بابا (توفي عام 1747) الذي كان يُعتبر «المعلم الثاني» بعد مؤسّس هذه الطريقة في بلاد الشام سعد الدين الجبّاوي. وترد فيهما أسماء الشيوخ الألبان الذين تولّوا تكايا هذه الطريقة التي انتشرت بين الألبان. أمّا الدراسة الرابعة فتضمّنت ترجمة لمخطوطة شعريّة باللغة العربيّة لمفتي بريزرن محمد طاهر (توفي 1883) تؤرّخ لمدينة بريزرن وما فيها من منشآت كثيرة (جوامع ومدارس وتكايا إلخ) بنيت خلال العصر العثمانيّ. ومن ناحية أخرى يتناول كراسنيتشي دور بعض الأسر الألبانيّة التي توارثت الحكم في المناطق الألبانيّة تحت المظلة العثمانيّة، وأدّت دوراً في هذا التحول الثقافي عند الألبان من خلال بناء الجوامع والتكايا والمدارس والمكتبات ووقف الكتب إلخ، ويخصّ بدراسة أسرة "بوشاتلي" التي حكمت شمال ألبانيا خلال (1761-1831). وعلى ذكر الوقف الذي كان له دور كبير في هذا التحول الدينيّ – الثقافيّ يأخذ المؤلف في دراسة أخرى نموذج محمد قوقلي بك أحد أبناء المنطقة الذي برز في الهرميّة العثمانية وساهم في تطوير المنطقة (أوبويا في شمال شرق ألبانيا ومدينة برزرن المجاورة) من خلال المنشآت التي بناها في إطار وقفه الكبير (جامع ومدرسة ومكتبة وتكيّة وحمّام وخان ودكاكين إلخ).
وترتبط بذلك دراستان تشكّلان الأرضيّة التي قام عليها هذا التحوّل الثقافيّ الكبير عند الألبان بعد اعتناقهم الإسلام. الأولى تتعلّق بالمؤسّسات التعليميّة التي وجدت في المناطق الألبانيّة خلال الحكم العثمانيّ، إذ كانت توجد في إطار الأوقاف التي أسّسها أبناء المنطقة غالباً الكتاتيب والمدارس التي كانت تركز على العلوم الدينية وتخرج الأئمة والمدرسين الذين كانوا يمثلون «العلماء» عند الألبان. وفي شكل متّصل بهذا تناولت الدراسة الثانية المكتبات التي نشأت في المناطق الألبانيّة، سواء في إطار الجوامع والمدارس والتكايا أم العامة التي احتوت على مخطوطات كثيرة باللغات العربية والتركية والفارسية.
وتشكّل كل هذه الدراسات، على تنوّعها، القسم الأول من الكتاب، بينما خصّص المؤلف القسم الثاني لأحد أهمّ تجليّات هذا التحول الثقافيّ عند الألبان بعد اعتناقهم الإسلام ألا وهو الأدب الألبانيّ الذي كان يكتب بالحروف العربيّة ويتميّز بمؤثرات شرقيّة واضحة. ففي هذا القسم لدينا إسهامات عدّة للمؤلف توضح بدايات هذا الأدب عند الألبان في شكل عام، وفي كوسوفا في شكل خاصّ، مع ترجمة بعض الأعمال الرياديّة من هذا الأدب إلى الألبانيّة الحاليّة. وفي هذا الإطار لدينا دراستان مهمّتان تتعلّق الأولى بالموالد في الأدب الألبانيّ بالحروف العربيّة، وهي فرع جديد يتناول شعراً سيرة الرسول ومناقبه التي كانت تنشد في المناسبات الدينيّة والاجتماعيّة المختلفة عند الألبان على نمط ما شاع عند الأتراك، بينما تتناول الدراسة الأخرى «البعد الثقافيّ للمولد» التي توضح الأبعاد الثقافية الاجتماعيّة لهذا النتاج الشعريّ الجديد عند الألبان. ومن ناحية أخرى فقد تضمن هذا القسم بعض الإضافات التي توصل إليها كراسنيتشي من خلال أبحاثه في المصادر التي صوّبت بعض الأخطاء التي وقع فيها الذين درسوا هذا الأدب خلال القرن العشرين، بخاصّة في ما يتعلق بأهمّ رائد لهذا الأدب إبراهيم نظيم فراكولا (توفي 1759)، الذي كان أوّل من وضع ديواناً شعريّاً كاملاً بالألبانية بالحروف العربيّة بالإضافة إلى معجم شعريّ ألبانيّ تركيّ وديوانين باللغة العثمانيّة.
وفي شكل عام يمكن القول إن كتاب كراسنيتشي يمثل جديداً للألبان أنفسهم، سواء في ألبانيا أم في كوسوفا، لأنّه من الكتب القليلة التي تصدّت لهذا التحوّل الثقافيّ الكبير عند الألبان، بعد اعتناقهم الإسلام، بعد عقود على تجاهل هذا الجانب وما يمثله بالنسبة إلى التاريخ الثقافيّ للألبان في شكل عام.
ومن هنا، فإنّه يستحقّ أن يترجم كلّه أو بعضه إلى اللغة العربيّة، لأنّه يتعلّق أيضاً بالصلات الثقافيّة بين الألبان والعرب.
المصدر: الحياة.